الفصل السادس

النقل على اليابس

(١) النقل النهري

(١-١) الأنهار في قوالبها الطبيعية

يعد النقل النهري من أسبق وسائل النقل وأكثرها أمنًا في معظم الحالات. كما أنه من وسائل النقل الرخيصة بفضل حمولة القوارب والسفن النهرية الكبيرة. وفضلًا عن ذلك فإننا لا نشك في أن النهر كان المدرسة الأولى لتعلُّم النقل البحري.

وقد بدأ النقل النهري في الأنهار الهادئة ذات الانحدارات المعقولة. وبعبارة أخرى نشأ النقل في كثير من أنهار السهول، ولا زال كذلك عند الجماعات البدائية، ولقد كان النيل الأدنى والفرات وأنهار غرب أوروبا والسند والصين من أقدم الأنهار التي استُغلت في النقل المائي الداخلي.

وتختلف الأنهار فيما بينها ككل عن وسائل النقل الأخرى على اليابس بالصفات الآتية:
  • (١)

    الأنهار لا تحتاج إلى بناء مثل الطريق البري أو الحديدي، بل إنها طريق طبيعي في أساسه.

  • (٢)

    لأنها طريق طبيعي فإن الملاحة تضطر أن تتبعها برغم الانعراجات الكثيرة، وخاصة في الأجزاء الدنيا من الأنهار، حيث تضعف قوة النهر وتكثر الظاهرة الطبيعية المعروفة باسم «مياندر».

  • (٣)

    يمكن استخدام مياه الأنهار في تحريك القارب دون الحاجة إلى طاقة خارجية؛ أي يمكن استخدام طاقة المياه الجارية في تحريك القارب في اتجاه المصبات، كذلك يمكن استخدام الطاقة العضلية للإنسان في توجيه القارب، أو في الصعود عكس اتجاه تيار الماء، ولكن سرعان ما ابتكر الإنسان الشراع لاستخدام طاقة الرياح التي تعطي القارب سرعة وقوة أكبر من الطاقة العضلية، وأخيرًا أمكن إضافة محرِّكات ميكانيكية إلى القوارب وسفن الأنهار وصنادلها.

ولكن الإنسان لم يترك الأنهار التي يستخدمها في الملاحة على طبيعتها أو اتجاهاتها؛ فقد استطاع أن يمد المجاري المائية الطبيعية صناعيًّا إلى حيث يريد، ولكن علينا أن نلاحظ أن الإنسان الذي حفر القنوات لإيجاد طريق اتصال مائي بأنهار أخرى أو بحار مجاورة، لم يستطع في الماضي أن يفعل ذلك إلا مستجيبًا إلى عامل التضاريس؛ لأنه لم يكن قد تمكن بعد من اكتشاف فكرة الأهوسة التي ترفع مناسيب المياه في أجزاء معينة لكي ترتفع القوارب والسفن فوق العقبات التضاريسية. وهذه هي الفكرة التي مكَّنت الإنسان في الوقت الحاضر من اختراق مناطق ذات انحدارات كبيرة. وأكبر مثال على ذلك قناة بنما، ومع ذلك فإن كثرة الأهوسة والأبواب في القنوات تؤدي إلى بطء الحركة وإلى كثرة التكاليف، وهما شرطان لا يتعايش معهما النقل المائي الداخلي المتميز بالرخْص؛ لذلك يفكرون بحفر قناة أخرى غير بنما تمرُّ بمنطقة سهلية في كوستاريكا أو نيكاراجوا.

ولذلك فإن أغلبية القنوات الداخلية بين الأنهار تسير في مناطق التضاريس الملائمة، وأكبر نموذج على ذلك هو أنهار السهل الأوروبي الأوسط.

وهناك نقطة أخرى هامة في عملية ربط الأنهار بعضها ببعض، تلك هي ألا يربط نهر موسمي الجريان بنهر آخر غير موسمي، أو نهران موسميان معًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقل نهري موسمي، وهو أمر نادر ولا يتفق مع اقتصاديات النقل؛ لأن تشغيل الأسطول النهري سوف يتعطل فترة انخفاض مستوى الأنهار.

وفي المجموع نرى أن النقل النهري مرتبط بالظروف الطبيعية التي تسود حوض كل نهر على حدة؛ ولهذا فإنه أكثر وسائل النقل على اليابس ارتباطًا بالظاهرات الطبيعية، فالأجزاء العليا للأنهار غير صالحة للملاحة لكنها تصلح لنقل الأخشاب إلى محطات المناشر. أما أجزاء النهر التي تجري في أودية غير سريعة الانحدار، أو تلك التي تخترق السهول؛ فهي أصلح الأجزاء للنقل النهري، كذلك يعتمد نوع السفن المستخدَمة على طبيعة المجرى من حيث الاتساع أو الضيق، ومدى عمق القاع.

ويمكن أن نقسم أنهار العالم فيما يختص بالنقل إلى قسمين رئيسيين: أنهار المناطق المدارية، وأنهار المنطقة المعتدلة والباردة.

(أ) الأنهار المدارية

هذه الأنهار في مجموعها عبارة عن نُظُم هائلة للنقل إذا ساعدت الظروف الطبيعية والبشرية والاقتصادية على ذلك. من أوضح الأمثلة النظام النهري للأمازون والكنغو، فهما ليسا نهرين، بل مجموعة هائلة من الأنهار التي ترتبط في المجاري الدنيا بمصب واحد، وبذلك فإنها تكوِّن نُظُم نقل تغطي إقليمًا كبيرًا، ويساعد على ذلك أن مستوى المياه في هذه الأنهار يتذبذب بدرجات بسيطة لكثرة الروافد وسيادة نظام المطر الاستوائي الدائم؛ مما يجعل الملاحة صالحة كل أشهر السنة.

لكن هناك مجموعة من الأنهار المدارية التي تتميز بذبذبة واضحة في مستوى الماء الجاري، وهذه هي الأنهار التي تجري في النطاق المداري الفصلي المطر؛ كإقليم السودان الطبيعي، والإقليم الموسمي في آسيا. وتتميز هذه الأنهار بفيضان موسمي مثل النيل أو الجانج أو النيجر والسنغال. والغالب أن الفيضان يحدث في مواسم معينة تساعد على الملاحة خلال ذلك الموسم، وبإضافة الإنشاءات الهندسية على مجاري الأنهار — مثل النيل أو الزمبيزي — تصبح الملاحة ميسرة معظم أشهر السنة. وعلى العموم فإنه برغم صلاحية الأنهار المدارية عامة للملاحة إلا أنه مما يؤخر استخدامها الاستخدام الأمثل في النقل أنها كلها تجري في داخل دول متخلفة أو نامية؛ مما يؤدي إلى حجم محدود في السلع المنقولة؛ وبالتالي ضعف واضح في أساطيل النقل النهرية، حتى لو كانت هذه الدول تعتمد على النهر اعتمادًا رئيسيًّا في شبكة النقل مثل جمهورية زائيري.

(ب) أنهار المنطقة الباردة والمعتدلة

تختلف المكونات الطبيعية والمناخية اختلافًا واضحًا في هذه الأقاليم عن الأقاليم المدارية؛ مما يؤدي إلى اختلافات واضحة بين أنهار كلٍّ من القسمين، فعلى سبيل المثال، نجد أن الأمطار في هذه الأقاليم أقل من الإقليم المداري في كميتها وتختلف عنها في نُظُم سقوطها. لكن الإقليم المداري يتميز بارتفاع في درجات الحرارة؛ مما يترتب عليه ارتفاع درجة التبخر، بينما نجد التبخر أقل كثيرًا في أنهار المناطق المعتدلة.

وتعتمد مناسيب المياه الجارية في أنهار المناطق المعتدلة والباردة على الصفات التضاريسية العامة والمواقع والامتدادات الجغرافية للأحواض العليا لتلك الأنهار. فهناك دون شك فروق كثيرة بين أنهار تقع منابعها في مناطق جبلية أو هضبية عالية، وأنهار أخرى منابعها في مناطق أقل ارتفاعًا، وبين أنهار تحتوي في منابعها على بحيرات كبيرة وأخرى لا تظهر فيها مثل هذه الظاهرات التي تقوم بمثابة منظم لكمية التصريف المائي، وفروق أخرى بين الأحواض العليا لأنهار توجد في مواجهة المطر وأخرى في ظل المطر، وبين أنهار تتعدد منابعها وأخرى تتحدد المنابع فيها بمجرًى وحيد. ولهذه الأسباب — وغيرها كثير — لا يتشابه نهران حتى في حالة جريانهما في منطقة أو إقليم واحد؛ فكل نهرٍ نسيج قائم بذاته.

وعلى سبيل المثال، يختلف المسيسبي عن الأوب؛ فكلٌّ منهما يصرف حوضًا شاسع الأبعاد، تبلغ مساحته ست مرات قدر مساحة فرنسا. لكن ظروف الموقع واتجاه المجرى واختلاف المناخ في أجزاء الحوض تجعل هناك اختلافات شاسعة فيما بينهما؛ فالمسيسبي يجري في سهول معمورة داخل النطاق المعتدل وينتهي على حافة النطاق المداري، بينما نهر أوب يجري في وسط مستنقعات سيبيريا الغربية الهائلة، وفي داخل نطاق بارد في أجزائه الوسطى ونطاق الصقيع الدائم في أجزائه الدنيا؛ ومن ثم فإن الأوب يخترق مناطق قليلة السكان أو نادرة السكان في معظم أقسامه. ويترتب على ذلك أن حركة النقل النهري في المسيسبي أكثف أضعافًا مضاعفة بالمقارنة بالأوب، حتى في أجزاء الأوب العليا؛ حيث يمر النهر بمناطق مأهولة بالسكان بقدر معقول.

ومعظم الأنهار التي تجري في السهول ذات انحدار بطيء، وهذا في حد ذاته يعد عاملًا مشجعًا على استغلال النهر في الملاحة، لكن الانحدار البطيء لا يعني الجريان الهادئ لمياه الأنهار خلال أشهر السنة؛ فهناك مواسم الفيضانات التي تسرع فيها المياه، وقد تصبح خطرة على الملاحة؛ وعلى هذا فإن نظام الجريان لمياه الأنهار هو الذي يحدد، في الواقع، الصلاحية الملاحية للأنهار. وفي هذا المجال يجدر بنا أن نلاحظ عددًا من الظروف التي تتحكم في نظام جريان الأنهار؛ وبالتالي صلاحيتها الملاحية:
  • أولًا: الأنهار التي تتغذى أحواضها من الأمطار المحيطية. وهذه الأحواض النهرية تتلقى الأمطار القادمة من البحار والمحيطات مباشرة، مثل غالبية أنهار فرنسا أو بريطانيا. وفي هذه الأنهار لا نجد تغيرًا كبيرًا في نظام الجريان؛ فالأمطار منتظمة السقوط معظم أشهر السنة، حتى ولو كانت تسقط بكميات غير كبيرة، وإذا كانت هذه الأنهار تجري فوق صخور مسامية — كما هو الحال في معظم الصخور الإرسابية الجيرية في غرب أوروبا — فإن ذلك يصبح عنصرًا مهمًّا في إحداث توازن في كمية المياه الجارية في الأنهار، فالمياه الزائدة تتسرب في الصخور لتعود إلى الظهور في حالة نقصان مستوى الماء في الأنهار. ويزيد في توازن الجريان المائي أن الظروف المناخية في أحواض الأنهار المحيطية تتصف بالانتظام، فلا تعتريها تغيرات مفاجئة كالعواصف العنيفة أو الجفاف النسبي إلا في نادر الأحوال. ويترتب على ذلك أن ذبذبة مستوى الماء تصبح صغيرة، وجريان الماء غير متقلب بين الضعف والعنف، وكلها شروط لازمة لملاحة نهرية دائمة.
  • ثانيًا: أنهار السهول القارية، وهذه تُمثِّل طرف النقيض بالنسبة للأنهار المحيطية. فإذا أخذنا الفولجا والسين كمثالين لَوَضَح لنا اختلاف شديد فيما بينهما؛ ففي الوقت الذي يتغذى فيه السين بأمطار محيطية مباشرة ومستمرة طوال العام، نجد حوض الفولجا يتلقى أمطارًا صيفية قليلة. وفضلًا عن ذلك فإن منابع الفولجا تتجمد خلال أشهر الشتاء. ويترتب على ذلك فيضان عالٍ في الربيع بعد ذوبان جليد الشتاء، وتستمر المياه العالية في الفولجا خلال الصيف نتيجة لسقوط الأمطار. وقد أقام السوفييت الكثير من السدود على نهر الفولجا لأغراض كثيرة، من بينها تنظيم جريان النهر وجعله طريقًا ملاحيًّا هامًّا معظم السنة.
  • ثالثًا: الأنهار التي تجمع صفاتٍ مشتركة بين التأثيرات المحيطية والقارية. وهذه هي الأنهار التي تتغذى بمصادر الجليد الذائب في منابعها، وأمطار الصيف في مجاريها الوسطى والدنيا، مثل اليانجستي والمسيسبي، وتتسم فيضانات مثل هذه الأنهار بسرعة جريان هائلة وارتفاع كبير في منسوب المياه؛ مما يؤدي في أحيان كثيرة إلى إغراق مساحات كبيرة من الأراضي المجاورة؛ فاليانجستي قد يفيض ويُغرق مائة ألف كيلومتر مربع خلال الفيضان في مجراه الأدنى، والمسيسبي يُغرق حوالي سبعين ألف كيلومتر مربع، ويعزل الكثير من القرى والمدن الصغيرة في مجراه الأدنى أيضًا. ومن الطبيعي أن نظام الملاحة يتعرض سنويًّا للتوقف خلال ذروة الفيضان.
  • رابعًا: الأنهار ذات النظم التعويضية، وهذه هي الأنهار التي تتجمد مياه منابعها بينما تسقط أمطار شتوية في بقية حوضها. ويترتب على ذلك أن مستوى الماء لا يعتريه تذبذب كبير؛ فالأمطار تعوض انحباس مياه المنابع المتجمدة، وحينما تنقضي أمطار الشتاء تكون مياه المنابع قد بدأت في الذوبان والجريان، والراين مثال طيب لهذه الأنهار ذات النظم التعويضية.

