فوق حدود العقل

دوَّنتُ الاسم والسن والمسكن مرتين وفي صفحتين متقابلتين كما تقضي التعليمات، ولم يكن قد بقي سوى سؤال واحد أو سؤالين عن سلوك الشاب، وأوقِّع، وينتهي الأمر. ولكن الأمر في ذلك اليوم لم ينتهِ أبدًا .. إلى الآن، وأنا لا أعرف ماذا حدث بالضبط وجعلني أشك .. كانت وقفة الشاب عادية .. نفس الوقفة التي وقفها قبله كثيرون، والتي أعرف أن كثيرين غيره سيقفونها .. نفس النظرة الذاهلة الباحثة عن لا شيء!

سألت .. بصوت ضجر، وأذن مُتعَبة، وعقل كان عليه أيضًا أن يتلقَّى الكلمات الكثيرة وينقيها من الضجة، ويترجهما إلى اصطلاحات يمليها على قلمي المشروع ليسد بها الخانات وينتهي كل شيء!

سألت: ما الذي فعله؟ وجاءتني الإجابة .. قام في الليل وأمسك بالسكين وحاول ذبح زوجتِه التي لم يدخل بها إلَّا من أسابيع. وحين حاولوا منعه كاد يَفتك بهم، تغلَّبوا عليه وأخذوا السكين منه .. اتجه إلى النافذة يُريد أن يُلقيَ بنفسِه منها، فاضطرُّوا حينئذٍ لتكتيفه وضربه والاستغاثة بشرطة النجدة.

وتوقَّف القلم وعدتُ أسأل: متى؟ منذ بضع ليالٍ، وبدأ القلم يضيق بوقفته التي طالت دون أن يسدَّ خانة .. وقلت أخيرًا: ليس هذا بكافٍ .. هل تكررت أعماله هذه؟ هل فعل شيئًا آخر؟ .. وجاءتني الإجابة: يوهوه! كتير .. يقوم في الليل ويظلُّ يصرخ ويوقظ الجيران، ويتصوَّر أشياء لا وجود لها؛ يعتقد أنَّ إخوته يتآمَرون عليه ويريدون انتزاع أرضه التي ورثها عن أبيه، وكثيرًا ما يُكلِّم الهواء على أنَّه الأب الذي ماتَ من عامٍ ويشكو له هذا الأخ أو ذاك!

بارانويد شيزوفرينا .. جنون الاضطهاد .. هكذا خمَّنت، وكتبت، وأحكمت الحيثيات .. وآخر ما كان قد تبقَّى ليَصدُر حكمي بتحويل الشاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، ونقله من خانة العقلاء إلى خانة المجانين .. سؤال، مجرَّد سؤال واحد أُلقيه على «المتهم» بمرضه، للتثبت من التشخيص لا أكثر، ولكي يطمئن ضمير القاضي الذي فيَّ.

– صحيح كنت عايز تقتل مراتك؟

ولم تأتني إجابة ما. وسألت مرةً أخرى. وجاءت نهنهة .. إجابة ليست غير متوقَّعة، فما أكثر ما تأتي إجابة المجانين على هيئة بكاء.

ورفعت عينيَّ، وكأنَّما إيذانًا بانتهاء الجلسة .. كان الوضع لم يتغيَّر .. حجرة مفتش الصحة في المكتب البالي الحافل بالازدحام والضجيج، الباب نصف مفتوح يطلُّ منه وجه التومرجي تُزاحمه عشرات الوجوه، والكنبة البلدي بملاءتها الدمور، ولوحة كشف النظر، التي حال لونها واصفرَّ وأصبح بُنيًّا، بارزة من ركن الحجرة .. كعلم مرفوع بالتسليم والإذعان لوطأة الزمن.

وفي الوسط تمامًا .. كان الشاب نحيلًا في «قميص الكتاف» القذر الواسع، مُقيَّد اليدَين بأكمام القميص الطويل من الخلف، وبجواره العسكري المعهود، فلا بد مع كل مجنون يُرسله القسم من عسكري، ولكنَّه هذه المرة طويل، مهيب الطلعة، أنيق البزة، يصلح ليكون على رأس قرة قول شرف، أو ليتقدم موكب المحمل.

