تمهيد

بقلم  دانكن واتس

«نادرًا ما ينتهي بي المآل إلى حيث كنت أنوي، لكنني غالبًا ما أصل إلى حيث كان يجب أن أكون.»

دوجلاس آدامز،
رواية «استراحة النفس الطويلة المظلمة»

من الغريب حقًّا الطريقة التي تسير بها الأمور؛ فقد مضى أقل من عقد من الزمان على تحديقي في ذلك الرواق الطويل بجامعة كورنيل، متسائلًا عن سبب عبوري نصف الكرة الأرضية لأدرس مادة غامضة في مكان بدا فجأة في عيوني كالسجن. لكن في تلك الفترة الوجيزة تغير العالم، مرات عدة، وتغير معه عالمي، فمن خلال الصعود شديد السرعة لشبكة الإنترنت، والمعاناة من سلسلة من الأزمات المالية امتدت من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، والاصطدام بالإرهاب والعنف العِرقي من أفريقيا إلى نيويورك، أدرك العالم بطريقة قاسية أنه متشابك على نحو لم يتوقعه الكثير من الناس، ولم يفهمه أحد.

في غضون ذلك، وبين الأروقة الهادئة للأوساط الأكاديمية، أخذ علم جديد في النشوء؛ علم يتناول مباشرةً الأحداث الجِسام التي تقع من حوله، ونظرًا لعدم وجود مصطلح أفضل، فإننا نطلق على هذا العلم الجديد اسم «علم الشبكات». وبخلاف فيزياء الجسيمات دون الذرية والبنية واسعة النطاق للكون، فإن علم الشبكات هو علم العالم الواقعي؛ عالم البشر والصداقات والإشاعات والأمراض وصيحات الموضة والشركات والأزمات المالية. فإذا كانت هناك سمة بسيطة لوصف هذه الفترة على وجه التحديد من تاريخ العالم، فقد تكون هذه السمة هي أن العالم صار متشابكًا على نحو أكبر وأكثر شمولية وفجائية من أي وقت مضى. وإذا أردنا فهم هذا العصر؛ «العصر المتشابك»، فعلينا أن نفهم أولًا كيف نصفه وصفًا علميًّا؛ معنى ذلك أننا بحاجة إلى علم للشبكات.

يتناول هذا الكتاب قصة ذلك العلم، إنها ليست القصة الكاملة؛ فالنسخة غير المختصرة أكبر من أن يتسع لها كتاب واحد صغير، وستفوق قريبًا قدرة أي شخص على استيعابها خلال فترة حياته بأكملها. لكن الكتاب يغطي جزءًا منها؛ فهو رواية يسردها مسافر عن رحلاته في أراضٍ غريبة وجميلة. وعلى أي حال، كل قصة يجب أن تُروى من منظور معين (سواء عُبِّر عن ذلك على نحو صريح أم لا)، وهذه القصة أرويها من منظوري. يرجع ذلك جزئيًّا إلى أنني لعبت دورًا في الأحداث نفسها، وهي أحداث مثلت جزءًا محوريًّا من مسار حياتي المهنية. لكن هناك سببًا آخر أعمق يتعلق بسرد العلم. من السمات النموذجية للعلم في الكتب الدراسية أنه مضجر ومفزع. إن علم الكتب الدراسية، الذي يظهر في صورة سلسلة منطقية متواصلة من أسئلة تبدو مستحيلة إلى نتائج تبدو غير قابلة للجدل، من الصعب فهمه، ناهيك عن محاكاته. حتى عندما يُقدَّم العلم كفعل استكشافي، أي إنجاز بشري، تظل العملية التي توصل من خلالها البشر فعليًّا لهذا العلم يكتنفها الغموض. ومن أكثر الأمور التي لا تزال عالقة في ذاكرتي منذ سنوات دراسة الفيزياء والرياضيات ذلك الشعور المحزن بأنه ليس باستطاعة أي شخص عادي فعل هذه الأمور.

