صاحب مصر

فكرت أن أجعل للرجل زوجةً جميلة صغيرة لتُلائم سنَّه الكبير، فكرت أن أجعل الجميلة بنته، ولكن الزوجة مغرية أكثر، والقارئ الملول لا بد أن يسيل لعابه تتبعًا للزوجة الصغيرة الحلوة أملًا في حدوث المتعة الكبرى بشمِّ رائحة الخيانة أو التلظِّي نشوةً وقلقًا على نار الشك في وجودها.

فكرت في أشياء كثيرة، وتصوَّرت وكأنَّني الكاتب المحترف، كل الآفاق المثيرة المجهولة التي يُمكنُني أن أقود إليها القارئ الهاوي النهم، كي أُؤكد تفسيرًا لحماس صميدة للرجل العجوز، وصميدة ليس اسمه، وأنا لا أعرف اسمه، ولكني لا بد إذا سميته أن أختار له لقبًا كصميدة، فيه حرف صاد مذكر الموسيقى، جهيرها، ليعبر عن شخصه .. ولا بد أنَّ ارتباكًا قليلًا قد حدث، وأنَّ الحيرة تملكتكم عن أي الرجلين أتحدَّث .. الواقع كان هناك رجلان كل منها يستحق الحديث، ولكن الأنسب أن نتجاوز عن كليهما معًا لنتحدَّث عن المشهد؛ فقد كان هناك رجلان ومشهد، والمشهد ليس بسيطًا أبدًا رغم خلوه التام من الفواجع والكوارث وكل مسببات التوتر، ولكي نبدأ علينا أن نتصوَّر مكانًا معزولًا ولا تمامًا عن العالم، كأنَّ الدنيا بكل غُموضها ومجهولها تنتهي عنده، ولكنَّنا لا بد أن نعتقد أنَّها أبدًا لا تنتهي عنده، فالطريق الذي يقطعه يظلُّ ممتدًّا بعد بقعتنا مثلما يظل ممتدًّا قبلها، إلى ما لا نهاية البصر. بالاختصار، لنتصوَّر طريقًا من طرقنا المُسفلتة الطويلة، يمر بمساحة شاسعة من الأرض غير الزراعية أو المطروقة أو تعرضت في عمرها الملاييني الكثير للمسة من يد الإنسان، صحراء، أو براري، أو جبلٍ وعر، على امتداد الإصبع الخنصر لبحرنا الأحمر. إنَّ طريقًا كهذا يظل الخط المستقيم بلا فائدة، كالرجل المستقيم بلا مبدأ، وبمجرد المحاكاة والتقليد، لا معنى له ولا قيمة لاستقامته، حتى يحدث له حادث ينتهي مثلًا أو يلتوي، أو بالذات يلتقي بطريق غيره أو يتقاطع، هنا فقط، عند التقاطع واللقاء يُصبح للطريق المستقيم المُمتد معنى؛ إذ يُصبح التقاطع وكأنَّه الإثبات لنظرية كانت قبله فرضًا، ووصولًا كان طوال الطريق مجرد حلم كحلم الجوعان بالخبز.

لنتصوَّر حادثًا كهذا وقع لطريقنا الذي اخترناه ممتدًّا بلا معنى في أرض متَّسعة بلا مفهوم، ولنكن أيضًا على ثقة أنَّنا لن نكون أول المتصوِّرين، فقبلنا بكثير سنجد أنَّ الحكومة، باعتبارها المسئولة عن الأرض والطريق وكل الأشياء ذات المعاني والمعدومة المعنى، قد تصوَّرته، وأدركت أهمية هذه الحقيقة الفلسفية أو الصوفية المحضة، مع أنَّه ليس من عادة حكومة في العالم أن تعير أمثال هذه الحقائق التي ينقسم عندها البشر، وأحدثت — ولا تزال تحدث — أعظم الهزات والمعارك والانتصارات الإنسانية، أي التفات، ولكنَّها بالسليقة من زمن لا بد أدركتها. وبادرت فأقامت عند هذا التقاطع «كشكًا»، وقالت لعسكري كن داخل الكشك فكان، وهكذا انحسرت كل المعاني الكلية المهولة عن التقاء الطريق بالطريق وتقاطع الطريق مع الطريق، وكما يَضيق «القمع» ويتدبب، ضاع المعنى وانكمش، واتخذ بالكشك والعسكري في الحال مفهومًا واضحًا خاصًّا، بل حتى الأرض نفسها، تلك التي كانت من أمتار قليلة مُستمتِعة بلا جدواها ولا أهميتها وبحريتها أن تمتدَّ إذا أرادت وتتجبَّر وتتجبَّل إذا أرادت وشاءت أن تمتد، وتجن وتطلق شعورها وبراريها ولحاها كلَّما عنَّ لها أن تصنع ذلك، أصبح عليها منذ الآن أن تدير رأسها وأن تعقل وتخفي عورتها، ومن الكرة الأرضية الهائلة والكون والطبيعة تنسلخ، وتتخذ أسماء وتنتهي إلى شعب محدَّد وإلى جزء من أرض ذلك الشعب، محافظة أو مركزًا تئول وكما يعطي العسكري والكشك والطريق هذا المعنى المحدَّد الخاص. يرتدُّ العطاء، ويُصبحان أو على الأقل يُصبح العسكري، ليس مجرَّد أي عسكري في أيِّ كشك، ولكنه، في ذلك الجزء المقطوع عن العالم المعزول يصبح المثل الحي للنظام العام الذي أخضع الأرض وحدها وسماها وامتلكها ولكافة القوانين التي ابتكرتها عقول مَن أصبحت تمت لهم هذه الفرس الوحشية .. الأرض .. وراكبها الذي استأنسها .. ذلك الطريق.

في ذلك الوقت، ولنجعله بعد الظهر بقليل، وقد انتهى العسكري من تناول غدائه بحيث يمكننا أن نقدم عليه بلا حرج ونجلس إليه على أمل أن نتحدث، وحتى قبل أن يدور أي حديث بمجرد الجلوس، سندرك أنَّ البقعة قد تكون معزولةً ومهجورة بالنسبة للآدميين وللراحلين، ولكنَّها أبدًا ليست كذلك بالنِّسبة للعربات. فما تكاد تمضي دقيقة حتى تكون عربة قد أقبلت، بل أحيانًا يتراكم لدى الكشك أكثر من عربة، كل ما في الأمر أنَّها في الخلاء الواسع لا تبدو للعيان .. قلَّما تصادفك عربة؛ إذ هي نقطة لا تظهر إلَّا عند الكشك. من الخلاق الواسع الشفاف تظهر فجأة كأن دخانًا كان يخفيها باتساعه وشفافيته، وإلى الخلاء الواسع تعود إلى الاختفاء بعد اجتياز التقاطع ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وحتمًا لا بدَّ نفاجأ، قبل أن نبدأ نُعِير العسكري نفسه أي التفات، وإنَّما نحن مشغولون بتأمُّل المكان الفريد الغريب ومتابعة غير قليل من الأفكار التي يولدها بالضرورة وجودنا لأول مرة في مكان كذاك، حتمًا لا بد نفاجأ حين يُقبل رجل عجوز قصير القامة، أول ما يلفت النظر إليه جبهته السمراء البارزة المحدودية، ومقدم رأسه الخفيف الشَّعر الأشيب، ينحني على المنضدة الموضوعة أمام العسكري ليستطيع أن يصل إلى حافتها الملاصقة له، ثم يضع، ويا لَلمفاجأة، كوب شاي متوسط الحجم، رخيص الزجاج، وإن بدا الشاي نفسه جيد الصنع، عنبري اللون مُحمرًّا، تمامًا كما يُحبه أنصاف الكيفية، ونفاجأ أكثر حين نجد أنَّ العسكري نفسه لم يُفاجأ بما حدث وكأنَّه كان يتوقعه، وكأنَّما هي عادة. وحتى إذا كنت متوسط الذكاء، فلن تأخذ وقتًا طويلًا لكي تدرك أنَّ الرجل العجوز صاحب ما اصطلحنا على تسميته بالغرزة، أو القهوة الصغيرة المتنقلة، وأنَّه يحط رحاله تحت شجرة على الناحية الأخرى من الطريق، وأنَّه لا بد قد لاحظ أنَّ العسكري قد انتهى من تناول غذائه فأحضر له كوب الشاي. كما قلت: لا حوادث هناك ولا شيء غير عادي، من الطبيعي جدًّا أن توجد قريبًا من هذا التقاطع غرزة صاحبها رجل عجوز أو مريض، وأن يتعامل العسكري معه، وأن يُحضر له الشاي، وأن يقدمه في أدبٍ. ولكن أشياء غير عادية بدأت تحدُث، منها مثلًا أن يدفع العسكري يده في جيب بنطلونه الأمامي «فجيوب بنطلونات العساكر مركبة إلى الأمام ولا أحد يعرف لِمَ!» ويخرج قرشًا من جيبه، ويعطيه للرجل العجوز قائلًا: خذ قبل ما أنسى. حادثة لا شك. فالمفروض، والعسكري يُمثِّل كل ما ذكرته آنفًا، والرجل يُمثِّل التجار الصغار، أن يَتقاضى ضريبة يضعها تحت أي اسمٍ يشاء .. ضريبة ليست أقل من كوب الشاي مثلًا، وأن يُعفيَ العسكري هذا الرجل من الضريبة، ليس فقط .. بل أن يَخسر من جيبه قرشًا، أمر له دلالة خطيرة. لا بدَّ أنَّ هناك سببًا لهذا الاستثناء، فإذا اتَّضح أن لا سبب هناك، فمعنى هذا أنَّنا في مواجَهة ظاهرة خارقة .. عسكري مرور .. ملك متوَّج على بقعة نائية مهجورة، ويستطيع من هذا المكان أن يسيطر على غرائزه، وبالذات على غريزة فرض الضرائب غير القابلة للسيطرة والتحكُّم، ويكون ذا ضميرٍ مُستيقظ لمَّاح.

