رسالة القصة

تحدثت كثيرًا عن رسالة القصة، وأنا لا أعيد ما قلته سابقًا، فالذي يبدو لي أن سنة واحدة غيرت مجرى تفكيري، وفي هذا العصر من لم يتغير في سنة واحدة يُعَدُّ جامدًا، وتمر عليه الأحداث دون أن يدري، ذلك لأن القصة كأي لون من ألوان الأدب يجب أن تساير العصر وإلا اندثرت، وقد ساءني أننا متخلفون جدًّا عن الركب الحديث، ولقد كتبت «فرجينيا دولف» مقالًا عن القصة الحديثة، فبينت أن أقطاب القصة الذين نجلُّهم أمثال «جالسورتي» و«لونراد» و«أرنولد بنيت» يعدُّون متأخرين، بالرغم من الروائع التي خطتها أقلامهم والتي نقشت نقشها نقشًا في سجلات التواريخ الأدبية، إذا كان هذا هو الرأي في هؤلاء العباقرة، فأين نحن إذن من هؤلاء؟ ولقد كتب أخيرًا القصاص الذائع الصيت «أوفولن» في مجلة المستمع الإنجليزية التي هي لسان حال الإذاعة البريطانية في هذا الصدد، فانتقد القصصي الإنجليزي الحالي والقصصي في العالم عامة نقدًا مريرًا ساخرًا.

على أني يجب أن أفرق أولًا بين القصة القصيرة والقصة الطويلة وأقرر مبدئيًّا أنهما يختلفان تمامًا، وإن كانت بينهم وشائج وأرحام، ولأبدأ أولًا بالقصة الطويلة.

قليل من الكتاب في مصر هم الذين يحاولون القصة الطويلة، وأكثرهم يحاولون القصة القصيرة؛ لسبب بسيط، هو أن الأولى تحتاج إلى «نفس»، وجهد، وتفصيل، ومعاناة، وفهم ودراسة، وسبك، ومبدأ ونهاية، وعقد وحوار وحبكة … إلخ. حقيقة؛ إن لكل شخص «حكاية» وحكاية طويلة يمكنه أن يجلس ليدونها، وإذا اجتمعت بأي إنسان تنهد وقال لك: إن عندي قصة طويلة، طويلة جدًّا ومؤثرة جدًّا، وأريد أن أكتبها، وإذا كنت ناشرًا أو رئيس تحرير لمجلة، وجدت في البريد هذه القصة الطويلة المؤثرة، ولكنها حين تصل إليك وحين تقرؤها تتردد في نشرها، وقد يكون أسلوبها جيدًا ووقائعها حقيقية، فما السبب في ترددك؟ أليست القصة مهما اختلفت ألوانها «حكاية»؟ أليست كل قصة مكونة من وقائع؟ والجدير بالتسجيل منها هو المستمد من واقع الحياة، ولكنك تتردد في نشرها بالرغم من سلامة لغتها وإشراق أسلوبها وديباجتها، وقد تردها «مع الشكر» لصاحبها فيعجب كل العجب لأنك رددتها إليه. وحينما كنت مُحكِّمًا في وزارة المعارف في مسابقة القصص، كنت مكلفًا بقراءة القصص المرسل للمباراة، فقرأت أكداسًا وأكداسًا، فلم أستخلص مما يصلح إلا القليل، القليل جدًّا. تتساءلون الآن ولا شك: هل الحكاية الجيدة السرد المستمدة من الحياة لا تكوِّن قصة؟ إذا كان هذا لا يُكَوِّنُ قصة فماذا يكوِّنها إذًا؟

أجيب على ذلك بأنك تستمع إلى اثنين يقصان عليك قصة واحدة، هي هي بعينها، وقائع وتجارب وتفاصيل، ولكنك تغط في النوم وأنت تستمع إلى الأول، بينما يستأثر الثاني بلُبِّك حتى تلقي ما بيدك مهما يكن هامًّا لتصغي إليه إصغاء تامًّا. السبب في ذلك أن الأول «يحكي كل شيء» فيضيع عليك كل شيء، والثاني يحسن شيئين؛ الاختيار والترتيب Selection & Arrangement، ومعنى الاختيار أنه يعرف ماذا عليه أن يترك قبل أن يعرف ماذا عليه أن يقول، وهذه حكمة النضوج والفهم والتجربة، لا في القصة وحدها، بل في أي عمل أدبي على الإطلاق، وقد كان «تشيكوف» يؤلف القصة في ١٠٠ صفحة أولًا ثم يحذف منها بالتدريج حتى تصل إلى صحيفة أو صحيفتين.

