قصة ذي الصوت النحيل

في مثل هذا الأوان (بصوتٍ واهن كأنَّه الحفيف غير مبالٍ باهت، محدود) .. بدأ كل شيء وكانت المشكلة دائمة أن يبدأ كل شيء، مُشكلتي ومشكلة زوجتي والآخرين، سأتحدَّث بالتفصيل عنهم. كنت هناك وكانت الدنيا ليلًا أسود يُخيف، مليئًا بالأشياء التي تُخيف .. هناك كلام لا بد أن أقوله لأي أحد، لا بدَّ أن يعرف واحد على الأقل كل شيء المهم كل شيء.

نفس العمارة، عمارتنا التي نسكنها الآن، قلت لسايس الجاراج والبوابين كل شيءٍ، ووعدوني هم أنَّهم ساعة ما يرونهم سيخبرونني بكل شيءٍ، بالتفصيل كل شيءٍ. السكان القاطنون فوقنا كويسين وعرفنا نتفاهم بسهولة، إنَّما السكان اللي تحت، تحتنا، ناس كتير ساكنين في الشقة الواحدة ييجي خمسين نفرًا، كتير قوي زي النمل، لو شفت عنيهم، عيون غويطة، إذا بصيت فيها تغرقك وتبلعك، وبُقهم واسع قوي، يبلع البطيخة يبلع كل شيءٍ، إنَّما أصلهم عمرهم ما شافوا نفسهم أبدًا، لو شافوها مرة واحدة كان خلاص انتهى كل شيء.

شكسبير في روايته بيقول العين ترى كل شيء ولا ترى نفسها. إنَّما عيني أنا بتشوف كل حاجة. كانت هي اللي شافتهم. أول عينين شافُوهم. ومن ساعتها وفيه قُدام عيني ضباب كتير كتيب زي ضباب الصيف في يومٍ حرٍّ، ما اعرفش ليه ما اتخنقوش من الضباب، بالعكس كانوا بيستخبوا مني فيه. حاولت استرضاهم، بِعت لهم زوجتي يعني .. شتموها. دول ولا كأن البلد بلدهم لوحدهم .. أصلنا اتاكلنا أونطة واحنا خلاص بننتهي، وكل يوم عامل زي ما يكون بيقطع فينا كل يوم حتة لما ح ييجي اليوم اللي ما يفضلِّي فينا حاجة. وبيسلطهم علينا وكل يوم تأميم، هم سمعوا حكاية التأميم دي وخرجوا لك من الضباب وحاصَرُوني. عايزين مني إيه؟ ما تعرفش، ما عندهم البلد واسعة وغنية قوي لو حاولنا نبيعها تتباع بكام، بمليون مليون مليون مليون، إنَّما دلوقت مصر دي ما تساويش عندي حاجة أبدًا .. سرقوها اللصوص. أمال نسمِّيهم إيه .. لصوص، نهب، سلب .. قشوطة، ده فيه أسرار كتير قوي بس مش قادر أقول كل حاجة. أنا حاولت كتير معاهم بالذوق بالحيلة ما فيش فايدة، عايزين كل حاجة حتى ابني كانوا عايزين يأخذوه؛ لولا وديته عند عمته في مصر الجديدة.

ضحكوا على الخدَّامة وبنِّجوها وجت لنا مُبنَّجة إما سابتوش بالزعيق دور وبالمحايلة دور، كانت النتيجة إنَّهم قالوا على اللي قالوه. ولمَّا حصلت الحكاية كنت أتوقَّع طبعًا إن مراتي تقف جنبي، تلاقي عيلة مراتي حد منهم مسلَّطها عليَّ .. طبعًا كان لازم تأخذ موقفًا، إمَّا تبقي معاهم وإمَّا تبقى معايا .. للأسف ده يحصل منها .. جايز يكون حد من عندنا اتهمهما بأنَّها السبب في الحالة اللي أنا فيها دي، وجه رده عليها خلاها تتنرفز وتأخذ الجانب التاني. وكل اللي بيحصل لنا ده من غلطنا إحنا .. لو كُنَّا سبقنا وضربنا قبل ما نُضرَب ما كنش حصل حاجات من دي، ولا كانوا جابوا سيرة للملكة فريدة، أصلها ساكنة قدامنا وعمرها ما ظهرت لنا وشفناها، فإيه الداعي يشركوها في الموضوع .. وأنت عارف بقى .. أطلع ألاقيهم مراقبين .. أدخُل، عينيهم ورايا .. أصل عينيهم صعبة قوي، وخصوصًا عينين السكَّان التي تحت دُول. كل عين كأنَّها ماسورة بندقية، والنظرة منها بتيجي منشنة تمام في الصميم .. مش ع الحسد يعني .. حسد إيه .. كانت تبقى أهون .. ده فيه حاجة تانية أكثر م الحسد كتير .. حاجة زي النار لما بتولع بتقضي على كل شيء .. لمَّا ظهرت الحكاية واتأكدت إن الملكة فريدة مالهاش ذنب، برَّه الموضوع خالص، وإن اللي تحت هم اللي كانوا ملفقين التهمة، أخويا الكبير جه وقال لي لازم نِعَزِّل خلاص، ما عدناش قادرين نقف قصادهم وإنَّنا لازم نسلم ونعزِّل.

