لغة الآي آي

لم تكن بالضبط صرخةً، ولكنَّها كانت الأولى بعد مُنتصَف الليل بقليل، تصاعدت، غير آدمية بالمرة، حتى الحيوان مُمكِن إدراك كُنهِ صوته، ولكنَّها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل، كعظامٍ تتكسَّر وتتهشَّم، تُمسكها يدا عملاقٍ خرافيِّ القوة، وبِنية صارمة لا رحمة فيها تُدشدشها .. فجأة وفي المنزل الهادئ المظلم الفاخر الإظلام، السابح في سكون مسود تلمع فيه حواف الموبيليا الأنيقة الموزعة بعناية وذوق، بيت ساكن نائم يرفل في رائحته الليلية الخاصَّة التي تُميِّزه عن أي بيت، وفي الحي المترف الذي تتثاءب نوافذه وأضواؤه واحدة وراء الأخرى ويئوب إلى الرقاد على ضجة المدينة ووسطها المستيقظ كغمغمة غارق في الأحلام.

وفي وسط هذا كله، ومن مكان لا تستطيع تحديده أو تعرف إن كان يمتُّ حتى إلى الحي، تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول، مفاجئًا وكالطعنة الملتاثة، حافلًا بأنين التمزُّق، وكأنَّه صادر من حنجرة تتمزَّق أحبالها الصوتية لتُصدِر الصوت ويكاد يُمزِّق طبلة أي أذن يقع عليها.

ودونًا عن سكان الحي والبيت، بدا وكأنَّه الكائن الوحيد الذي سمعه. كان مغمض العينين لا يزال بينه وبين النوم مشكلة لا بد لها من حلٍّ. ومرَّ الصوت مفاجئًا غير مألوف من الصعب تبينه، ولكن جسده في اللحظة التالية كان يَقشعرُّ بخوفٍ طِفليٍّ مذعور، وإن لم يَستغرق زمنًا، أسلمه إلى عينين مفتوحتين لآخرهما، وقلق وعاصفة من الاضطراب، فالإحساس التالي الذي واتاه كان إحساسًا بالذنب، شعور غامض يربطه بالصوت، ويؤكِّد أنَّ الصلة بينهما من صنعه ومَسئوليته، وأنَّ عليه وحده يقع التحمُّل للنهاية، وبالغريزة التفتَ، كانت زوجته لا تزال على وضعها، فقط في اللحظة التي التفت فيها ماءت مواءً طال بعض الشيء، ثم بإرادة نائمة انتقلت إلى جنبها الأيسر وقربت ساقها، ربما كان الأثر الوحيد الذي أحدثه الصوت في جسدها المستسلم لأول مراحل النوم. وارتاح وبعض الشيء اطمأنَّ وهو يواجه الأمر وحده؛ فقد كان ظهورها على المسرح لحظتها كفيلًا بزيادة ارتباكه.

ما هذا الصوت ومن أين جاء؟

في لحظة مرَّ بخياله ألف احتمال، إلَّا الاحتمال الوحيد الذي كان يخاف مروره. لم يكن قد تغيَّر في البيت أو في الحي أو في دنياه كلها شيء ما عدا ذلك الشيء الواحد الذي اغتمَّ له. ولا بدَّ أن يكون الصوت الجديد من صُنع القادم الجديد، حتى ولو نفى عقلَه بشدة، وأبى أن يصدق.

ولم يشأ أن يُفكِّر أكثر، مجرَّد صوت وحدث، المهم ألا يعود يحدث، ومرَّ بعض الوقت، أحال اللحظة إلى دقيقة، أو دقائق، ولا شيء يتغيَّر داخل الليل الساكن، والأمل يقوى.

ولكن وشوشة غامضة حدثت، اندفع منها إلى أعلى فجأة صوت كالطوفان الهادر العمودي، له وقع العظام نفسها وهي تسحق وتتدشدش، صوت أقرب إلى رعد تنفثُه السماء في ماسورة مكتومة، ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن يُنهيها وكأنَّما الموت عند نهايتها.

انتهى الأمر. لم تعدْ هناك فائدة.

كان هذا الصوت الثاني مزعجًا حقًّا حتى إنَّه، مع علمه هذه المرة وتأكُّده من مصدره، لم يستطع كبح جماح ارتجافته، ليس خوفًا منه، وإنَّما من الشيء المجهول المروع الذي يختفي لا بدَّ وراءه ويحدثه. مزعجًا ومحيرًا إلى درجة لم يلحظ معها أنَّ رفيقة الفراش قد اعتدلت نصف اعتدالة والتفتت إليه قائلةً بهستريا مفاجئة: إيه ده؟ قول لي بسرعة وحياتك إيه ده! وحياتك بسرعة بسرعة بسرعة.

وقبل أن يُفكِّر فيما يقول انخلعت عنه، ناظرة إليه بشك متوحش: اوعى يكون هوه؟

وقبل أن يفتح فمه أردفت: أنا مش قلت. أنا مش قلت. اتفضَّل بقى. اتفضل بقى. أنا مش قلت.

وحقيقةً لقد قالت وعارضت وكل ما حدث كان رغم قولها وإرادتها، هي وبالتأكيد الآن بسبيلها إلى إعادة ما قالته. وعليه أن يتذرَّع بالصبر، ويقول لها كلامًا مُطمئنًا كثيرًا .. إنَّها مجرد آهة .. آهة ستمر، ويعود كل شيء إلى سابق عهده.

أكان معقولًا أن يعود أي شيء ليلتها إلى سابق عهده؟ الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها.

