تمهيد

كلمة عن مسلسل «فارس بلا جواد»

ابتداءً من أكتوبر عام ٢٠٠٢ ولفترة طويلة، أحدث المسلسل المصري «فارس بلا جواد» — بطولة الفنان محمد صبحي — ضجة سياسية وفنية لفتت إليه أنظار العالم. ومن الآثار السياسية العالمية لهذه الضجة، أن قدمت السفارة الأمريكية في مصر احتجاجًا على عرْض المسلسل؛ لأنه يعادي السامية، لاعتماده على كتاب «بروتوكولات حُكماء صهيون». وقد أذاعت شبكة ABC الفضائية الأمريكية خبرًا حول هذا الموضوع، ونقلَتْ عن إبراهام فوكسمان — رئيس مكتب مكافحة العداء للسامية في نيويورك — نقْدَه للحكومة المصرية، لسماحها بعرض مسلسل يزيد الكراهية لليهود. كما طالب نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بمنع المسلسل أيضًا، فقام أعضاء لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان المصري برفض هذه المطالب وهذه الاحتجاجات.

ومع قُرب عرض المسلسل في أكثر من ٢٢ قناة تلفزيونية عربية وفضائية، تطوَّر الأمر إلى الدعوة بسحب السفير الإسرائيلي من القاهرة، والتهديد باللجوء إلى اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة الأمريكية، للعمل على وقْف المساعدات المالية لمصر؛ لأن مصر انتهكت معاهدة السلام بعرضها لهذا المسلسل. ووقف الفنانون والمثقفون المصريون موقفًا إيجابيًّا ضد الحملة الإسرائيلية، وأصدروا بيانًا أكدوا فيه حرية الفنان في إبداء رأيه الفني، وأنه حق يكفله الدستور. كما أكدوا أن المسلسل عمل درامي لا يُشكل أي تهديد للسامية.

وقد قامت بعض الجماهير في أمريكا، بالتجمع أمام السفارة المصرية بواشنطن، مطالِبة بوقف عرض المسلسل، وقام أيضًا أعضاء الكونجرس الأمريكي بمطالَبة الرئيس محمد حسني مبارك بوقف المسلسل، فأدان أحمد ماهر وزير الخارجية المصري هذه الضجة المفتعلة وغير المبررة. كما قام مركز المعلومات والوثائق الإسرائيلية في لاهاي بهولندا، بتنظيم مظاهرة أمام السفارة المصرية اعتراضًا على المسلسل. أما نبيل فهمي سفير مصر لدى أمريكا، فقد فنَّد الافتراءات التي تضمنَتْها افتتاحية صحيفة واشنطن بوست، بخصوص انتقاداتها للحكومة المصرية، لعدم منعها عرض المسلسل.

وقد أكد الرئيس حسني مبارك لنظيره الإسرائيلي، بأن المسلسل ليس له أي طابع معادٍ للسامية. ثم طالبت إسرائيل مفوَّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بتوجيه اللوم إلى مصر، بزعم معاداتها للسامية من خلال عرضها للمسلسل. وقد حاوَلَتْ جماعات يهودية متطرفة في أوروبا، طرْد الفنان محمد صبحي من أية دولة يحاول زيارتها، مع إغلاق المكاتب التابعة للمحطات التلفزيونية، التي ستبث المسلسل، مع فرْض عقوبات على هذه المحطات.

ووَصَلَتْ ضجة مسلسل «فارس بلا جواد» إلى مواقع الإنترنت، حيث طَرَحَ موقع BBC موضوعًا للمناقشة، ومِنْ ثَمَّ تلقَّى مشاركات زوار الموقع، وكان الموضوع المطروح هو: «اعترضت الولايات المتحدة وإسرائيل على بثِّ مسلسل فارس بلا جواد، الذي ثار حوله جدل في وسائل الإعلام العربية، بين القائلين بأنه يفضح مؤامرة يهودية، ومن يرَوْن أنه يعتمد على كتاب بروتوكولات حُكماء صهيون، الذي أكد باحثون عرب أنه عمل ساذج ومدسوس، ويخلو من المصداقية.»١