هنا لا بدَّ أن تلتفت كليةً للعسكري، وتُعيد النظر فيما دار بينك وبينه من حديث، فستقطع أخطر محاورة مفروض أن تدور حالًا بين العجوز والعسكري، لأنَّنا لن نستطيع إدراك مضمون الحوار إدراكًا حقيقيًّا، إلَّا إذا وضحت لنا صورة العسكري، فلا بدَّ لنا أن نُؤجِّل الحوار إلى حين. العسكري شباب في حدود الثلاثين، في حديثه وآرائه تحديدات مَن لم يتزوج بعدُ، أو إن كان قد تزوَّج فلم يستطع الزواج أن يُصيب ضحيته، كما يصيب الجسد، بالترهُّل وعدم الميل إلى التحديد. الزواج باعتباره عملية تنازل مستمرة ومساومة في أحسن الأحوال يُصيب الرجل بعادة الرغبة في المسألة والبحث عن الحل الوسط، فالجمل لا بد أن تكون لها نهايات مفتوحة تجعلها قابلة للتراجُع التام في أحيان، أو الاتصال بجملة أخرى تُغير تمامًا من المعنى المقصود، الزواج ضدَّ نقط النهاية وضد الحسم ربما خوف من سوء وضع النهاية. ما علينا. شخصيته محدَّدة، آراؤه في الناس أيضًا محددة، وكذلك في عملية وطبيعته، وهذا شيء نادر هنا، فالوظيفة، أيَّة وظيفة، كالزواج تمامًا، صاحبها فتح الجمل وكثرة استعمال حروف الوصل والضم والجر والألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى وتفسير لاستخدام معناها الآخر، كسلم الحريق حالة وقوع الكوارث وتحمُّل المسئولية. له شاربٌ .. تحسُّ إنه عن عمد قد وضع شاربًا، لا للعياقة أو إظهار الرجولة، إنَّه ليس في حاجة إلى إظهار، وإنَّما لأنَّه — ما دام الناس صنفَين — فقد اختار أن يكون من الصنف ذي الشارب، صعيدي أو عربي فلا تزال به بقايا قبلية، في لغته وفي ميله إلى الحديث عن كل ما هو عام، فالانتماء يَبعُد عن الذات وكل ما يمتُّ إلى الشخص بمفرده. ولا أستطيع أن أقول إنَّه شهم ذو نخوة وأريحية، فلم يكن قد بدا منه ما يُنبئ بأيٍّ من هذا، ولكنَّك تتمنَّى. بل تُرجِّح شهمًا ذا أريحية، ولكنَّه أبدًا ليس كاملًا، فصحيح أنَّه يُعامل السائقين بمُساواة تامة، لا يُبالغ في رد تحياتهم المُفرطة وكذلك لا يرد عليها بتعاظم وتكبر، ولكنَّه يكاد يَنتفِض واقفًا إذا جاءت التحية من عربة ملاكي، فعلى رأيه مَن يمتلك عربة لا بدَّ أنَّه صاحب نفوذ؛ موظف كبير، أو صاحب مهنة غني، أو ابن لهذا أو لذاك، وليس من العقل أو الحكمة أن يصطدم مَن كان مثله بأمثالهم!

قال العجوز بعد أن وضع كوب الشاي بأدب تحسُّ منه أنَّ الأدب أو بالأصح — حتى لا يَختلِط الأمر — التأدُّب كان ذات يوم حرفته، ويذهب بك الخيال إلى أنَّه من الجائز أن يكون قد عمل سفرجيًّا في قصر باشا أو على الأقل مساعد مرمطون، قال: أنا لي رجاء عندك.

ولم يكن العسكري قد أدرك بعد أن يرجُوه، وربما كان لا يزال منصرفًا إلى تأمُّل الشاي وتهيئة نفسه لارتشافه .. فاستطرد العجوز يقول: لو تتكرَّم وتسمح لنا بعربية نقل تأخذنا .. وقال العسكري وهو منصرف أيضًا وبمزاج إلى أخذ الرشفة الأولى من الشاي: (ما أعذب الرشفة الأولى من أي شيء!) تاخدك فين؟

ربما حسن يُريد أن يقضي مشوارًا في أقرب مدينة تلك التي لا بدَّ تبعد عن المكان بعشرات الكيلومترات، ولكن العجوز قال: أصل أنا ما احبش المواضيع لما تحصل كدة. يبقى أحسن نأخذها من قاصرها وتتكرَّم علينا بأي سواق توصية!

قال العسكري وملامحه القمحية ذات الندوب تنكمِش انكماشات التأثر، إن لم يكن بعض الغضب: هو جالك تاني؟

قال العجوز وهو لا يزال سادرًا في رجائه: وقال لي: ورغم هذا قاطعه العسكري: وقال لك برضه …

قال العجوز: وقال لي برضه فأنا رأيي أحسن طريقه زي ما قلت لسيادتك كدة آخدها من قاصِرها، حاكم المسائل لما بتوصل، على إيه ده كله، كلمتين منك وأي سواق وكتر ألف خيرك.

قال العسكري وقد بلغ الانكماش بملامحه درجة الانفراج، إذا الغضب كان قد بدأ يتحوَّل إلى كلام: اسمع يا عم حسن، أنا قلت لك طول ما أنا هنا ماحدش يقدر يقرب لك!

– بس أنا المسائل لما بتوصل أقول لنفسي على إيه، الأرض أرض الله، ومافيش أوسع من أرض الله، وربك بيقطع من هنا ويوصل هنا. وكلمتين لسواق …

بحزم هذه المرة قال العسكري: والله لما يكون هو الجن الأحمر مش يكفاك كلمتي، أنا قلت طول ما نا هنا لا هوة ولا مليون واحد زيه يقدر يهوب ناحيتك، بس ركَّك أشوفه مرة وأنا أعرف شغلي معاه. هو جالك إمتى؟

– من شوية.

– جه منين؟

– م الناحيا دي.

– وراح فين؟

– م الناحيا دي.