وما فائدة الكلام، والكلام الذي دار كثير، وقد كان ممكنًا، مادام الوضع هكذا. زوجة حلوة قوامها كقوام المانيكان، وساقاها حتى في الظلام يظهران من قميص النوم في إغراء لا جمهور له، وحتى هناك تواليت وماكياج للنوم وعناية خاصة بالشَّعر، ودهان مخصوص للبشرة، وزوج هناك دائمًا بينه وبين لحظة النوم مَشاكل لا بدَّ لها من حل، زوج امتلأت روحه بالتجاعيد، مثلما فقد رأسه الكثير من الشَّعر وعيناه القدرة على الرؤية .. ما دام الوضع هكذا. فقد كان ممكنًا أن يدور الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها حول أي موضوع، كالعادة، لا تلتقي عنده وجهات النظر. المهم أنَّهم أصبحا بشيء من التحدي ينتظران الصرخة الثالثة، التي لن تجيء، كما يُؤكد الزوج. والتي لا بد أن تأتي، كما تصرخ الزوجة. ومن المطبخ، هذه المرة كان المصدر واضحًا ولا شك في أمره، انطلق مواء كمواء القطط، يحاول صاحبه كبته وخنقه فيخرج مضغوطًا ثاقبًا إرادته فيبدو كما لو كان رجل قد قرر بجماع ما يمتلكه من قوة، وبسبق إصرار، أن يتأوَّه كما يريد، ولتَقُم القيامة بعدها، انطلق صفير مُعذَّب مُتألِّم مُتظلِّم باكٍ غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد .. آي، آي، آي، آي، طويلة وقصيرة، ممدودة ومبتورة، عالية بكل قواه يرفعها، منخفضة بجماع إرادته يخسفها، مجروحة دامية، لاسعة كالنار في العين، كاوية كصبغة اليود في الحلق .. حارقة كآثار الحامض المُركَّز.

فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكُّد قولها، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي، ولكن انتظارها طال، وبدأت رغمًا عنها تسمع، ومن الذهول استمرَّ فمها مفتوحًا وأذناها — بأمر قوة قاهرة — تُصغيان، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة، ونفس اللحظة التي كانت قد قرَّرت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتستغيث صارخة، انتهت الصرخة فجأة، وكأنَّما انكسر الجهاز الذي يُصدرها.

وكان الصمت الذي حلَّ تامًّا ساحرًا كالدواء الشافي المعجز لو لم يحلَّ، وفي اللحظة التي حلَّ فيها، وعلى تلك الصورة الكاملة، لفقد أحد أو الجميع عقولهم.

قالت الزوجة بعد جرعة صمت سخية: كدة يا حديدي؟ كدة؟

وأجاب بهمس، مُناه ألَّا يصدر: أرجوك يا عفَّت .. أرجوك!

ولكنَّها لم تستجب. بفحيح أكثر انخفاضًا وإلحاحًا سألته: بس أنا عايزة أعرف. أرجوك أنت .. أنا ح اجنن عايزة أعرف .. ما وديتوش لوكاندة ليه؟ ما سبتوش يتحرق مع أهله ليه .. عملت كدة ليه. أرجوك قولي بس .. عشان ما اجننش!

كيف يُخبرها وهو نفسه لا يدري لماذا أَقدم على ما اقدم عليه. كان قد اتخذ قراره من زمن وكفَّ تمامًا عن مساعدة أهل «زينين» وتوظيفهم والتدخل لقضاء المصالح. إنَّ أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز من بينهم واحد حتى يتسابقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حل مشاكلهم. مشاكل لو تفرَّغ لها لاحتاج لأضعاف أضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلَّا وله مشكلة حادة ملحة تطلب الحل وتستحثه، ومائة ألف نسمة في زينين وما حولها، بمائة ألف مشكلة، بقرار حاسم باتر منه أن تبقى له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تُريد إنزاله وجره إلى حيث هم، وكأنَّما لا يُطيقون رؤية البارز العالي ولا يستريحون حتى يبرك مثلهم ويعجز.

ولكن السكرتير جاءه قرب الظهر قائلًا: إنَّ أبا فهمي وعمه بالخارج، وأنَّهما يُريدان رؤيته. وحياته ليس فيها إلَّا فهمي واحد، أول، وربما آخر، طفل أو إنسان يعترف الحديدي لنفسه أنَّه أذكى منه. كان فهمي إذا وقف ليجيب وقد عجز الفصل عن الإجابة التفت الحديدي بكليته ناحية، يتأمَّل ملامحه الشاحبة، ووجهه المليء بالعظام الناتئة، والذي تكسوه مع هذا غلالة من مهابة خفيفة، مهابة التفوق أو العبقرية، وكل كلمة يَنطقها كان يتأملها وتبهره، حتى الطريقة التي ينطقها بها، فكل كلمة كانت الصواب بعينه، كل كلمة بالضبط ما يجب أن يُقال وما يعجز الجميع عن قوله، فهمي كان يقولها ببساطة ودون أي جهد، في ذلك الفصل من المدرسة الإلزامية، ذي الجدران المتساقطة الطلاء، الكاشفة عن الطين الذي بُنيت به الحيطان، الفصل ذي السبورة الكالحة البالغة الصغر، وكأنَّما هي سبورة خاصة لتلميذ واحد، المزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء القطن وأحذية الإخوة الكبار أو ربما الآباء والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أمٍّ لابنها، أو خيطت على المكنة فوق البيعة مع الجلابية، الأيام الأولى التي كان الحديدي يتعرَّف فيها على مدخل العالم المقروء المكتوب ويُحاول أن يحذق مبادئ أسراره، وفهمي رفيق تلك الأيام ومثلها الأعلى .. أيكون أهله هم مَن يَنتظرونه بالخارج.

وأمر بدخولهم.

ومن باب الحجرة دخل ثلاثة أو أربعة أناس من حجمٍ قصير تخين واحد. ورابعهم مثنيٌّ على نفسه لسبب مجهول. أجال بصره فيهم. إنَّ ملامح فهمي محفورة في ذاكرته لا تُمحى أو تموت. وأجال بصره مُحاولًا أن يعثر على مَن يصلح ليكون أبًا لفهمي أو عمه .. ولكن ملامحهم بدت غريبة حتى على أهل زينين بشكل عام.

– أمَّال فين فهمي؟

وتسابقوا في ارتباك عظيم يُجيبون، ويَنتهُون إلى الإجماع على الإشارة للشخص الرابع المثني على نفسه.

– ده!

– أيوة يا بيه!

– أنت؟

– أيوة يا بيه .. هو!

– أيوة .. يا …

ورفع رأسه يواجهه رغم بقائه متنيًّا. وحدَّق الحديدي طويلًا فيه كمَن يفتش في كومة من قش قديم عن إبرة ملامحه لطفل صديق كان أعز عليه من نفسه.