وبالرغم من حدوث هذه الضجة السياسية، فقد تم عرض المسلسل في معظم القنوات التلفزيونية العربية والفضائية، وبدأت الأقلام تكتب عن حافظ نجيب واعترافاته، ومدى الصدق التاريخي فيها، ومدى الْتزام المسلسل بما جاء في الاعترافات من أحداث. كما قام الفنان محمد صبحي بالدفاع عن عمله، من خلال توضيح بعض الأمور، منها أن المسلسل يعتمد على الحقبة التاريخية، التي اعتمدتها «اعترافات حافظ نجيب»، الذي قاد المقاومة ضد الإنجليز. وأن إعجابه بحافظ نجيب كان بسبب قدرته على التنكر، وهو أمر اكتسبه من صديقه عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. هذا بالإضافة إلى إخلاصه لقضيتين؛ الأولى: التخلص من الاحتلال الإنجليزي. والأخرى: إحباط المخططات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين. ولأنه مشغول بكشف بروتوكولات حكماء صهيون، ويراها أساسًا للصهيونية ومشروعها؛ فقد وجد صبحي في «اعترافات حافظ نجيب»، خلفية درامية خصبة لتقديم عمل يكشف هذه البروتوكولات، خصوصًا علاقة حافظ نجيب بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. كما أنكر محمد صبحي ما شاع عن حافظ نجيب بأنه محتال ونصَّاب، وأكَّد أن هذه الاتهامات لا أساس لها، ولكنها شائعات أراد قائلوها تشويه المسلسل، وتشويه الدور الوطني لحافظ نجيب!

وبسبب نجاح مسلسل «فارس بلا جواد»، وجدْنا أكثر من شخص يدَّعِي أنه صاحب فكْرته، بل ويطالب بحقه في المحاكم. ومنهم، طلعت نجيب المحامي، الذي رفع دعوى ضد محمد صبحي واتحاد الإذاعة والتلفزيون وقناة دريم الخاصة، اتهمهم فيها بالاستيلاء على قصته «مع القَدَرِ وجْهًا لوجْه»، التي عالَجَتْ قصة حافظ نجيب، وطالب بانتداب خبير لمقارنة قصته بقصة مسلسل فارس بلا جواد. ولكن قاضي الأمور الوقتية بمحكمة القاهرة، رَفَضَ طلبه بسبب عدم تقديمه ما يُثْبِت بأنه صاحب فكرة قصة المسلسل. ثم وجدْنا فضل عفاش — الكاتب والروائي السوري — يرفع قضية أخرى، يتهم فيها أيضًا محمد صبحي بأنه استولى على قصته «أنا لا أحبك يا وطني»، وحوَّلَها إلى مسلسل فارس بلا جواد.٢
fig1
غلاف المجلد الأول لمجلة «المشرق» عام ١٨٩٨.

هذه خلاصة الضجة التي أثيرت حول المسلسل. ومهما يكُنْ من أمْرِ التزامِ أو مخالفةِ المسلسل، لما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»، التي تُعْتَبَر الأساسَ الأول لفكرته، فإن القائمين على ظهور المسلسل بهذه الصورة، قد وُفِّقُوا إلى حد كبير في الوصول إلى أهدافه الفنية والسياسية. فالمسلسل كان أكبر دعاية لإعادة قراءة كتاب «بروتوكولات حُكماء صهيون»، وبثِّه في أكثر من موقع من مواقع الإنترنت، وبالتالي إتاحة الفرصة للجميع لقراءته وتفهُّم ما فيه من مُخطط صهيوني، ظهرت نتائجه — وما زالت تظهر بقوة — في وقتنا الحاضر. هذا بالإضافة إلى أن المسلسل أعاد للأجيال الحالية فترات زمنية تاريخية، كادت أن تُنسى، مثل الحلقة الخاصة بمذبحة دنشواي.