تأمَّلت المشهد برهةً، ثم قلت: خذوه!

قلتها وأنا حزين، نفس الحزن الذي يُراودني لثانية في كل مرة تخرج من فمي الكلمة، حُزني على دنيانا التي فقدت عقلًا، وما أشدَّ حاجتنا إلى كل عقلٍ.

تكاسل الشاب قليلًا، ودفعه العسكري بغلظة غير عادية. واستعدَّ التومرجي وفتح الباب، وتراجعت الوجوه، وكادت الحجرة تخلو .. لولا أنِّي تذكرت الخانة التي كنت أنسى ملئها دائمًا، الخانة التي يُقيَّد فيها اسم قريب المريض الذي أدلى بالمعلومات عنه، وعنوانه.

وقلت: استنى .. فين قرايبه؟

وجأر صوت عيد التومرجي، كالمُبلِّغ في صلاة الجمعة، الذي يُعِيد كل ما يقوله الإمام: استنی .. فين قرايب المريض؟

وسأل العسكري: حضرتك عايز قريبه مين؟

قلت: قرايبه اللي كانوا بيقولولي على مرضه دلوقت.

– أنا اللي بقول لحضرتك.

– أنت قريبه؟

– أنا أخوه.

– أخوه؟!

مرة ثانية رحت أنظر إلى العسكري. وأخيه المريض، ولا أكاد أُصدِّق!

– انت أخوه صحيح؟

– أنا ح اكدب يا دكتور؟ الكرنيه أهه، شوف سيادتك!

في الواقع لم أُعدِ السؤال للتأكد، أعدته فقط لأُسكت إحساسًا حقيقيًّا بالشفقة، لا على المريض، وإنَّما على أخيه .. إنَّ الجنون هو المرض الوحيد الذي يمرض فيه الشخص ويحسُّ آلام مرضه الآخرون .. إنَّ المجنون لا يتعذَّب، العذاب يحلُّ بأهله وأقربائه وذويه .. فهذا العسكري، تراه كم تألم وهو يَستصحِب أخاه إلى القسم مجنونًا، ثم، وهو يمضي أوراقه من الرؤساء، ثم وهو يقف أمامي يحكي بلسانه ما فعله ويُدلِّل على جنونه، ويعريه، خاصة وهو لم يكن عسكريًّا عاديًّا؛ إذ اكتشفت أنَّ على ذراعه أشرطة أربعة، كان واضحًا أنَّه مُهتمٌّ بها، وبمركزه .. وقد صنعها من حرير أحمر أنيق.

ولكن إنسانيتي لم تستغرق سوى لحظة، عدتُ بعدها أطمئن على الروتين؛ فالمفروض ألَّا يُرسَل المريض مع أقربائه. لا بد من عسكري يُوفد لحراسته، حتى لو كان قريبه ضابطًا أو شاويشًا .. الروتين هو الروتين.

وسألت: أين العسكري؟

ومن بين الوجوه الكثيرة المتزاحِمة على الباب، برز وجه ما لبث أن أصبح له جسد رسمي أسود، وبندقية، أعقبتها خبطة قدم، وتحية، ولم يكتمل الروتين إلَّا بتأنيبه، وإلَّا باعتذارِه لم يكسر القاعدة وينتظر بالخارج إلَّا بناءً على رجاء من الأخ الباشاويش.

– خلاص يا دكتور نمشي؟

قالها الأخ مُتردِّدًا، محرجًا، وكأنَّما يستعجل مغادرة الحجرة وإنهاء الموقف .. ولكني لم أكن معه، كنت أُحدِّق في الأخ المريض الذي بدأتُ ألحظ عليه أشياء .. كان في وجهه ورقبته كدمات وآثار ضربٍ، ورقبته بالذات كانت بها عضة واضحة، اشتركت في صنعها قواطع وأنياب، ولم يكن قد كفَّ عن البكاء.

ووجدت نفسي أسأله عمَّا يُبكيه، وأنتظر إجابة من الإجابات المريضة المعتادة .. ولكنَّه ازداد بكاءً ولم يُجب .. وأعدتُ السؤال، وأيضًا لم يُجب، رفع رأسه وبجانب وجهه ألقى على أخيه الشاويش نظرةً، انفرطت على إثرها دموع كثيرة من عينَيه بلا كلام .. ووجدت نفسي أنظر أنا الآخر إلى الشاويش، ودهشت قليلًا حين وجدتُه يصوب أشعة محمية من عينَين واسعتين مُبحلقتَين، وكأنَّما يأمر بها أخاه أن يكف عن البكاء، ويكف عن النظر إليه.