– أنت فهمي؟!

– أيوة .. يا … فاندي!

جاءه الجواب من وجه المومياء الخارجة لتوِّها من القبر أو المستعدة توًّا للدخول فيه، وجه منقبض بالألم، وكأنَّما ثبتت ملامحه عنده وحنطت عليه!

– أنت فهمي أبو …

– أيوة .. أبو عنزة يا بيه .. ده كان معاك في المدرسة .. بس حضرتك مش فاكر.

أمعقولٌ هذا؟ من الطفل المُرتَّب النظيف الذي تُحيط بوجهه مهابة النبوغ، ومن العينين اللتين يطلُّ منهما الذكاء النفَّاذ والقدرة المعجزة على الإدراك، أين هذا من ذلك الرجل الذي يبدو عجوزًا محطمًا تجاوز الخمسين، المظلم القسمات كالأرض البور، المطفأ العينين لضيقهما كشريط اللمبة حين يحمر من تلقاء نفسه ويقصر ويحترق لدى فراغ الكيروسين.

وأحسَّ بفجيعة ذات طعم خاص. كان دائمًا متأكدًا أنَّه سيلقى فهمي يومًا ما، وكان يعد العدة لهذا اللقاء الحافل. إن قدرًا كبيرًا من الرهبة التي يحسها لفهمي مبعثه أنَّه كان يتخيل دائمًا أنَّ فهمي سيظل متفوقًا عليه وعلى الآخرين. وأنَّ الذي باستطاعته أن يتفوَّق كطفل لا بد باستطاعته أن يتفوق كشاب ثم كرجل. ولم يكن أبدًا يتصور أنَّ اللقاء سيتم على هذه الصورة، وأنَّ الطفل الذي في ذاكرته سيمخض عن هذا الرجل. كان يدخر الحظة التي يُقابله فيها كلامًا كثيرًا يُريد قوله، وكيف أنَّه إذا كان قد أصبح الأستاذ الدكتور الحديدي، أكبر مرجع في الكيمياء العضوية في الشرق، وإذا كان قد أصبح رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى، ومرشحًا أكثر من مرة للوزارة، وعضوًا في عشرات اللجان والهيئات العلمية في الشرق والغرب، فجزء كبير من هذا الفضل يَرجع لفهمي، فقد كان الصوت الذي ظلَّ لأكثر من ثلاثين عامًا من الزمان يلهب طموحه ويدفعه للتفوق حتى ينتصر، ولو مرةً واحدة، على الطفل العبقري، الذي ظلَّ يُحافظ عليه في ذاكرته كصور القدِّيسين التي لا تمس. وها هو اللقاء، وها هو القديس.

– أنت فهمي أبو عنزة؟

– أيوة يا بيه.

– فاكر العنزة؟

– عنزة إيه يا بيه؟

العنزة التي سرَقها ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء ٦٠٦ التي قيل إنَّها بخمسين قرشًا، وأنَّها دواؤه الوحيد. فقد كان فهمي شهمًا أيضًا، لا يتردَّد في الذهاب سائرًا على قدميه إلى البندر أو بقاء الليل بطوله ساهرًا أو اليوم كله عاملًا كادحًا إذا أحس أنَّ غيره في حاجة إلى هذا العمل أو الجهد، خصال جعلت الجميع يدهشون ويفجعون لإقدامه على سرقة العنزة. وإن كان السبب قد عُرِف والعمل قد اغتفر. إلَّا أنَّه خرج منها بالاسم لاصقًا به، ملغيًّا اسمه الحقيقي وحالًّا محله.

– أهلًا وسهلًا .. أية خدمة؟

بالطبع فلا بد قد جاءوا، مثلما كان يجيئه المئات في انتظار أن يُحقِّق لهم بمفرده ومركزه المُعجزة. كان سهلًا تخمين المطلوب هذه المرة، فلا بد أنَّ فهمي مريض ولا بد أنَّهم يريدون إدخاله المستشفى.

وحاول أن يتحدَّث إليه ويسأله عن مرضه متنيًّا على نفسه في جلسته لا يرفع رأسه ولا يبدو عليه أن يسمع ما يُقال. وتهته أبوه وعمه وهم يعتذرون عن صمته وكيف أنَّه دائم الحدوث، بل أحيانًا تمضي عليه أيام كثيرة دون أن ينطق فيها بحرف، ولم يكن المرض في عقله أو نفسه وإنما كان في مثانته، فَهِمَ منهم أنَّها لا بدَّ بلهارسيا أدت إلى سرطان في المثانة، وأنَّهم لفوا وتعبوا على جميع «حكما» المركز ومستوصفاته ومستشفياته وحلاقي صحته والعرب الذين يكوون بالنار، و«يخرمون» بالمسلة. حتى قالوا لهم في مستشفى المحافظة في النهاية أن لا فائدة من العملية، وأنَّه بحاجة إلى علاج بالأشعة في مصر. وأدحنا جينا لك يا بيه ربنا يخلي لك أولادك ويمتعك بالصحة.

ومن غير دعاء، كان قد قرَّر أن يتكفَّل بالأمر. إنَّ الدَّيْن الذي في عنقه للكتلة البشرية المنكفئة على نفسها أمامه ملفوفة بالملابس المهرأة، كبير، ولقد حان أوان رده وإيفائه.

كانت المشكلة أن يتخلَّص أولًا من «الجماعة» التي ترافقه ويستصحبه إلى بيته ليقضي فيه الليلة. وفي الصباح واعتمادًا على صديقه أستاذ الأشعة يُدخِله المستشفى؛ فقد كان عليه أن يدبر أمر ذهابه إلى البيت بطريقة لا تَجرح ذكراه في نفسه من ناحية ولا يظن معها من ناحية أخرى بوابٌ أو ساعٍ أنَّه أخ له أو قريب، وكان عليه أن يتغلَّب على معارضة «عفت» زوجته، التي لا بدَّ سترفض إيواء شخص مثله، ولو ليلة واحدة، ولو لكي ينام في المطبخ أو في فراش السفرجي.