أما على المستوى الشخصي، فقد أجاب المسلسل على تساؤل كان محيِّرًا لي منذ فترة طويلة، مفاده: لماذا ادَّعَتْ إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام المصرية؟! وأظن أن القارئ لم يَنْسَ الضجة التي أُثِيرَتْ حول هذا الأمر، وكمَّ الكتابات النافية لهذا الادعاء. وما زاد من حيرتي أمام هذا الادعاء، أنني قرأت كمًّا كبيرًا من الكتابات عن الآثار اليهودية المكتَشَفة في مصر! تلك الاكتشافات التي تبنَّى الكتابة عنها الأب لويس شيخو في مجلته «المشرق» في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين!

فقد ذكر لويس شيخو أن العالم الأثري الدكتور بيتري، اكتشف بلاطة عليها كتابة هيروغليفية لرعمسيس الثاني وابنه منفتاح، تؤكد أن منفتاح استعبد شعوبًا متعددة ومن جملتها إسرائيل، وأكد هذا الأمرَ العالِمان شاباس والأب يوسف أوتفاج. كما ذكر أن إقامة بني إسرائيل في مصر بلغت ٢١٥ سنة، منذ دخول يعقوب وذريته في أرض الفراعنة، وأن العالِم كلرمون غانو اكتشف في جزيرة اليفانتين أو جزيرة أسوان في مصر، آثارًا تدل على موقع مدينة «يب» اليهودية، ووجد فيها ١٢٤ قطعة من الخزف، عليها كتابات آرامية، كتبها في القرن الخامس قبل الميلاد قومٌ من اليهود المستعمَرين في تلك الجزيرة. كما تم اكتشاف مجموعة من البرديات، مكتوبة من قبل يهود الجزيرة أيضًا. وكان أهم اكتشاف في هذه الجزيرة، هو اكتشاف بقايا الهيكل، الذي بناه اليهود في الجزيرة نفسها، وهو يتشابه إلى حد كبير مع هيكل سليمان في فلسطين.٣

ومن الغريب أنني لم أجد باحثًا أو عالمًا أثريًّا عربيًّا واحد، فَنَّدَ هذه الادعاءات في وقتها! أو على أقل تقديرٍ كَتَبَ رأيه العلمي في المجلة نفسها، سواء بالإثبات أو بالإنكار! رغم أن لويس شيخو نفسه، أظهر نيته السيئة بذكر هذه الأخبار، عندما قال في مجلته (المشرق، ١ / ١ / ١٩٠٨، صفحة ٥٥): «وخلاصة القول قد أَظْهَرْتُ بهذه المكتشفات العلاقةَ بين تلك الآثار الآرامية الجليلة، وبَرَزْتُ إلى الوجود صفحةً عزيزة من تاريخ بني إسرائيل بعد جلائهم. وما يزيد الأمر قدْرًا أن معارفنا عن ذلك العهد كانت أعزَّ من بيض الأنوق، لا نكاد نعلم شيئًا من أمر اليهود، منذ عهد نحميا وعزرا إلى مُلك الإسكندر، فجاءت هذه الكتابات تسدُّ بعض الخلل في ذلك.»

ولعل القارئ يتساءل: ما علاقة هذا الأمر بمسلسل فارس بلا جواد؟ والإجابة على هذا السؤال، ظهرت في إحدى حلقات المسلسل، عندما اتفق بعض اليهود مع الخواجا دي ماسون العالِم الأثري الأجنبي — وهو محمد صبحي متنكرًا — بأن يعطوه بعض الآثار اليهودية، كي يضعها ضمن الآثار المكتشفة في مصر، مقابل رشوة مالية! هذا المشهد فسَّر لي ما قاله لويس شيخو عن اكتشاف الآثار اليهودية في مصر منذ أكثر من مائة عام! كما فسَّر لي أيضًا لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام! فإذا كان المسلسل فضَحَ هذه المؤامرة الصهيونية، وكشف النقاب عن أسلوب اليهود في غرس آثارهم، وبالتالي وجودهم في تاريخ الشعوب العربية، فيكون المسلسل قد نجح في هدفه السياسي عن طريق الفن!