لكن ليس هذا حال العلم الواقعي. وفقًا لما أدركته حديثًا، يظهر العلم الواقعي في العالم الفوضوي الغامض نفسه الذي يجاهد العلماء لإيضاحه، وعلى أيدي أشخاص واقعيين يعانون النوع ذاته من القيود والبلبلة التي يعانيها أي شخص آخر. وجميع شخصيات هذه القصة أفراد موهوبون عملوا جاهدين طوال حياتهم ليحققوا النجاح كعلماء؛ لكنهم في الوقت نفسه بشر بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. أعلم ذلك لأنني أعرفهم، وأعرف أننا كافحنا، وكثيرًا ما فشلنا معًا، لنجمع شتات أنفسنا بعد ذلك ونحاول مرة أخرى. قوبلتْ أبحاثنا بالرفض، ولم تُكلَّل أفكارنا بالنجاح، وأسأنا فهم أمور بدت جلية في وقت لاحق، وشعرنا أغلب الوقت بالإحباط أو الغباء التام، لكننا واصلنا الكفاح، لتصير الرحلة مع كل لحظة هدفًا في حد ذاتها. إن تأسيس علم يشبه في الواقع تأسيس أي شيء آخر، لكن بحلول الوقت الذي يخرج فيه هذا العلم للنور ويقرأ الجميع عنه في الكتب، يكون قد شهد قدرًا هائلًا من التعديل والصقل بما يضفي عليه صبغة من الحتمية لم يحظَ بها أثناء وضعه قط. وتتناول هذه القصة عملية تأسيس علم جديد.

ما من قصة بالطبع تدور أحداثها في الفراغ، وأحد الأمور التي أود إيضاحها في هذا الكتاب هو المصدر الذي نشأ منه علم الشبكات، وكيف ينسجم مع المخطط الأكبر للتقدم العلمي، وما يمكن أن يخبرنا به هذا العلم عن العالم نفسه. يتسع الحديث في هذه الأمور لما هو أكثر مما يمكنني تضمينه هنا؛ ذلك لأن الشبكات شغلت تفكير الكثير من الناس وقتًا طويلًا. لكن بالرغم مما أغفلته هذه القصة (وقد أغفلت الكثير)، فالأمل يحدوني أن تُوَضِّح فكرة أنه لا يمكن فهم العصر المتشابك بواسطة محاولة فرض نموذج محدد للعالم عليه — مهما بدا ذلك مُطمئنًا — ولا من خلال دراسة فرع واحد منفرد من فروع المعرفة. إن الأسئلة، ببساطة، شديدة الثراء وشديدة التعقيد، وبصراحة، شديدة الصعوبة أيضًا.

وبصراحة مماثلة أيضًا أقول إن علم الشبكات لا يمتلك كل الإجابات بعد؛ فعلى الرغم من إغراء المبالغة في أهمية ما توصلنا إليه من نتائج، فالحقيقة هي أن الجزء الأكبر من العلم الفعلي هنا يتضمن تصويرًا شديد البساطة لظواهر شديدة التعقيد. يُعد البدء ببساطة مرحلة ضرورية لفهم أي شيء معقد، والنتائج المستمدة من النماذج البسيطة لا تكون مؤثرة فحسب، لكن مبهرة للغاية أيضًا. فمن خلال إبعاد التفاصيل المُحيرة لعالم معقد والبحث عن أصل مشكلة ما، يمكننا في كثير من الأحيان معرفة أمور عن الأنظمة المتشابكة ما كنا لندركها أبدًا عن طريق دراستها مباشرةً. لكن ذلك له ثمن، وثمن ذلك هو أن الأساليب التي نستخدمها تكون نظرية غالبًا، والنتائج يصعب تطبيقها مباشرةً على مواقف واقعية. وهو ثمن ضروري، ولا مفر منه في الواقع، إذا كنا نرغب حقًّا في تحقيق التقدم. فقبل تصميم المهندسين للطائرات، كان على الفيزيائيين أولًا فهم المبادئ الأساسية للطيران، وذلك هو الحال أيضًا مع الأنظمة المتصلة بشبكات. سنتأمل في الصفحات التالية التطبيقات الواعدة لنماذج الشبكات البسيطة؛ أي إننا سنحاول تخيل ما ستبدو عليه الطائرات المذهلة في النهاية. لكن في نهاية المطاف، يجب أن نتحرى الأمانة ونفرق بين التأملات وبين العلم ذاته، ومن ثم، إذا كنت تبحث عن إجابات فعليك بقراءة الكتب التي تدَّعي زيفًا أنها تقدم تلك الإجابات. إن العلم لا يمكن أن يصبح فعالًا ومؤثرًا إلا بتحديد ما يمكن لهذا العلم تفسيره، وما لا يمكنه، والنظريات التي تخلط بين الأمرين تضرنا ولا تنفعنا.