ولقد تمَّ كل شيء كما قدَّر له الحديدي، إلَّا معارضة الزوجة، التي بقيت حتى بعد رضائها بوجوده في البيت وأمرها للسفرجي أن يتكفَّل به وبحراسته وإطعامه. وهكذا لكي يُقلِّل من وقت وجودها بالشقة، اقترح أن يذهبا إلى المسرح، وحين عادا في منتصف الليل كان الهدوء المُعتاد يخيم على البيت، وكل شيء فيه هادئ، ونور المطبخ مُطفأ. وبعد نصف ساعة كانت عفت تستمتع بمراحل نومها الأولى. وكان الحديدي مغمض العينين لا تزال بينه وبين النوم مشكلة مجلس الإدارة الذي أجَّلت حكاية فهمي من اجتماعه ومن المشهد العاصف الذي كان قد أعده لكي يسحب فيه البساط من تحت أقدام المدير العام ويجبره .. إمَّا الظهور بمظهر الغبي الأحمق الجاهل، وإمَّا، حفظًا لماء الوجه، الاستقالة.

حين جاءت الصرخة الأولى.

وأعقبتها الثانية والثالثة.

وتكهرب جو البيت تمامًا، أيكون قد تورَّط في خطأٍ أكبر دون أن يدري، وظنَّ أنَّه يأوي قطعة حديد خردة عزيزة، لتأخذ طريقها في الصباح إلى الورشة، فإذا بها قنبلة بدأت تنفجر وتوشك أن تهدم البيت!

وعلى عجل أسرع إلى المطبخ حافي القدمين، كان مظلمًا لا يزال، ولكن رائحة خانقة حامضة قابضة نفَّاذة واجهته لدى فتح الباب. مدَّ يده يُضيء النور، ولكن الشلل أصابها قبل أن تصلَ إلى المفتاح. فقد انطلقت من المطبخ الضيق آهة صارخة ثاقبة، كعشرات من الإبر الحادة المسمومة انطلقت في كل اتجاه. لا يُمكن أن يكون هذا صراخ ألم أو للتعبير عن ألم، ولا مجرد أصوات، إنَّه شيء مادي ينخر في الجسد، ويُصيب السامع بالحمى، فوق احتمال البشر.

أضاء النور وهو فعلًا خائف، ولم يلمح فهمي في الحال، فقد وجد الفراش الذي منحوه إياه ممزقًا مكومًا، والمطبخ بكل ما فيه مبعثرًا ومدلوقًا، والمقشات منتزعًا قشها وريشها ومنثورًا، وعددًا لا يُحصى من بقع الدماء الصفراء تصبغ الأرض وباب الثلاجة والمناضد البيضاء، والرائحة النتنة الخانقة لا تزال هناك، لكأنَّه كان ميدانًا لمعركة حامية الوطيس دارت بين إنسان أعزل وخصم جبار غير منظور، لكأنَّ الصرخات كانت صرخات رعب الإنسان من عدو خفيٍّ يسحقُه بالضربات وهو عاجز محاصر متألم مهزوم لا حول له.

ونظرة ثانية ألقاها على المطبخ، بعيني الزوجة هذه المرة، أدرك بعدها فاجعة لم يكن يتوقعها أبدأ قد حلَّت. وبحث عن فهمي فوجده قد حشر نفسه بين منضدتين من مناضد المطبخ عاريًا تمامًا ليس عليه إلَّا فانلة مهرأة، رأسه يتحرَّك في كل اتجاه، عيونه الميتة المطفأة تقدح بشرر أبيض، دائبة الحركة في محجرها تبحث عن مُنقِذ ومُخلِّص، وبكيانه كله كان يتَّجه إلى أعلى في يأس كامل كمَن يدرك تمامًا أن لا نجاة. إنَّه ألم سرطان المثانة المروِّع، حين يزحف مع الليل، حين تبدأ قطرات البول تتجمع بحمضها عبر الورم الخبيث الذي نفذ إلى كل المسالك، ومرور القطرة على الورم المتهتِّك المجروح، يسحق بالألم الذي يصدره كائنًا حيًّا في فخامة الفيل وبلادة إحساسه، ويجعله يجثو ويحفر الأرض بأظلافه، ويملأ الدنيا بهتاف مروع صارخ .. إنَّه الألم الذي يُسمُّونه فوق احتمال البشر، فهو لم يُخلق لبشر، ولم يُخلق البشر وتُزوَّد أعصابهم بتلك القدرة الهائلة الدقيقة على الإحساس، كي يَسحقها ويكويها ألم كهذا الألم.

أخرج فهمي من مكانه، ولا يزال رأسه وعيناه وكل كيانه في حالة تلفت مسعور وبحث عن مفر، مشغول عنه وعن المكان والزمان والدنيا كلها بما هو حادث فيه وبداخله، فيقف ويجثو، ويتمدد على بطنه ويركع، ويقوم هالعًا واقفًا، ويفتح فمه استعدادًا للصرخة، وحتى يكتمها ويحتملها يحشو فمه بذراعه أو بالمخدة أو المقشة ويغرز أسنانه فيها ويسيل الدم من الذراع ومن الفم، ومع نقاط البول الكاوي.

وشعر بضغط خانق يكتم أنفاسه، وبرغبة مجنونة أن ينطلق هادرًا لاعنًا نفسه وبلده وأناسها، واليوم الأسود الذي كُتِب عليه فيه أن يُولد منها، ويصبح عليه أن يحيا عمره كله يحمل عن أناسها همَّهم وفَقرهم وعجزهم ومرضهم وأخيرًا آلامهم وبولهم، ولكن ما الفائدة ومَن يتلقَّى لعناته واحتجاجاته. إنَّه لا يستطيع حتى أن يطلب من فهمي أن يكف عن الصراخ، أو يرغمه على البقاء في ركن بعينه من المطبخ، إلَّا إذا كان باستطاعته أن يأمر الألم الذي في داخله أن يكفَّ، والشيطان الذي يمزق أحشاءه أن يهجع.

وسمع خطوات متردِّدة في الصالة. ومخافة أن ترى الفاجعة الحادثة. أطفأ النور وأسرع عائدًا إلى حجرة النوم ليجد عفَّت في منتصف المسافة.

