اللعبة

دخل القادم الجديد مذهولًا، كان المكان وكأنَّما تحسُّ أنَّك سقطت إليه من علٍ، أو وصلته عن طريق سردابٍ طويل مزعج، ولكنَّه كان فاخرًا بالغ الفخامة، اللون الغالب فيه هو الأسود، سواد .. كسواد الكاديلاك .. يوحي بالأناقة والعراقة، وكان النور غير ثابت المصدر، ومُضطربَ الاتجاه .. وتحسُّ وكأنَّما تُوجِّهُه يد خفية إلى الناحية أو الناس الذين ينظر إليهم فقط، كان غموض مرح يسيطر على جو الحفل، والحضور تُدرك بطريقة ما أنَّهم كثيرون، ولكن عدد مَن يقع بصرك عليهم قليلون، تستطيع التفرُّس فيهم بسهولة .. ودخان السجائر والسيجارة يلون الجوع ببقع سماوية متحركة، ويتشابك مع إشعاعات النور غير المرئي، صانعًا سحبًا كسحب الصيف، بيضاء. والحفل صاخب إلى حد ما، ولكنَّه صخب وقور .. كأنَّه احتفال بخطبة شاب من أعرق عائلات الصعيد .. أو بتكريم خاص لوزير مُهم، وعلى الوجوه نوع من الاستمتاع القلق الذي يَنتاب هذا النوع من صفوة الناس كلما أُتيحَت لهم متعة، مخافة أن يضيعوا فيها وقتًا من أوقات الكسب، وخدم، وكأنَّهم استُحضروا خصيصًا للمناسبة بأكثر من زي، لكونهم درجات، والسيدات في فساتين السهرة .. ولكنَّها ليست جديدة تمامًا، كأنَّما لم تُستعمل من أعوام، واستُخرجت للمناسبة من الدواليب، غالية، تبدو عليها آثار العز، بعضها مطرَّز بلآلئ وإن كانت صغيرة .. لكنها حقيقية .. والوجوه، وجوه الرجال، مكتنزة قليلًا ولكنها شاحبة، كالمجهدة. والسيدات عيونهن .. رغم تعدُّد ألوانها تبدو كلها سوداء، كلها سوداء عميقة الغور، وكأنَّ صاحباتها يُعانين من جوع جنسي لا يدركنه، والمقاعد قليلة متناثرة، أقل بكثير من عدد الحاضرين، ولكنَّها راسخة في أماكنها وكأنَّما مضت عليها أحقاب .. وقماشها من القطيفة الحمراء الغامقة، التي تبدو حمرتها مع سواد البدل، ورماديتها مع الفساتين الفاتحة .. والسقف الأخضر بانعكاسات الضوء، وسحابات الدخان المتعدِّدة الدرجات، والعبير الصادر عن «برفانات» حديثة، وإنَّ كانت تُعطي رائحة كرائحة عطر الجدات العربي القديم، والضجة المكتومة الصادِرة عن لا مصدر، والتي تُتيح لكل إنسان أن يتحدَّث مع أيِّ إنسان دون أن يثير الانتباه، أو يتسرَّب من حديثهما الكلام، كل هذا جعل القادم الجديد يُحملِق ويتردَّد ويضطرب كثيرًا قبل أن يستطيع أن يتبيَّن أن يكون موقفه. كان واضحًا أنَّه لا يمتُّ إلى المكان أو الحاضِرين، وكأنَّما دخله بطريق الخطأ. ولكن من ملامحه وتصميمه، كان يبدو أنَّ له الحق في الحضور، وأنَّه يَملك، ربما في جيبه هذا الحق .. وأنَّه على استعداد لأن يُظهره ويتحدَّى به كل مَن يجرؤ على سؤاله أو التصدي له. ولم يكن أحد قد لاحظ دخوله، أو اكترث. مِمَّا أتاح له أن يتدبَّر موقفُه، وأن يتأمَّل الجميع، أو بدقة أكثر من استطاعت عيناه أن تقع عليها من الجميع، تأمُّلًا كان يدفعه إلى مزيد من القلق .. وشيئًا فشيئًا يخلخل ثقته بنفسه، أين يقف؟ تلك كانت مُشكلة، وهل يؤثر الوحدة أم لا بدَّ له أن يشتبك مع الآخرين في حديث؟ مشكلة ثانية .. ومع مَن يتحدَّث إذا أراد؟ وفي أيِّ موضوع؟ وبأيِّ حق؟ مشكلة ثالثة ورابعة وخامسة؟