ومن عجائب القدر، أن مسلسل «فارس بلا جواد»، لم يكن أوَّل عمل فني يُعْرَض على الجمهور عن مغامرات حافظ نجيب! فقد قام حافظ نجيب منذ عام ١٩١٥ إلى عام ١٩٢١، بتمثيل مغامراته بنفسه أمام الجمهور، من خلال مجموعة من المسرحيات، ألَّفَها حافظ عن حوادثه ومغامراته. ومن هذه المسرحيات: «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة»! وسوف نتعرف على هذا الأمر بالتفصيل لاحقًا.

ومن عجائب القدر أيضًا، أن حافظ نجيب وقبل وفاته عام ١٩٤٦ بدقائق معدودة «كان يناقش أحد المخرجين السينمائيين، محاولًا الاتفاق معه على تمثيل إحدى مغامراته»،٤ ولكن قدر الموت مَنَعَ هذا العمل الفني، ليأتي الفنان محمد صبحي، ويحقق أمنية حافظ نجيب بعد مرور ستين سنة! ومن عجائب القدر أخيرًا، أن الفنان محمد صبحي تنكَّر فنيًّا في شخصية حافظ نجيب عام ٢٠٠٢ في مسلسل «فارس بلا جواد»، مثلما تنكَّر حافظ نجيب في شخصية «محمد صبحي أفندي» عام ١٩٠٩ في إحدى مغامراته، عندما كان يسكن في شارع أبو السباع عند سيدة إيطالية تُدعى مادلين.٥ وكأن القدر كتب على فرد منهما، أن يُمثل دور الآخر!

وإذا أردنا أن نتطرق إلى مسلسل فارس بلا جواد، وعلاقته بكتاب «اعترافات حافظ نجيب»، سنجد أن شخصية حافظ في المسلسل، تختلف اختلافًا كبيرًا عن حافظ نجيب في اعترافاته. فالمسلسل يُظْهِر حافظ نجيب بطلًا شعبيًّا وقوميًّا، نذر حياته لمقاومة الإنجليز، وإحباط المحاولات الصهيونية في المنطقة العربية، متخِذًا من التنكر والهروب الدائم وعلاقاته النسائية، وسائل للوصول إلى غايته الوطنية السامية.

ورغم أن هذا الوصف بعيدًا كل البعد عن حافظ نجيب في اعترافاته، إلا أن عدة أسطر قليلة جاءت في هذه الاعترافات، تشير إشارة غامضة، بأن دورًا وطنيًّا قام به حافظ نجيب في يوم ما، أثناء مرض الزعيم مصطفى كامل، واستمر هذا الدور لفترة قصيرة بعد وفاة الزعيم! وهذه الإشارة اليسيرة، كانت الأساس الذي بُني عليه الدور الوطني لحافظ نجيب في المسلسل. وبسبب الشكوك المثارة حول وطنية حافظ نجيب، وتصادمها مع ما عُرف عنه بالنصب والاحتيال، نتوقف قليلًا هنا لنبين حقيقة هذه الإشكالية!