– هيه .. عملت إيه؟

– قلت له يسكت!

– وإن ما سكتش؟!

– حا يسكت!

آي ياي ياي ياي ياي ياي ياي

وأسرع خلفها إلى حجرة النوم التي فرَّت إليها مذعورة. وما كادت الصرخة تنتهي حتى وقفت تواجهه وتُهيئ نفسها للعاصفة المقبلة الهوجاء. ولكنَّه أسرع، واستطاع رغم دفعاتها وتملصها أن يحتويها بين ذراعيه، ويقاوم إحساسه بالرغبة الملحة في الانهيار ويعترف لها بصدق واضح وملموس أنَّه أخطأ وأنَّه ما كان يجب، وأنَّه يَطلب الصفح، وأن يكون صفحها على هيئة مساعدته في تدبير الحل للموقف، فهما في قلب الأزمة معًا، ولا سبيل أمامها إلا الاحتمال. وما تنزلوش ينام تحت عند البواب ليه؟ فضيحة والساعة اتنين. أروح أنا عند ماما. دلوقتي؟! أنا ما اقدرش استحمل. عشان خاطري. ما اقدرش .. أرجوكي .. غلطة وباعتذر عنها وبارجوكي إنَّك تساعديني وتستحملي. أستحمل ازاي يارب؟! استحمل ازاي؟

•••

آي آي آي يي يي يا يا ياي …

– آه يا مامي! ما اقدرش على كدة ما اقدرش!

و و و و و و و ه يییییییه …

– إيه ده. ده مش بني آدم، دول عفاريت، دول جن. الحقيني يا ماما أنا ح اجنن!

وشيئًا فشيئًا بدأ الحديدي يحسُّ أنَّ ارتباطه بحجرة النوم وبالزوجة التي يحتضنها ويسكنها، بالبيت والحاضر كله يضعف وبتوتُّراته يتراخی وبوجدانه يستحيل إلى بحيرة هائلة ملساء على استعداد لاستقبال أدق الرذاذ الصادر عن فهمي.

فرتك مرتك شرتك دي دي دي دان …

الألم لا بد قد ازداد بدرجةٍ مخيفةٍ، خفِّف عنه يا رب.

واج الواج الواج الواج الواج …

وإلى جوار هذه القادمة من المطبخ، جاءت أخرى رفيعة طفلية من الحجرة المجاورة. ما كادَت تسمعها عفت حتى، بقوة عاتية خارقة، خلَّصت نفسها من تكتيفته وجرت خارجة إلى الغرفة الأخرى. ولكن الطفل، طفلها الوحيد قابلها قادمًا باكيًا مناديًا: يا مامي. واحتضنته وحملته وبتنمُّر وتوهُّج قالت للزوج: اسمع .. انت لازم تطرده حالًا دلوقتي يروح يشوف له مصيبة يبات فيها .. دا الولد قايم يرجف .. يا مصيبتي!

– يا عفت أرجوكي .. أنا شرحت لك الظروف، الراجل ده عندي مهم قوي وما اقدرش أطرده.

– مهم أكثر مني ومن فهمي ده؟!

– مش أكتر، إنَّما مهم، كفاية تعرفي إني مسمِّي فهمي ابننا ده على اسمه .. ده الوحيد اللي خرجت به من طفولتي.

– يا ح تطرده يا ح اسيب لك البيت وأنزل!

– إنتي عايزة مني إيه؟ أركع لك؟ قلت لك أرجوكي .. أنا ح اجيب له دكتور يدِّيله مخدر دلوقتي ويسكته.

وانشغل بكليته في عملية استدعاء طبيب الإسعاف وانتظاره، ولم يدهش حين أخبره الطبيب أنَّ المخدِّر في حالة كتلك ضعيف المفعول لا ينجح عادة في تسكين الألم؛ فآلام هذا النوع من السرطان أقوى من المخدرات وكل المسكنات التي اخترعها الإنسان.

وكانت الفائدة الأهم للطبيب أنَّه أعطى الزوجة حقنة من عقار منوم، وبعد مدة قليلة نام فهمي الطفل في حضن أمه.

وأخيرًا أصبح وحده مع الصرخات القادمة من الأعماق. وكما قال الطبيب لم يكن المخدِّر قد أحدث تأثيرًا يُذكَر. المشكلة الآن أن يُعاد الاتصال .. أن يعود إلى نفس الحالة الوجدانية التي كان عليها قبل أن يصحو الولد وتثور الزوجة. إنَّه لا يَعرفها ويذكرها وهي قريبة دانية منها ولكنها ترف وتذهب، يتذبذب بينها وبين حالته العادية، يه يه یه یه یه فمندا مندا مندا هوندا بندا سارادات.

وأحسَّ براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فيه وتنعشه في رقة وعذوبة، بالضبط هذا هو المكان. هنا يحسُّ بها تتجمع .. آهاته التي لم يطلقها أي باي يانا يا بوي.

يا بوي موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع. يا بوي إنَّها ليست من لغة الحياة ولكنَّها من لغة الأعماق والآي. إنَّه يحس بها تُعبِّر عن وجعه هو. منذ سنوات وسنوات وهو يُريد أن يقف في ميدان التحرير ويستجمع شجاعته. وبكل قوة وبالحر ما يستطيع يطلقها، عالية موجوعة صادرة رأسًا من الوجع مثلما يَفعل فهمي الآن، ولكنَّه في اللحظة الأخيرة يعدل ويضعف ويخاف أن يفر منه الناس ويتهموه بالجنون فيخمدها ويكبتها ويردها إلى حيث ترقد الكثيرات من زميلاتها المكبوتات المحبوسات.

آي آي آي فركش أن منكش أي بعقش أي!

الآن فقط يحس بها كلها، بآلامه، ويحس بها أبشع حتى من آلام فهمي وأوجاعه .. كل الفرق أنَّه ليس له الحق في التوجُّع مثله، لن يصدقه أحد إذا صرخ وترك أعماقه تعبر عن نفسها المكتومة الوارمة المضغوطة، ألم بلا آهات. أضعاف أضعاف الألم.