أم تراه قد أخطأ المكان وتكون الكارثة؟

ودهش فعلًا حين وجد، دونا عن الحاضرين، شخصًا يقترب منه .. كان جليًّا أنَّه ليس من الخدم، فلم يكن يَرتدي مثلهم، ولا من الحضور .. فهم منصرفون إلى أنفسهم متكبِّرون .. لا يمكن أن يفكر أي منهم في مبادأته بالحديث، ولأمرٍ ما، كان في مشية الرجل وطريقة اقترابه وابتسامته المتشح بها ما يُذكِّر بالأدلاء الذي يتهافتون حول الفنادق لإرشاد السياح .. حتى سُترته التي يَرتديها بدت أكمامها ومقدمتها كأنَّما أكمام ومقدمة جلاليب الأدلاء البلدية .. وما إن اقترب من القادم بدرجة كافية حتى اكتشف أنَّه يَحمل أمامه، وكأنما بحزام، صندوقًا كالصناديق التي يحملها باعة السجائر، ولكنَّه أصغر كثيرًا ولم يكن بحزام، وأنيق جدًّا، جدرانه وأركانه مُطعَّمة ومشغولة بأسلاك معدنية ثمينة .. وحين وصله وسَّع ابتسامته بطريقة بدت وَقِحة الأدب، وقال بصوت فيه بعض التحدي وبعض الإغراء: تضرب يا بيه؟

واضطرب القادم بانفعالٍ مفاجئ. كان قد بدأ يُدرك أنَّ الرجل يحمل لعبةً من نوع ما، وأنَّه ليس الوحيد، فهناك أكثر من واحد غيره يطوف بأرجاء المكان، بل هناك أكثر من لعبة يزاولها بعض الحاضرين في أطراف المكان الذي بدأ يصبح أكثر اتساعًا، وكأنَّه نادٍ، وكأن الاحتفال مهرجان ما، أو «تمبولا». والرجل لا يزال واقفًا أمامه، يَبتسِم .. نفس الابتسامة المؤدبة الوقاحة، ويعرض عليه مرة أخرى بإغراء أكثر: تضرب يا بيه؟

وحتى دون أن يسأل أظهر له يده اليمنى، فإذا فيها مسدَّس من نوعٍ غريب، أسود، لامع السواد، بطريقة مُلفتة للنظر ومحيرة، جديد وكأنَّه لم يُستعمل قط، وحتى دون أن يُشير. أدرك القادم أنَّ الصندوق الأنيق مليء بطلقات، مرصوصة بنظام رائع، ومقلوبة بحيث أنَّ قواعدها إلى أعلى .. أما الشيء غير العادي فهو أنَّه في الصف الأخير الأيسَر توجد رصاصة ليست مثل غيرها من الطلقات .. فقاعدتها ليست برونزية اللون، وربما المادة كالأخريات .. ولكنها وكأنَّها مصنوعة من فضة مشعة، أو برد من معدن ثمين، بريقه يخطف البصر، بحيث إذا نظرت إلى الرصاصات المقلوبة في الصندوق لا تستوقف هذه الطلقة بالذات انتباهك فقط، ولكنَّها تستولي عليك تمامًا، وتكاد تعجز أن تُحوِّل البصر عنها. تضرب يا بيه؟ مرة ثالثة قالها الرجل، وبالضبط لم يستطع القادم أن يُحدِّد إن كان حقيقة قد قالها في المرتين الأخيرتين، أم أنَّه نفس النداء المغري يتردَّد صداه في عقله لثاني ولثالث مرة. بالكاد استطاع أن يستردَّ بصره المثبَّت على قاعدة الطلقة النادرة ليعود يعي بالرجل واللعبة. وحتى دون شرحٍ، فهِم أنَّ عليه أن يتناول من الصندوق طلقة، ويضعها في المسدس، ثم يذهب إلى مكان في الركن، مخصَّص للإطلاق؛ حيث يوجد هناك حاجز تمامًا، كما يوجد في لعبة التنشين بمدينة الملاهي، كل الفرق أنَّه لا تُوجد عدة أهداف، إنَّما هدفٌ واحد، لم يستطع من موقفه أن يتبيَّنه، فإذا أسقطه يفوز بالجائزة، وأيضًا لم يكن يدري ما هي الجائزة، ولكنه كان مُتأكدًا أنَّها أعظم جائزة نالها أو مُمكن أن ينالها في حياته، وبدا كل شيء يسيرًا، والجائزة، أعظم جائزة قاب قوسين أو أدنى .. وما عليه فقط إلَّا أن يستعمل هذه الطَّلقة المشعة المتلألئة، حركة من يد الرجل أوقفته، يده اليسرى الخالية من المسدَّس. أشار له بها مطالبًا بثمن الاشتراك في اللعبة، موضحًا بأصابعه القيمة، وأخرج القادم من جيب بنطلونه جنيهين حسبا حدد، وضعهما في يده.