– وازاي ما شفتوش. ركك بس أشوفه. أنا مش قايل لك لما يجيلك اندهلي؟

– يا سيدي ربنا يخليك ويكتر خيرك، بس أنا كان قصدي يعني إن المسائل لما بتوصل مفيش داعي وكلمتين منك …

– خلاص يا عم حسن، بس لما يجيلك اندهلي.

وكان العسكري قد انتهى إلى آخر نقطة من شرب الشاي. فتناول العجوز الكوب، ومسح قاعدته السميكة مرة أخرى. وانحنى ومدَّ يده، ومسح الدائرة المبتلَّة التي صنتها على المنضدة، ومضى وهو يُتمتِم لا بدَّ بدعوات وكلمات شُكر.

ولو رأيت هذا المشهد، لدفعك حب الاستطلاع حتى إلى سؤال العسكري عن معنى هذا كله، ولخمَّنت حتى قبل أن يبدأ في أنَّ سببًا ما لا بد يدعو العسكري للتمسُّك بوجود عم حسن العجوز كل هذا التمسُّك.

ولو كنت تكتب قصة بطريقة التأليف كما يفعل بعض الناس لالتفت للمَوقف امرأة، مثلما كدنا نفعل في البداية. ولجعلناها زوجة صغيرة لعم حسن العجوز أو ابنة فائرة لعوبًا.

لا بد سيدور بخلدك شيء كهذا .. فالعسكري لا يذكر لك شيئًا كثيرًا، إنَّه يؤكد لك، بلا حاجة للتأكيد، أنَّ الرجل عجوز وطيب، وأنَّ له في هذه البقعة بضعة أيام، وقد كان جالسًا في مكانه وجاءت عربة نقل ووقفت كالعادة وبينا السائق يذكر له الرقم، وإذا من الصندوق ترفع الهامة القصيرة لعم حسن، وإذا به يتطلَّع إلى المكان، ثم تقع عيناه على الشجرة، فيَنحني ناحية السائق في الكابينة ويشكُرُه ويطلب منه، بأدبه المعهود، أن ينزل هنا قائلًا إنَّه قد اختار هذه البقعة لينصبَ فيها نصبته. وبمُساعَدة الشيال يُنْزِل عم حسن أشياءه الفقيرة القليلة، ويستأذن من العسكري ويقضي بقية اليوم في إقامة «الغُرزة».

وتلك هي حياة عم حسن التي اختارها .. وكل إنسان منَّا يَختار حياته بالطريقة التي تحلو له، بعضنا يختار المهنة الناجِحة ويقضي عمره يُحارب زملاءه من أبنائها الناجحين، ويكيد لهم ويكيدون له، وبعضنا يختار مهنة البحث عن مهنة، ويظلُّ العمر ينتقل من عمل فاشل إلى عمل فاشل، ولكل منَّا كما قلت مهنته التي يُفضِّلها أو التي يلعنها أو التي تتلاءم مع ذاته وطبيعته وصفاته .. وعم حسن قد ترك هذا كله واختار لنفسه مِهنة أن يخدم الناس حيث لا يتوقَّع الناس خدمته، فهو لا بلد له ولا بيت، موطنه الدائم يوجد حيث يوجد بيته، وبيته يوجد حيث يوجد عمله، وعمله يوجد حيث يرى أن حاجة الناس إليه أكثر وأشد!

وهو يصنع القهوة والشاي والمعسل .. ورأسماله بلا رأس وبلا مال، وهو يوجد اليوم هنا في بقعة مهجورة من طريق السويس–الإسماعيلية، لا بدَّ عندها تقاطع أو محطة أو شيء ما .. هنا حيث لكوب الشاي يُصبح قيمة لا تُقدَّر، خاصة إذا قُدِّم لسائق منهك استيقظ منذ الفجر وعليه قبل أن يَنام أن يقضيَ الليلة القادمة بطولها سائقًا.

ويظلُّ عمل حسن في المكان حتى يزهد هو فيه أو يزهد فيه المكان، أو تصل المسائل على حدِّ رأيه إلى حيث يُصبح لا داعي للبقاء، يُشير عم حسن لأيَّة عربة قادمة، في هذا الاتجاه أو ذاك، فسكك الله كلها له وكل مكان فيها مثله مثل أيِّ مكان، مُمكن أن يصبح بلده وموطنه ومسقط عمله، ويركب عم حسن هو ورأسماله، وفي أيِّ اتجاه يتصادَف أن تكون العربة ذاهبة إليه يذهب، وعند أيَّة بقعة في المسافة يَراها عم حسن تصلح مكانًا يحتاج فيه الناس والسائقون بشكل خاص للخدمة ولا يجدونها ولا يتوقَّعون وجودها، ينحني على السائق يطلب منه، بأدبه المعهود، إنزاله، وعادة .. بل لم يَحدُث أن تقاضى منه أي سائق أجرًا، وينزل، ويظل يعمل. وقد يَقضي في البُقعة أيامًا، وقد يقضي فيها — كما حدث — سنتَين، إلى أن تصل المسائل إلى الحد المعهود، فيُشير عم حسن إلى أول عربة نقل قادمة، وهكذا!

ولا بدَّ — خاصة إذا كنت مثقَّفًا .. مقيدًا بألف قيد وهمي أو ممَّن صنعك إلى عملك — تمنعك أشياء ليس أقلها الخوف الشديد، أو بالأصح الجبن، من أن تفكر، مجرَّد تفكير، في تغيير محلِّ عملك، أو عملك نفسه، أو حتى محل إقامتك، لا بدَّ أن تحسد عم حسن على حياته تلك، فهي في رأيك لا بد أرحب وأوسع حياة، حياة ألغت المكان والزمان والبُعد الرابع وكل الأبعاد، البلد كلها .. بملايين الكيلومترات التي تكون سككها وطرُقها ومساحتها ملكك .. ملكك حقًّا لا مجازًا، إذا ماذا تفعل بالمِلكية قدر حقك أن توجد في المكان الذي تمتلك وقتما تُريد وأي زمن تشاء، وهل يحتل صاحب العمارة مهما كبرت أكثر من المقعد الذي يجلس عليه أو الفراش؟ وما متعة مَن يمتلك مئات من الأفدنة أو بضع عمارات؟ .. ولكنَّه صاحب مصر كلها. من حقه أن يحل بأي مكان فيها في أي وقت يشاء، ويستمتع ما شاءت له المتعة، بإحساسه أنه صاحب المكان وأي مكانٍ!

وجزء من دوافعنا للالتصاق بمنطقة بعينها من المدينة أو القرية، بل بشارع، بل ببيت بعينه من بيوتها، هو أنَّنا نعرف الساكنين معنا وحولنا ونأتنس بهم، وجزء من خوفنا أن نُغادر ذلك البيت أو الحي ونقطن في غيره، إنَّنا نخاف من تجربة الغربة مع أناس لم نعرفهم بعد وحتمًا لهذا نتوجَّس منهم.

إنَّ ما يدفعنا للالتصاق بمكان محدَّد، وناس محدَّدين، أنَّنا نخاف الأمكنة الأخرى والناس الآخرين، فنتوقَّع على ما نعرفه ومَن نعرفهم حتى لو قضَينا الأعمال نملُّه ونملهم، عم حسن العجوز لا بدَّ أنَّه لا يخاف الآخرين، وما دام قد اعتبر مصر كلها بيته ومكان عملِه، فلا بدَّ أنَّه اعتبر المصرييِّن كلهم؛ صعايدة وبحاروة وشراقوة وغرابوة، أهله وأبناء حيِّه وحتَّته، وهكذا وبمُنتهى الجرأة والألفة والبساطة، ألقى نفسه في وسطهم في البحر الضخم الهائل الذي يكون ملايينهم .. ومن الواضح تمامًا أنَّه لم يغرق، وأنَّ الأيدي رفعته، ولا زالت ترفعُه وتتداوله، ومن المكان إلى المكان يُلقي بنفسه إلى يدٍ ترفعُه بحنان ورفق لتضعه حيث يحدد أو لتسلمه إلى يدٍ جديدة إذا أراد .. وكأنَّما أبرم الرجل اتفاقًا مع المصريين جميعًا أصحاب البلد، أن يقدم لهم القهوة والشاي في المكان الذي يَفتقدُون فيه القهوة والشاي أكثر .. وفي مقابل هذا عليهم هم — المصريين — أن يتكفَّلوا بأمر عيشِه وسكنه وإقامته وتنقُّلاته كلَّما حلا له أن ينتقل.