(ﺟ) بناء الأنهار Strombau أو «تعبيد» الطرق النهرية

سبق أن ذكرنا في فصول سابقة أن الأنهار كانت أُولى وسائل النقل الثقيل التي استخدمها الإنسان منذ فترة طويلة، ولا تزال الأنهار كذلك فيما يختص بالنقل الثقيل داخل اليابس الأرضي. وقد استخدم الإنسان الأنهار على صورتها الطبيعية، متحملًا مخاطرها الطبيعية، وطول طرقها الملتزَمة بكثرة منحنياتها وانثناءاتها، ولا يزال الإنسان يستخدم الأنهار في صورتها الطبيعية حتى الآن في كثير من جهات العالم، مكتفيًا بقدر ضئيل من التعديل والإنشاء الخاص برسو السفن النهرية وتأمين نقل السلع منها أو إليها، وهذا هو شأن غالبية النقل النهري المداري: التزام بالمجاري الطبيعية مهما طالت امتداداتها، والتكيف مع نُظُم جريانها المائي، سواء كان جريانًا دائمًا أو موسميًّا.

ومن ثم فإن النقل النهري المداري يتَّسم بالبطء الشديد. ويترتب عليه أن السلع المحمولة نهريًّا في الأقاليم المدارية تتحدد مواصفاتها بالحجم الكبير واحتمال الزمن الطويل الذي يستغرقه النقل، وتحمل نسبة واضحة من الفاقد. وهذه المواصفات هي بعينها التي تمنع استغلال موارد كثيرة من منتجات الأقاليم المدارية قابلة للتلف نتيجة البطء والفاقد الكبير؛ مثال ذلك الفواكه المدارية سريعة العطب كالموز والمانجو، وبرغم ذلك فإن النقل النهري يؤدي خدمات جليلة في الأقاليم المدارية.

ويتعدى ذلك الأقاليم المدارية إلى بعض أنهار الأقاليم المعتدلة، مثل نهر اليانجستي في وسط الصين؛ فهذا النهر في جزئه الأدنى من الاتساع والعمق بحيث يُسمح باستخدامه دون إنشاءات هندسية مكلفة؛ فسفن البحر تدخل النهر وتتوغل فيه حتى «ووهان» (هانكو قديمًا)، وهي مسافة تبلغ حوالي ألف كيلومتر، ويخدم النقل النهري في حوض اليانجستي عددًا من السكان يزيد على مائتي مليون. وتُستخدم القوارب الشراعية الصينية التقليدية المعروفة باسم Junk في الملاحة في الجزء الأوسط من نهر اليانجستي.
وهناك ما يقرب من ٢٥ ألف قارب من هذا النوع تخدم النقل بين «ووهان» وبنج شانج Ping Chang، عند المندفعات المائية العنيفة المسماة مندفعات إيشانح Ichang، وتُجرُّ القوارب في هذه المندفعات بالحبال. ويقوم عدد كبير من الناس المستقرين في منطقة المندفعات بوظيفة جر السفن إلى أعلى المندفعات. وبعد تخطي هذه العقبة الكئود، التي كانت كثيرًا ما تؤدي إلى غرق بعض السفن، تدخل الملاحة النهرية إقليم ستشوان الغني. وقد أقامت الصين مؤخرًا سدًّا على النهر في هذه المنطقة لتنظيم الملاحة وتوليد الطاقة، وقد ترتَّب على السد المزود بالأهوسة ثورة كبيرة في النقل على اليانجستي، كما ساعد ذلك على تزويد سفن «الجانك» الصينية التقليدية بمحرِّكات لكي تقصِّر زمن رحلتها وتقلل اعتمادها على عمالة «جر الحبال» أو «جر اللبان» في منطقة التيار السريع عند مندفعات إيشانج (راجع الخريطة ٥-٢).

وفي حالات أخرى كان لا بد من توقف الملاحة عند الشلالات والمندفعات المائية العنيفة التيار. ويترتب على ذلك إنشاء طريق بري أو حديدي بحذاء النهر طوال مسافة العقبة، وقد تم ذلك في نهر الكنغو عند شلالات لفنجستون وستانلي؛ حيث مُدَّ خط حديدي بين متادي وكنشاسا لتجنب شلالات لفنجستون، وخط حديدي أقصر بين كيزانجاني وبونتيرفيل لتجنب شلالات ستانلي، ومثل هذه الحالة نجدها أيضًا على نهر مجدلينا في جمهورية كولمبيا.

وعلى العموم فإنه في منسوبٌ معين من الحضارة يصبح النقل المائي عملية ذات أهمية قصوى؛ لأنه — كما قلنا — قادر على نقل السلع الثقيلة بسهولة وبتكاليف قليلة. وحتى القرن ١٩ كانت هناك طرق مائية على جانب كبير من الأهمية، أدت إلى قيام عدد من الأسواق الهامة. وكانت هذه الأسواق تستمد أهميتها من مواقعها على الطرق المائية الداخلية، أو عند ملتقى الطرق البحرية والنهرية، والأمثلة كثيرة نذكر منها لندن وهامبورج ومدن الراين ونيويورك ونيو أورليانز ومدن اليانجستي ومدن أخرى في الاتحاد السوفييتي. وبالرغم من منافسة الطرق الحديدية والبرية، إلا أن النقل النهري لا يزال يتمتع بأهمية واضحة، خاصة تلك الأنهار التي تدخَّل الإنسان في توجيهها بإنشاءاته الهندسية المختلفة.

ويجب ألا ننسى أن قيمة الطريق المائي الداخلي تعتمد على عدة عوامل نذكر منها عدد الأنهار التي تخترق المنطقة واتجاه النهر واتجاه الروافد وطبيعة المجرى والجريان المائي، وكل هذه العوامل تساعد على تكوين شبكة نقل مائي داخلي مهمة، أو تؤدي إلى تكوين شريان واحد للنقل المائي، خاصة إذا كان التكامل الاقتصادي والإنتاجي هو صفة الإقليم الذي يخترقه النهر أو الأنهار المعنية.

وقد عدَّل الإنسان منذ فترة طويلة نسبيًّا مسارات الطرق النهرية لكي تخدم أغراضه في النقل الرخيص. وكانت أنهار المناطق المعتدلة هي التي حظيت بالإنشاءات الهندسية من أجل سد احتياجات النقل الكثيف آنذاك، وخاصة في أوروبا. فمنذ القرن السادس عشر استخدم الماء لنقل الحبوب وخام الحديد، خاصة في المجاري النهرية الملائمة لعمليات النقل الدائم. وكذلك استُخدم النهر في نقل الركاب؛ لأنه أكثر توفيرًا للراحة والهدوء من الانتقال في عربات الخيول. وقد لعب السين واللوار والرون أدوارًا هامة في نقل الأشخاص في فرنسا خلال القرنين السابع والثامن عشر؛ فالمسافر من باريس إلى ليون كان يأخذ «عربة الماء» من باريس حتى أوكزير Auxrre على رافد السين المسمى يون Yonne، ثم يستقل عربة الخيول إلى شالون على نهر الساءون؛ ومن ثم يركب النهر إلى ليون. ولا شك أن رحلات النهر كانت أطول مسافة وزمنًا من الرحلات بواسطة الطرق البرية، لكنها كما قلنا أكثر راحة من الجهد الذي يلقاه المسافر في عربات الخيل.

واليوم لا يتعامل النقل النهري مع الأشخاص أو السلع سريعة العطب أو تلك التي يكون الطلب عليها سريعًا يأخذ صفة الاستهلاك اليومي في الأسواق الكبيرة. لكن دور النقل النهري هام، ونفوذه واضح على مناطق الصناعة، فإنه لا توجد منطقة صناعية لا تستخدم الطريق النهري إلا فيما ندر. وغني عن البيان أن نفصِّل الكلام عن مواقع الصناعة في نشأتها وتطورها الحديث، وعلاقتها الوثيقة بالنقل النهري والمائي الداخلي في بريطانيا (التيمز والمرزي والكلايد)، وفي ألمانيا (الراين والنكر والماين والألب)، وفي فرنسا (السين والرون والميز)، وفي الولايات المتحدة (الهدسن والبحيرات العظمى والأوهايو)، وفي الاتحاد السوفييتي (الدنيبر والدون والفولجا).

وفي الدول النامية تلجأ الصناعة إلى مواقع رابحة على الأنهار والمجاري المائية الداخلية. ومن أهم الأمثلة المعاصرة منطقة حلوان للصناعة الثقيلة في مصر؛ حيث يُستفاد من أسطول حديث من الصنادل النهرية لجلب خام الحديد من أسوان على بعد نحو ألف كيلومتر وجلب موارد الطاقة (فحم وبترول) من الشمال. وبالطريقة نفسها استفادت منطقة الصناعة الثقيلة الهندية من توافق وجود حقول الفحم والحديد متجاورين في حوض نهر دامودار الذي يصب بالقرب من دلتا الجانج. وعلى هذا الأساس قامت مصانع الحديد والصلب وكثير من الصناعات الكيميائية والهندسية في مجموعة من المدن تتراص على طول مجرى دامودار، من أهمها: مدن إزانسول – يايكاينجار، رانيجانج، بورنبور، كولتي، دورجابور.

ولكي يواجه النقل المائي الداخلي الأعباء الملقاة على عاتقه في عصر الصناعة الراهن. كان لا بد من إجراء الكثير من الاستحداثات الخاصة بكفاءة السفن والصنادل والأرصفة والشحن والتفريغ الآلي، وإقامة المخازن، ومد طرق خاصة من الأرصفة النهرية إلى المصانع، ولم يكن مستطاعًا أن يقوم الإنسان بهذه الاستحداثات مع بقاء الأنهار على حالها الطبيعي؛ ومن ثم كان لا بد من «تمهيد» الأنهار أو «تعبيدها» أو «إعادة بنائها» بحيث تقبل وسائل النقل الثقيلة الحديثة، تمامًا كما يحدث حين تتكاثف الحركة على الطرق البرية القديمة؛ مما يؤدي إلى توسيعها وتمهيدها لكي تتحمل مرور الشاحنات الثقيلة، ويؤدي إلى تجنُّب الحنيات الكثيرة وجعل الطريق مستقيمًا قدر الإمكان لتوفير الأمان وتقصير المسافات.

وقد اشتدت حركة النقل النهري في عصر الصناعة الحديث، واتجهت أكثر وأكثر إلى التعامل مع السلع والخامات ذات الأحجام الكبيرة، كالرمال والحديد «خامًا وخردة»، والفحم، والأسمنت، والسيارات والآلات الكبيرة، وترتب على ذلك ضخامة حجم الصنادل، وزيادة عدد وحدات الصنادل التي تدفعها قاطرة مائية واحدة. وللتدليل على ذلك فإن مجموعة صنادل تدفعها أو تقطرها قاطرة واحدة على نهر الراين قادرة على نقل حمولة حجمها أو وزنها يعادل حمولة خمسة قطارات بضاعة حديدية مرة واحدة. وفي الحقيقة فإن أنهار النطاق الصناعي في أوروبا أو أمريكا أو الاتحاد السوفييتي، تعجُّ بحركة كثيفة قوامها أساطيل ضخمة من الصنادل والقاطرات والقوارب التي تسير بالمحرِّكات، وتمتلئ موانئها النهرية بأرصفة طويلة متعددة ومتخصصة في سلع أو خامات معينة. وهذه الأرصفة نفسها هي نهاية خطوط السكك الحديدية والطرق البرية والطرق الخاصة (أنابيب وطرق حديدية ضيقة … إلخ). وعلى هذا فالروافع والأوناش تنقل السلع مباشرة من السفن إلى وسائل النقل البري أو بالعكس. هذه الحركة الكثيفة استدعت تمهيد الأنهار، ولكن ذلك تم على مراحل وفترة زمنية طويلة.

وقد بدأ تعديل الأنهار بتنظيم خاص لتعديل الانحدارات، وذلك لتسهيل عملية صعود القوارب والسفن في اتجاه المنابع، أو تعميق المناطق الضحلة من قاع الأنهار، ويتم تعديل الانحدارات بواسطة إنشاء سدود وإقامة أرصفة لرفع المراكب وإنزالها عبر السدود، لكن ذلك كان يأخذ جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلًا، فعلى سبيل المثال كان رفع مركب وإنزالها عند بون دلارك «على السين قرب باريس» يستغرق في القرن ١٧، سبع ساعات ويحتاج إلى خمسين حصانًا ومائتي سجين.

وفي القرن السابع عشر أُدخل تحسين على السدود بمقتضاه بُنيت «أهوسة» (بوابات) في جسم السد، وقد تحسَّن نظام تشغيل البوابات في القرن التاسع عشر كثيرًا، بحيث بات في الإمكان رفع السفن وإنزالها في وقت قصير نسبيًّا وبجهد أقل كثيرًا مما كان في الماضي. وقد بذلت فرنسا جهودًا كبيرة ابتداءً من القرن الثامن عشر لجعل الأنهار الصالحة للملاحة طبيعيًّا، أنهارًا ملاحية فعلًا، وقد تم ذلك بإنشاء مزيد من السدود والأهوسة ذات البوابات في حوض السين وروافده، ثم على نهر الساءون، وأخيرًا على نهر الميز. وفي بريطانيا أُدخلت تحسينات كثيرة على عدة أنهار هامة كان على رأسها نهر الميرزي ذو المصب الخليجي الواسع، وذلك في القرن ١٨؛ لخدمة المنطقة الصناعية في جنوب لانكشاير. وفي ألمانيا أيضًا وجهت دولة بروسيا وإمارات ألمانيا المختلفة اهتمامًا متزايدًا خلال القرن نفسه لتحسين الملاحة في أنهار إقليم براندنبورج بالقرب من برلين، ونهر الماين، رافد الراين في مجراه الأوسط. لكن اهتمام الألمان كان منصبًّا على تحسين قاع الأنهار، أو إنشاء قنوات ملاحية في القطاعات النهرية التي يصعب تعديل قاعها.

وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ أن هناك فروقًا بين مصطلحين: القناة Canal، والنهر الذي دخل عليه تعديل ما، وخاصة حفر قاعه أو إنشاء قناة موازية له، وهو ما يقابل Canalisation. والفرق الأساسي بينهما أن القناة هي خلق صناعي تمامًا لا صلة لها بالمجرى النهري الطبيعي (في أحيانٍ يستفاد من مجرًى نهري قديم أو مهجور في حفر القناة). وأكثر من ذلك أن القنوات غالبًا ما تتعامد على محاور الأنهار لتربط بينها. أما العملية الأخرى فهي تكاد تشبه إنشاء القناة «سواء كان حفر القاع في قطاع طويل أو إقامة موازية وملاصقة لمجرى النهر»، ولكنها مرتبطة تمامًا بمسار النهر الطبيعي؛ ومن ثم أصبح من الأوفق إطلاق المصطلح الألماني بناء الأنهار Strombau على العمليات التي تقام في النهر نفسه على النحو السابق شرحه.