وكان مفروضًا حينئذٍ أن يُعطيه المسدس ويتناول الطلقة الفريدة ويعمر، ويذهب إلى الركن. ولكن شيئًا من هذا لم يحدث. فجأةً بدا كل شيء بعيد الوقوع؛ المسدس في يد الرجل وفي متناول يده، والطلقة في مكانها من الصندوق تزغلل عينيه، ولكن هناك مماطلة ومراوغة، وربما من أجل ألَّا يستعمل هذه الطلقة بذاتها، وربما للتسويف في التنفيذ .. ربما لأنَّ هناك أشياء كثيرة لا بدَّ أن تُستوفى، والوقت يمتدُّ دون أي داعٍ للامتداد، والموقف لا يتحرَّك أو يتحرَّك منزلقًا متراجعًا .. وابتسامة الرجل تصبح أكثرَ وقاحةً وأقلَّ أدبًا، وقلة اكتراث الحاضرين وانصرافهم إلى أنفسهم تزداد بشكل يجعل من موقفهم ذاك عاملًا إيجابيًّا يتدخَّل ويُساعد الرجل في مماطلته، ويحُول بينه وبين أن ينال حقه وقد دفع قيمة الاشتراك، وغيظا فغيظًا بدأ يحس إحساسًا يتعمق ويدك كالمسمار المدبب الطويل في نفسه، أنَّه ضحية خداع لا يستطيع وضع يده عليه أو ضبطه، وأنَّه مسلوب الحق، وأنَّ أحدًا، وبالذات هذا الرجل الواقف أمامه بدأ يتراجع منصرفًا ويحاول الاندساس بين الحضور، يُريد سلبه حقه والضحك عليه .. وكل من في المكان وما في المكان يساعده. فالحضور بدءوا يتكاثرون، والخدم اشتدَّت حركتهم، والضجة علَت قليلًا .. وثمة مؤامرة خفية تدور بين الجميع .. مؤامرة صامتة غامضة تلتف خيوطها خفية تحت ستار الضجة المكتومة وبين ثنايا السحب المدخِّنة المضيئة، وحتى من بين أنسجة البدل الغامقة والفساتين الفاتحة والقطيفة الحمراء. وصرخ في الرجل مهددًا. وتوقع أن ينتاب الجميع نوبة ذهول لصراخه، ولكن، وكأنَّه لم يُصدر صوتًا، ما انتبه أحد .. وزعق مرةً أخرى ولم يَسمع سوى ما كان يسمعه من ضجة الحفل الصاخب المكتوم .. وأصبح الغيظ يخنقُه وصغرت الدنيا في عينِه وهانت، ولم تعد قوة في الكون تستطيع أن تحُول بينه وبين أن يأخذ ويضرب الطلقة، تلك الطلقة بالذات، وبيده اليُمنى، ودون وعي، انقضَّ على الرجل وأمسكه من مقدمة سترته، ولم يأبَه الرجل ولا الحاضرون لهذا العمل. وكان يُخيَّل إليه أنَّه عمل يُعدُّ جريمة لا تَغتفِر في نظر المجتمع المحيط به، وبيده ممسكة الرجل من تلابيبه، حدَّق في وجهِه، كانت نفس الابتسامة وقد أصبحت الوقاحة فيها هي الغالبة، تطلُّ من وجهِه الأسمر المُستطيل، ويستطيل لها شاربه الأسود، وتجعل أسنانه البيضاء الحادة تطلُّ من فمه المُنفرِج .. وفي الحال، وبيده الأخرى صفَعَه على وجهه صفعة قوية، أعجب شيء أنَّه لم يصدر عنها صوت، وكأنَّما صفعة معنوية وليسَت مادية حقيقية ضربها بنفسه، وهوى بها بجماع يده على الصدغ المستطيل الأسمر. وانقلب الغيظ إلى غضب، ولكنَّه غضب لم يُصبه بالعمى، كان يرى، لم يفقد أبدًا قدرته على الرؤية، وأدرك أنَّ الصفع لم يعدْ يُجدي، وأنَّ الوقاحة المطلَّة من ابتسامة الرجل في حاجة إلى نوع من الضرب أكثر إهانة، وبكل ما يَملك من قوة وبساقه اليُمنى ركَلَه في بطنه، وكان مُتأكدًا أنَّه هذه المرة سيَنفطِر ألمًا، فقد كان الضرب من القوة بحيث لو أصابت الحائط الجماد لتألَّم؛ إذ هو نفسه، الضارب، قد شعر وكأنَّ قدمه قد سُحقت ودشدشت. وكان أمله أن ينظر إلى الرجل بعدها فيَجده يتألَّم، يَكفيه .. حتى استردادًا لكل حقه أن يَراه ولو لومضة خاطِفة يتألَّم .. ولكن وجه .. وجه الرجل .. حين رآه كان لا يزال يَبتسِم. كل ما في الأمر أنَّ الأدب ذهب تمامًا من ابتسامته، ولم تعد هناك سوى الوقاحة، وقاحة مُستهزئة مستصغرة وكأنَّه ينظر إلى طفل .. وكاد يُجن، فهو مدرك أنَّ الرجل حي؛ من دم ولحم وأعصاب، وأنَّه حتمًا قد تألَّم، فكيف استطاع أن يَكبت هذا الألم كله، وألَّا يبدو على وجهِه خلجة واحدة أو لمحة اهتزاز تدلُّ على معاناة، أو تدل على تغيير ولو طفيف في تعبيره المُبتسِم الوقح، وانهال عليه ضربًا .. وقد انقلب الغضب إلى حنق مجنون، لم يعدْ يرى معه كيف ولا أين يضرب. ولكنَّه كان على يقين تام أنَّه بجماع قوته وإرادته يَضرب وباستماتة يفعل، وأنَّه يضرب هذا الرجل بالذات ولا يُريد ولا يُمكن أن يتوقَّف عن ضربِه حتى لو أراد، فمن هناك، من أغوار سحيقة جدًّا في كيانه، كانت تتدفَّق حِمَم من الحق المغليِّ المُلتهِب، وتَنفجِر مُعبِّرة عن نفسها المخيفة من خلال أيديه وأرجله وأسنانه .. فبأسنانه كان يعضُّ، وكأنَّه انقلب إلى وحش، وبكعب حذائه يدكُّ، وبقبضتَيه يضمهما معا ويرفعهما عاليًا ويهوي بهما دفعة واحدة كالمعول الهائل محطمًا ومُدمرًا، وكلَّما أحس بالوهن يزحف إلى إرادة الضرب فيه، كان يكفي أن يَتذكَّر أنَّه خُدع وضُحك عليه ومُنِع منعًا من مزاوَلة حقِّه لتعود إليه كل قواه، وبكل قواه يعود يَحقِد ويضرب ويضرب.