ما يمكن لعلم الشبكات فعله — حتى في وقتنا الحالي — هو منحنا أسلوبًا مختلفًا للتفكير في هذا العالم، ومن ثم مساعدتنا في إلقاء ضوء جديد على مشكلات قديمة، ولتحقيق هذه الغاية، يضم هذا الكتاب قصتين في قصة واحدة؛ فهو أولًا يتناول علم الشبكات نفسه: من أين أتى، وما الذي اكتُشف، وكيف. وثانيًا: يعرض الكتاب ظواهر العالم الحقيقي التي يحاول علم الشبكات فهمها؛ كالأوبئة والصيحات الثقافية الجديدة والأزمات المالية والابتكار المؤسسي. وتسير هاتان القصتان بالتوازي على مدار الكتاب، لكن هناك بعض الفصول التي تؤكد على نقاط بعينها؛ فالفصول من الثاني إلى الخامس، في الغالب، تتناول الأساليب المختلفة لفهم شبكات العالم الحقيقي، وكيفية مساهمة فروع المعرفة الأكاديمية المتعددة في عملية الاكتشاف، وكيف بدأت علاقتي بهذا الأمر من خلال عملي مع ستيف ستروجاتس على شبكات العالم الصغير، وكيف تطور هذا العمل ونما على مدار أعوام منذ ذلك الحين. أما الفصول من السادس إلى التاسع، فتركز أكثر على التفكير في العالم من منظور متشابك، وتطبيقه على مشكلات مثل انتشار الأمراض والصيحات الثقافية الجديدة والابتكار في العمل، بدلًا من التعامل مع الشبكات نفسها باعتبارها موضوعات الدراسة.

مع أن كل فصل يعتمد على الفصول السابقة له، فليس من الضروري قراءة الكتاب كله من البداية إلى النهاية؛ فالفصل الأول يعرض السياق الذي تدور فيه القصة، في حين يُفصِّل الفصل الثاني خلفيتها، وإذا أردت تخطي هذين القسمين والانتقال مباشرةً إلى العلم الجديد، فيمكنك ذلك (لكن ثمة أمورًا ستغفل عنها)، ويرتبط كلٌّ من الفصل الثالث والرابع والخامس معًا، فتعرض هذه الفصول إنشاء النماذج المتعددة للنظم الشبكية وتأثيراتها، خاصةً ما يُعرَف باسم نماذج شبكات العالم الصغير والشبكات عديمة المعيار التي تناولتها الكثير من الدراسات الحديثة. أما الفصل السادس فيناقش تفشي الأمراض وفيروسات الكمبيوتر، ويمكن قراءته دون الرجوع كثيرًا إلى الفصول السابقة. ويتناول الفصلان السابع والثامن موضوعًا ذا صلة، لكنه مختلف في الوقت نفسه، ألا وهو العدوى الاجتماعية وما تخبرنا به بشأن الصيحات الثقافية الحديثة والاضطرابات السياسية والفقاعات المالية. ويناقش الفصل التاسع القوة المؤسسية، والدروس المستفادة منها للشركات الحديثة، ويلخص الفصل العاشر القصة بأكملها، مع تقديم نظرة عامة مختصرة عن الوضع الحالي.