ومرَّةً أخرى وجدت نفسي أسأله عمَّا يبكيه، وهذه المرة أيضًا لم يُجب .. غير أنَّه بلمحة جانبية خاطفة ألقاها على أخيه سكت، وعاد يُنكِّس رأسه إلى الأرض.

وأحسستُ، رغم الصمت المستتب، أنَّ الجو مشحون .. وأنَّني أنا الآخر بدأت أنتبه، وأتفرَّس، وأحاول أن أستخلص من الصمت سره.

وفجأة التفت المريض كليَّةً إلى أخيه الشاويش، وقال: خذ الأرض يا أخي في ستين داهية .. هات عقد البيع دلوقت وأنا أمضي لك عليه، إنَّما بلاش تبهدلني كدة يا بدري وأنا أخوك!

وكفَّ عن البكاء. وخفت أن يكون ما قاله مقدمة لنوبة، وما أبشع نوبات مرضى الاضطهاد .. إنَّها النوبات التي يقتلون فيها ويعتدون ويُصبحون كالوحوش الهائجة التي لا يوقفها خوف أو تهديد، خير ما تفعله حينئذٍ أن تقتنع بكلامه .. وتجاريه، وقلت: هو عايز ياخد أرضك؟

وبانفعال حقيقي، كانفعال البشر العاديين، وجدت كل ذرة من جسده تنتفض داخل قميص الكتاف، وصدره يكادُ يُمزِّق القماش صاعدًا هابطًا لاهثًا وهو يقول: ده يا بيه أخويا ابن أمي وأبويا، وأبويا مات وساب لنا تسع قراريط، واحنا ثلاث أخوات .. بدري دهه اللي بيشتغل شاويش وبياخد له ييجي عشرين جنيه من الحكومة، وواحد تاني، وأنا الصغير .. كل واحد منَّا نابه ثلاث قراريط! ليه وليه إلَّا بدري أخويا عايز ياخدهم مني عشان يبقى حِداه ربع فدان، بقي له ست أشهر وهو كل يوم يُهددني ويضربني وآخرتها عايز يوديني السراية .. عشان يستولي عليهم .. كدة يا بدري .. رُوح يا شيخ الله يسامحك.

كان بدري قد همَّ أكثر من مرة أن يُقاطع أخاه، ولكنِّي بإشارات قاسية كنت أزجُره وأرغمه على السكوت، وما كاد أخوه يَنتهي حتى انطلق كالبركان المتفجِّر يقول: بلاش فضايح يا محمد، كفاية بقى الحتة كل يوم تتفرَّج علينا .. جاي هنا كمان عايز تفرج علينا الدكتور؟!

ثم التفت إليَّ كمَن لا حيلة له، قائلًا: أهو زي ما انت شايف كدة يا بيه .. كل ساعة على ده الحال .. لما أنا نفسي قربت أتجنَّن.

وسألته: إنَّما صحيح أبوكم فات لكم تسع قراريط؟

– وحياة سعادتك ولا سهم .. حتى اسأل مراته .. يا فرحانة .. یا فرحانة .. تعالي هنا.

ودخلت فرحانة .. كالعروسة الحلاوة الملفوفة في ملاءة من ورق سولوفان، لا يُخفي بقدر ما يُظهر ويُجمِّل ويجعل الريق يسيل.

– انتِ مراته؟

– قسمتي يا بيه؟

– هو صحيح بيعمل الحاجات اللي قال عليها أخوه؟

قلت هذا وأنا أتفرَّس فيها، وأعجب بيني وبين نفسي لزوجة يجنُّ زوجها ويمرض، وتذهب معه إلى مكتب الصحة بهذه الحواجب المرسومة والروج الموضوع بصبر وأناقة والبال الخالي .. الخالي حتى من نظرة تُلقيها على الزوج المريض!

– يا بيه .. أنا في عرضك .. دي مش مراتي .. دي مراته هوه!