ولقد مكَّنت تكنولوجية القرن الماضي والحالي من إعادة صياغة الأنهار بإحداث تعديلات كاملة في القاع والجوانب والثنيات النهرية. وأكبر مثال على النهر الذي أعيدت صياغته هو الراين؛ فقد شُقَّت مجارٍ مستقيمة تربط الثنيات في صورة طريق ملاحي مباشر يقلل المسافة والزمن، وصححت أوضاع طبقات الرمل التي تتراكم في قاع الأنهار بواسطة حواجز خشبية تدق في القاع لتوجيه الإرساب في اتجاه بعيد عن المجرى المطلوب تعميقه. ويساعد على توجيه الإرساب إلى الوجهة المرغوبة قوة تيار الماء التي تحفر القاع؛ لأن الحواجز الخشبية كانت تدق في صورة معاكسة لاتجاه التيار مما يدعوه للحفر. ولقد «بُنيت» كثير من أنهار أوروبا خلال القرن التاسع عشر بهذه الطريقة، كان على رأسها الراين والأودر والألب، وبعض أجزاء من نهر الدانوب في ألمانيا، ونهر كلايد في اسكتلندا، والتيمز في بريطانيا، واللوار والجارون والرون في فرنسا.

وقد كانت هذه الوسائل مفيدة في أنهار السهل الأوروبي الغربي، حيث الأنهار صغيرة الأحجام وقليلة الاتساع. أما بالنسبة للأنهار كبيرة الأحواض عريضة المجاري، فإن هذه الوسائل لم تأتِ بالنتائج المرغوبة، خاصة إذا كان التصريف المائي موسميًّا أو شبه موسمي؛ ولهذا قام المهندسون السوفييت بأعمال أخرى على أنهار الاتحاد السوفييتي الواسعة، وخاصة على نهر الفولجا. وكان من أهم ما ابتكره السوفييت في هذا المجال حفر فتحات في المناطق والجوانب التي يرسِّب فيها النهر حمولته، ويؤدي ذلك إلى أن الماء الذي يدخل في هذه الأرصفة الإرسابية يصبح ضعيفًا وراكدًا، والخطوة التالية إنشاء سد أمام الفتحات حيث التيار ضعيف لا يساعد على الحفر والتآكل؛ ومن ثم يتكوَّن خزان مائي كبير يُستخدم في أغراض متعددة نذكر منها:
  • (١)

    التحكم في مناسيب المياه خلف السد، والتغلب بذلك على موسمية التصريف؛ ومن ثم تمكين الملاحة النهرية من الاستمرار طوال أشهر السنة (إلا تلك التي قد تتجمد فيها المياه).

  • (٢)

    توليد الطاقة الكهربائية.

  • (٣)

    الاستفادة بمياه الخزان أيضًا في ري أراضٍ عطشى للماء، ومن أكبر الأمثلة على ذلك سد وخزان ريبنسك في أعالي الفولجا (شمال موسكو) وسد كويبيشيف في وسط الفولجا، وسد فولجوجراد في الفولجا الأدنى، وسد تسيمليانسك على نهر الدون، وسد وخزان كاخوفكا على الدنيبر الأدنى، وغيرها كثير (انظر خريطة رقم ٦-١).

fig24
خريطة ٦-١: بناء النظم الملاحية النهرية السوفييتية. الخزانات والسدود: (١) ريبنسك. (٢) جوركي. (٣) كاما. (٤) كويبيشيف. (٥) فولجوجراد (ستالينجراد). (٦) تسيمليانسك. (٧) كاخوفكا. (٨) كريمنتشوج. (٩) كييف. القنوات الملاحية: قناة البلطيق – البحر الأبيض، قناة الفولجا – موسكو (مضاعفة تموين موسكو بالماء)، قناة الفولجا – الدون (لاحظ الأهمية القصوى لهذه القناة التي افتُتحت عام ١٩٥٢؛ فهي تُحوِّل الفولجا إلى نهر ملاحي مفتوح إلى البحر الأسود. كما أنها ربطت الملاحة النهرية والبحرية بين البحر الأسود في الجنوب وبحر البلطيق في الشمال الغربي والبحر الأبيض في الشمال وبحر قزوين في الجنوب الشرقي.

وفي أواسط القرن الحالي — بعد فترة من عدم الاهتمام بالملاحة النهرية نتيجة لمنافسة الخطوط الحديدية والبرية — عاد الاهتمام قويًّا بالملاحة الداخلية لتوفير سبل النقل الرخيص للبضائع والسلع ذات الأحجام الكبيرة، وقد ترتب على ذلك أن الأعمال التي تقام «لتمهيد» الأنهار أصبحت قوية وأكثر كفاءة عما كانت عليه في القرن الماضي. كما أنها أصبحت متعددة الأغراض، كما رأينا في الاتحاد السوفييتي؛ ففي الولايات المتحدة وأوروبا أصبحت السدود تخدم غرضين: تنظيم مناسيب المياه في الأنهار طول العام، وتوليد الطاقة. ومن أهم الأمثلة على ذلك مشروع وادي التنسي في الولايات المتحدة، ومشروعات سدود وأهوسة سانت لورنس والبحيرات العظمى في كلٍّ من كندا والولايات المتحدة، هذا بالإضافة إلى أعمال كثيرة وسدود على روافد المسيسبي.

وقد كان «بناء» الأنهار بالطريقة التي سبق شرحها غير مجدٍ في أحواض الأنهار ذات التصريف الفقير أو ذات الانحدارات الكبيرة؛ مثال ذلك نهرا اللوار والجارون في غرب فرنسا؛ لهذا ترك المهندسون مبدأ «بناء» النهر جانبًا، واتجهوا إلى حفر قنوات جديدة تستخدم مياه النهر، وتسير بجواره أو موازية له قدر الإمكان، فعلى سبيل المثال حُفرت قناة الجارون بين تولوز ولانجون «جنوبي بوردو» والمعروفة باسم القناة الجانبية. وهناك قناة دي ميدي التي تربط الجارون بالبحر المتوسط من تولوز عبر ممر الكركسون، ومثال ذلك أيضًا القناة الطويلة التي حُفرت بموازاة اللوار الأعلى حتى مدينة برير Braire «قرب نيو أورليانز»، وتستكمل هذه القناة مسارها من طرفيها: الشمالي إلى حوض السين، والجنوبي إلى حوض الساءون-الرون.

وقد بذلت فرنسا جهدًا كبيرًا في سبيل تصحيح مسار الرون في خطط متتابعة هدفها الأساسي جعل الطريق النهري أكثر استقامة، وتعميق المجرى، وفي النهاية حفر قنوات جانبية على الجانب الأيسر للنهر في المناطق التي صعب تصحيح المجرى فيها بين ليون وآرل.

(١-٢) تحويل الأنهار من محاور إلى شبكات نقل

جنبًا إلى جنب مع الأعمال التي تمهد الأنهار للملاحة، لم يعد كافيًا أن يصبح النهر محورًا واحدًا للنقل المائي الداخلي، خاصة إذا كانت هناك عدة أنهار تسير متوازية فإنها ستشكل طرقًا للنقل متوازية غير مترابطة، ولذلك اتجه التفكير إلى ربط هذه الأنهار بحيث تكوِّن شبكة نقل مائي متعددة الاتجاهات، بدلًا من أن تصبح مجرد خطوط حركة ذات اتجاه واحد (انظر خريطة ٦-٢).

وقبل التفكير في تكوين مثل هذه الشبكات كانت هناك جهود كثيرة لربط الأحواض النهرية ببعض، بالقرب من خطوط تقسيم المياه. وقد كان الانتقال من مجرى إلى آخر يحدث في الماضي بواسطة حمل السلع على الدواب والعربات عبر الحواف المنخفضة التي تفصل مناطق المنابع، وخاصة في مناطق التعرية القديمة، كالوديان النهرية المهجورة أو مناطق الركامات الجليدية النهائية المتخلفة عن التعرية الجليدية في البلايستوسين، ومثل هذا كان شائعًا في أنهار كندا والقسم الشرقي من الولايات المتحدة، وفي السويد، وفي فنلندا، ومناطق البحيرات المازورية في شمال شرق بولندا «بين بعض منابع الفستيولا الأوسط ومنابع نهر برجولتا الذي يصب في البلطيق عند كالينجراد — كوينجزبرج سابقًا في بروسيا الشرقية»، وفي روسيا على طول الطرق النهرية بين البلطيق والأسود.

وفي غالبية الأحيان كان هناك سكان يشتغلون بهذه الوسيلة من وساطة النقل بين منابع الأنهار، عند نقط إعادة التفريغ والشحن. وقد انتشرت هذه الظاهرة كثيرًا في القرنين ١٢، ١٣ في شمال إيطاليا وسهول الفلاندرز الهولندية والبلجيكية. وكانتا من أقاليم النشاط التجاري الواسع آنذاك: تجارة الشرق في شمال إيطاليا، وتجارة مدن الهانزا في الفلاندر.

وفي القرن السابع عشر بدأت الخطوات الأولى لربط الأنهار بعضها بالبعض الآخر في أوروبا الغربية، ومن أقدم هذه القنوات قناة صغيرة بين ويثام وترنت في إقليم لنكولن شاير في شرق بريطانيا، وتعود قناة برير التي تربط السين واللوار إلى أواسط القرن السابع عشر (١٦٤٢).

fig25
خرية٦-٢: طريق الراين كمركز عصبي للنقل المائي الداخلي في أوروبا الغربية. (١) اتجاه النقل إلى السهل الأوروبي الأوسط بواسطة قناة ميتلاند إلى النظم النهرية في الفيزر والألب والأودر والفستيولا. (٢) اتجاه النقل إلى محور النظام الملاحي الدانوبي: الربط بين بحر الشمال والبحر الأسود عبر النمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوجسلافيا وبلغاريا ورومانيا. (٣) اتجاه النقل إلى شمال فرنسا وحوض السين ومنطقة باريس: الربط بين الراين وبحر المانش. (٤) اتجاه النقل جنوبًا بين بحر الشمال ووسط أوروبا والبحر المتوسط عبر النظام النهري للساءون والرون.

أما نظام القنوات الكبيرة بين الأنهار المختلفة فترجع إلى أواخر القرن ١٨ وأوائل القرن ١٩. وهذه هي الفترة التي تُسمَّى عصر القنوات أو عصر «حُمَّى القنوات»، وإليها ترجع معظم القنوات المائية الداخلية في أوروبا وشرق أمريكا؛ ففي بريطانيا صدر أكثر من ٨٢ تشريعًا بإنشاء قنوات جديدة في الفترة بين ١٧٩١ و١٧٩٤! وفي فرنسا زادت أطوال القنوات من ١٢٧١ كيلومترًا في عام ١٨١٥، إلى ٤٧٠٠ كيلومتر عام ١٨٦٠. وقد بدأ عهد القنوات مبكرًا في أمريكا الشمالية، فحُفرت قناة ويلاند في كندا «بين بحيرتي إنتاريو وإيري؛ لتجنب شلات نياجارا» عام ١٨٢٤، وقناة إيري في الولايات المتحدة «بين نهر الهدسن وبحيرة إيري» التي استغرق إنشاؤها بين ١٨١٨ و١٨٢٥.

أما في ألمانيا، فبرغم التحسينات التي أُدخلت على الأنهار مبكرًا، إلا أن تأخُّر الوحدة السياسية قد أدى بدوره إلى تأخر إنشاء شبكة النقل النهري وحفر القنوات؛ ففي نهاية القرن الماضي لم يكن في ألمانيا سوى ١٧٠٠ كيلومتر من القنوات مقابل نحو خمسة آلاف في فرنسا، وفي عام ١٨٩٩ افتُتحت الملاحة في قناة دورتمود-إيمز بغرض تحويل تجارة حوض الراين الألماني إلى ميناء إمدن الألماني، بدلًا من استخدام الموانئ الهولندية. وفي ١٨٩٩ أيضًا بدأ مشروع القناة الوسطى Mittelland Kanal بغرض فتح الإقليم الشرقي للنقل الرخيص وإيجاد علاقة متينة بين منتجات الشرق الزراعية ومنتجات الراين الصناعية، وقد تم الانتهاء من القناة عام ١٩١٤، ولم تكن قادرة على تقبُّل سفن وصنادل ذات حمولة أكثر من ٧٠٠ طن، بالمقارنة بقناة الإيمز (ألف طن).

وفي ١٩٢١ بدأ العمل في «بناء» نهرَي الماين والنكر، رافدَي الراين في جنوب ألمانيا. وتخدم ملاحة النكر منطقة شتوتجارت الصناعية، بينما المفروض أن تستكمل الملاحة في الماين قناة الماين-الدانوب (١٧٩كلم) بين بامبرج على الماين وكيلهايم على الدانوب.