جاء في اعترافات حافظ نجيب، أنه ابتعد عن زوجته الكونتس سيجريس، فوجد نفسه ضائعًا لا أمل له، فأدمن الخمر أملًا في نسيانها، ونسيان كل ما يحيط به من ضياع. وعندما فشل، فكَّر في الرهبنة عام ١٩٠٨ — رغم أنه مسلم! — قائلًا: «استعرضْتُ الماضيَ كله فكان سلسلة من أنواع الشقاء وألوان العذاب، وحددت حالي في المجتمع، فرأيته صورة لإنسان لا تربطه بالجماعة أية رابطة، مِنْ نوْع ما بين الناس وبعضهم. ليس لي أهل، ولا أقارب، ولا أصدقاء، ولا عمل منظم، ولا عقل مركز، ولا هدف، ولا استقرار، ولا أمل. فما هي قيمة الحياة في نظر هذا الإنسان؟ وما هي الضرورة التي تُرْغِمه على البقاء وسط الجماعة، معزولًا عنها؟»٦
ورغم هذا الإحباط الواضح من كلماته المريرة، والتي توحي بأنه سيُقْدم على الانتحار لا محالة! نجده يقول: «عقدْتُ العزم على دخول الدير والترهب. وعرضْتُ الأمر على بعض الزملاء، المشتغلين بالسياسة من مُنْشئي النهضة الوطنية، فحبَّذوا رأيي.»٧ وهذا القول يتناقض مع نفسية حافظ نجيب في هذا الوقت، عندما اعترف بعدم وجود أية رابطة بينه وبين المجتمع، ولا يوجد له أهل أو أقارب أو أصدقاء أو عمل أو عقل أو هدف … إلخ! فكيف يَعْرِض أمْر ترهُّبه على رجال السياسة؟! ومن هم هؤلاء الرجال؟!
نلاحظ أن قوله: «من مُنْشِئي النهضة الوطنية»، يقصد به رجال الحزب الوطني، وتحديدًا يقصد الزعيمين محمد فريد ومصطفى كامل، رغم عدم تصريحه بالأسماء، ولكن فحوى كلامه دلَّ على ذلك، عندما قال: «وقال أحدهم: «يجوز أن يكون الدير وسيلة لذهابك إلى الحبشة في منصب مطران الحبشة، وذلك البلد لا يزال مستقلًّا، ومنصب المطران هناك منصب عظيم جدًّا، واحترام الأحباش للجالس على كرسيِّ المطرانية أعظم من إجلالهم للجالس على العرش.» وقال الثاني وهو على فراش مرضه الأخير: «وفي مقدور المطران المثقَّف ثقافة عالية أن ينشئ هناك جيشًا يعلم ضباطه في النمسا أو ألمانيا، فيصير في مقدوره اغتصاب السودان وإنقاذ مصر من المحتلين.» وقال الأول: «هذا سر خطير … فاحتفظ به لنفسك، ولا تُيسِّر لأي صديق معرفته».»٨

ومن الواضح أن المتحدث الأول في الحوار السابق هو الزعيم محمد فريد، والمتحدث الآخر هو الزعيم مصطفى كامل، الذي كان على فراش مرضه الأخير في هذا الوقت، ولكن الغريب في الأمر، أن هذه الإشارة التي تدل على علاقة حافظ نجيب بهذين الزعيمين وعلاقته بالحزب الوطني، لم يكن لها أي تقديم أو تمهيد في الاعترافات قبل ذلك، حيث إن هذه الإشارة جاءت عام ١٩٠٨، والاعترافات تنتهي في عام ١٩٠٩! وبالرغم من ذلك فنحن لا نملك أي دليل على هذه العلاقة، سوى ما جاء عنها في هذه الاعترافات.