يحمل هذا الكتاب تاريخًا، شأنه شأن القصص التي يرويها، وهو تاريخ يتضمن عددًا كبيرًا من الأشخاص، فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، مثَّل المعاونون لي وزملائي مصدرًا دائمًا للأفكار والتشجيع والحماس والترفيه؛ أخص بالذكر هنا دانكن كالاواي، وبيتر دودز، ودوين فارمر، وجون جيناكوبلوس، وآلان كيرمان، وجون كلاينبيرج، وآندرو لو، ومارك نيومان، وتشاك سابيل، وجيل سترانج. كان من الصعب كتابة هذا الكتاب دونهم، لأنني ما كنت لأجد ما أكتب عنه؛ فحتى أفضل الموضوعات لا تكفي وحدها. ودون تشجيع جاك ريبتشيك من دار نشر نورتون، وآماندا كوك من شركة بيرسيوس، ما كنت لأبدأ أبدًا، ودون التوجيه الرقيق من أنجيلا فون دير ليب، محررتي بدار نشر نورتون، ما كنت لأنتهي من الكتاب أبدًا. وأتوجه بالشكر أيضًا إلى الكِرام: كارين باركي، وبيتر بيرمان، وكريس كالهون، وبريندا كوفلين، وبريسيلا فيرجسون، وهيرب جانس، وديفيد جيبسون، وميمي مانسون، ومارك نيومان، وبافيا روساتي، وتشاك سابيل، وديفيد ستارك، وتشاك تيلي، ودوج وايت، وبخاصة توم ماكارثي، الذين تطوعوا لقراءة المسودات المختلفة والتعليق عليها. هذا وقد قدَّم لي جورجي كوسينتس مساعدة لا تقدر بثمن في إعداد الأشكال العديدة، كما نفَّذت ماري بابكوك عملًا شديد الدقة في تنقيح النصوص.

وعلى مستوى أكثر شمولًا، فإنني شديد الامتنان لعدد من الأشخاص بجامعة كولومبيا: بيتر بيرمان، ومايك كرو، وكريس شولز، وديفيد ستارك، بالإضافة إلى موراي جيلمان، وإلين جولدبيرج، وإريكا جين من معهد سانتا في، وآندرو لو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ لمنحهم إياي الحرية والدعم للسعي وراء اهتماماتي الأنانية التي أتت في بعض الأحيان على حساب مصلحتهم. هذا وقد قدَّمتْ كلٌّ من المؤسسة الوطنية للعلوم (بموجب المنحة رقم ٠٠٩٤١٦٢)، وشركة إنتل، ومعهد سانتا في، ومعهد الأرض بجامعة كولومبيا، دعمًا ماليًّا لعملي في التدريس والأبحاث، بالإضافة إلى سلسلة من ورش العمل المتخصصة في سانتا في ونيويورك، التي انبثق منها العديد من المشروعات وصور التعاون. لكن من بين العدد الكبير من الأشخاص المؤثرين، سواء في حياتي المؤسسية أو الشخصية، الذين عادوا عليَّ بالنفع، يبرز شخصان على وجه التحديد: الأول هو ستيف ستروجاتس، الذي كان ناصحًا ملهمًا، وخير معين، وصديقًا مخلصًا على مدار أعوام، أما الآخر فهو هاريسون وايت، الذي جاء بي لأول مرة إلى كولومبيا، وقدمني لأول مرة أيضًا إلى معهد سانتا في، وأدخلني أخيرًا في مجال علم الاجتماع؛ فدون هذين الرجلين، ما كان أي شيء من هذا ليصبح ممكنًا.

وأخيرًا، والدَيَّ. قد يكون من الحماقة تخمين مقدار تأثير نشأة المرء على مسار حياته، لكن في حالتي، تبدو بعض الأمور واضحة؛ كان والدِي أول عالم عرفته في حياتي، وهو أيضًا أول من أرشدني إلى متع البحث الإبداعي وآلامه، فضلًا عن تحفيزه، بطريقته الخاصة، لعملية التفكير الكاملة التي تمخَّض عنها هذا الكتاب. في تلك الأثناء، لم تعلِّمني أمي كيف أقرأ وحسب، بل طَبعتْ في ذهني أيضًا، في سن مبكرة، أن الأفكار لا تكتسب قوتها إلا عندما يفهمها الناس. وقد منحاني معًا، من خلال نموذج حياتهما شديد التميز، الشجاعة لتجربة أشياء ما كنت لأفكر أبدًا أنها من الممكن أن تنجح. ولهما أهدي هذا الكتاب.

نيويورك سيتي
مايو ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