أما الترتيب، فهو ما نعبر عنه «بكيفية العرض»، فأنت قد تقدم فصلًا على آخر أو جملة على أخرى، أو شخصية على أخرى، أو كلمة على أخرى فيفسد الجو كله، والعبرة هنا لا شك بالذوق الأدبي، ويتبين ذلك على أتمه لا في القصة على الخصوص، بل في الشعر، فإنك أخذت البيت الرائع وبدلت في كلماته، محافظًا في نفس الوقت على المعنى وجدت بيت الشعر قد فقد طعمه، ولم يعد شعرًا ولا نثرًا، وقد كان أحد أساتذتنا مغرمًا بقلب القصائد الكبيرة على هذا المنوال، أي بمجرد نقل كلمة مكان أخرى وتقديم الواحدة على الثانية أو تأخيرها، ووضعها أولًا أو وضعها أخيرًا، ولماذا نذهب بعيدًا، خذوا الآية المشهورة: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا انقل كلمة أسفا من مكانها وأنت تشعر في الحال بالقوة التي يحدثها «الترتيب» في العمل الأدبي.

إذن فمجرد السرد لا يُحدث حكاية ولا يُحدث قصة.

تقول لي: ولكنها مستمدة من الحياة. فأقول: إن الواقع المجرد Plain fact لا يحدث تأثيرًا قويًّا. ولقد قال Haglett أن للعمل الأدبي، وخاصة القصة، جناحان؛ القوادم والخوافي، أما القوادم فهي هذا الواقع، أو على حد تعبيري التجربة الواقعية، أما الخوافي فهي «التجربة الشعرية» أعني الظلال والألوان التي يضيفها المؤلف على الواقع.
ولما كانت هذه التجربة الشعرية خاصية لا تتوافر إلا للقليلين أدركنا سر الإحساس الذي يجعلنا نلقي بقصة ما جانبًا ونحن نقول: «مش قوي»، «مش قوي»، وإنما نعني نقص هذه الظلال، فقدان هذه الأصباغ، أو باختصار ضياع الشاعرية المطلوبة في القصة، هاتان التجربتان هما ما نسميه جوهر القصة، وإذا حللناهما تحليلًا أدق وجدناهما يتكونان من الأشخاص والحوار، والعقدة وحل العقدة، والمبدأ والنهاية. على أن بعض المؤلفين يقولون: بل إن هؤلاء ليسوا في الواقع جوهر القصة، بل الشكل الذي تصب فيه القصة form ويقسمون الشكل إلى قسمين: الشكل الميكانيكي، أو الإطار الصناعي، أو القالب. والقسم الثاني: القسم الغريزي inslinctive form، أما الشكل الميكانيكي فهو المتبع بين أكثر الكتاب الكبار، مثل «بينت» و«جالسورتي» و«ولز»، وقد كان «بينت» أكثر الكتاب عناية بهذا الشكل الميكانيكي، بحيث إن الشكل عنده قد شبه ببناء هندسي تام الأبواب والنوافذ بحيث لا نجد منفذًا واحدًا تتسرب الريح من خلاله.

ولكن مبتدع الشكل الغريزي وهو «لورانس» يقول: دعوا القصة تطابق الشجرة النامية؛ أي إنها تنبت جذعًا ثم تتفرع أفرعًا، ثم تورق ثم تثمر.

أي إن شكل القصة يجب أن يتكون من نموها الداخلي، فهو هذا الذي يحدد الشكل الخارجي، بينما المذهب الميكانيكي يبني البيت أولًا ثم يملؤه بالأثاث والسكان، وبعبارة أخرى: مذهب يبدأ من الخارج إلى الداخل، ومذهب يبدأ من الداخل إلى الخارج، على أن المذهب الأخير مذهب «لورانس» و«فرجينيا دولف» مذهب خطير جدًّا، فهو مذهب حر مبني على استجابات ودوافع داروينية محضة، أساسها التفاعل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والبيئة، والإنسان والحوادث، فليس هناك عقدة ولا حبكة، بل تفاعل مستمر، يتضح من ذلك أن القصة تماثل فيلمًا ملونًا سريعًا خاطفًا، ويتضح كذلك أن الفرق بين المبدئين هو الفرق بين ما هو مادي وبين ما هو غير مادي، بين ما هو كلاسيكي يجري على قاعدة ويتقيد بأوضاع، وبين ما هو حر لا يتقيد بأوضاع غير ما تمليه الحياة ذاتها.

وقد يخيل إلينا أن أصحاب المذهب المادي كانوا يعانون في «بناء» القصة نَصَبًا وتعبًا، بينما أصحاب المذهب الحر يستسلمون لفوضى لا تكلفهم أي عناء.

حقيقة إن أبناء المذهب المادي، لكي يكون البناء متناسقًا فخمًا كاملًا، كانوا يعانون مجهودًا ضخمًا جبارًا في سبيل ذلك؛ فإن «فلوبير» كان يحبس نفسه في غرفته أيامًا بحالها من أجل كلمة، وأحيانًا يخرج إلى الشارع كالمجنون وهو يشد شعره.

وقد ذكرت حكاية لطيفة عن «ثاكراي»؛ فقد اعتذر عن ليلة ساهرة لأصحابه؛ لأنه يريد أن يكتب فصلًا في روايته الخالدة «فانيتي فير» فأراد أصحابه أن يداعبوه، فأقبلوا على منزله في آخر السهرة وفاجئوه وهو يكتب، فوجدوا أنه لم يكتب غير اثني عشر سطرًا من خطه المُنَمَّق الصغير.