ونعلم من الاعترافات أيضًا، أن حافظ نجيب بعد هذه المقابلة، أصبح الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي، ثم الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وعندما مات مصطفى كامل في ١٠ / ٢ / ١٩٠٨، رثاه الراهب فيلوثاؤس أو حَافِظ نجيب بِقَصِيدَتَيْنِ، تَمَّ نشرهما في جريدة الوطن، فنال الراهب شهرة واسعة كشاعر، فطلب مقابلته غبطة البطريرك في القاهرة، ولكن الراهب أو حافظ نجيب خشي أن ينكشف أمْره، فلم يذهب إلى مقابلته، ولكنه ذهب إلى مكان آخر، قال عنه: «سافرْتُ في صباح النهار الثاني إلى القاهرة، وإلى بيت المرحوم محمد بك فريد، بدلًا من مقابلة البطريرك. واستاء المرحوم من قصدي إليه، وأنَّبَنِي في غضب شديد، بسبب نشر المرثيتين في الصحف، وبسبب ما أحدثا من الضجة حول الراهب الشاعر، وقال: «لقد ذَهَبْتَ إلى الدير لتختفي فيه وتعتزل العالم وقتًا طويلًا، لينساك الناس ولتصل من الدير إلى الهدف الذي تهدف إليه، فمِن الحماقة التي لا تُغْتَفَرُ ما فَعَلْتَ؛ لأنه أحْدَثَ ضجة تمنعك من البقاء في الدير».»٩
وهنا نجد الأمر يتطور بالنسبة إلى وطنية حافظ نجيب، حيث يُشير الكلام السابق، أن الزعيم محمد فريد كان على علم بأن حافظ نجيب دخل الدير من أجل هدف معين، وهذا الهدف خطير وسري جدًّا! ولكن بكل أسف لم نعلم ما هو هذا الهدف، ولم يوضحه حافظ نجيب في اعترافاته، بل زاده غموضًا مصحوبًا بالتشويق، قائلًا: «كنت أتصل بالجهة السياسية التي نصَحَتْ لي باللجوء إلى الدير بالمراسلة، أرسل كتبي بعنوان رجل مسيحي كاتب بمكتب إسماعيل الشيمي المحامي، وكانت الإجابات تُرْسَل إلى وعليها توقيع عمتي المسيحية.»١٠
وهذا الأمر يشير إلى أن حافظ نجيب كان يقوم بمهمة سياسية معينة، لصالح الحزب الوطني، بدليل هذه الرسائل المتبادلة، تلك الرسائل التي كانت تحمل أسرارًا خطيرة وَصَفَها حافظ في اعترافاته بأنها: «أسرار غاية في الخطورة؛ لأنها في الأيام الأخيرة كانت تُلِحُّ عليَّ بترك الدير والعودة إلى القاهرة لتنفيذ أغراض سياسية لتلك الجهة.»١١
وفي إشارة نادرة، وجدْنا حافظ نجيب يسرد واقعة صريحة، تعامل فيها مع الزعيم محمد فريد، قائلًا: «كانت الصحف القبطية تهاجم في عنفٍ الأديرةَ القبطية بسبب خروجي من الدير، فصار اسم الراهب حديث الجميع. واستغل محمد بك فريد هذه الضجة فدفع لي مالًا لأنفق منه لتحضير حفلة عشاء أدعو إليها جماعة من عظماء الطائفة القبطية ورئيس الحزب الوطني والشيخ عبد العزيز [جاويش]، فتمَّت الحفلة في فندق ناسيونال بتاريخ ٢ ديسمبر ١٩٠٨، ونجح محمد فريد في خطته، وبدأت علاقات ودية جديدة بين بعض إخواننا الأقباط المثقفين والحزب الوطني.»١٢
وعلى الرغم من صراحة هذه الإشارة، فيما يتعلق بالمال المدفوع من قِبَل محمد فريد، وعلاقته بحافظ نجيب، فإن الشك يحوط هذا الموضوع بصورة كبيرة! لأن حافظ نجيب ذَكَرَ هذه العلاقة فقط في اعترافاته عام ١٩٤٦، ولكنه أَنْكَرَهَا ولم يَأْتِ بقصة هذا المال ولم يُشِرْ إلى علاقته بمحمد فريد، عندما ذَكَرَ تفاصيل هذا الموضوع لأول مرة عام ١٩٢٤ في مجلة «العالمين»!١٣

هذا هو كل ما جاء في اعترافات حافظ نجيب، بخصوص وطنيته وعلاقاته برجال الحزب الوطني! ومن الملاحَظ أن هذه الأقوال اليسيرة — بالمقارنة بما في الاعترافات من أحداث — لا تَقْطَع بأن دورًا وطنيًّا قام به حافظ نجيب، كما أنها لا تدل مطلقًا على هذا الدور، لما يحوطها من شك، ولخلوِّها من الأدلة المنطقية أو من ذِكْر الأسماء، أو من ذِكْر الوقائع والأحداث والمغامرات الخاصة بهذا الدور! وهذا أمْر يثير الشك في هذا الدور وفي الاعترافات نفسها! لأن حافظ نجيب أسْهَبَ وأطْنَبَ وفصَّلَ في أحداث كثيرة، تتعلق بهروبه وتنكُّره وعلاقاته النسائية وحياته الخاصة … إلخ، مع ذِكْر الأسماء الحقيقية والأماكن، ودلَّ على أمور خطيرة بذكر أسماء أصحابها، وكان البعض منهم على قيد الحياة وقْت نشر الاعترافات، بل وتحدَّى القارئَ إذا فكَّر في تكذيبه.