هنا فقط التفتَت إليه، ودبَّت على صدرها بيد مثقلة بالغوايش والخواتم قائلة: هي حصَّلت يا محمد؟ بقى ما نتاش عارفني كمان؟! اخص عليك!

– والله ما هي مراتي يا ناس .. مراتي حابسينها في البيت وجايبين دي تعمل مراتي .. يا بدري أنا ف عرضك، إن كنت عاوز الأرض خدها .. هات العقد وأنا أمضي لك عليه!

ولدهشتي .. وجدت بدري يأخذ كلامه جدًّا، ويلتفت إليه قائلًا، بعينين ناريتين: أرض إيه يا بني اللي آخدها؟ ما ربك غانيها من غير أرض .. أنا بتاع كلام من ده؟!

وربما كلامه هو الذي شجَّع الزوجة ودفعها لأن تقول: أرض إيه يا محمد اسم الله عليك .. عقلك يا خويا أحسن من ستين أرض .. مش عيب تقول على أخوك كدة؟ ربنا يشفيك! يا بيه ده موتني م الضرب ليلة امبارح .. أنا راجل كلوبَّاتي على قد حالي وهوه شاويش في البوليس ومخوف الحتة .. وعاوز يأخذ التلات قراريط بالقوة .. ياخدهم ياخدهم .. بس بلاش توديني السراية وأنا مضروب يا عالم وجسمي مكسر .. اتفضل شوف!

– والله يا بيه أنا ما ضربته ولا مدِّيت إيدي عليه. ده حصل وإحنا بنحوشه وهو رافع السكينة على مراته دي .. ده طول الليل قاعد يهربد في نفسه ومطلع عنينا معاه .. كدة واللا لأ يا فرحانة؟

وهزَّت فرحانة رأسها وبكت وأخرجت من صدرها منديلًا صغيرًا أبيض جفَّفت به الدموع.

وبدأت الحجرة تَمتلئ بالضباب .. أتفرَّس في وجه الشاويش فأجدُه ضخم الجسد، ناصِع البدلة، مُدبَّب الملامح، صاعق النظرات، أشرطته الأربعة نافرة على كتفه، تكاد تُضيء بنورٍ أحمر وهَّاج، وبجواره أخوه الصغير، ملفوفًا كرطل العظم المُشفَّى في خرق بالية وقميص كتاف. وبينهما فرحانة، تَبكي بحرقة وتندب حظًّا لا يعرف صاحبه. والعيون كلها زائغة، لا فرق بين عيون بدري العاقل أو محمد المجنون، والأعصاب مشدودة، والحقيقة قد بدأت تَضيع، حتى من العسكري الواقف يحرس هذا كله ويحمي القانون، ومني أنا صاحب أسوأ موقف الوحيد من بين الحاضرين جميعًا، الذي كان عليه أن يُقرِّر، في دقيقة أو جزء منها، أين يكمن الحق، ويحكم بين أخوين لم يرهما إلَّا منذ دقائق، وكلٌّ منهما يُكذِّب الآخر، ولا بد أنَّ أحدهما على الأقل كاذب، والآخر إمَّا مجرم أو مجنون .. وبدأ شيء يبرز وسط الضباب .. ولم يكن شيئًا .. كان رجلًا، ارتفع صوته بالخارج، قائلًا للتومرجي: اوعَ .. ثم ما لبث أن اقتحم الحجرة، وانتصب قريبًا من الأخوين على هيئة عسكري آخر، ضخم أيضًا وطويل، وعلى صدره كوردونات خضراء كتلك التي يَرتديها حرس مجلس الأمة أو الوزراء لا أعرف، وكان شاحب اللون يلهث، وقبل أن يَلتقِط أنفاسه بدأ يتكلَّم، موجهًا كلامه للأخ الشاويش الأكبر قائلًا: بقی كدة يا بدري عايز تعملها وتودي محمد السراية؟ الله يلعن أبو الأرض .. دول ثلاث قراريط يا بدري تعمل في أخوك كدة عشانهم.

وقبل أن أسأله عمَّن يكون .. تطوَّع هو بتقديم نفسه قائلًا: إنَّه الأخ الثالث الأوسط، وإنَّه علم منذ قليل أن بدري قد استصحب محمدًا بالقوة ليُدخِله السراية، فجاء يجري ليمنع الجريمة.