وعلى الرغم من أن «عصر السكك الحديدية» في القرن ١٩، «وعصر السيارة» في القرن العشرين. وقد أديا إلى فقدان أهمية الملاحة النهرية فترة طويلة، إلا أن الاهتمام عاد بشدة إلى القنوات والأنهار ابتداءً من منتصف القرن الحالي، خاصة في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومناطق أخرى خارج النطاق الصناعي مثل البرازيل. وفي الحقيقة أصبحت الملاحة الداخلية نمطًا من أنماط النقل المعاصرة التي يشتد الطلب عليها، ويدخلها التحسين والتخصص بصفة منتظمة لما له من ميزات نُلخِّصها فيما يلي:

(أ) مميزات ومساوئ النقل النهري

يمكن أن نُلخِّص المميزات العامة للنقل المائي الداخلي في النقاط التالية:
  • أولًا: في النهر لا يوجد طريق يُبنى أو يُشيد بالمعنى الذي نفهمه بالمقارنة بالطريق البري أو الحديدي أو خطوط الأنابيب أو أسلاك التليفون أو النقل المعلَّق، وذلك بالرغم من أنه من الضروري استخدام الكراكات لتعميق المجرى وإزالة الإرسابات. وقد سبق أن قلنا إن الأنهار المدارية ودون المدارية قد لا تحتاج إلى أعمال تمهيدية إلا في أضيق الحدود؛ ومن ثم يصبح النقل المائي في الأنهار والمجاري الطبيعية أرخص وسائل النقل على اليابس.
  • ثانيًا: إن النقل المائي الداخلي هو أكثر أشكال النقل على اليابس ملاءمة للسلع ذات الوزن الثقيل والأحجام الكبيرة كالأخشاب والحديد والفحم والأسمنت … إلخ. وفي مقابل ذلك فإن للنقل النهري عددًا من المساوئ التي ذكرنا طرفًا منها فيما سبق، ويمكن أن نُجمِلها فيما يلي:
    • أولًا: المجرى المائي الطبيعي، وإلى حدٍّ ما القنوات، أطول من الطرق البرية الصناعية؛ وذلك بحكم أن الأنهار تنحدر مستجيبة لظروف التضاريس، أو ترسم أقواسًا كبيرة تجنبًا للعوائق التضاريسية، أو نتيجة لضعف قوة الجريان في المناطق السهلية المنبسطة، وبالرغم من أن القنوات عمل صناعي، إلا أن الإنسان لا يستطيع إلا أن يستجيب إلى الانحدارات الطبيعية أثناء شق مسارات القنوات، وإلا أصبح العمل شديد التكلفة، أو تكون نتيجته النهائية كثرة الأهوسة والبوابات على طول القناة؛ مما يزيد من تكلفة تشغيل القناة، فضلًا عن إطالة زمن عبورها، وبذلك لا نتوقع أن تكون القنوات خطوطًا مستقيمة إلا حينما تسمح الظروف الطبيعية بذلك. وفضلًا عن ذلك فإن القنوات يجب أن تصل بين نهرين في نقاط مختارة صالحة للملاحة، وبذلك فإن القنوات لا تخترق أقصر الطرق بين نهرين متوازيين.
    • ثانيًا: إن حفر القنوات يحتاج إلى استثمارات عالية من رأس المال والإنفاقات الكبيرة في العمالة والآلات، والتعويضات التي تُدفع لأصحاب الأراضي التي تخترقها القنوات. وفي الوقت نفسه تحتاج القنوات إلى نفقات مستمرة من أجل صيانة جوانبها وتطهير أعماقها. وفي الوقت نفسه فإن كثيرًا من القنوات تحتاج إلى أهوسة مختلفة الوظائف، وإلى إنشاء جسور كثيرة فوقها لكيلا تنقطع مسارات الطرق الأخرى.
    • ثالثًا: يعترض النقل النهري عدة عقبات طبيعية منها الشلالات والمندفعات المائية والجنادل، ومنها التغيرات الموسمية التي تطرأ على مستوى الماء، سواء كان سببها فصلية المطر أو تجمُّد المياه خلال الشتاء في بعض الأقاليم.
    • رابعًا وأخيرًا: هناك عيب جوهري في النقل المائي عامة، سواء كان نقلًا داخليًّا أو نقلًا بحريًّا، هذا هو البطء الذي تتسم به مركبات الماء؛ نظرًا لحجمها وصعوبة مناورتها بالقياس إلى السيارات، وذلك برغم التحسينات التي تطرأ على الطاقة المحرِّكة للقوارب والسفن؛ ولهذا السبب فإن النقل المائي الداخلي والبحري معًا قد تخصَّصا في نقل السلع التي لا تعطب سريعًا، والتي لا تحتاج إلى سرعة توصيلها، وهي — كما قلنا — السلع ذات الأحجام والأوزان الثقيلة. ومن الأمثلة على بطء النقل النهري أن السفن تقطع المسافة بين أنتفيرب وليج في بلجيكا في يومين ونصف اليوم رغم أن المسافة لا تزيد عن ١٥٠كلم، وأن المسافة بين باريس والهافر التي لا تزيد عن ١٥٠كلم في خط مباشر، تقطعها السفن في نهر السين في أحد عشر يومًا.

(ب) أنظمة النقل النهري الرئيسية

برغم المساوئ التي ذكرناها، فإن احتياج الصناعة والتجارة في النصف الثاني من القرن الحالي تدعو إلى تحسين هذا النوع من النقل الرخيص. وينتشر نمط النقل المائي الداخلي في كل مكان تؤهله له ظروف الأنهار واحتياجات النشاط الاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن النقل النهري يوجد في كل مكان توجد فيه الأنهار، لكن نوع وحجم ودرجة الاعتماد عليه تختلف جذريًّا من مكان إلى آخر، وليس بوسعنا أن نتتبع النقل النهري في كافة المناطق، وسنقتصر هنا على موجز لخصائص وطبيعة النقل النهري في الأماكن الرئيسية من العالم التي طورت هذا الشكل من أشكال النقل. ويوجد في العالم ست مناطق تبرز فيها قيمة النقل النهري، هي: أوروبا الغربية، نظام الفولجا في الاتحاد السوفييتي، نظام النقل النهري في أمريكا الشمالية، نظام النقل النهري في الصين، نظام الأمازون في البرازيل، وأخيرًا نظام بارانا-بارجواي في الأرجنتين وأورجواي.

  • أولًا: أنظمة النقل النهري في أوروبا الغربية: تُمثِّل مجموعة الأنهار الأوروبية التي تخترق السهل الأوروبي من فرنسا إلى ألمانيا، مرورًا ببلجيكا وهولندا، أكثر الأنظمة النهرية استخدامًا في النقل النهري؛ ففي هذه المنطقة نجد عدة أنهار هامة صالحة في معظم أجزائها للملاحة طبيعيًّا: السين، الشيلد، الميز، الراين (بروافده العديدة: الموزيل، الليب، الرور، الماين، النكر)، الإمز، الفيزر، الألب.

    وقد أضيف إلى هذه المجاري الطبيعية الملاحية مجموعة من القنوات التي تربط محاور هذه الأنهار جميعًا في عدة أماكن، بحيث أصبحت كل منطقة السهل الأوروبي الغربي تتخللها المجاري المائية الطبيعية والصناعية الصالحة للملاحة في كل مكان؛ فهناك مجموعة قنوات تربط السين بالميز، والشيلد بالميز، والميز بالراين الأدنى. وهذه القنوات من الكثرة بحيث يصعب تخصيص واحدة منها بالذكر، ومع ذلك فإن أكثر هذه القنوات أهمية هي تلك الوصلة بين الميز والشيلد التي تجاور الحدود البلجيكية الهولندية، وهي القناة المعروفة باسم «قناة ألبرت»، وترجع أهميتها إلى أنها طريق مختصر يخدم تجارة صادرات وواردات النطاق الصناعي البلجيكي على الميز فيما بين لييج ونامور، بالإضافة إلى جزء من النطاق الصناعي الزراعي في شمال فرنسا، فبدلًا من أن يتجه النقل بعد لييج شمالًا إلى هولندا، يتجه غربًا إلى ميناء بلجيكا الأول في أنتفيرب، وبهذا نختصر المسافة وتنشط الحركة في ميناء بلجيكي قومي.

    وهناك مجموعة أخرى من القنوات التي تربط أعالي السين بالراين الأوسط عند ستراسبورج وبالموزيل؛ ومن ثم إلى الراين الأوسط أيضًا، وتخدم هذه القنوات بالإضافة إلى نهر الموزيل منطقة إنتاج الحديد في اللورين الفرنسية والفحم في السار الألمانية، وترتبط قنوات السين الأعلى والراين الأوسط معًا مع نظام الساءون والرون في اتجاه البحر المتوسط. وفي ألمانيا وهولندا تمتد مجموعة من القنوات تربط الراين وحوض الرور «ونهر الرور والليب» بالأنهار الألمانية الشمالية (الإيمز والفيزر والألب)، ومن ثم ترتبط بعد ذلك بنهري الأودر والفستيولا في بولندا، وأهم قنوات المنطقة هي قناة ميتلاند، وأخيرًا فإن الراين يرتبط بالدانوب بواسطة نهر الماين وقناة الماين-الدانوب.

    ونظرة واحدة إلى خريطة ٦-٢ يوضح لنا أن الراين يكون العصب المحوري للنقل النهري في أوروبا الغربية؛ فهو — كما أسلفنا — يكون همزة الوصل بين مجموعة أنهار السهل التي تتجه إلى بحر الشمال وبحر المانش من الألب إلى السين، وهمزة الوصل بين أنهار السهل الأوروبي الغربي وسهل وسط أوروبا وشرقها حتى حوض الفستيولا في بولندا، وهمزة الوصل بين نظام أوروبا الغربية ونظام حوض الدانوب والبحر الأسود، وأخيرًا يكون الراين همزة الوصل — بالإضافة إلى السين — مع نظام الرون والبحر المتوسط.

    fig26
    خريطة ٦-٣: الملاحة الداخلية في ألمانيا ووسط أوروبا. (١) أنهار حمولة السفن فيها أكثر من ألف طن. (٢) أنهار غير صالحة للملاحة. (٣) قنوات حمولة السفن فيها أكثر من ألف طن. (٤) قنوات حمولة السفن فيها من ألف إلى ٥٠٠ طن. (٥) أنهار حمولة السفن فيها أقل من ٥٠٠ طن. (٦) قنوات حمولة السفن فيها أقل من ٥٠٠ طن. (٧) الحدود السياسية.
    وشبكة السهل الأوروبي الغربي هي أعقد شبكات النقل المائي الداخلي في العالم، وهي في الوقت ذاته أقدمها، وتمتلئ بأنواع متباينة من أحدث وأقدم وسائل النقل المائي. ونظرًا لتاريخها القديم، فإنها أيضًا متباينة السعة والعمق، بحيث لا يمكن للسفن الكبيرة أن تخترقها كلها؛ ولهذا السبب نجد الأنواع التالية من السفن:
    • (١) السفن الفلمنكية، عمق غاطسها ١٨٠سم، وحمولتها لا تتجاوز ١٨٠ طنًّا، وهي وسيلة النقل الرئيسية في قنوات شمال فرنسا وشمالها الشرقي التي تتسم بالضيق والضحولة.
    • (٢) السفن المتوسطة التي تتراوح حمولتها بين ٧٠٠ و١٠٠٠ طن، وتنتشر في قنوات بلجيكا وهولندا وشمال غرب ألمانيا وقناة ميتلاند ودورتموند والإيمز.
    • (٣) السفن الأوروبية التي يبلغ غاطسها ٢٥٠سم، وحمولتها تصل إلى ١٣٥٠ طنًّا، وتظهر كوسيلة النقل الرئيسية في الراين والماين والنكر وأجزاء من قنوات هولندا وبلجيكا، وفي السين بين باريس والهافر. (انظر الخريطة رقم ٦-٣).

    ويحتاج الأمر إلى اعتماد خطة معينة لتوحيد وسائل النقل النهري، وتوسيع القنوات، وتعميقها بحيث يمكن النقل مباشرة دون الحاجة إلى إعادة شحن من سفن كبيرة إلى صغيرة.

  • ثانيًا: شبكة النقل النهري السوفييتية: معظم هذه الشبكة حديثة أُنشئت بعد الثورة الشيوعية والتطور الصناعي السوفييتي؛ ومن ثم فهي تضم أحدث وأثقل وسائل النقل النهري الداخلي، باستثناء النقل الداخلي في البحيرات العظمي الأمريكية. ومعظم السفن النهرية السوفييتية تزيد حمولتها عن ألفي طن، ويكون الفولجا العمود الفقري للنقل المائي الداخلي في الاتحاد السوفييتي، وهو بذلك يشابه مكانة الراين بالنسبة لشبكة السهل الأوروبي الغربي، ولكن على نطاق أكبر من حيث اتساع النهر وضخامة السفن وطول المسافات، فالفولجا — كما يتضح من خريطة رقم ٦-١ — يربط الملاحة النهرية بين البحر الأبيض والبلطيق في الشمال بالبحر الأسود، ويربط بين بحر قزوين الداخلي وبين البحر الأسود المفتوح للملاحة الدولية.

    ويرجع الفضل في ذلك الدور الرئيسي للفولجا إلى قناة الدون-الفولجا التي شُقَّت عام ١٩٥٢، ويبلغ طول القناة ١٠١كلم، وبعد إجراء عدد من التعديلات في الأنهار أصبح من الممكن في عام ١٩٦٤ انتقال السفن حتى حمولة ٥٠٠٠ طن من البحر الأسود إلى البلطيق عبر الدون والفولجا والقنوات التي تربط بحيرة التخزين عند ريبنسك ببحيرة أونيجا ثم لادوجا، وأخيرًا نهر النيفاثم لننجراد. وتعرف هذه القنوات باسم قناة أو طريق مارينسكي، وتعود في أصلها إلى القرن الثامن عشر. وقد أجرى السوفييت عليها تحسينات كثيرة؛ فاختصرت زمن قطع القناة من ١٨ يومًا إلى يومين فقط، وعلى وجه العموم فإن الفولجا يخدم مساحة كبيرة، ويشكل هو وقنواته والأنهار التي يتصل بها مجاري ملاحية تبلغ أطوالها مجتمعة حوالي ١١٢ ألف كيلومتر.

  • ثالثًا: شبكة النقل النهري في أمريكا الشمالية: هناك نظامان نهريان رئيسيان في أمريكا الشمالية، هما: نظام سانت لورنس ونظام المسيسبي (انظر الخريطة ٦-٤)، ونظام سانت لورنس-البحيرات العظمى هو أضخم نظام من نوعه للنقل المائي الداخلي. وقد أدخلت عليه من التعديلات ما جعله أقرب إلى نظام الملاحة البحرية منه إلى النقل النهري، وتحولت موانئ البحيرات العظمى إلى موانئ بحرية شديدة النشاط والتخصص، ويتوغل هذا الطريق المائي ٣٧٦٠ كيلومترًا في داخلية شرق أمريكا الشمالية، وذلك بفضل القنوات العديدة في النهر نفسه، وبين البحيرات، وخاصة بين إنتاريو وإيري، وبين هورون وسوبييرير. وتزيد حمولة السفن في البحيرات العظمى عن عشرة آلاف طن.
    fig27
    خريطة ٦-٤: الملاحة النهرية في الولايات المتحدة. الأهمية النسبية للملاحة النهرية والشاطئية. الأرقام بملايين الأطنان تدل على الحمولة المنقولة بوسائل النقل المائي في القطاعات المختلفة لنهر المسيسبي وساحل خليج المكسيك.

    ويحمل طريق المسيسبي بضائع أقل بكثير من طريق سانت لورنس، لكنه يكوِّن مع رافده الأوهايو طريقًا جيدًا يخترق السهول العظمى الأمريكية من خليج المكسيك إلى قلب المنطقة الصناعية في منطقة البحيرات وبنسلفانيا وأيوا؛ إذ يتصل كلٌّ من المسيسبي والأوهايو بقنوات ملاحية مع البحيرات العظمى، وينقل طريق المسيسبي بضائع الأحجام الكبيرة: الفحم والقطن والحديد والأخشاب والقمح.