فعلى سبيل المثال، نجده في الاعترافات يذكر قصة دخوله الدير، وتنكُّره في شخصيتي الراهب غبريال إبراهيم والراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس، ثم يذكر الأسماء الحقيقية للرهبان والقساوسة الذين تعامَلَ معهم في هذه الفترة، مع ذِكْر وظائفهم ورُتَبهم الدينية وأماكن عملهم في هذا الوقت، وما استجدَّ عليهم من تنقُّلات وترقيات في الوظائف والرتب الدينية التي تمَّتْ بعد ذلك.١٤ ولعل القارئ يسأل: أليس من الممكن أن يكون حافظ نجيب، ذَكَرَ قصة الرهبنة التي تمَّتْ عام ١٩٠٨، وهو آمن ومطمأن من صعوبة تكذيبه؛ لأنه كتبها وتم نشرها عام ١٩٤٦، فإذا كان قد كتبها قبل ذلك بسنوات كثيرة، ربما وَجَدَ من يكذبه؟!
والحقيقة الغائبة أن حافظ نجيب — بالفعل — كتب قصة دخوله الدير، بكل تفاصيلها، ولأول مرة عام ١٩٢٤ في مجلة «العالمين»!١٥ قبل أن يذكرها بتفاصيل أحداثها الدقيقة في اعترافاته عام ١٩٤٦! والأغرب من ذلك، أنه اختتمها بكلمة قال فيها: «هذه قصة وجودي في الدير وخروجي منه، وشهودُها أحياء، القمص إيسيذورس لا يزال حيًّا يُرزق وهو رئيس الدير الآن، ونيافة الأنبا باخوميوس وهو لا يزال أسقف الدير، والقس بطرس وهو الآن مطران أخميم، والقمص باخوم وعاذر أفندي جبران وبيومي أفندي الشناوي وكلهم أحياء، كذلك وكيل الدير تاضروس أفندي ميخائيل لا يزال حيًّا يُرزق في منفلوط.»١٦

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا لم يذكر حافظ نجيب تفاصيل علاقته بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، ولماذا لم يوضح علاقته الحقيقية بالحزب الوطني، أو بالجهة السياسية التي نصحَتْه بالتخفي في الدير، وما هي حقيقة المهام الخطيرة السياسية التي قام بها لصالح هذه الجهة؟! أسئلة كثيرة كان من الواجب على حافظ نجيب أن يجيب عليها في اعترافاته، إذا كان له دور وطني حقيقي؛ لأن هذا الدور إذا صحت حقيقته، لكان هو النقطة المضيئة في اعترافات حافظ وفي حياته بأكملها؛ حيث إن اعترافاته هي عبارة عن مجموعة من النقاط السوداء غير المشرفة لأي إنسان على وجه الأرض! وهذا يجعلنا نَشُكُّ في هذا الدور الوطني، بل ونعلِّل وجوده في الاعترافات بهذه الضبابية، إلى أنه دور وطني مُقْحَم على الاعترافات، لم يكتبه حافظ نجيب بقلمه، بل أُقْحِم على اعترافاته بعد موته!

أما إذا أَرَدْنا أن نتعرَّفَ على حافظ نجيب كما جاء في اعترافاته — بعيدًا عن إشارات وطنيته المشكوك فيها — سنجده إنسانًا جاحدًا لأهله، ضائعًا لا هدف له، يسعى وراء غريزته الحيوانية، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، ويشرب الخمر ليل نهار، ويرتاد الملاهي والحانات، ويقيم علاقات آثمة بالراقصات ويرتكب الموبقات، ويفاخر بإنكار العقيدة والدين ويجاهر بالكفر، ويعترف بالزنى! وبالرغم من ذلك كله نجده ينفي عن نفسه تهمة النصب والاحتيال، ويدافع عن نفسه ضد هذا الاتهام دفاع المستميت، وكأن جريمة النصب والاحتيال أهم وأكبر من ارتكابه للكبائر!