وكما تؤثِّر الوظيفة في الموظف، وكما يُصبح من خصائص سائق الأتوبيس صوته المرتفع؛ إذ لا بدَّ له أن يرفعه ليُغطي على صوت الآلة الحديدية والآلة البشرية، ليسمعه الركاب أو حتى ليبلغ شتائمه إلى الراكب الذي أثر أن يدَّخر رأيه الصريح فيه إلى اللحظة التي يضع فيها قدمه على الأرض ويتحرَّك الأتوبيس .. كما تُنمِّي الوظيفة ذلك الجزء من الإنسان الذي يتعامل به مع الآخرين .. وبالتالي تُنمي لدى الآخرين ذلك الجزء الذي يتعاملون به معه، فعم حسن يتعامل مع جزءٍ نادر، أو بالدقة نادر العمل .. في الناس .. ذلك الجزء المُخصَّص للعمل من أجل الآخرين .. الجزء الإنساني الضامر في أناس كثيرين .. الذي ربما حوَّلته الأجزاء الأنانية لدى البعض كما تُحوِّل الأماكن غير المستعملة، إلى مخازن، تختزن فيها أحصنة النهم الإضافية ومغذيات الطموح الفردي الصغير.

عم حسن يعامله الناس، والسائقون، الذين يبدُون وكأنَّ قلوبهم قد قُدَّت من جرانيت أصم، بأجزائهم الإنسانية، وما أكبر هذه الأجزاء أحيانًا بالذات في قلوب هذا النوع المخيف من السائقين .. ولأنَّه يحيا ويتنفَّس ويأكل وينام بهذه الأجزاء وبما تهيئه له، فقد اكتسب هو الآخر طابعًا غريبًا يُميِّزه عن جميع الناس، فأدبه الزائد ليس ذلك النوع المُمتثِل الذليل الذي ندرك في الحال مدى ما فيه ضِعة واسترزاق .. إنَّه نوع عميق من الأدب، لا ينبع من الانحناءات والكلمات الهامسة .. وإن كانت بعض أعراضه كلمات هامسة .. ولكنَّه لا ليُريك ويظهر لك أنَّه يهمس، ولكن لأنَّه بإدراكه أنَّك ستستريح أكثر لو همس، نوع من مراعاة الشعور، ولكن لأنَّ مراعاة الشعور لدى معظمنا لا تحدث إلَّا لسبب، وإلَّا لحاجة لك عند مَن تراعي شعوره، فأعتقِد أنَّه من الصعب أن نتصوَّر مراعاة الشعور لمجرد مراعاة الشعور .. لمجرَّد أنَّ إنسانًا يحترم شعورك فعلًا ويُقدِّره — مهما كنت — ويُهمه مراعاته، بل حتى في طريقة سؤال للناس، إنَّه يفعل هذا بأدبٍ صحیح، ولكنَّه أدب فيه ثقة بنفسه، وكأنَّ المسألة أمر مفروغ منه. فرق كبير بين أن تطلب من إنسان لا تعرفه شيئًا وتحاول حينئذٍ ولأنك تفترض أنه ليس من حقك أن تطلب منه وهو الغريب عنك شيئًا أو تسأله معروفًا، تحاول أن تُرقِّق ما أمكن من طلبك ولهجتك وتُودع فيها كل ما يمكنك إيداعه من رقة السائلين والمقترضين ومَن يطلبون بذله، فرق بين هذا وبین أن يطلب من إنسان نَعتقِد أنَّه فعلًا أخوك ومن أقربائك، ولك عليه مثلما له عليك، أن تسأله، ومن واجبه وليس تفضُّلًا أو تنازلًا، أن يُعطيَك.

ولكن تلك تفاصيل لا معنى لها .. ومحاولة يائسة لشرح «كل» من الصعب شرحه. فعم حسن ليس مجموعة تصرفات كهذه، ولكنَّه أولًا روح كاملة، ربما بعض مكوناتها تلك التفاصيل .. إنَّه روح غريبة تُعيد إلى ذهنك آثار الظواهر الطبيعية وهي تعمل عملها عبر ملايين وملايين من السنين لتفتت الصخر الكبير إلى رمل دقيق أملس رائع التكوين. لتقدمنَّ الصخر نهرًا عذب الماء كنهر النيل، لتصنع من الزلال وزلال الزلال حياة، ومن الحياة كائنات ما أروعها حين تتأملها؛ كالسمك، دافقة بالحياة عامرة بالتفاصيل، كالأسود جليلة مروعة يُداخلك مجرَّد تفكيرك أنَّ الأسد العظيم منها كان ذات يومٍ قریبًا كائنًا لا يُرى إلَّا بميكروسكوب. كائنًا كان هو الآخر ومنذ أيام قريبة أسدًا عظيمًا، كذلك الأسد .. ونتأمَّل كيف استطاع آلاف الناس بمراكزهم وتصرُّفاتهم الإنسانية أن يخلقوا أو يُدربوا ذلك المركز في عقل عم حسن وشخصيته ليكبر وينمو ويزدحم، ويحيل هو هذه المرة مراكز الأنانية وما يخصُّ الذات الصغيرة إلى مخازن يودعها مشاريعه القادمة للناس .. لحب الناس، لكي لا يَنسى وهو في قمة انشغاله، وحوله السائقون مزدحمين كلٌّ يريد أن يحظى منه بأكبر جرعة من الحديث والشاي، أنَّ عسكري المرور يتغذَّى، وأنَّه انتهى من طعامه وأنَّه في حاجة إلى كوب شاي!

لنتصوَّره بوجهه الأسمر، وصلعته النامية الخفيفة، بآذانه الكبيرة التي تؤكِّد ملامحه، بأنفه الكبير قليلًا يؤكد رجولته ويؤكد في نفس الوقت طيبته؛ إذ لا شموخ فيه، ولا اتساع فتحتيه يريحك، وعيونه ليست أبدًا كعيون الملائكة ناعسة سارحة، أهم شيء يجذبك إليها هو يقظتها، وليس يقظتها إلى ما يدور في عقل صاحبها، وإنَّما يقظتها إليك أنت، إلى ما تُفكِّر فيه، إلى أحوالك وكيف تبدو، وهل معنى ابتسامتك الواسعة أنَّ كل شيء بخير، أم يا ترى تنبئ عن ضيقك بما تحسه من ضيق؟