وبكى، وضايقني بكاؤه، وصرخت فيه، ماذا يُبكيه وهو الراجل الوافر القوة والقدرة، وإذا به يقول: ما يغركش يا بيه .. أصل أنا أعصابي تَعبانة شوية، واتعالجت عند الدكتور ناشد فهمي، المدرس بتاع الأمراض النفسانية في الدمرداش.

قلت في سرِّي: المسألة إذن وراثية .. وخيط الجنون يسري في العائلة، وسألت: اتعالجت من إيه؟

– أصلي حصل لي انهيار في أعصابي .. أصلي قتلت مرة حرامي، ومن يومها وأنا بدوخ، وكل ما اشوف بندقية نفسي تغم عليه!

ولا بد أنَّ روح الهزل هي التي تستبدُّ بنا أحيانًا .. فقد وجدت نفسي أنسى الموقف تمامًا، ولا يعود يُهمُّني سوى حالة هذا الأخ الأوسط الذي بدأ يرتجف أمامي ويهتز، وأكاد أضحك كلما قارنت بين جسده الضخم المهيب وصدره العريض الحافل بالكوردونات وبين ساقَيه المرتعشتين والدموع السائلة من عينيه، ولم أكن قد رأيتُ قاتلًا يعترف أنَّه قاتل من قبلُ، بل لم أكن أتصور أن يحدث للعسكري إذا قتَل لصًّا كل هذا «الانهيار الأعصابي».

وسألته، وأجاب: أصلي كنت عسكري داورية وبعدين شفت حرامي بيكسر دكانة، لما شافني جري، ضربت طلقة في رجليه أهوِّشه ما وقفش، فضربت في المليان قام جت في ضهره ومات .. وفضلت واقف جنبه لما النهار طلع وخادوني ع القسم .. وبعدين بقيت أهلوس في الليل، وما ارضاش أطلع دوريات. قعدوا يجازوني، وبعدين لما لقيوا ما فيش فايدة حولوني ع المستشفى، وخدت ۱۲ جلسة في مخي على سنة ونصف.

وبدأ يمدُّ يده في جيبه ليخرج الروشتات وأوراق العلاج، ولكني لم أكن في حاجة لأدلة أو إثبات، ودهشتي الأولى كانت قد خفَّت قليلًا، وبدأت أعود إلى القضية المعلقة أمامي في انتظار الحكم. وطلبت من القادم الجديد رأيه فيها، وبدأ الأخ الأكبر بدري يحتج ويقول: يا دكتور ما تسمعش كلامه ده مهفوف ومتضايق مني عشان أنا أغنى منه وما برضاش أديه فلوس، عايز يلبِّسني تهمة يا دكتور، هو ده معقول أدعي على أخويا إنَّه مجنون!

– ده أنت تعملها .. وتعمل أبوها، دا انت مجرم .. أقسم بالله إنَّك مجرم .. يا بيه!

والتفتَ الأوسط إليَّ شارحًا كيف مات أبوهم وترك لهم القراريط التسعة، وكيف أنَّ أخاهم الأكبر هذا بخيل أناني جشع، يستولي على إيجار الأرض ويُريد أن يَنتزِع ملكيَّتها، وكيف أنَّه يضع المليم فوق المليم ويحرم نفسه ويقتات بالملح والفلفل حتى يَجمع ثمن فدان، وكم مرة حلف بشاربه وبتربة أبيه أنه لن يَرجع حتى يُصبح مالكًا لزمام فدان، وكيف أنه استغل ضعفه وضعف أخيه الأصغر محمد ليَفرض عليهما جبروته وسلطانه.

واحنا الثلاثة عايشين في بيت واحد، كل واحد واخد أوضة هو ومراته وولاده، ومحمد لسة مجوز جديد، وبدري ده محتل الصالة بالعافية، ويبقى الفطار عنده ويسيبه ويجي يقعد بالقوة يفطر مع واحد فينا عشان يوفَّر، وما يهون عليه يشتري باكو شاي واللا بقرش سكر، ولما يشم إنَّ واحد فينا عمل شاي ييجي يستولي على البراد بالرزالة .. وآخرتها عاوز يودي محمد في داهية عشان يتعيَّن وصي عليه ويلهف الثلاث قراريط.