قلت له مش ممكن يهزمونا .. أنا لا يمكن أعزِّل .. أنا شاب في الأربعين إنَّما خلوني شيخ في الثمانين .. نعزل ليه؟ ونهزم نفسنا بأيدينا ليه؟ مش كفاية هو علينا؟ هو فاكر نفسه كل حاجة؟ هو فاكر إن أي حاجة عايز يعملها يقدر يعملها، هو فاكر إنَّ الناس رغيف عيش يفضل يقطعه بالسكينة حِتة حتة لغاية ما يخلَّص عليه، هو عايز يعمل مننا بني آدمين زي الحيوانات من غير إرادة ممكن يسوقها زي ما هو عايز، بيسلطهم علينا .. السُّكَّان اللي تحت بيسلطهم علينا ويراقبونا ويأكلونا بعنيهم أكل، عينيهم سوادها كله جوع وبياضها أسود من سوادها .. أنا بأرفض للنهاية، أنا إنسان لي كيان وعيلتي ولي أرضي، حتى لو خدوها برضك بتاعتي.

أنا حاولت كتير أتجنبهم، وقعدت على طول في البيت عشان ما اقابلشي حد فيهم طالع السلم واللا في الأسانسير. أصل لما حد منهم كان يبص لي كنت بحس إني بغرق وغرقان لشوشتي في نار سودة جوة عينين ثابتة زي عينين الميتين، اسأل بتوع الجاراج يقولوا لك. بقوا يجيبوا سلالم حبل علشان ينطُّوا علينا من الشبابيك فسمَّرنا الشبابيك، وبقوا ييجوا لنا من تحت عقب الباب، فبقيت أحط أكياس رمل ورا الباب، وأحط الكنبة كمان عشان ما يقدروش يزقوها، لما ليقوا مفيش فايدة بقوا يسلطوا عليَّ التمرجي يديني الحقنة. وكانوا يدوبوا مية عينيهم فيها ويحقني بيها في العضل، أقوم أحس بعد كدة بيهم، هنا، جوايا، وآخرتها قالوا لكل الناس إني عيَّان، والناس صدقوهم. تصوَّر المصيبة الناس تصدقهم وتكدبني أنا، كل الناس تصدقهم، حتى مراتي أنا تصدقهم، وتتفق مع الدكتور إنهم يدوني حقنة بنج عشان ما أقاومش، كانوا عايزين يدوني الحقنة عشان ما اقدرش أعمل حاجة قدام السكان اللي تحت .. خطة موضوعة .. وللأسف زوجتي اشتركت بعبط وهبالة فيها .. يخدروني أنا عشان دُكهم يهجموا عليا ويأكلوني. أنا عندي كلام كتير عايز أقوله، كلام خطير، ده خسر كل حاجة حتى مراتي، عايز أقوله لأي حد، يعرف الحقيقة عشان ييجي اليوم اللي كل الدنيا تعرفها فيها، لازم حد يعرف إحنا قاومناهم إزاي، وإننا رغم كل شيء ما عزِّلناش، وإن الملكة فريدة ما لهاش ذنب في الموضوع اللي حاولوا يعملوه بينَّا وبينهم، واسأل البوابين وبتوع الجاراج.

أنا زهقت خلاص من محاربتهم، بيتهيألي إني أسلِّم زي أخويا وأعزِّل، واللا أسلِّم ليه، ده يبقى انتصار لهم ويفرحوا فينا، بس أنا خلاص بعدوني عنهم ومش قادر ولا عارف أقاوم، تفتكر كل شيء انتهى .. تفتكر انتهى كل شيء .. صحیح كل شيء أصبح لا شيء .. تصدقها انت دي .. هو احنا عُقب سيجارة نتشرب ونتفعص ونصبح لا شيء، إزاي الناس حواليه ساكتة وكأن ما فيش حاجة حصلت .. إزاي بياكلوا ويشربوا وهم مبسوطين .. هم مش عارفين إن كل شيء أصبح لا شيء، أنا لسة عندي كلام كتير وخطير عايز أقوله بس (مستمرًّا بصوت واهن كأنَّه الحفيف، غير مبال، باهت، محدود) لازم حد يعرفه، لازم حد يعرف الحقيقة التي ما حدش راضي يعرفها.

ديسمبر سنة ١٩٦٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