وإنَّها لسعادة أن تنظر إلى عم حسن وبالذات إلى جبهته العريضة البارزة التي إذ قستها بالمقاييس الواضح عليها للجمال لبدت قبيحة، إنَّها لسعادة أن تنظر إليها فتحس أن لم يدر خلفها شيء، فكرة أو خاطر يضر بإنسان .. أن تدرك بوعي وعمق أنَّ هذا الرجل الذي ينظر إليك بجماع نفسه، لا يُفكِّر أبدًا في إيذاء أحد ولا يمكن أبدًا أن يُفكِّر في خداعك أو السخرية منك والضحك عليك، إنَّ ما من فكرة شريرة عرفت أو يمكن أن تعرف طريقها إلى رأسه .. لا أحلام غنى باهظ راودته وأستعد معها لأن يدوس الغير في طريقه إليها، ولا أمنية ألحَّت عليه أن يكون لك مالك أو بعض مالك. وأنَّه لا يَحسُدك أبدًا على منصبك أو وسامتك أو زوجتك المخلصة، ولم يُفكر أبدًا في الحط من شأنك، حتى بينه وبين نفسه، لكي يثبت لها، مثلما يحلو للبعض، أن يفعل أنَّه أحسن منك. إنَّه لشيء رائع ومحير ومثير للخوف أن تدرك أنَّ كل هذه الصغائر التي يقضي بعضنا تسعة أعشار أعمارهم يلوكونها في عقولهم ويُقيدون بها قدراتهم .. ويلوثون بها ضمائرهم، وطبيعتهم الإنسانية التي تُخلق نظيفة حسَّاسة، هذه الصغائر كلها لا محلَّ لها في عقل عم حسن العجوز، ترى أي مكان رحب يصحبه عقله، أيَّة حرية تتمتع بها خواطره .. أي أمان شامل كان يظللها ويُظلله .. أجل الأمان الذي يقلب الناس دنياهم ويَحفرونها مخابئ ودهاليز ليحتموا بها من الأعداء المعروفة والمجهولة، ومن الزمن والمرض والخيانة، وكلَّما بحثوا عن الأمان خافوا؛ إذ يُدركون أنَّهم مهما فعلوا فليس هناك دواء شافٍ أو ملجأ أكيد، وكلَّما خافوا على أنفسهم من الآخرين أخافوا الآخرين منهم، حتى تنقلب العقول إلى مواقد مجنونة للقلق والرعب. إنَّه يتصرَّف دون أن يحسبها ويفكر، ويُفكِّر دون أن يحسبها ليعرف بماذا يتصرَّف، فالحاجز الذي يضعه الكثيرون بين التفكير والتصرف حاجز سببه أنَّهم حين يتصرفون يخجلون مما يُفكِّرون، وحين يفكرون يخافون التصرف بمثل ما يفكرون، يا لروعة عم حسن وتصرفه، يمضي في تسلسل وصفاء مع أفكاره، وأفكاره من تلقائها وبلا جهد يُضيعه أو يفقده تصنع تصرفاته، وليس في وسط الدائرة إلَّا غيره، إلَّا الإنسان الذي تسوقه إليه الصدف، إلَّا الكلمة الحلوة التي لا بد يحتاجها ليقهر هذا العبوس، إلَّا الشربة من ماء القلة الباردة ترد الروح التي تتسرَّب من جسده .. مع حبات العرق المنهمرة، إلَّا كلمة طيبة يقولها لصديق الطريق وهو قائم بنفض التراب عن جلسته ويستعدُّ لسفرته القادمة المجهولة: خلي بالك .. الدنيا ليل ونورك واطي، لما تَقابل عربية هدِّي، وحياة بنتك الغالية لأنت فاكر كلامي ومهدِّي!

وقد يعتقد البعض، ولهم الحق، أنِّي أنبذ الواقع وأتحدَّث عن إنسان خرافي غير موجود. ولكن الكارثة الكبرى أنَّ عم حسن موجود ولا يزال إلى الآن حيًّا يسير ويتنقَّل إن وجد في مصر طريقًا، ولكن المشكلة، أجل المشكلة، أنَّ الدنيا كلها ليست عم حسن، وأنَّ المسائل لا بد أن تصل يومًا إلى الدرجة التي يُصبح معها من العبث البقاء.

•••

ولنعد إلى الرجلين والمشهد، ولنؤمن الآن وقد عرفنا الكثير أنَّ ليس في الأمر زوجة أو ابنه ولا سيدة بالمرَّة، ليس لأنَّ عم حسن لم يتزوج، فالحقيقة أنَّه مرات تزوَّج، ولكن زوجاته كن، بعد فترة، وبعد انقشاع الرغبة في التغيير، يَضِقن بحياته ويُرِدن البيت والعمل الثابت، الذي لا يبحث فيه عن الناس، وإنما على الناس فيه أن يبحثوا عنه، من هنا كان يدبُّ الخلاف، وينطلق عم حسن إلى طرقاته ومحطاته ودنيا الله الواسعة، ويَنطلقن هنَّ باحثات عن الأمن والثبات الذي يصنع الأولاد. لنعتقد إذن أنَّ ما بين الرجلين إن هو إلَّا صلة أخرى من صلات عم حسن بالناس، تلك التي تنشأ في لحظات، وتظل تنمو ولا تكف عن النمو كلما مرَّ عليها الوقت، عكس ما يحدث في العادة. فما أربح وأوسع ما تنشأ وما أسرع ما تبدأ تضيق، والمشغوليات بالنفس كثيرة، والعلاقة التي لا تَنفع تضرُّ، والأعم الغالب أن تنتهي العلاقات إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الجهل والمعرفة، فتعرف الشخص وكأنَّك لا تعرفه، وصلتك به لا تتعدَّى أكثر من يد عالية ترفعها بالسلام من بعيد، أو إيماءة من رأس أو أضعف الإيمان ابتسامة وكأنَّما لتثبت بها لنفسك أنَّك تنتمي، مجرَّد انتماء، إلى الجنس!

والعسكري يروي كيف بدأت الحادثة؛ فمنذ بضعة أيام، ذهب إلى عشه عم حسن، لأول مرة، عابسًا شديد العبوس. ولا بدَّ لنا لكي نكمل القصة أن تعرف أشياء كثيرة عن العسكري بشكل عاجل، فهو قروي حياته الحقة بدأت بالعسكرية ودخول الجيش، وكان الجيش مدرسته، هناك صاحَبَ شُبَّان المدينة وعرف المدينة من خلالهم، وخرَج وقد آلى أن يعرفها بنفسه، والمدينة صعبة على مَن يُريد معرفتها بقيم فلاح ودردحة ذكي. ولكنَّه رغم هذا استطاع أن يجد لنفسِه مكانًا غير رسمي فيها، وهو وإن كان يَقضي معظم أيامه مقطوعًا في كشك، إلَّا أنَّه في إجازته يُعوِّض كل ما فاته، وحتى بنات الليل يستطيع مصاحبتهن .. وله في كل مدينة يحلُّ قريبًا منها جلسات، وقعدات وأركان ودائمًا يعثر على عشيقات!

غير أنَّه من يوم أن حلَّ عم حسن فقَدَ الحماس تمامًا للمدينة ولكل ما ينتظره فيها، فساعة واحدة كان يقضيها مع الرجل حسن عاش وشاف، وعاش وشاف بطريقة لم يعش أو يرَ بها أحد، فغيره يجلس مع الرجل، بل أحيانًا يجاوره لشهور وسنين دون أن يعرف عنه إلَّا أقل القليل، عم حسن كان يغوص من فورة في النفس محبَّة أو بناءً على طلب صاحبها، وفي دقائق يعرف ما لا يعرفه غيره في ساعات، فوجهُه كان يملك اللمسة السحرية المتناهية البساطة، التي تفتح النفس، والنفوس دائمًا توَّاقة لأن تُفتَح. وأغنى ما في الأرض ليس كنوزها وما تحتويه قشرتها، أغلاها ما في نفوس الرجال من ثروات. إنَّ في داخل كلٍّ منَّا كنزًا، تجمع وتراكم فيه عشرات السنين وآلاف الخبرات، كل نفس كالمحارة، مهما انغلقت فهي لا تكفُّ عن إحالة التجربة بالإضافة والإعادة والتعديل إلى لؤلؤة، إلى ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المركزة والمكثفة والمصنوعة بصبر داخل تلافيف الحياة، وقد استطاعت نفس عم حسن الخالية من المهبطات والمعطلات ومخصصات الأنا اللزجة أن تمتلئ وتستوعب عددًا لا يُعد ولا يحصى من كنوز النفوس الأخرى. فوق ما يمكنها تقديمه وعرضه من نماذج، استطاعت نفس عم حسن أن تقوم بدورها كصانعة لآلئ، وماسات، وأن تُحيل ما احتوته نفسه من تجاربه ومن الآلاف المؤلفة من تجارب الآخرين إلى ما يُشبه برج مجوهرات الإمبراطورية البشرية .. لي متحف يدير مجرد التجوال فيه الرءوس، ولا شك أنَّ المتع كثيرة وكلها حلوة، والمرأة جميلة ممتعة، وقعدة العسكري في البندر مع إخوانه يدور عليهم الشيء أو يدور بهم متعة .. لكن العسكري إلى عم حسن، ويسمعُه بمفرده أو مع الآخرون وهو يحدثهم ومن ذات نفسه يفرجهم على عوالم غريبة رائعة، ليالي وكأنَّها مسحورة تُرى من فنجان، وأيام وأحداث وكأنَّها اغترفت من أكداس الروايات، مع أنَّه في كل ما كان يتحدَّث به لم يكن هناك أثر للخيال؛ إذ لم يكن هناك داعٍ للخيال، فما رآه رأي العين أغرب مما يراه الآخرون رأي الخيال .. لا شك أنَّ المتع كثيرة ولكن يبدو أنَّ أمتعها جميعًا وأحلاها هي متعة أن تعرف .. متعة أن تعلم ما تجهلُه أو تزداد علمًا بما تعرفه، وكل ما يُحدِّث عنه عم حسن دائمًا جديد غير مطروق، أُناس وكأنَّهم ليسوا من جنس الناس، وإنَّما من نوع آخر لا يتبدَّى إلَّا لعم حسن .. أو كأنَّهم الناس ولكن أشياء منهم مغلقة تُفتح بكلمة سر لا يعرفها إلا الرجل العجوز!