  • رابعًا: نظام الملاحية النهرية في الصين: سبق أن عالجنا هذا الموضوع من قبلُ (راجع: الفصل الخامس المقومات الجغرافية للنقل على اليابس)، وخلاصة القول أن اليانجتسي يقوم بدور المحور الأساسي للنقل في وسط الصين، خاصة مع غياب وسائل نقل أخرى موازية له، بل إن محور النقل الحديدي في عمومه يتعامد على اليانجتسي في محور شمالي جنوبي.

    وقد أدخلت الصين تحسينات عديدة على القناة الكبيرة القديمة التي تربط هوانجهو باليانجتسي، وإلى جانب ذلك فهناك العديد من المجاري المائية التي تخترق السهل الكبير، وكلها تُستخدم في النقل الرخيص.

  • خامسًا: نظام الأمازون النهري: تبلغ أطوال الأمازون وروافده الملاحية خلال موسم الفيضان ما يقرب من ٥٨ ألف كيلومتر، ويبلغ الأمازون الأدنى والأوسط من العمق والاتساع ما يسمح للسفن المحيطية أن تصعد فيه حتى مدينة ماناوس التي تبعُد عن المصب ١٦٠٠ كيلومتر، ويمكن السفن النهرية المتوسطة والصغيرة أن تبحر في الأمازون صعودًا حتى بلدة إيكتوس داخل حدود بيرو، وتبعُد هذه البلدة عن مصب الأمازون بما يقرب من ٣٦٨٠ كيلومترًا، وفي خلال موسم الفيضان يمكن للسفن النهرية أن تنتقل في روافد كثيرة من روافد الأمازون، وتتوقف الملاحة خلال موسم الجفاف لكثرة المندفعات المائية، لكن يمكن للقوارب الصغيرة التي تستخدم الطاقة العضلية للإنسان من عبورها، وبرغم ضخامة النهر وإمكاناته بالنسبة للملاحة الداخلية، إلا أن الحركة فيه ضئيلة جدًّا بالمقارنة بأوروبا الغربية أو الصين؛ وذلك لأن إقليم الأمازون لا يزال من الأقاليم العذراء، قليل السكان وقليل النشاط الاقتصادي.
  • سادسًا: نظام بارنا-باراجواي: هذا هو أهم النظم النهرية في أمريكا الجنوبية من ناحية النشاط الاقتصادي، وكثافة النقل النهري، ويصب نهرا بارانا وباراجواي معًا في خليج لابلاتا العريض الذي تقع عليه بوينس آيرس ومونتفيديو، وتتوغل السفن البحرية في نهر بارانا حتى مدينة سانتافي، على مبعدة ٢٤٠كلم من المصب، وبعد ذلك يصبح النهر ملاحيًّا بالنسبة للسفن النهرية حتى مدينة أسنشن عاصمة باراجواي، التي تقع على بعد ١٣٦٠كلم من المصب. أما نهر أوروجواي، الذي يصب في خليج لابلاتا أيضًا؛ فهو صالح للملاحة حتى بلدة سالتو (٢٥٠كلم من المصب)، حيث تتوقف الملاحة نتيجة وجود المندفعات المائية.

(ﺟ) النقل النهري في ألمانيا كمثال للنقل الحديث

تبلغ أطوال المجاري المائية في ألمانيا الاتحادية الصالحة للملاحة ٥١٤٩ كيلومترًا، منها ٤٣٧٥ كيلومترًا صالحة للملاحة العادية طوال السنة. وتبلغ أطوال المجاري المائية الصالحة لاستقبال السفن والصنادل التي تزيد حمولتها عن ألف طن، ما يقرب من ٣٢٥٠ كيلومترًا.

وأهم المجاري المائية الطبيعية الصالحة للملاحة — بعد كثير من التعديلات وأعمال البناء التي شرحنا طرفًا منها فيما قبل — هي:
  • (١)

    نهر الراين من بازل على الحدود السويسرية إلى أن يدخل الحدود الهولندية. ويضم نظام الراين الملاحي عدة روافد هامة للملاحة، على رأسها الليب والرور في حوض الرور، والموزيل الذي يتجه عبر إقليم أيفل-هنزريك الجبلي إلى لكسمبورج والسار واللورين الفرنسية، ثم نهر الماين الذي يخترق شمال بافاريا، والمؤدي إلى الدانوب فيما بعدُ، وأخيرًا نهر النكر الذي يخدم منطقة بادن-فرتمبورج الصناعية.

  • (٢)

    الفيزر من مدينة كاسل حتى المصب عند بريمن، وهو يخدم القطاع الطولي الأوسط من ألمانيا الاتحادية، وهو في مجموعه صالح لملاحة السفن المتوسطة فيما عدا القسم الأدنى الصالح للسفن الكبيرة، ويرتبط النهر أيضًا بمجموعة الأنهار الألمانية الأخرى بواسطة قناة ميتلاند.

  • (٣)

    نهر الألب، وهو صالح للملاحة الكبيرة من هامبورج حتى الحدود المشتركة مع ألمانيا الديمقراطية، لكنه صالح أيضًا للملاحة داخل ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا حتى براها «براغ»، وبذلك فهو نظام نهري طويل كان له دور هام في اقتصاديات النقل المائي الداخلي حينما كانت هناك ألمانيا موحدة؛ فهو يخدم المنطقة الصناعية الثقيلة في إقليم ساكسونيا العليا (ألمانيا الديمقراطية)، وإقليم يوهيميا الصناعي (تشيكوسلوفاكيا)، هذا فضلًا عن خدمة منطقة برلين بطريق نهر سبري وقناة ميتلاند، وقد تضاءلت أهمية نظام الألب الملاحية إلى حد بعيد نتيجة التغيرات السياسية في ألمانيا.

  • (٤)

    الدوناو «الدانوب» في جنوب شرقي بافاريا، ابتداءً من كيلهايم حتى باساو على الحدود النمساوية الألمانية، وتستكمل الملاحة بعد ذلك على طول مسار الدوناو في النمسا والمجر ودول البلقان حتى البحر الأسود.

أما أهم القنوات الملاحية فهي:
  • (١)

    قناة الراين-الرون.

  • (٢)

    قناة الراين-الماين-الدوناو.

  • (٣)

    قناة دورتموند-إيمز (التي تصل بين الرور وميناء إمدن على بحر الشمال).

  • (٤)

    قناة ميتلاند التي تصل بين الإيمز والفيزر والألب.

وفي أواسط الستينيات كان عدد السفن المشتغلة بالنقل النهري في ألمانيا الاتحادية نحو ٨٨٠٠ وحدة نهرية بين صندل وسفينة، مجموع حمولتها حوالي خمسة ملايين من الأطنان، وهذا في حد ذاته رقم ضخم يوضح لنا دلالة وأهمية النقل النهري والمائي الداخلي في ألمانيا. وقد كانت الحمولة المنقولة بواسطة النقل المائي في عام ١٩٣٦ تعادل ١١٧٠٠ مليون طن/كلم، ارتفعت بصورة مذهلة إلى ٤٠٠٤٤ مليون طن/كم في عام ١٩٦١، وفي السنة ذاتها بلغ متوسط كثافة حمولة النقل في السنة على كل كيلومتر من أطوال المجاري المائية الملاحية نحو ٧٥٦٥ طنًّا، وهذا رقم عالٍ جدًّا بالمقارنة بدولة كفرنسا التي بلغت فيها متوسطات الحمولة للكيلومتر الطولي طوال السنة ١٢٠٣ طنًّا فقط، وبهذا يتأكد لنا ضخامة النقل النهري في ألمانيا مرة أخرى.

وتترتب السلع التي يحملها النقل المائي الداخلي على النحو التالي:
  • ٣٠٪ من مجموع الحمولة فحم.

  • ٢٠٪ من مجموع الحمولة مواد البناء والرمال.

  • ١٥٪ من مجموع الحمولة معادن.

  • ٢٥٪ من مجموع الحمولة أخشاب وحبوب وهيدروكاربورات.

وكان ترتيب النقل في الشبكات المائية على النحو التالي (من حيث حجم الحركة والتعامل):
  • ٦١٫٢٪ موانئ نهر الراين.

  • ١٧٫٦٪ القنوات في كل ألمانيا الاتحادية.

  • ١٥٫٦٪ حمولة نهرَي الماين والنكر.

  • ٥٫٦٪ حمولة بقية الشبكة النهرية (الألب والفيزر والدانوب).

ويتضح من هذا التوزيع الثقل غير العادي لنهر الراين في شبكة النقل النهري، ولا شك أن ذلك مرتبط أولًا بكثافة النشاط الاقتصادي، وثانيًا بأنه محور النقل الرئيسي في ألمانيا الاتحادية ووسط أوروبا.

fig28
خريطة ٦-٥: تخطيط ميناء دويزبرج-الرور على نهر الراين (ألمانيا الغربية).

وعلى الراين موانئ كثيرة تتعامل في حمولات عالية، ولكن ميناء ديوزبرج يتفوق عليها جميعًا بحمولة تعامل بلغت في أوائل الستينيات ٣٥ مليونًا من الأطنان، وهو بذلك أكبر ميناء نهري في العالم، وبرغم التنظيمات الدقيقة للحركة في هذا الميناء الضخم إلا أن كثافة التعامل تتزايد بصفة مستمرة، ويشتمل الميناء على ثلاثين حوضًا، وتبلغ أطوال أرصفته جميعًا أربعين كيلومترًا (انظر الخريطة رقم ٦-٥).

وقد احتل الفحم حوالي ٤٠٪ من مجموع السلع المتعامل فيها في هذا الميناء، تلاه في ذلك الخامات المعدنية، وعلى رأسها خام الحديد، ثم الحبوب والبترول.

وفي ألمانيا الاتحادية ٣٠٠ شركة للنقل النهري بعضها تابع لمجموعات صناعية كبيرة مثل شركة أسطول الراين المتحدة، وعلى العموم يحتل النقل النهري المكانة الثانية في النقل الداخلي في ألمانيا الاتحادية، وذلك بعد السكك الحديدية؛ ففي أوائل الستينيات كانت أنصبة وسائل النقل المختلفة على النحو التالي:
  • ٤٦٪ للنقل الحديدي.

  • ٣٦٪ للنقل النهري.

  • ١٦٪ للنقل البري.

  • ٢٪ للنقل بواسطة الأنابيب.

ولا شك أن هذه الصورة قد تغيرت كثيرًا خلال السنوات العشر الماضية، وعلى الأخص نصيب الأنابيب من النقل الذي زاد كثيرًا عما كان عليه.

(٢) السكك الحديدية

(٢-١) ثورة النقل على اليابس

يُمثِّل النقل الحديدي على سطح الأرض مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة العالمية، تتسم بالسرعة والقوة كواسطة من وسائط النقل. وقد أدى النقل الحديدي إلى إحداث ثورة حقيقية في علاقات المكان الجغرافية على سطح القارات، كما أدى إلى إحداث تغيُّر واضح في العلاقات الإنتاجية في أقاليم النشاط الاقتصادي الحديث. وعلى وجه العموم يمكن أن نقول إن النقل الحديدي قد أدى إلى خلق ظروف واجهت الإنسان بفوائد غزو المكان والزمان.

وقد يبدو هذا التأكيد لدور السكك الحديدية مبالغًا فيه، أو أنه ينصرف إلى كافة وسائل النقل دون تخصيص، لكن الطريق الحديدي في واقع الأمر — وبرغم أنه أقل في حمولته من الطريق المائي — يُمثِّل تمام التمثيل الثورة الصناعية في وسائل النقل على اليابس؛ فقد كان — ولا يزال — أسرع وسائل النقل الكبير الحجم على يابس الكرة الأرضية، وهو لا يزال في مجموعه أرخص هذه الوسائل جميعًا.

وصحيح أن النقل البحري الحديث يُمثِّل الوسيلة التي انتظمت من خلالها العلاقات التجارية العالمية المتشابكة المعاصرة، ولكنه صحيح أيضًا أن النقل الحديدي كان الممهد الأول لنشأة هذه العلاقات التجارية العالمية الكثيفة المعاصرة؛ فهو الذي كوَّن الشرايين الرئيسية التي بُني حولها النشاط الاقتصادي الحديث، وهو الذي فتح آفاق المكان الجغرافي أمام تكاثف النشاط الإنتاجي الصناعي والزراعي داخل إطارات البناء الحضاري الصناعي.

وبعبارة أخرى فإن النقل الحديدي أدى إلى إعادة تنظيم العلاقات الإقليمية في مجالي الإنتاج والتجارة على السطح المعمور من اليابس، في حين أن النقل البحري — في صورة مجردة — هو جسر متحرك، تُستكمل عليه عملية النقل لتربط بين يابس معمور وآخر؛ فالنقل البحري إذن — في صورة مجردة أيضًا — وسيلة نقل خالصة مائة في المائة، تستجيب لحركة التجارة العالمية وتجعلها عملية مربحة. وهذا مستمَد من وظيفة النقل البحري الأساسية كمعبر وجسر فوق السطح المائي.

أما النقل الحديدي فيشتمل على وظيفة أخرى هامة، إلى جانب اشتراكه مع النقل البحري في وظيفة النقل الخالصة؛ تلك هي أن النقل الحديدي كان — ولا يزال — يُستخدم بكفاءة في توظيف أنواع كثيرة من الأنشطة الاقتصادية في الأقاليم التي يراد غزوها اقتصاديًّا.

وفضلًا عن هذا كله، فإن أهمية النقل الحديدي على اليابس تتضاعف إذا ما تذكرنا أن اليابس هو مأوى الإنسان بوصفه كائنًا أرضيًّا، وأن مجال عمرانه ونشاطه الأساسي هو سطح القارات؛ ومن ثم فإن تنظيمه العمراني والاقتصادي والسياسي والاستراتيجي مشدود إلى اليابس. ويترتب على ذلك أن تنظيم وسائل النقل الأرضية تُشكِّل أكبر عناصر التأثير على التجمع البشري، وتعكس بصورة مباشرة نشاطات الإنسان الفعلية في الإنتاج والتنقل والتبادل التجاري، بنفس القوة التي تعكس خططه ورغباته في ممارسة هذه الأنواع المختلفة من الأنشطة في المناطق غير المستغلة استغلالًا كافيًا، أو في الأقاليم البكر. وبما أن النقل الحديدي هو أرخص وسائل النقل الأرضي وأكثرها حمولة وثباتًا، فهو إذن أكثرها فعالية.