الآن وهو وحيد مع نفسه وموجوع مثله وأعماقه مفتَّحة الأبواب أمامه يستطيع أن يسأل نفسه: ماذا يُؤلمه؟ إنَّه فوق القمة، كل الخط العريض الذي رسمه لحياته تحقَّق؛ زوج ورب أسرة وسعيد محوط بالرعاية والحب والاحترام أنَّى يكون، فمن أين تجيئه الآلام التي لا تُطاق، حتى إنَّه ليحسد فهمي على حالته.

تُرى ماذا كان يفعل ويشعر لو حدث له ما حدث لفهمي وبدلًا من التعليم المتواصِل الذي هيَّأه له أبوه الصرَّاف الذي كانوا يتندَّرون عليه ويسألونك وأنت ذاهب لتدفع المال: مال الحكومة واللا مال الصرَّاف، بدلًا من هذا أخرجه أبوه من المدرسة واشتغل فلاحًا كان هذا مصيره. أي إنسان في مكانه لا بد أن كان يُقبِّل يده ظاهرًا وباطنًا، أين هو وأين فهمي؟ هو الذي لا بد تختاره إذا طلب إليك أن تختار مائة يمثلون الصفوة في هذا البلد. المتمتع بكامل صحته وحياته، لا حق من حقوقه مهضوم ولا شَعرة ظُلم تمسه أو تمس مركزه، أين هو من إنسان كفهمي تكفل الفقر بالقضاء على عقله وأحاله إلى واحد آخر من ملايين الفلاحين السذج، وتكفلت البلهارسيا بالقضاء على جسده .. فالمفروض أنَّه الآن ميت، وعمره مسألة أيام، وحياته كانت أبأس حياة، وشقاؤه كان من نوع يُضرب به المثل .. لو كان قد حدث له هذا .. تراه ماذا كان يقول عن «ألمه» المزعوم وأوجاعه؟

قال الحديدي لنفسه بلا تردُّد: كنت أكون أسعد.

كيف؟ المسألة ليست فقرًا وغنى أو تعليمًا وجهلًا، السؤال هو: هل أنت حي أم ميت؟ فهمي رغم كل شيء حي وعاش. أما أنا فلم أحيَ، والحياة أي حياة، أروع ملايين المرات من الموت، أي موت، حتى لو كان الميت مُكفَّنًا في ملابس أنيقة، محتلًّا أرقى المناصب، سعيدًا في حياته الزوجية.

ولكنك حي. أنا ميت، إنَّه ليس تلاعبًا بالألفاظ، إنَّها حقيقة، المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها، وأنا لم أشعر ولا أشعر بها، إنَّني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول .. وحين أصل لا أسعد لأنَّ أمامي يكون ثمة وصول آخر.

إن فهمي قد عانى من الفقر، والبؤس، ولكنه كان يعمل مع الرجال يضحكون سويًّا، ويتشاورون في مشاكل العمل، ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق، يفرحون لعود الفجل إذا أضيف إلى الأكلة، ولا أحد منهم يأكُل بمفرده؛ إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك. الأكل عندهم أن يحلَّ موعد الطعام ويلتفُّون حوله في ترحيب. ويتعازمون ويُهزِّرون ويحسُّون أنَّهم يقومون باحتفال إنساني صغير، إنَّهم يفعلون هذا دون إدراك لكنهه ولِكُنْههم به، بهذه الأشياء الصغيرة المُتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كل منهم بإحساسٍ يَومي مُتجدِّد، إنَّه حي، وإنَّ الحياة مهما صعبت حلوة.

أنا قضيت حياتي أجري وألهث، لكي أصل إلى القمة كما تُسمَّى .. كان عليَّ أن أظلَّ أصعد ولهذا كنت أُصادق أو تضمني المجموعة، لا لكي أستمتع بصداقتي ورفاقيتي لها، وإنَّما على أساس سرعتها وعلى اعتبار أنَّها أسرع من المجموعة التي هجرتها، وأظلُّ سائرًا معهم ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي أريدها، حتى إذا أحسست أنَّني بحاجة إلى سرعة أكبر هجرتهم إلى مجموعة أخرى، أو سرت بمفردي كي لا يعوقني معوق. وما توقفت مرة كي أواسي مُختلفًا أو آخذ بيد أعرج، معتبرًا أن ليس الذنب ذنبي أنَّه تخلف أو أنَّه خُلِق أعرج. ولقد ظللت أسرع وأسرع لكي أبدأ الحياة حين أصل ولكن لم يكن للوصول نهاية. بعد التخرُّج قلت العمل، بعد العمل الدكتوراه، بعدها الأستاذية، وحين أحسستُ أنَّها تستلزم الانتظار هجرتها إلى الشركات، قلت .. بعد الزواج، وحين تزوَّجت قلت .. نبدأ الحياة مع الأولاد، وحين خلَّفتُ قلت الأوفق حين يَكبُرون، وها أنا ذا لا أزال أجري مُسرعًا، وقد أصبح هدفي ليس الوصول إلى أي شيء، وإنَّما الإسراع في حد ذاته، تمامًا مثل الذي يَبدأ حياته بتوفير النقود كي يحسِّن مركزه المالي ويبدأ يحيا بعد الألف الأولى، وحين يصل إلى الأولى هدفه الثانية فالثالثة، إلى أن ينسى الهدف تمامًا، ويتحوَّل إلى بخيل مقتر هدفه جمع المال ليس إلَّا.

ياني ياني ياني ياني يا بوي.

أحسَّ بتوجع فهمي يُريحه راحة بدأت تُصبح عظمى، وكأنَّ فهمي يتوجع لكليهما أو أكثر من هذا، كأنَّه هو الذي أتيح له أخيرًا أن يتوجع كما يريد وبكل قدرة استطاعته، إنَّه الألم المتراكم عبر السنين .. ألم الحزن الدفين والاكتئاب. إنَّ الإنسان جُهز بتركيبه وأحاسيسه لحياة خاصة تُسمى الحياة الجديرة بالإنسان، وهو لا يستطيع أن يخرج عليها ويحياها حياة من صُنعه هو ومن ابتكاره إلَّا وهو يتألَّم وآلامه تتضاعف، ولقد قسا العمر كله على طبيعته وكتم نداءات الأعماق المُطالبة بمتع الحياة الصغيرة الكثيرة العادية التي تُعطيها طعم الحياة. قسا عليها ليجبرها أن تحيا بمُفردها.