وجدَه العسكري في ذلك اليوم عابسًا، شديد العبوس .. حتى لقد استغرب أن يمتلك مَن كان مثله القدرة أن يعبس بهذه الشدة .. وحين سأله عما به لم يشأ أن يتحدَّث وكأنَّه لا يرى فائدة في الحديث!

ولكنه تحت الإلحاح قال إنَّه حدث ما كان وسيظلُّ دائمًا أبدًا يخشاه، فقد جاء الرجل وطلب منه مغادرة المكان!

أي رجل وبأي حق يطلب ما يطلبه؟

قال إنَّه جاء هذه المرة بحجة أنَّ الأرض التي أقام فوقها عشته أرضه وأنَّه يُعطيه مُهلة إلى الغد لينتقل منها.

وطمأنَ خاطره قائلًا: إنَّه لا بد نصَّاب، أو سلَّطه أحد أصحاب العشش الأخرى!

وهنا لا بد تدرك أنَّ ثمة عششًا أخرى وغرزًا قد أقيمت بعد مجيء عم حسن، فهكذا دائمًا شأنه، ما أن يحلَّ بالمكان المهجور ويبدأ في تقديم مشروباته إلى الغادين والرائحين على الطريق .. أصحاب الطريق كما كان يسميهم عم حسن، الذي قد تتصوَّر أنَّهم قلة في حين أنَّك لا يمكن تتبين كثرتهم إلَّا إذا أقمت لهم مكانًا للشرب والراحة .. مكانًا يُصبح ككشك المرور الذي تلمح قبله أثرًا لعربات ولا تلمَح بعده، وإنما عنده فقط وعند العشة تظهر العربات، ويظهر الناس ويتكشَّف عنهم الفراغ الذي كان يخفيهم، وعنده يلتقطون أنفاسهم برهة استعدادًا لاختفائهم القادم من الفراغ .. أصحاب الطريق كثير، لا بد لهم أسبابهم الخاصة لسلوك الطريق ولكنك تعجب حين يخرج لك عم حسن يعرض كنوزه متحدثًا عنهم قائلًا إنَّ فيهم صاحب الحاجة والهدف لا شك، ولكن الغالبية سيتعبك حتمًا أن تحاول معرفة أهدافهم ولماذا يسيرون. إنَّ معظم الناس أجناس قانعة ميالة إلى البيوت وحياة البيوت وعالم البيوت ولكن الدنيا فيها آخرون .. فيها القائلون لأنفسهم وللعالم: بلاد الله لخلق الله ومن بلد إلى بلد يرحلون، وعلى الطريق يشربون ويأكلون وأحيانًا على نفس الطريق يموتون .. أصحاب الطريق وسُكانه دائمًا فرادى ودائمًا على الطوى ونادرًا ما يتكلَّمون وليسوا أبدًا مجذوبين أو مجانين، وإن كان سلوكهم هذا قطعًا سلوك مجانين .. الشيء الدائم أنَّ وراء السير الطويل. مسيرة العمر، قصة انتهت حين وضع كل منهم قدمه على أول الطريق، وقد يكون للطريق أول ولكن أبدًا ليس له آخر، وكأنَّما بحثهم الدائب عن آخر الطريق، والعمر يمضي وأعمار كثيرة تمضي قبل أن يصل أيٌّ منهم، السالكين سلوك المجانين، أو أي منَّا نحن السالكين مسالك العقلاء، آخر الطريق، دائمًا نلتقي؛ عقلاء ومجانين وراجلين وراكبين وأفندية وسواقين وهاربين وباحثين ومخبرين ومجرمين ومطارَدين ومطرودين عند عم حسن عند تقاطع الطريق. ونأنس باللقاء، ونتعارف ونتحابب ونتذاكر ويُسمِّي بعضنا البعض: رفاق الطريق.

وهكذا يحدث دائمًا؛ تبقى عشة عم حسن الذي يكتشف بها التقاطع المهجور، وحيدة لفترة أطول؛ إذ لا تلبث عشة أخرى أن تقام، وإن كان صاحبها ليس في وحدانية عم حسن وإنسانيته وطيبته بل حتى نظافته إلَّا أنَّه لا يعدم زبائن آخرين، وجعلنا لكل شيء سببًا، ولكل طالب رزقًا، ولكل عشة مهما كثر عدد العشش زبائن من رفاق الطريق!

ودائمًا ما تبدأ الغيرة من عم حسن ورواده الأكثر، تأكل القلوب، وعلى أقل سبب تحدث المشاحنات، وفي البقعة المهجورة والمقطوعة الصلة بكل أسباب الحياة والإحياء، سرعان ما تبدأ فيها أول البوادر، وكما تستدل على الأسد من رائحة بوله المنكر، تبدأ رائحة نظام الإنسان الفاسد تفوح، ومن بعيد وسط سكون العصاري المطبق تسمع صوتًا غير غريب عليك تتلاحَق عواءاته من بعيد .. تسمع الصوت وتشم الرائحة، الخناقة، تحسبها كلابًا على جثة، ولكن الرائحة والخناقة أكثر بشاعة .. لا بد أنَّهم بشر على لقمة.

فإذا سمعت طرفًا واحدًا هو الماضي في زعيقه وعوائه، بينما الطرف الآخر صامت صمتًا تامًّا، وكأنَّه ليس المقصود، فاعلم أنَّ الخناقة مع عم حسن، وأنَّ الآخر رغم أنَّه جاء إلى التقاطع بعده، ولولا عم حسن ما جرؤ على التفكير أو البقاء، إلا أنَّه محموم يَنفجِر بغضبه.

ولكن هؤلاء لم يكونوا يسببون للرجل العجوز الطيب أي إزعاجٍ، بالعكس كان دائمًا يقابل عويلهم بالابتسام .. ابتسام الفرحة؛ إذ معناه أنَّه عمرت الحتة، وليس ما يبهج عم حسن أكثر من أن يدرك، هو الجواب الأرض القفر والساحات المهجورة، إنَّ قطعة مهما بلغ صغيرها من الدنيا، ومن مصر أم الدنيا، قد عمرت.

•••

ولكن، أن يعبس عم حسن، وأن يبدو وجهه شديد العبوس، وأن يظل هكذا حتى بعد محاولات العسكري المستمرة لتطيب خاطره معناه أنَّ في المسألة شيئًا آخر غير عادي!