ومرةً أخرى بكى، ونظر إلى أخيه محمد وهو يبكي، فبكى محمد هو الآخر، وتصاعدت من حناجرهما أصوات مُتحشرجة مختلطة بالدموع تُعاتب بدري وتدعو عليه وتطلب من الله أن يظهر الحق ويُجازي كل ظالمٍ على ما يرتكبه .. أمَّا بدري فقد وقف زائغ النظرات يصرخ فيهما، وينهر أخاه الأوسط ويعجب كيف يُوجِّه له اتهامًا كهذا .. القصد منه — لا شك — أن يُحاكم ويُفصل من وظيفته، وهو يعلم تمام العلم أنَّ أخاه مجنون وأنَّه على حق .. أمَّا فرحانة فكانت قد انسحبت من الحجرة، تاركة المشهد يحتله الإخوة الثلاثة ووراءهم يقف العسكري الرسمي صامتًا، بليد الملامح، وكأنَّه لا يرى ولا يسمع ولا يفقه مما يدور أمامه حرفًا.

وهكذا وجدت يدي تمتد، وتقطع الاستمارة، ووجدت نفسي أعود مرةً أخرى لفحص قوى محمد العقلية، بنظرة مُحايدة جديدة، ولدهشتي وجدت إجاباته كلها معقولة، ولدهشتي الأشد لم أجد إجاباته تختلف كثيرًا عن الإجابات التي بنَيتُ عليها احتمال جنونه، نفس الجمل تقريبًا، بنفس الألفاظ. كل الفرق أنَّني أسمعها بأذنٍ مُحايدة .. إذ الظاهر أنَّه يكفي أن تفرض الجنون في إنسان حتى تجد في كل ما يقول أو يهمس به أدلة تثبت جنونه، ويكفي أن تفترض العقل في إنسان، حتى لو كان غير متمالك لقواه العقلية حتى تجد في كلماته وإجاباته ما يدعم إيمانك بأنَّه عاقل.

واتضح أنَّ حكاية القراريط الثلاثة صحيحة، والتهديد صحيح، والضرب والتعذيب قام بهما الأخ الأكبر فعلًا ليُرغِم أخاه على بيع الأرض له بعقد صوري!

ليس هذا فقط، بل بمكالمة تليفونية مع القسم، اتضح أنَّ القسم لا علم له بالورقة المحوَّلة إليَّ، وأنَّه هو الذي كتبها ووقعها .. واستصحب العسكري الذي كان لا يزال مُنتصبًا في مكانه لا يفقه حرفًا مما يدور.

وحين عدتُ إلى مسرح الأحداث في وسط الحجرة، كان الأخ الأوسط يحتضن الأصغر، وتتبادل عيونهما الدموع، وبدري الأكبر واقفًا شاحب الوجه يدافع بآخر رمَق عن نفسه، وكلَّما تكشَّف الموقف عن دليل جديد ضده كلما ازداد شحوبُه ونبت على جلده العرق الصغير الأصفر.

وأمرت بفك القميص عن محمد وبدأت أتأمَّل الموقف بيني وبين نفسي لأعرف ماذا يجب أن أفعله إزاء بدري، وهل أحيلُه إلى النيابة، أم أكتب بلاغًا لمأمور القسم ليتصرَّف معه .. واستقرَّ رأيي على إبلاغ القسم. وبكل الحقد الذي بدأ يغلي في صدري على هذا الأخ المجرم، أمسكت بالسماعة أريد أن أمليَ بنفسي الإشارة التي ستُكلِّفه وظيفته وأشرطته الحريرية الأربعة والقراريط التي ورثها وزوجته الحلوة التي بدأت تُولول في الخارج وتعوي، وأكثر من هذا حريته؛ إذ بالتأكيد سيُحكم عليه بالسجن، ولن يقل سجنه عن أعوام!

وهنا وجدت المارد الضخم ينهار، وهو الذي راح هذه المرة يبكي، وقد جفَّت دموع أخويه، ويستعطف ويتهاوى على الأرض، يريد أن يقبل قدميَّ، وكلما رأيت هذا كله، ازداد الحقد في صدري عليه .. ازداد إلى درجة رحت معها أُهدهد على الأخوين بكلماتي وأذكر لهما أنَّ أخاهما الآثم وقع في الحفرة وأنَّه لن يخرج منها.