وفي هذا قيل كثيرًا: إن «أطوال الخطوط الحديدية ما هي إلا مقياس للمدينة» Railroad mileage is an index of civilization، وقيل أيضًا: إنه يمكن الحكم على درجة التقدم الاقتصادي والاجتماعي من شكل شبكة النقل الحديدي.

(٢-٢) هل تقلصت أهمية السكك الحديدية؟

بالرغم من هذه الأهمية للسكك الحديدية في النقل والتنظيم الاقتصادي إلا أن الكثير من الدارسين يرى أن السكك الحديدية تُمثِّل أدوات مرحلة ازدهرت، وإننا قد عبرنا قمتها وبدأنا استخدامات تكنولوجية جديدة في عالم النقل، ويبني هؤلاء وجهة نظرهم هذه على دراسات واقعية تؤكد خلاصة نتائجها أن السكك الحديدية بقايا ماضٍ قريب، وتراث نظام اقتصادي دخل مرحلة التفكك؛ إذ لا شك في أن السكك الحديدية وليدة العصر الصناعي في صوره الأولى. وقد أسهمت مساهمة جبارة في تثبيت أقدام الصناعة وفتح آفاق شاسعة أمام الاستخدام الاقتصادي المعدني والزراعي والسلعي. وقد ظلت السكك الحديدية مسيطرة على النمط الأساسي للنقل على اليابس لمدة قاربت قرنًا من الزمان، وبدأت تهبط إلى مرتبة أدنى مما كانت عليه منذ الربع الثاني من هذا القرن.

والحقيقة أن السكك الحديدية لم تعُد قادرة على الاستجابة لكل متطلبات الاقتصاد الحديث، والسبب في هذا راجع إلى عدد كبير من العوامل المتداخلة. ومن أهم هذه العوامل المنافسة الشديدة التي أصبحت تواجه النقل الحديدي من جانب وسائل النقل الأخرى: القديمة منها والمستحدثة؛ فالتحسن واضح وملموس على النقل المائي الداخلي. وقد سبق أن عالجنا ذلك بما لا يدعو لمزيد من التنويه. والنقل البري على الطرق قد قفز قفزة سريعة منذ الربع الثاني من هذا القرن، وأصبحت السيارة والشاحنة منافسًا له السبق في مرونة الحركة التي لا تتوفر في السكك الحديدية، والنقل الجوي يركز تفوقه منذ منتصف هذا القرن على استيعاب أكبر لحركة نقل الناس، ويسعى منذ فترة للدخول كمنافس قوي في مجال نقل سلع معينة.

ومن ناحية ثانية أدت التغيرات التقنية الكثيرة في مضمار الصناعة إلى إحداث تغيرات مماثلة في الصورة الكلاسيكية لمواقع الصناعات. ولا شك أن عصر البترول كان رأس العناصر المؤثرة في تقنية الصناعة، وأنه أدى إلى زحزحة بعض الصناعات من مواقعها العتيدة جوار مصادر الفحم. وليس هنا مجال للإسهاب في موضوع مواقع الصناعة، لكن يهمنا أن نركز — كمثال — على أن عصر البترول قد سحب قدرًا كبيرًا من أهمية النقل الحديدي بظهور وسائل النقل الأنبوبي للبترول والغاز الطبيعي، بعد أن نمَت أهميتها كمصادر للطاقة في الصناعة الحديثة، بدلًا من الفحم الذي كان يشغل حيِّزًا مهمًّا من حمولة النقل الحديدي.

وكذلك لا يمكننا أن نُغفل ما للتقنية الجديدة من أثر في تخلص كثير من الخامات المعدنية من شوائبها في أماكن المناجم، والاقتصار على نقل الركائز المعدنية النقية، وهو ما أثر في تقليل حمولة النقل الحديدي من المناجم الداخلية إلى الموانئ وأماكن الصناعة. ولا شك في أن للثورة الأوتوماتية في عالم الصناعة متطلباتها الخاصة في نواحي الإنتاج والاستهلاك، وأنه سوف يكون لها نمطها الخاص في عالم النقل، حينما يُقدَّر لها الذيوع والانتشار كنمط سائد في تكنولوجية الصناعة الحديثة.

والخلاصة أن النقل الحديدي قد نزل عن مكانته ورتبته، منذ أن تحوَّل قدر كبير من الصناعة عن الفحم إلى مصادر الطاقة الأخرى. وعلى هذا يمكننا أن نقول — بشيء من التجاوز والتعميم: إن عصر سيادة السكك الحديدية كان مرتبطًا بعصر سيادة الفحم، وإنهما سويًّا كانا يعبِّران عن مجموعة الشروط والارتباطات التي سادت عصر الصناعة الأول خلال القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.

وعلى أية حال فإنه لا يجب أن نفهم من ذلك أننا لم نعد في حاجة إلى النقل الحديدي؛ فكل ما حدث أنه لم يعد «ملكًا» على وسائل النقل على اليابس، بل أصبح «فردًا» من بين مجموعة وسائل النقل الأرضية، وحتى هذه الحقيقة ليست شائعة في أجزاء العالم بنفس الدرجة والقوة، بل هي تكاد أن تقتصر على المناطق التي تتميز بمساحات صغيرة وكثافة في وسائل النقل النهري والبري والجوي والأنبوبي، وتغير في تقنية الصناعة. وبعبارة أخرى فإن السكك الحديدية قد تخلَّت عن مركزها القيادي في مناطق الصناعة الأوروبية والأمريكية الكثيفة. وهذه هي المناطق التي أُقفلت فيها كثير من المحطات الوسطى في الطرق الحديدية تجنبًا للخسارة الناجمة عن قصر المسافات والمنافسة الناجحة للنقل البري المرن.

أما في المناطق والدول ذات المساحات الكبيرة، وخاصة في داخلية القارات حيث لا توجد طرق نقل أرخص بالنسبة للأحجام الكبيرة والأوزان الثقيلة، فإن النقل الحديدي ما زال العنصر السائد في وسائل النقل الأرضية، ويتضح هذا بجلاء من دراسة النقل الحديدي في الاتحاد السوفييتي بصورة عامة، وفي القطاعين الأوسط والغربي في كلٍّ من كندا والولايات المتحدة، وفي أستراليا وفي الصين وفي الهند والأرجنتين والبرازيل وجمهورية أفريقيا الجنوبية، وزائيري، وإلى حد بعيد في نيجيريا والسودان.

(٢-٣) تطور السكك الحديدية

يؤكد موطن السكك الحديدية الأول، وبدايات استخدامها، أصل منشئها كوسيلة النقل الناجحة بالنسبة لعصر الصناعة، فأول شكل للنقل الحديدي نشأ عند المناجم الإنجليزية والألمانية؛ ففي الأصل كان الطريق الحديدي عبارة عن ألواح خشبية تدفع فوقها عربات الفحم من المنجم إلى ضفة النهر، حيث تُنقل مائيًّا بعد ذلك إلى المصانع. وقد جاءت فكرة الألواح الخشبية لتسهيل عملية دفع العربات بعد أن حفرت عجلات العربات الطريق بحيث جعلته وعرًا مضرَّسًا غير صالح للاستخدام. ومنذ ١٦٧٠ شاع استخدام ألواح الخشب عند غالبية المناجم، ولحماية هذه الألواح من التآكل والتكسر غطيت بألواح حديدية، وحينما حلت العجلات المعدنية محل الخشبية في العربات، ظهرت أمام التجربة سهولة الدفع نتيجة لانزلاق المعدن فوق المعدن.

ثم أخذت التحسينات والابتكارات تتوالى بسرعة، فاستبدلت الألواح الخشبية المغطاة بصفائح الحديد، بقضبان من الحديد الزهر في عام ١٧٦٧ عند مناجم كولبروكديل Coalbrookdale، وفي عام ١٧٧٥ عند مناجم شفيلد وفي ١٧٩٤ عند مناجم درهام. لكن هذا الابتكار في وسيلة النقل ظل مقتصرًا على مناطق التعدين، وبرغم شيوعها فإنها ظلت عبارة عن قضبان ثبت إلى الأرض بمواصفاتها الطبيعية دون أي تعديل في شكل التضرس الأرضي، لكن التحسين أخذ يطرأ على خامة القضبان حتى أمكن صنع قضبان من الصلب عام ١٨٢٠ على إثر اكتشاف طرق صهر الحديد الجديدة باستخدام فحم الكوك.
وكانت الخطوة الثانية في النقل الحديدي تحسين وسيلة الدفع والحركة؛ فقد ظلت العربات تدفع بالطاقة البشرية أو الطاقة العضلية الحيوانية (الخيول). وكانت الدفعة الكبرى في النقل الحديدي هي استخدام طاقة غير عضوية في الدفع أو الجر؛ ففي ١٧٦٩ صمم جيمس وات J. Watt أول آلة بخارية ناجحة. وكان ذلك في مدينة جلاسجو (اسكتلندا)، وفي ١٧٧٥ تمكنت شركة بولتون-وات Boulton-Watt في برمنجهام من بناء أول آلة بخارية شغلت لضخ المياه من منجم للفحم. وتوالت بعد ذلك استخدامات الآلة البخارية كقوة محرِّكة في الصناعة وكقوة في الدفع١ إلى أن أمكن استخدامها كقوة دفع في النقل الحديدي عند المناجم في عام ١٨١٣؛ فقد كانت أول قاطرة بخارية تلك التي استُخدمت عام ١٨١٣ لجر عربات الفحم بين المناجم والأرصفة النهرية على نهر التاين (منطقة نيو كاسل في شمال بريطانيا)، ويقال: أول استخدام فعلي لقاطرة بخارية سبق ذلك في منطقة مناجم جنوب ويلز عام ١٨٠٤، وكان سرعة القاطرة ٣٫٥ أميال في الساعة.
وإلى جورج ستيفنسون G. Stephenson (١٧٨١–١٨٤٨) يرجع الفضل الأكبر في تحسين القاطرة البخارية حتى أصبحت وسيلة نقل نافعة وقادرة على المنافسة مع طرق النقل البري والقنوات الملاحية. وقد جاءت هذه الخطوة تحت إلحاح احتياجات الاقتصاد وضغوطه الكثيرة في إقليم لانكشاير؛ إذ إن التقدم الصناعي في الربع الأول من القرن الماضي كان يدعو إلى وسائل نقل ذات كفاءة بالنسبة للسلع ذات الأحجام والأوزان الكبيرة، وخاصة الفحم والقطن بين ليفربول ومانشستر. وفي ٢٧ سبتمبر ١٨٢٥ افتتح أول خط حديدي في العالم لنقل الركاب. وكان ذلك بين ستوكتون ودارلنجتون، جنوبي نيو كاسل. وكان طول هذا الخط ١٥ كيلومترًا فقط، وفي ١٨٣٠ نجح الخط الحديدي المزدوج بين ليفربول ومانشستر؛ لأن سرعته كانت ضعف سرعة عربة الخيل، وتكاليف النقل نصفها.

وقد ترتب على نجاح الخط انتشار الخطوط الحديدية، وخاصة بعد عام ١٨٣٧، ولم تأتِ سنة ١٨٤١ حتى كانت أطوال الخطوط الحديدية في بريطانيا قد بلغت ٢٥٢٠ كيلومترًا.

ودارت معركة منافسة شديدة وعنيفة بين شركات السكك الحديدية والشركات التي تستخدم القنوات كوسيلة للنقل، لكن النجاح كان حليف النقل الحديدي الجديد؛ لأنه تميز بمقياس موحد للقضبان الحديدية مما كان يمكن من نقل السلع مسافات طويلة دون إعادة شحنها، وذلك في الوقت الذي كانت فيه البضائع تتعرض للشحن والتفريغ عدة مرات لاختلاف حجم القنوات وتغير السفن التي تسير في تلك القنوات المتغيرة السعة والعمق. وقد كان ذلك من دواعي بطء النقل وكثرة التالف والفاقد. ولا شك في أن سرعة النقل الحديدي قد أدى إلى إمكانية نقل السلع التموينية والغذائية، دون الخوف من عطبها؛ مما ساعد على خفض تكاليف الحياة، وخاصة بين فقراء المدن وعمالها، وبناءً على هذه الأسباب مشتركة خرجت السكك الحديدية ظافرة في معركتها الأولى ضد كافة وسائل النقل الأرضية الأخرى.

(٢-٤) نمط انتشار السكك الحديدية خارج بريطانيا

بعد النجاح الذي حققته السكك الحديدية في بريطانيا كوسيلة نقل عصرية، بدأ هذا النمط من النقل ينتشر في القارة الأوروبية وخارجها، لكن البدايات كانت ضعيفة، وتكاد أن تقتصر على ربط العواصم بضواحيها لخدمة نقل الركاب؛ مثال ذلك الخطوط القصيرة التي مدت بين باريس وسان جرمان وباريس وفرساي، وبرلين بوتسدام، ونورمبرج-فيرث، وسان بطرسبورج (لننجراد حاليًّا)-تساركوي-سيلو، وليون-سان إتيين، وبروكسل-مالين (مشلين). وبعد ذلك أخذت الخطوط تطول قليلًا لتربط بين مدن رئيسية؛ مثال ذلك ليبزيج-درسدن، وسان بطرسبورج-موسكو، والإسكندرية-القاهرة، ونيويورك-ترنتون. وعلى سبيل المثال بلغت أطوال السكك الحديدية في فرنسا ٥٧٠ كيلومترًا في عام ١٨٤١؛ أي كانت خُمس أطوال السكك الحديدية البريطانية في السنة ذاتها.

والسبب في قصر أطوال الخطوط الحديدية راجع في أساسه إلى أن بداية هذه الخطوط كانت حكومية في غالبية الدول الأوروبية؛ مما جعل التمويل محدودًا ومعارضة الشركات التي تتولى النقل بوسائل الأخرى فعالة وناجحة في جعل هذه الخطوط الجديدة خطوط ركاب قصيرة تخدم نشاطًا مترفًا (نقل الأفراد من الضواحي الغنية إلى العواصم). وعلى هذا النحو ظلت السكك الحديدية بعيدة عن النقل التجاري، وهو أحد أركان وظائفها.

وعلى سبيل المثال ظلت فترة الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي في فرنسا فترة المناقشات الحامية الوطيس والجدل العنيف عن مساوئ ومزايا النقل الحديدي الجديد، من حيث مدى ما يوفره من أمان وسرعة واقتصاد في التكاليف، وحينما ظهرت بوادر نجاح السكك الحديدية في بريطانيا في أواخر الثلاثينيات، بدأت معركة جدلية وتشريعية في فرنسا حول منح الشركات امتيازات لمد الخطوط الحديدية، وأخيرًا نجح ضغط الشركات، وصدر في سنة ١٨٤١ تشريع يقضي بمنح هذه الامتيازات.