واعتقد العسكري أنَّ عم حسن رجلٌ طيب ومسالم، ومن عادة هؤلاء أن يُزعجهم التهديد، وهكذا أخذ العسكري على عاتقه ألَّا يتكرَّر المشهد، وأن يظل وراء مَن هدَّده حتى يجبره على المضي إليه وطلب غفرانه. وبدأ يعيد السؤال على الرجل، ويطلب من عم حسن وصفه وتذكر من أين جاء وإلى أين ذهب. ولم تُعجبه الإجابات، فقد جاءت كلها غامضة محيرة وكأنَّما عن عمد، أو من شدة الخوف، يحاول عم حسن تضليله، وبهذا واجه عم حسن وكان أن ابتسم الرجل وكأني بقلبه ابتسم فهو لم يكن يحاول أن يخفي عنه شيئًا، وأنَّه لا يفعل أكثر من أن ينقل إليه كل ما يعرف، فهو لم يعِ بالضبط من أين جاء الرجل فقد أفاق فوجده أمامه، ولا إلى أين ذهب فما كاد دمه يتغيَّر لكلامه، حتى كان في ثورة الغضب قد اختفى، وهو لا يذكر ماذا كان يرتدي، فقد أضاع الغضب للحظة الرؤيا ذاكرته، غير أنَّ ما أدهش العسكري ومنعه عن متابعة بقية الحديث وعن إلقاء أي سؤال، أنَّ عم حسن في كلامه عن الرجل وكأنَّما يتكلم من الذاكرة، وكأن ما في الذاكرة أقرب إليه مما، منذ دقائق، حدث!

كان وكأنَّما يتحدث عن شخص يعرفه تمام المعرفة، عن شخص لا يُمكن أن تكون تلك هذه المرة الأولى لرؤيته .. وحتى حين واجهه بهذا سكت ولم يجب، آخر كلمة قالها العسكري قبيل أن يغادره أن طلب منه، إذا جاء الرجل، أن يشير له ويناديه، وليدعه حينئذٍ يتكفل به.

وهزَّ عم حسن رأسه، وكان وجهه لا يزال محتقن الملامح في اكتئاب.

•••

وكاد العسكري يغضب حين علم — من عم حسن نفسه — أنَّ الرجل جاء، وأنَّه هذه المرة أنذره، ومضى قبل أن يستطيع أن يشير له أو يناديه. كيف يمضي قبل أن يستطيع؟ أهو كائن مسحور؟

إنَّه هكذا — مضى عم حسن يخبره — عمري ما رأيته قادمًا ولا عرفت كيف يغادرني.

عمرك – أفي المسألة أعمار؟

بالطبع – قالها عم حسن ببساطة .. فليست هذه أول مرة إنما دائمًا وراءه أنَّى يذهب ليسكن حتى يبدأ الآخرون يفدون ويقيمون العشش. ومن لحظتها يبدأ يأتي ولا يتركه حتى يذهب.

وللعسكري ألف حق حين أحسَّ أنَّ عم حسن يبالغ ليس إلَّا وأنَّه من امتداد حياته الطويلة بعيدًا عن المشاكل يجعل من الرجل جنيهًا أحمر. ووصاه وألح عليه إن جاء فقط أن يناديه، ما عليه إلا أن يشير له ويناديه.

لم يأتِ الرجل في اليوم التالي. هكذا أكَّد عم حسن، لا ولا اليوم الذي يليه، إلى العاشرة حين كاد جاز اللمبة «الشيخ علي» يفرغ وسهرته التي نادرًا ما تمتد أكثر ما تنتهي، ويخمر من زبائنه قرر قضاء الليلة عنده ومَن سيرحل، هكذا في ظلمة الليلة، ودون خوف من مجهوله وظلامه، وكأنَّه في بيته صاحب الطريق إلى العشرة لم يكن قد جاء.

وفي اليوم الثالث. كانت كوب الشاي التي قدها للعسكري عقب الغذاء، وكان رجاؤه أول مرة يسمع فيها هذا الرجاء، أن يساعده على الرحيل.

وحين كان عم حسن يأخذ الكوب الفارغ ويمضي ويتمتم. لم يكن ما يتمتم به كلمات شكر كما أعتقد العسكري، كانت كلمات ضيق وتبرم بالموقف الذي أصبح فيه، فها هو العسكري يقف بجواره مصممًا على بقائه وعلى أنَّ باستطاعته الدفاع عنه في حين أنَّه أعرف الناس أنَّ أحدًا لم يستطع — مع هذا الرجل — أن يساعده وأنَّه جانبه ويجابهه دائمًا وحيدًا، ولا فائدة من إطالة النضال.

وبعد دقائق كان ينادي بأعلى صوته يا شاويش.

وفي بضع قفزات كان العسكري قد ترك المكتب والدفتر، والقيد والعربة النقل الدائرة موترها في إزعاج، وأصبح أمام عم حسن، يسأل: هو فين؟!

وبيأس تام أجابه عم حسن إنَّه ذهب.

كيف ومتى وهل من المعقول أن يكون قد اختفى تمامًا ولم يمر بين ندائه وبين مجيئه سوى زمن كلمح البصر؟

– مش قلتلك؟ أهي دي عوايده.

ولأول مرة، وبنظرة مختلفة تمامًا حدَّق العسكري في عم حسن، فلم يكن هناك إلَّا تفسيرٌ واحد، إنَّ هذا الرجل العظيم، مجنون لا بد، يتصوَّر أشياء لا يتحدث.

وبنفس النظرة مثبتة على وجهه بالذات على عينيه الواسعتين العسليتين.

– أنت متأكد إنَّ فيه راجل بالشكل ده؟

وعلى الفور فهم عم حسن أو ابتسم في رثاء!

وانقضت الليلة، وفي الصباح، وإلى الساعة الثامنة لم يكن قد جاء عم حسن له بشاي الصبح أو بدا له أثر. ودب القلق في قلب العسكري مخافة أن يكون قد ذهب، لولا أنَّه من مكانه كان يلمح العشة وجلبابه المنشور فوقها منذ الأمس، ولم يكن باستطاعته التحرك، فبجواره كان ضابط ينتظر، وعليه أولًا أن يجد له عربة ذاهبة في اتجاه العاصمة، وهناك، قرب العاشرة جاءت العربة، وحتى قبل أن تتحرك بعيدًا كان هو قد وصل إلى جوار العشة وقبل أن يستدير إلى الباب كان ينادي عم حسن، وخُيِّل إليه أنَّه يسمع أنينًا. وفي الداخل كان عم حسن راقدًا وحول عينيه كدمة زرقاء كبيرة وصدغُه وارم وواضح في هيئته أنَّ اعتداءً قاسيًا قد وقع عليه. وردًّا على أسئلته الكثيرة، واستفساراته، حدَّق فيه عم حسن بعينه غير الوارمة وحدث فيه مليًّا قبل أن يقول: صدقت بقی إنَّه بييجي؟

وفتح العسكري فمه ولكنه عدل عن النطق، ودون أن يغير لهجته استطرد عم حسن: مش تعمل فيَّ معروف بقى وتكلم لي سواق؟

قضى العسكري إلى الظهر ودمه يغلي تارة وجسده يرتعش تارة أخرى. إنَّه بطبيعته لا يتحمَّل أن يرى أحد ضحية ظلم مهما صغر، فما بالك والضحية عم حسن، أحب وأقرب مَن أَنِستْ إليه نفسه في الحياة، لقد قضاها كالقط الضال بريًّا يكاد يصل حد التوحش من الصعب عليه أن يألف ومن الصعب أن يأتلف، حتى مع أخيه الأكبر الوحيد، وحتى والمرأة بين ذراعيه وقد ذابت كل الفواصل، عمره ما أحس أن أُلفةً حقيقية قامت بينه وبينها، حتى لو كانت «نظلة» زوجته، والأخرى التي جرى عليها طويلًا واشتاق لها كثيرًا وأحبها وكانت وبالصدفة اسمها «نظلة» أيضًا، الإنسان الوحيد الذي اخترق حجبه وهد جدرانه واقترب أكثر ما يُمكن من قلبه وروحه، وقرب قلبه، وروحه إلى الدنيا والناس .. كان عم حسن!

عم حسن الذي في أيامٍ ارتبطت فيه نفسه إلى الدرجة التي لو أصرَّ فيها على الرحيل لوجد نفسه، دون أن يستطيع لها منعًا أن يرحل معه .. الراقد الآن يتألم متورمًا ومضروبًا من ذلك الرجل، مهما كان وليكن إنسيًّا أو جنيًّا، وليكن إبليس بنفسه وبكل جبروته!