ولعل هاتين الصورتين، هما الصورتان الوحيدتان المعروفتان عن حافظ نجيب، رغم ما يحيطهما من شكٍّ وجدل! فإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الوطني الثائر كما جاءت في المسلسل، وإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الزنديق كما جاءت في الاعترافات! ولكن هناك صورة ثالثة غائبة ومجهولة، لم يَطَّلِع عليها القارئ إلا في إشارات يسيرة، وهي صورة حافظ نجيب الأديب! ولعلها الصورة الحقيقية والواقعية، والتي لا تقبل الشك أو الإنكار؛ حيث إن وثائقها وآثارها وأدلتها موجودة بين أيدينا!

وإذا كنا لا نستطيع أن نضيف جديدًا على صورة حافظ نجيب كما جاءت في المسلسل، لعدة أسباب، منها؛ أولًا: أن معظم القراء تابعوا المسلسل، بسبب الضجة التي أثيرت حوله. ثانيًا: أن المسلسل لم يلتزم بالأحداث التي جاءت في الاعترافات التزامًا حرفيًّا، بل تَصَرَّفَ فيها تصرفًا فنيًّا من الصعب علينا محاسبته في ذلك، تبعًا لرؤيته الفنية والسياسية. ثالثًا: أن أهداف المسلسل الفنية والسياسية أُقيمت على إشارة غامضة عن وطنية ضبابية لحافظ نجيب. وبناء على ذلك لم يَبْقَ أمامنا إلا الحديث عن حافظ نجيب وصورته من خلال اعترافاته وما ينتاب هذه الاعترافات من شكوك، وأخيرًا الحديث عن صورة حافظ نجيب الأديب!

١  انظر: جريدة «الأهرام» ٢ / ١١ / ٢٠٠٢، ٣٠ / ١١ / ٢٠٠٢، جريدة «البيان» ١٩ / ١٠ / ٢٠٠٢، ٣ / ١١ / ٢٠٠٢، ٨ / ١١ / ٢٠٠٢، جريدة «معاريف» الإسرائيلية ٣١ / ١٠ / ٢٠٠٢، موقع إسلام أون لاين، موقع الجزيرة نت، موقع مصراوي، موقع BBC.
٢  انظر: جريدة «البيان» الإماراتية ١ / ١٠ / ٢٠٠٢، ٣١ / ١ / ٢٠٠٣، جريدة «الوطن» ٢٢ / ١٢ / ٢٠٠٢، موقع إسلام أون لاين، موقع مصراوي، موقع الجزيرة نت، موقع أخبار الشرق.
٣  راجع: مجلة «المشرق» ١ / ٩ / ١٩٠٠، ١٥ / ٦ / ١٩٠١، ١ / ٣ / ١٩٠٥، ١ / ١ / ١٩٠٨، ١ / ٢ / ١٩٠٨.
٤  مجلة «الكتاب»، ١ / ١ / ١٩٤٧، السنة الثانية، المجلد الثالث ص٤٩٢.
٥  راجع: مجلة «الحاوي»، عدد ٣، ٢٦ / ٨ / ١٩٢٩، «اعترافاتي».
٦  «اعترافات حافظ نجيب»، تقديم ممدوح الشيخ، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ٢٠٠٣، ص٢٩٦.
٧  «اعترافات حافظ نجيب» ص٢٩٩.
٨  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٢٩٩-٣٠٠.
٩  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣١٥.
١٠  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣٤٥.
١١  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣٤٦.
١٢  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣٥٥–٣٥٧.
١٣  انظر: مجلة «العالمين» عدد ١٤، ٧ / ١ / ١٩٢٤ «قصة الأسبوع» بعنوان: صحن الشمَّام.
١٤  انظر: «اعترافات حافظ نجيب» ص٣٠٣–٣٥١.
١٥  انظر: مجلة «العالمين» عدد ١٦، ٢١ / ١ / ١٩٢٤ «قصة الأسبوع» بعنوان: الراهب فيلوثاؤس.
١٦  مجلة «العالمين» عدد ١٦، ٢١ / ١ / ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