وعلى عكس فرنسا لاقت الخطوط الحديدية في بلجيكا نجاحًا مبكرًا؛ فقد مدت الحكومة البلجيكية شبكة نقل حديدية منظمة في معظم منطقة السهول البلجيكية، واستمرت الحكومة في إدارة النقل الحديدي وإنشاء خطوط جديدة منذ ١٨٣٣ حتى ١٨٥٠، حين كفت الدولة عن إنشاء الخطوط، وأخذت الشركات تقيم خطوط نقل جديدة. وبعد فترة أخذت الشركات في التوسع والاندماج مع بعضها، ومنافسة الخطوط الحكومية؛ مما أدى بالحكومة إلى شراء امتيازات الشركات منذ ١٨٧٠، أو أن تبرم معها اتفاقات منذ ١٨٧٣، وفي ١٨٧٤ أصبحت الدولة تمتلك نصف الشبكة الحديدية، وفي ١٨٨٠ أصبحت تمتلك ثلثَي هذه الشبكة.

وقد كانت ألمانيا ممزقة سياسيًّا بين إمارات عدة صغيرة أكبرها كانت مملكة بروسيا. ونظرًا لهذا الوضع السياسي فقد ارتبطت الخطوط الحديدية بكثير من الشك والريب حول الهدف الأساسي من مدها، والخوف من أن تؤدي إلى زيادة نفوذ الإمارات الكبيرة، وابتلاع الإمارات الصغيرة؛ ولهذا نجد أشكالًا مختلفة لنشأة السكك الحديدية في ألمانيا، فبعضها كان خطوطًا قومية أُنشئت على حساب الإمارات والحكومات، وبعضها ترك كمشروعات فردية للمستثمرين من الأفراد والشركات، والبعض الثالث ساهمت فيه مجهودات حكومية وفردية. وقد حاولت مملكة بروسيا أن تهيمن على إنشاء شبكة حديدية متكاملة في ألمانيا، كوسيلة للتوحيد السياسي بزعامتها. وقد ظلت هذه المحاولة متعثرة إلى أن جاء بسمارك ووحد ألمانيا في ١٨٦١، وتم له بعد ذلك شراء الخطوط الحديدية. وهكذا فإن العوامل السياسية كانت وراء امتداد الخطوط الحديدية في ألمانيا؛ فهي في مرحلة التفكك السياسي كانت خطوطًا مبعثرة غير مترابطة، وفي مرحلة التوحيد السياسي أصبحت شبكة نقل متكاملة.

وعلى وجه العموم نستطيع أن نقول: إن البدايات المختلفة للنقل الحديدي في أوروبا قد اختلف كثيرًا عما حدث في بريطانيا؛ ففي حين كان النقل الحديدي موجهًا أولًا إلى خدمة مناطق الصناعة في بريطانيا، وقائمًا على مجهودات الشركات الفردية، نجده في القارة الأوروبية يقع في علاقات ذات خلفيات متعارضة من جانب الشركات الاستثمارية والاتجاهات القومية. وحينما اشتركت الدولة والشركات في مد الخطوط الحديدية (كل على حدة وفي أوقات مختلفة أو متزامنة) كان الهدف الطبيعي هو استقطاب أكبر جانب من حركة النقل ذات الأرباح السريعة، وقد تمثَّل ذلك في نقل الأفراد في مناطق الحركة الكثيفة، بدون شك تلك التي تحدث بين المدن الكبرى وضواحيها وخلفياتها الاقتصادية؛ ولهذا تميزت الخطوط الحديدية الأوروبية بتركيز واضح حول المدن والعواصم.

وقد أدى تضارب المصالح بين الشركات والاتجاهات القومية فيما بعدُ إلى تدخُّل حكومي أكبر، وهو الذي مهد الأمر في النهاية إلى سيطرة الدولة على شبكات النقل الحديدية في صورة ملكية عامة أو مشاركة فعالة مع الشركات. وكانت النتيجة النهائية لهذه السيطرة الحكومية أن يتغلب الاتجاه القومي في مشروعات الخطوط الحديدية، وهذا الاتجاه القومي كان يعني تداخل عناصر مختلفة في تنفيذ الشبكة الحديدية. ومن أهم هذه العناصر التكامل الأرضي للدولة، والأغراض السياسية والأهداف الاستراتيجية، واتجاهات التوسع الإقليمي، هذا بطبيعة الحال جنبًا إلى جنب مع الاستجابة لمتطلبات النقل في مناطق الصناعة الموجودة فعلًا، والمناطق التي يراد تنميتها. وقد كانت هذه المتطلبات الاقتصادية العامل الأول في توجيه شبكة النقل الحديدية البريطانية.

fig29
خريطة ٦-٦: الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة عام ١٨٦٠. (١) الخطوط الحديدية. (٢) طرق عربات الخيل العابرة لغرب الدولة. يلاحظ أن الخطوط الحديدية في عام ١٨٤٠ كانت مقصورة على امتدادات قصيرة بين المدن في منطقة الساحل الشرقي. وكان أطول خط حديدي آنذاك هو الممتد من بوسطن إلى نيويورك ثم واشنطن، ولم يكن هناك خط واحد عابر لسلسلة جبال الأبلاش ليربط بين الساحل الشرقي ومنطقة البحيرات، وفي عام ١٨٦٠ — كما يتضح من الخريطة — نمَت الخطوط الحديدية بسرعة إلى أن أصبحت شبكة نقل حديدية وليس مجرد خطوط مفردة. ولكن الشبكة الحديدية اقتصرت على منطقة الشمال الشرقي بين الساحل وإقليم البحيرات. وقد كانت هذه الشبكة تقل في كثافتها تدريجيًّا كلما بعدنا عن الشمال الشرقي حتى تصير خطوطًا مفردة في منطقة السهول الجنوبية بين الساحل ومحور نهر المسيسبي. أما إلى الغرب من هذا النهر، فلم تكن الخطوط الحديدية قد امتدت بعدُ، وأصبح يتعين على المسافر أن ينتقل إلى وسيلة النقل القديمة: عربات الخيل التي كانت تكمل الطريق بين الشاطئ الشرقي والغربي للولايات المتحدة.
وعلى وجه العموم، فإن الاتجاهات القومية التي كانت وراء امتداد الشبكات الحديدية الأوروبية — وإن لم تكن في الكثير من الحالات عملية ذات ربح وفوائد مباشرة — فقد كانت لها مبرراتها الوجيهة التي يمكن أن نُلخِّصها فيما يلي:
  • أولًا: إن الكثير من الشركات والمساهمات الفردية الاستثمارية في مجالات النقل الحديدي كانت تتميز بتواجد رأسمالي أجنبي (في أحوال كثيرة كان رأسمال إنجليزيًّا). وهذا في حد ذاته كان دافعًا للحساسية القومية المماثلة لحساسية الدول النامية في الوقت الحاضر تجاه رءوس الأموال الأجنبية الاستثمارية؛ ومن ثم كان الاتجاه القومي يرمي إلى تكبيل رءوس الأموال هذه بشروط واتفاقات مختلفة ترمي أولًا وقبل كل شيء إلى تقييد حركته وإلزامه بامتياز ذو زمن معين.
  • ثانيًا: إن علاقات المكان الجغرافي في القارة الأوروبية كانت تختلف جذريًّا عن تلك في الجزيرة البريطانية؛ ففي القرن الماضي (وفي أوائل القرن الحالي) لم تكن الحدود السياسية لمعظم الدول الأوروبية حدودًا «آمنة»، بل كانت مثارًا للنزاعات والحروب؛ ومن ثم كان من الواجب أن تراعي الدول في توجيه خطوطها الحديدية مبدأين: أولهما تأمين مواصلات سريعة وسهلة إلى مناطق الحدود، وثانيهما التركيز على أهمية العاصمة بجعلها المركز الرئيسي الذي تلتقي فيه خطوط الحركة من كافة أنحاء الدولة، ولا تزال الخطوط الحديدية الأوروبية تحمل هذا الطابع إلى الآن، كما هو الحال في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وألمانيا (قبل تقسيمها) والاتحاد السوفييتي.

(٢-٥) حُمَّى السكك الحديدية

الملاحظ أنه إذا كان هناك بطء شديد في انتشار السكك الحديدية في النصف الأول من القرن ١٩، فإن ذلك كان أمرًا طبيعيًّا، فليس من الطبيعي تقبُّل وسيلة نقل جديدة غير معروف مدى الأمان الذي توفره ولا درجة كفاءتها في التشغيل، وليس من الطبيعي ألا تحاربها وسائل النقل السائدة، وهي في هذا تتفق تمامًا مع الطبيعة الإنسانية: عدم تقبُّل الجديد بسرعة، وانقسام الناس إلى فئتي المحافظين والمجددين تجاه كل جديد حتى تخف المعارضة بثبوت صلاحية الجديد.

وحينما أخذ الناس يتقبلون الوليد الجديد، كان تقبُّلهم هذا في صورة نهم شديد، فبعد عام ١٨٥٠ ظهر ما عُرف فيما بعدُ باسم «حُمَّى السكك الحديدية» في القارة الأوروبية بصفة خاصة، وفي أجزاء أخرى من العالم بصفة عامة (وعلى الخصوص في الولايات المتحدة)، ولا يوجد لدينا مقياس لمعرفة درجة حرارة «حُمَّى السكك الحديدية» أحسن من بعض أرقام نتتبع بها أطوال السكك الحديدية في العالم؛ ففي عام ١٨٤٠ كانت الأطوال الحديدية العالمية ٨٠٠٠ كيلومتر، قفزت إلى ٣٨٠٠٠كلم عام ١٨٥٠، وقفزة أكبر إلى ٢٦٣٠٠٠كلم عام ١٨٨١. وفي تلك السنة كانت أطوال الشبكة الحديدية العالمية موزَّعة على القارات على النحو التالي:

أوروبا ١٧٢٠٠٠كم
آسيا ١٥٠٠٠كم
أفريقيا ٤٠٠٠كم
أمريكا ١٦٥٠٠٠كم
أستراليا ٧٠٠٠كم

وفي عام ١٩٥١ — أي بعد مرور قرن على حُمَّى السكك الحديدية — بلغت أطوال الشبكة العالمية ١٣٠٠٠٠٠ كيلومتر، تختص الولايات المتحدة منها ﺑ ٣٥٠٠٠٠كلم وحدها. ومنذ ذلك التاريخ لم يحدث تغيُّر كبير في طول الخطوط الحديدة، باستثناء الخطوط الجديدة في أفريقيا وبعض مناطق آسيا وأمريكا الجنوبية؛ أي في العالم النامي، بينما تجمدت الخطوط الحديدية في أمريكا الشمالية وأوروبا نظرًا لمزاحمة وسائل النقل الأخرى، بل إن الاتجاه في كثير من المناطق الأوروبية والأمريكية هو إلى وقف الحركة على بعض الخطوط، وإقفال المحطات في كثير من الخطوط.

(٢-٦) مشكلات تكنولوجية في السكك الحديدية

(أ) الطرق الحديدية

لأن السكك الحديدية تُمثِّل طريقًا مصنوعًا؛ فإنه له مشكلاته الكثيرة، مثله في ذلك الطريق البري أو طرق الملاحة الداخلية التي يتدخل فيها الإنسان. وقد استفادت السكك الحديدية كثيرًا من الخبرات المتجمعة عن إنشاء الطرق البرية وتحسين الملاحة النهرية وشق القنوات. ونعني بالطريق البري ذلك الطريق القديم الذي كانت تسلكه عربات الخيل، وليس الطريق البري الحديث. فبرغم أن الطريق البري القديم كان يقتضي إنشاءات أقل كثيرًا من الطريق الحديث، إلا أنه كانت له مشكلاته الخاصة بتسوية الانحدارات وتدريجها وعمل «السربنتين» (الطرق التي تتلوى في المناطق الجبلية)، والمعابر التي تقام فوق العوائق المائية … إلخ. وقد استفاد مهندسو الطرق الحديدية من الخبرات السابقة كلها. ومن الأدلة التي تشير إلى ذلك أن عمال بناء الخطوط الحديدية كان يُطلق عليهم في بريطانيا في أوائل عهد السكك الحديد الاسم Navvies، وهو الاسم الذي كان يُطلق على بنائي القنوات.

وأول مشكلات بناء الخط الحديدي كانت ضرورة تمهيد الأرض بحيث توضع القضبان وعوارضها الخشبية على أرض مستوية، سواء كانت سهلية أم منحدرة انحدارًا طفيفًا؛ ومن ثم كان لا بد لبعض مسارات الخط أن ترتفع عن مستوى الأرض فوق جسر، أو أن يحفر لها مسارات منخفضة عن مستوى الأرض المجاورة؛ وذلك لكي يحتفظ الخط بتدرُّج بسيط إلى أعلى أو أسفل، أو أن يحتفظ باستواء عام قدر الإمكان.

ويرجع ذلك إلى أن كتلة القطار الضخمة لا تمكِّنه من ارتقاء المنحدرات مثل السيارة، التي تستطيع ارتقاء طريق انحداره ٧٪ أو ٨٪ (بمعنى أن الانحدار يصل إلى ٧ أو ٨ سنتيمترات في كل متر من طول المنحدر). أما السكك الحديدية فتقاس انحدارات طرقها إلى الألف وليس إلى المائة؛ بمعنى انحدار مليمترات في كل متر. والطريق الحديدي الجيد هو ذلك الذي لا تتعدى انحداراته عن ٥ في الألف، وتصل الانحدارات في الطرق الحديدية الجبلية إلى ٢٥ في الألف كحد أقصى.