على أننا يجب أن نصرح أن المذهب الحر، في أيدٍ غير أيدي «وولف» و«جويس» و«لورنس»، يؤدي إلى فوضى لا قرار لها، وقد كان «لورنس» شديد العناية بعمله عناية فائقة، وكان يتوخى تجنب هذه الفوضى التي قد يؤدي إليها المذهب الغريزي في القصة، فما يُروى عنه أنه كان يكتب القصة لآخرها، وأحيانًا كان لا يرضى عنها فيمزقها إربًا ويبدؤها من جديد.

هذا فيما يختص بالمذهبين القائمين اليوم، ولنا عودة إليهما بعد حين.

فالآن أتحدث عن «الأشخاص» في القصة: إن الحديث عن الأشخاص يعود بنا إلى التجربة الشعرية في القصة.

قال «كيتس»: «إن الشاعر أقل الناس شاعرية»، يعني بذلك أنه مرآة تلتقط كل شيء تصادفه، إنها تشرب هذه الشخصية وتندمج في تلك حتى تتلاشى شخصية الشاعر الأصيلة؛ لأنها امتصت كل هؤلاء، وتفسيرًا لهذا نضرب مثلًا له على أتمه في «توفيق الحكيم» و«بيرم التونسي»، فإنهما يجلسان في مجلس السمر صامِتَيْن لا يتكلمان، فإذا انفض المجلس يمكنك أن تستخرج من عقليهما فلمًا كاملًا لما كان وما حدث في أتم صورة وأجلاها، لقد امتصا كل شخصية واستوعبا كل كلمة، فإذا جلس «توفيق الحكيم» ليكتب عكس كل هذا في قصصه عكسًا صادقًا عجيبًا، وإذا جلس «بيرم» ليؤلف زجلًا وجدت هذه الصور مطابقة للأصل مطابقة مدهشة true to type.

هذه الصفة الشاعرية كانت من مميزات «شكسبير» الأولى، والظاهر أنه كان من الطراز الصامت المستوعب؛ لأننا لا نعرف من تفاصيل حياته الخاصة كثيرًا، ولكننا نعرف أنه عرض كل شخصية ممكنة في السجل الآدمي عرضًا صادقًا جبارًا.

إن القصة كما ترون تطورت من السرد المحض إلى السرد المختار، كما هي عند «جين أوستن» و«فيلدنج»، إلى السرد المختار الجيد الترتيب، كما هي في فجر القصة العربية الحديثة، ثم إلى القصة التي لها «شكل» و«جوهر»، وقد تكوَّن هذا الشكل والجوهر في العصر الحديث، العصر المادي من «الواقع»، فالمادية فيه تساوي الواقعية والعكس بالعكس، وتناول علم النفس هذه المادية الواقعية بالتحليل والشرح، حتى صارت القصة أشبه بالجثة تحت مبضع التشريح، وحتى ضاع المذاق الفني للقصة.

تسألونني: وما هو المذاق الفني؟

فأقول: إن القصة كلما تطورت ماشت العصر، حتى أصبحت شغل عقل Clever Brain Work، وكلما زاد عمل العقل في الأدب ارتفع إلى برج منعزل، وغمسته أرستقراطية ذهنية خاصة، وصارت عينه ترى في المجتمع فروقًا وطبقات.

فإذا انتقلنا إلى الفن الروسي عند «دستويفلسكي» و«تشيكوف» وجدنا الوثبة التي كنا نتمناها، وجدنا العقل قد أسلم زمامه للروح، فصارت القصة لا وصفًا لتفاعل الغريزة مع ما حولها ولا لتفاعل العقل، وإنما وصفًا لومضات الروح، وصفًا للأعماق الهائلة التي تسبح فيها الروح البشرية، وما دامت الروح البشرية واحدة، فمن هنا تنمحي الفواصل بين الطبقات. هناك روح واحدة تسر وتتألم، تسخط وترضى، تحب وتبغض، تسف وترتفع، ترسف في القيود أو تطلب الحرية، هناك أعماق واحدة متشابهة.

وصعوبة الفن الروسي هي في أن الذي يحلل الروح البشرية روح مثلها تفهمها وتدرك آلامها وعذابها وحيرتها، الفن الروسي روح حساسة تخاطب روحًا حساسة، عذاب يخاطب عذابًا، آلامٌ تخاطب آلامًا، آمالٌ تناجي آمالًا، الفن الروسي اعترافات، اعترافات متوالية، ولذلك خلا من مبدأ ونهاية، إن عالم الروح غامض فسيح، وكذلك القصة في الفن الروسي، فقد تُنزِل الستار والناس يتحدثون، لم يفرغوا بعد من الحديث.

إن الفن الروسي على حد تعبير «وارنر»: «يقبض على الأبدية في كف، وفي لمحة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