أبو … أموا … أبوا … أموا … أبو .. واه …

بالضبط يا فهمي، الوحدة للوصول، الوحدة للسرعة، الألم البشع لفراق الناس والبُعد عنهم .. الوحدة القاتلة التي تُربِّي الخوف من الآخرين وتُدمِّر الثقة بالنفس، الوحدة لكي تكون حرًّا أكثر ومنطلقًا أكثر وحيًا أكثر التقوقع فإذا بها تُؤدي إلى التوقع والرعب من الآخرين وتحديد الحركة وإحاطتها بعشرات القيود، همه يحمله وحده، ومرضه ينفرد به، وضيقه هو المسئول الوحيد عنه، الألم، أضعاف أضعاف الألم الذي يسحق فهيم ويدمره، وهو مُرغم على كتمانه، يخاف خوف الموت أن يطَّلع عليه أحد. فإنَّ تألُّم الرجل أو حاجته للفضفضة إلى الآخرين ضعف وعورة.

دي دي دي دي دي دي

يا لَلمضحك .. إنَّه يحسُّ أنَّه ربما لأول مرة يذكرها في حياته .. سعيد، سعيد إلى درجة لا يصدقها العقل ولا يصدقها هو نفسه، إنَّه حقيقة متأثر لأوجاع فهمي، ولكن فرحته هو لهذه اللحظة التي يحياها، أجل ربما أول لحظة يحياها، لا توصف. ومن الصعب أن يُدرك الأسباب، ولكن لا بد أنَّ أهمها أنَّه أخيرًا استطاع بوسيلة معقدة مركبة تعتمد على أعماق تُخاطب أعماقًا خلال لغة غير مفهومة، أخيرًا استطاع أن يتصل، وأن يُشارك، وأن يزاول عملًا من أعمال الأحياء، يزاوله بمتعة وسعادة، سعادة تدخله في حالة وجدانية لها صفاء لحظة الكشف لدى المتصوفين وعمق لحظة الخلق لدى العباقرة، لحظة ها هو يحس فيها أنَّه قادر على الاتصال بكل إنسان وبكل شيء، بل قادرٌ على الاتصال بنفسه وبالتحديق مليًّا في أعماقه دون أن يرده الرعب المقيم مما قد يراه.

وكلَّما اندمج في حالته الوجدانية تلك، أحسَّ بنفسه تتفتح أكثر وتعمق، وتتقوى صلته بفهمي، حتى لكأنَّه يقرأ ما يجأر به في كتاب مفتوح، وأحسَّ أيضًا أنَّه ينجذب إلى مكانه ليصبح أقرب، انجذابًا مريحًا ممتعًا إلى درجة لم يدرك معها أنَّه كان قد غادر الفراش ومضى يعبر الصالة في عدد كبير من محطات المَمشى الضيقة. كل خطوة بمحطة، سمع، كالصوت البعيد يأتي للنائم، نافذة جار تفتح ويعقبها صوت زعيق ولا بد أنَّه كلمات سباب، سمعها، وكأنَّها لا تمت إليه ولا تهمه، إنَّه يرى حياته الآن بكل كبيرة وصغيرة حدثت فيها ولها مجسدة مجموعة أمامه، بحيث بنظرة واحدة يستطيع أن يرى نفسه تقريبًا من يوم ميلاده إلى يومه هذا.

الغريب أنه ينظر وكأنها حياة غريبة عنه، لا تربطه بها أو بصاحبها أدني علاقة، لا تربطه ذكرى بأي جزء فيها أو موقعة، وأغلب الظن أنَّه لا يذكرها. إنَّه لا يكره شيئًا في الدنيا قدر كراهيته لحياته تلك. إنَّه يمقتها، ولولا النداء القوي الصادر له من فهمي لحملها في التو وقضى عليها وعلى نفسه، ولكن النداء أقوى، إنَّه يتسرَّب إلى كيانه كله ويهز هيكل الحياة فيه ليوقظ حبه الغريزي لها، ومن الظلام الكثير الرابض يملأ الصورة، تبدأ تتسرَّب موجات كاشفة مضيئة، يجسر معها على التحديق والرؤية ليتابع نفسه وهو يجري ويجري، وحده، الناس تحيا وهو يجري، والشاشة مليئة بالصلات المقطوعة بالصداقات المبتورة، بأجزاء العلاقات، يقيم على الطريق مهدرة بإنسان لا يريد أن يرتبط بأحد، حتى لا يعطله الارتباط، ولا أن ينتمي لجماعة أو حتى لصديق؛ لأنَّ في الانتماء فقدانًا لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جري سريع إلى قمة الوصول، هو في الحقيقة هرب سريع من الحياة، فالحياة هي الأحياء، وأن تنفصل عن الأحياء معناه انفصال عن منبع الحياة الأصيل، وفقدان طعمها ونوعيتها والتحوُّل إلى الموت.

الخطأ الفادح الذي يُدركُه الآن، وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهمي إلى أعماقه يراه، أنَّ الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلتَ وحدك، أيَّة قيمة أن تصبح مَلِكًا متوجًا أو عالمًا حاصلًا على جائزة نوبل، وأنت محاط بصحراء جرداء، أيَّة قيمة لأي شيء في الدنيا، للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟

وصحيح أنَّه ليس وحده، فهناك زوجته وابنه وأقرباؤه، وإخوته، وبعض الأصدقاء، ولكنها ديكورات علاقات ليس إلَّا .. إنَّ حب الناس للناس، وارتباط الناس بالناس، لا ينشأ للزينة، وإنَّما ينشأ لحاجة الناس للناس، الحاجة الماسة الملحَّة كحاجتك إلى الماء والهواء والتي بدونها لا تستطيع أن تعيش، وهو له إخوة وزوجة وأناس، ولكنَّهم لا يمثلون مطلبًا حيويًّا بالنسبة إليه. إنَّ في استطاعته، إذا أراد أن يحيا كما تعوَّد بدونهم. قد يكونون هم في حاجة إليه .. ولكنَّه هو ليس في حاجة لأحد، أو بالأصح هو في حاجة حيوية ماسة، ولكنَّه يحسُّ ويوهم نفسه مثلما أوهمها طول عمره أنَّه ليس بحاجة إليهم .. ومن هنا ينشأ ألمه البشع .. من هنا بدأ، ويستشري السرطان الذي يقتل الضحكة على فمه، لأنَّه يحس أنَّه ليس بحاجة إلى الضحك، ويجمد العواطف في صدره لأنه يحس ليس بحاجة إلى أن يعطي الحب أو يَستقبله، من هنا تبدأ المأساة التي أحالته إلى ميت حي.