كان العسكري، ولنُسمِّه صميدة يعمل ثماني ساعاتٍ ويستريح مثلها، ويبادله العمل والراحة زميله، زميل لا علاقة له بكل ما ذكرنا، ما لاحظه ولا كان على استعداد للاهتمام به؛ فهو في السن أصغر، وتلك أول مرة يتغرب فيها عن زوجته وابنه الحديث الولادة، وهو دائمًا، بالخواطر معهما، لم يحس للحظة واحدة بما على قيد خطوات منه يحدث!

وقضى صميدة، الأربع والعشرين ساعة بجوار صاحبه العجوز الذي رقد منها نصفها وعاد إلى طبيعته من نصفها الآخر وجلس وأكل وتحدث. وصميدة صامت يجتر الغيظ ويستعيد بغضب ما يفعله بالرجل حين يجيء. ولكن إن أناسًا كثيرين جاءوا وذهبوا دون أن يبدو للرجل أثر، حتى أغمض مرة عينَيه، ورغم أنَّ إغفاءته لم تطل أكثر من لحظات، إلا أنَّه كان قد حلم فيها أنَّ الرجل جاء، والعجيب أنَّه لم يكن كما تصوَّر أبدًا شيطاني الملامح يقدح الشر من عينيه، كان يبدو كالنوع «السهتان» من الرجال، النحيف، القصير، وكان وجهه «سادة» تكاد لولا وجوده أن تَعتقِد أنَّه بلا ملامح، وربما وجهه الخالي من الانفعال ذلك هو ما جعل صميدة يحسُّ بالضيق الشديد منه وبالرغبة الملحَّة في قتله، وهو صعيدي وعربي يعرف معنى القتل ويفهمه، رغبة بلغ من شدتها وإلحاحها أنْ أيقظته، وحين صحا وجد عم حسن يحدق فيه بعين مفتوحة ونصف الأخرى الذي أصبح قادرًا على فتحه، وظل يحدق فيه لبرهة ثم قال: شفته!

وكاد يقول: شفته، لولا أنَّ عقله ارتبك وتساءل: كيف عرف عم حسن أنَّه كان يحلم، وأنَّ الرجل جاءه في الحلم؟

وسأله: إيش عرفك إني شفته؟

فقال عم حسن: ما هو كان هنا ولسة ماشي!

فقال صميدة: أنت راخر حلمت به.

فاستنكر عم حسن: حلمت إيه. أنا صاحي. وجه وافتكرتك شفته واستغربت إنَّك ما قلتلوش حاجة!

وأحس صميدة بالخوف، من المرات النادرة القليلة التي أحس فيها بالخوف إلى درجة كاد يخبر عم حسن أنَّه يُوافق أخيرًا على رغبته وأنَّه سيكلم له أول سائق يمر!

ولكن العناد، ذلك الشيء المركب فينا يفسد علينا لحظات الاستسلام للواقع، ثار وأبى. وفي ومضة كان صميدة قد قرر إمَّا هو أو ذلك الرجل.

وانتقل صميدة إلى عشة عم حسن يقضي فيها ساعات راحته، والعشة نفسها نقلها بحيث أصبحت تواجه الكشك تمامًا، ولو استطاع لجعلها ملاصقة له.

وأصبح على عم حسن ألَّا ينتقل من مكانه إلا إذا عرف صميدة وتابعه إن لم يكن بنفسِه فبعينيه، وأصبح على صميدة أن يظل مفتح الأعين لا يغمض له جفن، إذا نام كان على حسن أن يظل مستَيقظًا قابعًا بجوار زميله، ولا ينام عم حسن وإلَّا وحماية صميدة تحوطه، ومع هذا ما يكاد الانتباه يغفل حتى يرفع عم حسن يده مستجيرًا، ويعرف صميدة أنَّ الرجل جاء ومضى كما تأتي ريح وتمضي، وأنَّه لا بد همس لعم حسن مثلما يَهمِس كل مرة بتهديده، وبأنَّ صبره قد نفد وأنَّه لا محالة قاتله .. والعناد ذلك الشيء المستبد الخارق يزداد نموًّا كالمارد العملاق في جوف صميدة حتى ليصبح هو الذي يسيره ويخضعه، وكلما ازداد استبدادًا وازداد التهديد حدة، كلما أصبح على حركات عم حسن وسكناته أن تخضع أكثر وأكثر، حتى ليكاد يشير لصميدة ليُنبهه أنَّه يريد فتح الفم أو التنفس!

وكان طبيعيًّا أن تخلو عشة عم حسن من رفاق الطريق، ليس فقط لكل ما تقدم، وإنَّما لأنَّ صميدة قد أصبح يتوجَّس لدى قدوم أيهم وبعينيه النفاذتين يتفحص ملامح وجهه ليعرف قربها أو بعدها عن الملامح كما رآها وكما أصبح يعتقد أنَّها قريبة الشبه جدًّا من ملامح أي قادِم يراه، أو على الأقل باستطاعة أيهم أن يحيل ملامحه إذا أراد لتصبح «سادة» كريهة كملامح ذلك الرجل الكريه.

وفي صباحٍ جميل، كل ما فيه جميل، إلا ما هما فيه. مال عم حسن على صميدة وقال: ح نقعد كتير على كده؟

– لغاية ما يبان ونخلَّص عليه.

– بعد يوم .. اتنين .. سنة .. سنتين؟

– حتى لو بعد عشر سنين.

– طيب معاك، ساعتها صحيح ح نخلَّص عليه، إنما إحنا ح نكون رخرين خلصنا، تعرف مين ساعتها ح يبقى انتصر .. العند .. إحنا ح نكون متنا من زمان واللي عايش فينا العند وزي ما خلَّص عليه .. خلَّص علينا .. سيبني أمشي!

– وتروح فين؟

– دنيا الله واسعة يا أخي .. وإذا كان في الحتة دي عدو فالطريق مليان أصحاب ورفاق .. الدنيا حلوة يا ابني وحرام تعادي فيها حتى اللي يعاديك .. عايز تغلبه سيبه يَنفلق ويعاديك، واوعى تعاديه أنت لتخسر نفسك.

•••

وذات يوم، وصميدة نائم، كان عم حسن يُلقي بنفسه مرة أخرى إلى أيد الناس، والسائق يُساعده على جمع حوائج.

وحين استيقظ صميدة ولم يجد عم حسن أو عشته أصابه ذهول أوقف تفكيره، كأنَّما أحسَّ أنَّه فجأةً فقدَ كل ما له على ظهر الدنيا، وحين أفاق، أحس لومضة، بالارتياح؛ فقد شعر أنَّ العناد ينسحب من جسده، ومعه تنسحب ملامح الرجل الكريه التي لم تغادر خياله لحظة، تنسحب معه فتهزمه، لومضةٍ أحسَّ أنَّ الحياة قد بدأ يعود لها طعمها الحلو، كان عم حسن قد ذهب حقيقة وذهب معه سحره، ولكن المكان عند التقاطع قد عَمُر، ودبت فيه الأرجل وحفل بالعشش التي كانت إحداها قد بدأت تتحوَّل إلى بناء ذي سقف وأبواب. لومضة عابرة أحسَّ بكل هذا، غير أنَّه أفاق تمامًا من ذهوله حاول أن يجري وأن يسأل، ومن السائقين والعابرين يستقصي، لا ليعرف مكانه البعيد، وإنَّما على أمل، أن يعرف مكانه ليترك كشكه ويذهب خلفه، وإلى الآن لم يزل صميدة مؤمنًا وواثقًا أنَّ عم حسن لا بدَّ حيٌّ يرزق، ناصبًا عشته عند تقاطعٍ ما في الطريق، ولا تزال كلَّما مرت به عربة نقل، قبل أن يأخذ أرقامها ويردَّ تحية سائقها يسأله إن كان قد رأى أو التقى بعم حسن، وبعضهم يقول إنَّه من سنة رآه وآخر من شهور، وإجابات كثيرة يظفر بها، مرة يجده في دمنهور وأخرى في طريق البدرشين .. آه .. لو فقط يعثر له على مكانٍ أكيد!

يناير ١٩٦٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