وصاح الأخ الأوسط: يُنصر دينك يا شيخ .. يحيا العدل!

وقال الأصغر بصوت واهن: مش قلتلك يا بيه؟!

وقال بدري في هلع: أنا في عرضك .. أنا صاحب عيال.

ثم التفت إلى أخويه قائلًا: مبسوطين يا ولاد طلبة؟! أهو بيتي اتخرب يا محمد، يرضيكوا كدة يا ولاد طلبة، يا ولاد الحرام.

وقال الأوسط: جزاك ما صح لك.

وقلت في سري: وكل هذا من أجل قراريط ثلاثة؟!

وفوجئت بالحجرة تتحوَّل إلى مناحة، بدري يشهق بصوت عالٍ، والأخ الأوسط بدأ يضمُّ الأصغر، حتى بعد أن انتصر، ويَبكيان، ولا ريب أنَّ أباهم طلبة كان هو الآخر في قبره يبكي ويتلوَّى.

وجاءني من السماعة صوت أخنف مزعج يقول: أيوة هنا القسم .. انت مين؟

وأجبت: احنا مكتب الصحة .. خد الإشارة دي!

وعلا بكاء بدري إلى درجة غير معقولة، بينما كفَّ الأصغر عن البكاء وراح يتطلَّع إليَّ، ثم إلى أخيه .. ثم وجدته يترك ذراع الأوسط الذي يضمه ويتقدم إلى المكتب ويَرجوني، بكل ما في طاقته من ذلة، أن أوافق وأحيله إلى المستشفى، إن كان في هذا إنقاذ لأخيه!

وسكتت الحجرة كلها .. ووقف بدري جامدًا في مكانه كالمصعوق.

ثم وجدته يندفع إلى محمد يُحاول عناقه، ولكن محمد دفعه عنه قائلًا: دا مش عشان خاطرك .. دا عشان خاطر أولادك!

– يا حبيبي يا محمد .. أنا عارف برضه إني ما اهونش عليك.

وفوجئت بالأوسط هو الآخر يتقدم ويرجوني، إن لم يكن جاء محمد صالحًا للتنفيذ، أن استبدل الاسم الأول في الخطاب. الاستمارة. وأن أضع اسمه بدلًا منه، وانهياره الأعصابي، والعلاج الذي أخَذَه يؤهلانه لدخول المستشفى، وإثبات أنَّ بدري على حق وأنَّه لم يُزوِّر ولم يكذب.

واحترت ماذا أفعل والسماعة في يدي بدأت تنقنق وتقول: أيوة يا مكتب الصحة!

وبدري يقول: أنا أستاهل وديني في داهية ما ترحمنيش!

والأصغر يقول: كل اللي قاله بدري مضبوط، أنا مجنون.

والأوسط يقول: ما تسمعش كلامه، أنا بداله!

والسمَّاعة معلَّقة في يدي، ينبعث منها الصوت الأخنف المزعج، مستعجلًا نص الإشارة، وكأنَّه صوت القانون يُطالب بتطبيقه وإبلاغ الإشارة وسجن الأخ.

ويا لها من لحظة، تلك التي تحسُّ فيها أنَّ مصير إنسان معلق بكلمة تقولها أو زناد تضغطه.

لحظة خُيِّلَ إليَّ أنَّها طالت وامتدت، وأنَّ المشهد نفسه طال وامتد وتجمَّد، وأنَّه سيظل هكذا لن يتحرك أو تدب فيه الحياة إلَّا حين أفتح فمي وأنطق كلمة.

ولأمرٍ ما أحسست أنِّي، بدموع داخلية، أبكي. وأتذكر إخوتي، وأحس أنِّي رابع الثلاثة الواقفين أمامي!

وصرفني الشعور بأني لا يجب أن أفعل كما فعل الأخ الأوسط وأضرب في المليان، وعن عمدٍ قررت أن أنسى القانون، وأُخطئ، وأنصت للهاتف في داخلي، وأسكت صوت السماعة.

سنة ١٩٦١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