•••

وجاءته صرخات فهمي، قريبة هذه المرة؛ إذ كان قد وصل إلى المطبخ، وجلس بجواره، جاءته بعد سكوت خُيِّل إليه أنَّه طويل، وكان مجرَّد إحساس فهمي بوجوده بجواره خفف عنه الألم .. جاءته الصرخات، أقرب ما تكون إلى البكاء، وأحسَّ بنفسه وكأنَّ بركانًا باكيًا يوشك أن ينفجر، إنَّه لم يبكِ في حياته منذ أن كان طفلًا، وها هو يحسُّ أنَّه يودُّ لو ظلَّ يبكي إلى أن توافيه المنية، إشفاقًا على نفسه، وهو أول مَن أدرك أنَّها أكثر أهل الأرض جميعًا حاجة إلى الشفقة.

هات يدك يا فهمي، ضعها هنا على صدري، إنَّه خاوٍ كما ترى. أنا أعرف أنَّك مريض، وأحس بك وأريد أن أقاسمك الألم، ولكن لا أستطيع فقلبي من خشب، تركتكم جميعًا، أنت في زينين، وسعد في بنها، وعبد المحسن في أسيوط، وشلة الجامعة، وجمعية الكُتَّاب، وكل الناس، وظننتُ أنَّكم تسيرون في الطريق العادي، طريق الندامة .. وأن الطريق الأسرع، طريق السلامة، هو الطريق .. والنتيجة أنِّي مُت من زمن، وظللتُم أنتم أحياء، أنا جثَّة أقنع نفسي أنَّني أنا الذي أزور عن الناس، في حين أنَّهم هم الذين يَنزَوِرُون عني، وما حاجتهم إلى جثة، حتى زوجتي وابني أحس أنَّهما لا يُطيقان رائحتي .. أنا أريد العودة يا فهمي، أريد البداية من جديد، أطلب فرصة أخرى فمَن يقبلني يا فهمي؟ مَن يقبل جثة، مَن يرضى بي، إنِّي لا أجد في هذه اللحظة سواك يا فهمي، هل تقبلني .. هل تقبلني يا فهمي!

– ما تعيطش يا محمود!

ولم يصبه الذهول مع أنَّ القائل كان فهمي، وكان أول كلمات ينطقها، ولم يَعجب أيضًا لأنه ناداه بمحمود، وكأنَّما ذكَّره الاسم بالتختة المشتركة وبأيام زمان، كل ما أحسَّ به أنَّ رجاءه قد تحقَّق، وأنه يقول: أشكرك يا فهمي .. أشكرك.

وانبطح الحديدي ببجامته على بلاط المطبخ وتناول يد فهمي يُقبِّلها، ويمسح بها دموعه السائلة التي لا تتوقف، وهو يُردِّد سامحني يا فهمي .. سامحوني يا ناس .. أنا غلطت وتعبت والألم فاض بي .. سامحني يا فهمي.

ولكن فهمي كان قد عاد، بآخر وأقوى ما عنده، يصرخ وآلامه قد اشتدَّت بغتةً .. وكانت نوافذ البيت جميعها قد فُتحت من زمن وسكانها يصيحون رغم أنوفه للآهات المستغيثة .. ويستجيرون من الصوت الذي لا يرحم أبوابهم ونوافذهم مهما أغلقوا وأحكموا الإغلاق، الصوت الذي أيقظ العمارة ببوابيها وبهواتها وسادتها وداداتها، وبدأ يصل إلى العمارات المجاورة ويُوقظ سكانها، ولو استمرت الصرخات لربما كانت قد أيقظت الحي الراقي بأكمله، ومَن يدري ربما المدينة كلها كانت قد صحَت .. ولكنَّهم كانوا قد طلبوا بوليس النجدة .. وحضر وفتحت له الزوجة نصف نائمة، غير أنَّها استيقظت تمامًا حين قادتهم إلى المطبخ، ووجدت الحديدي راكعًا على الأرض يُقبِّل يد فهمي ويستغفره!

ورفعوا فهمي، وألبسوه، وحاول جنديان حمله فيما بينهما. ولكن الحديدي نهرهما، وتقدَّم هو من فهمي وحمله على كتفه، والمرض قد التهم لحمه ولم تبقَ له سوى العظام، وتشبَّثت عفت بزوجها سائلة إياه عمَّا يفعله بنفسه، إلى أين ذاهب؟ وابتسم لها، وأضاء وجهه كما تتعوَّد بالابتسامة وقال: رايح في طريق تاني صعب شديد .. تيجي معايا؟!

– أنا ما رحش وياك بالشكل ده .. انت اجننت؟

وأحاطت فهمي الصغير بيديها بينما استدار الحديدي بحمله الصارخ المولول، ومضى يتقدَّم الموكب، ونظرات السكان وأهل الحي تتبعه وتحيط به تهمس وتَسري بينها الهمسات الضاحكة .. لقد عاش في الحي سنتَين مرعوبًا أن يكتشف أحد أصله وفصله، وتبدو للأعين النائمة شَعرة واحدة تَكشِف عن الجذور والسيقان التي يمتُّ إليها .. ولا ريب أنَّ كثيرين من سكان الحي كانوا يفعلون مثله، فها هو يرى النوافذ والمدخل حافلة بكثير من الجثث.. وهو الآن يستعجل اللحظات التي يُغادر فيها الحي .. وقد أصبحت الرائحة لا تطاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