وحين تعب تمامًا، ولم يعدْ يَقوى على مجرد رفع اليد أو تحريك القدم، حين أحسَّ أنَّه كله قد تداعى وتهدَّم، وكأنَّه المضروب، وأنَّه بالكاد يَلتقِط النفس. إنَّه يلهث، بل لم يعد يقوى على أن يَلهث .. بحيث بإرادته لم يعدْ يتنفَّس، وإنَّما صدره بآخر قوى الحياة فيه، ومن تلقاء نفسه وبغريزة المحافظة على الذات كصدر فقط يَشهق كف، وسكَت، سكن سكونًا تمامًا، وكأنَّه في طريقه لاستقبال الموت. وأول بوادر قدرة على الحركة ارتدَّت إليه فتح بها عينه. والمذهل أنَّ الرجل كان لا يزال هناك واقفًا في تراخٍ وهدوء أمامه، والصندوق يحمله والمسدس نصف مختفٍ في يده، والطلقة ذات القاعدة النادرة المعدن الخاطفة للبصر لا تزال في مكانها من صفوف الطلقات، وابتسامته هذه المرة وقد عاد الأدب يختلط بالوقاحة فيها تحتلُّ مكانها من وجهه، وأيضًا لا يزال موقف الدليل العارض لخدماته، وصاحب اللعبة الذي يُروِّج لها ويُغري الآخرين باللعب، ولم يعد أمام القادم وقد استنفد كل وسائل القوة إلَّا أن يَلجأ إلى التأنيب واللوم. وأودع نظرَه كل ما يريد. وإذا بالرجل يُجيب وكأنَّه يقول: «أنا مش قلت لك عايز يا بيه تضرب؟»

وأجال القادم رأسه بضعف في الحاضرين، وكأنَّما أدرك متأخرًا جدًّا أنَّهم جزء من اللعبة، بينما الرجل يقول: وآدي انت ضربتني. أجل حقيقة كان يريد أن يضرب، ولكنَّه كان يريد أن يضرب الطلقة لا أن يضرب الرجل.

– ما هي دي اللعبة!

قالها الرجل وقد ازداد الوقح في ابتسامته!

أيضحك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