ومع تطور سرعة القاطرة، خاصة بعد عام ١٨٥٠، لم يعد في الإمكان وجود منحنيات ذات أقواس صغيرة في الخط الحديدي؛ ولهذا ظهرت الأقواس الكبيرة في الخطوط عند تغيير اتجاهها؛ وذلك حتى يمكن للقطار أن يستمر في سيره بسرعة معقولة.٢ وعلى العموم فإن تقدم صناعة القطار وازدياد الحاجة إلى النقل الحديدي، قد ترتب عليهما ظهور مهارة كبيرة في إنشاء الطريق الحديدي وتثبيت مساره. وقد اقتضى الأمر حفر أنفاق كثيرة في المناطق الجبلية كي يتجنب الطريق الحديدي الدوران حول العوائق التضاريسية، ولكي يتمكن من إنجاز مهمته في عالم النقل: الاقتصاد في طول الطريق وتوفير زمن نقل السلع والركاب. ومن أضخم إنجازات هندسة السكك الحديدية مجموعة الأنفاق الألبية بين إيطاليا وسويسرا، وأطولها نفق سمبلون الذي يبلغ طوله ١٩٫٧ كيلومترًا.٣
وهناك أيضًا الجسور العالية في الأودية الجبلية، أو الجسور الطويلة التي تعبر الأنهار الواسعة، أو تلك التي تعبر مناطق المستنقعات، أو المصبات الخليجية الواسعة. ومن أمثلة ذلك الجسر الذي يعبُر خليج فورث Firth of Forth في اسكتلندا، وذلك الذي يعبُر الدوناو في رومانيا عند بلدة تشرنا فودا بين بوخارست وكونستانزا، وذلك الذي يعبُر جزءًا من بحيرة جريت سولت في ولاية يوتا الأمريكية، ولولا أرباح السكك الحديدية الفعلية أو المرتقبة لما أمكن القيام بهذه الأعمال الهندسية المكلفة.

(ب) قوة الجر وسرعة القاطرات

ومن المشكلات الأخرى التي جابهها النقل الحديدي بنجاح، مشكلة زيادة قوة القاطرات من أجل تحقيق هدفين: أولهما زيادة سرعة القطار واختصار الزمن في قطع المسافات لكي يثبت النقل الحديدي عن جدارة سيادته على عالم المكان والفواصل الزمانية. وكان ثانيهما زيادة قدرة القطار على جر عدد كبير من العربات، سواء كانت عربات ركاب أو بضائع، وذلك لكي يتمكن النقل الحديدي من التوفير في أجرة النقل، ويصبح فعلًا وسيلة نقل قادرة على المنافسة مع الوسائل الأخرى، طبعًا حسب شروط ومواصفات السلع القادرة على تحمُّل أعباء النقل الحديدي العالية بالنسبة للنقل النهري.

وقد ترتب على ذلك أن قوة القاطرات زادت من طاقة قدرها ٢٠ حصانًا في البداية إلى متوسط ٥٠٠٠ حصان في الوقت الحاضر، بل إن هناك قاطرات تصل قوتها إلى ثمانية آلاف حصان، تُستخدم للنقل السريع الطويل أو لجر عدد كبير من العربات. وكذلك كانت حمولة القطار في البداية نحو مائتي شخص زادت إلى ألف أو ألف وخمسمائة شخص في الوقت الحاضر، وبالمثل كانت حمولة قطارات البضائع بضعة مئات من الأطنان في البداية، بينما تصل الآن إلى ما بين ١٥٠٠ و٢٠٠٠ من الأطنان. وفي الولايات المتحدة قطارات بضائع تصل حمولتها إلى ثمانية آلاف طن! أما سرعة القطار فقد زادت من ٤٠ كيلومترًا في الساعة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلى متوسط يتراوح بين ٩٠ و١١٠كلم في الساعة في الوقت الراهن. وفي الولايات المتحدة قطارات تسير بسرعات أكبر بكثير، تصل في متوسطها ١٣٠–١٥٠كلم. وقد كان هذا التقدم نتيجة تطور آلة الدفع في القاطرة من البخار إلى الديزل.

وقد ساعد استخدام الطاقة الكهربائية في الدفع على زيادة سرعة القطارات إلى سرعات تكاد تكون خيالية بالنسبة للنقل على سطح الأرض، وأسرع قطار عامل على الأرض الآن هو خط طوكيو-أوزاكا المسمى خط أكبريس توكايدو Tokaido، الذي تبلغ متوسط سرعته ١٨٥كلم في الساعة.

وقد سجل هذا الخط — في التجارب — سرعة بلغت ٢٤٠كلم/ساعة! وسجل خط نيويورك واشنطن سرعة متوسطها ١٧٥كلم/ساعة، بينما سجلت قاطرات كهربائية أمريكية من هذا النوع سرعة بلغت ٢٥٠كلم في التجارب. وفي فرنسا يبلغ متوسط سرعة القطار بين مرسيليا وباريس ١٢٠كلم، وسجلت أقصى سرعة على قطاع من خط تولوز-باريس عام ١٩٦٧، وقد بلغت مائتي كيلومتر في الساعة.

وليست هذه السرعات التجريبية هي الحد الأقصى لتخيُّل الإنسان؛ ففي أمريكا وكندا وغيرهما محاولات لاستخدام قاطرات نفاثة ذات سرعات أعلى مما هو مسجل الآن.

لكن يجب أن يكون معروفًا أن السرعات العالية ليست اقتصادية، بل تُكلِّف كثيرًا في استهلاك الطاقة، وتحتاج إلى خطوط حديدية خاصة؛ لأنه لا يمكن تشغيل القطارات السريعة والبطيئة معًا على خطوط واحدة. كما أنها ليست اقتصادية؛ لأنها تقتضي مسافات طويلة كي تبرر الطاقة الهائلة التي تستهلكها، بينما غالبية الناس يركبون مسافات محدودة خلال موسم العمل السنوي.

وعلى العموم فإن التطور الهائل في السرعة لم يكن في المستطاع تحقيقه لولا أنه سار جنبًا إلى جنب مع تقدم مماثل في صلابة القضبان والتحكم المركزي الكهربائي في إشارات المرور الخاصة بالقطارات، وفي تحويلات الخطوط، والرقابة الدقيقة على المسارات وتنظيم أوقات السير بدقة متناهية، وتقوية أجهزة إيقاف القطار (الكابحات أو الفرامل).

(ﺟ) التنسيق العلمي بين الوقت والنقل الحديدي

خلاصة القول أن السكك الحديدية قد نجحت في تقصير زمن الانتقال من مكان إلى آخر بصورة مرتبطة باحتياجات العصر الحالي؛ فقد كانت أقصى سرعة سجلت في الماضي البعيد للانتقال على الطرق البرية على النحو التالي: ١٤٥ كيلومترًا في العصر الروماني (باستخدام الفرسان للطرق الرومانية المعروفة) و٢٤٠كلم في اليوم في القرن التاسع عشر (سفر متواصل بعربات الخيل لمدة ٢٤ ساعة)، ولكن متوسط السرعات في الماضي كانت عادة نصف هذه السرعات القصوى؛ أي حوالي ١٢٠كلم في اليوم الواحد بعربات الخيل. وفي مقابل ذلك كان يمكن قطع مسافة ١٢٠٠كلم في اليوم بواسطة السكك الحديدية خلال أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، وحوالي نصف هذه المسافة في الطرق الحديدية القليلة الكفاءة؛ مثل خط سيبيريا عند بداية إنشائه. وفي الوقت الحاضر يمكن للقطارات التي تسير بالديزل أو الكهرباء أن تقطع في المتوسط حوالي ٢٥٠٠ كيلومتر أو أكثر في اليوم الواحد.

وليست السرعة في صورتها المجردة هي كل ما يهمنا إبرازه، بل إن تنظيم القطارات في مواعيد مرتبطة باحتياجات الإنسان هي العنصر الأكثر أهمية في النقل الحديدي. وبعبارة أخرى إن نجاح السكك الحديدية الحديثة في الاستجابة إلى متطلبات العصر الحديث هي أكبر منجزاتها. وأكبر دليل على ذلك تنظيم مواعيد قطارات معينة بين مدن تشتد بينها الحركة، بحيث يتمكن رجل الأعمال من قضاء أعماله والعودة إلى بيته في اليوم نفسه. ومن الأمثلة على ذلك قطار باريس-ستراسبورج: يترك القطار باريس في الساعة الثامنة صباحًا، ويقطع المسافة (٥٠٠كلم) في أربع ساعات وخمس دقائق؛ أي إن رجل الأعمال يمكن أن يصل ظهرًا في ستراسبورج ويقوم بأعماله مع الشركات المعنية في فترة العمل التي تبدأ بعد فترة الغداء مباشرة، ثم يركب قطار السابعة مساءً ويصل باريس الحادية عشرة مساءً. وفي مثل هذه القطارات أجهزة تليفونية تمكن رجال الأعمال من الاتصال بمكاتبهم أو الشركات التي يتفاوضون معها، أو الاتصال بمنازلهم، وأكثر من ذلك فبعض هذه القطارات مزودة بمحل صغير للحلاقة، ومكاتب وسكرتارية يمكن أن تستأجر خلال الرحلة لإنجاز المكاتبات الهامة والتقارير العاجلة بلغات مختلفة.

وقد عُمِّمت «قطارات الأعمال» هذه في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من البلاد المتقدمة. وبطبيعة الحال فإن تسيير مثل هذه القطارات يقتضي دراسة مضنية لأرقام الحركة بين مدن معينة، ونوعية المتنقلين، حتى يمكن إعداد قطار واحد أو أكثر في اليوم الواحد، استجابة لكثافة الحركة. ولا تقتصر هذه الدراسة على حركة المسافرين بالقطارات، بل تمتد لتشمل حركة السفر اليومية على الخطوط الجوية أو الطرق البرية، وذلك لكي تستوعب وتجتذب أكبر عدد من المتنقلين، وبالفعل فإن خطوط الطيران الداخلي في بريطانيا وفرنسا بدأت تشكو من منافسة «قطارات الأعمال» التي سحبت عددًا من المترددين عليها من قبلُ.

ولا شك في أن هذا التنظيم العلمي لاحتياجات النقل السريع في العالم المتقدم يعكس حقيقة وهدفًا تسعى السكك الحديدية إلى تحقيقه. أما الحقيقة فهي أن السرعة التي تحققت في قوة القاطرات قد مكَّنت النقل الحديدي من التوفيق بين متطلبات المتنقلين وبين استخدامهم للقطار. وأما الهدف فهو أن السكك الحديدية، بمزيد من التحسينات في كافة وسائل الراحة والخدمات، دخلت من جديد ميدان المنافسة مع السيارة والطائرة. ولا شك أن السكك الحديدية تمتلك مميزات كبيرة تمكِّنها من تحقيق نجاح مرتقب في ميدان نقل الأشخاص في المسافات المتوسطة (٥٠٠–١٠٠٠كلم)، فالطائرة لا تزال متفوقة في مجال النقل على مسافات طويلة، والسيارة أقدر من القطار في المسافات القصيرة، والميزة الأساسية للسكك الحديدية هي الاقتصاد في الوقود وتكلفة التشغيل بالنسبة للعدد الكبير من الأشخاص الذين يقلهم القطار، مقارنًا بالسيارة والطائرة.

(د) التكنيك الحديث ونقل البضائع

وإذا كان النقل الحديدي بدأ ينظم نفسه ويعاود الكرَّة في ميدان نقل الأشخاص، بعد أن كانت السيارة والطائرة قد سحبت منه أفضليته، فإن ميدان نقل السلع والبضائع لا زال — مع بعض التحفظات في أقاليم النقل النهري — حكرًا على النقل الحديدي في المسافات المتوسطة والطويلة معًا. وفي الحقيقة فإن نقل البضائع هو جوهر وجود السكك الحديدية؛ فهو مُسبِّب ابتكارها ومحرِّك تطورها، وهو في اختصار الخلفية التي تقوم عليها كينونة النقل الحديدي.

إن نقل البضائع بواسطة السكك الحديدية ظل فترة طويلة جدًّا (بالقياس إلى عصر السكك الحديدية) يستخدم عربات البضاعة المعروفة: وهي إما رصيف متحرك على العجلات الحديدية توضع فوقه البضائع، وإما عربات مقفلة بأكملها، أو ذات جوانب بينما سقفها مفتوح، لنقل الخامات المعدنية والصناعية والنباتية ذات الأحجام الكبيرة، أو لنقل الحيوانات، وإما عربات «الفنطاس» لنقل المواد السائلة كالبترول، وقد تطور النقل البري على هذه الأسس جميعًا، فأصبحنا نجد شاحنات ذات مواصفات مختلفة ذات كفاءة في النقل. وقد أدى هذا إلى منافسة قوية للنقل الحديدي، خاصة وأن النقل البري أكثر مرونة وأسرع وأقل تكلفة من حيث عدم تعدد وسائل الشحن؛ ذلك لأن النقل البري هو الذي ينطبق عليه شعار «من الباب إلى الباب» خير انطباق.

لكن النقل الحديدي ظل متفوقًا على النقل البري في مجالين؛ أولهما أنه في مجموعه أرخص في التشغيل من الشاحنات؛ نظرًا للحجم الكبير الذي يحمله، وثانيهما أنه أقدر من الشاحنة على المنافسة في المسافات الطويلة. وقد قُدِّر الحد الأدنى الاقتصادي لنقل البضائع بالسكك الحديدية بمسافة ٣٠٠ كيلومتر.

وبرغم ذلك فإن مشكلة «نهاية الخط» ظلت تسيطر على نقل البضائع بواسطة السكك الحديدية؛ فالبضائع يجب أن تُشحن وتُفرغ، وتتكرر العملية في بداية ونهاية الطريق الحديدي. ولتقليل الفاقد والتالف في عملية التفريغ والشحن المتكرر، ابتكرت هيئة السكك الحديدية البريطانية نظام «الصندقة» (من الصندوق الكبير Container)، ونقلت السكك الحديدية الأخرى عنها هذا النظام، وهذا النظام عبارة عن تعليب البضائع المتجهة إلى وجهة واحدة في صناديق خشبية ضخمة ذات أبعاد وأحجام مصنفة، توضع على عربة السكك الحديدية أو ترفع عنها آليًّا بواسطة ونش متحرك على قضبان. وقد وفر نظام الصندقة كثيرًا من الجهد؛ فالسيارة التي تأتي بالبضائع في مثل هذه الصناديق تتقدم حتى تكون قرب أو بمحاذاة عربة القطار؛ ومن ثم يقوم «الونش» برفع الصندوق ووضعه على عربة القطار، وبذلك فإن عدد الأيدي العاملة في التفريغ والشحن نقص إلى الحد الأدنى، ونقص الوقت اللازم للتفريغ والشحن إلى حد مذهل، ولم يعد هناك فاقد أو تالف في البضائع بالمقارنة بنظام الطرود الصغيرة الذي كان سائدًا من قبل. ولم يقتصر الأمر على كل هذه المحاسن، بل تعداه إلى تقليل قيمة التأمينات المدفوعة على نقليات السكك الحديدية؛ لأن الفاقد بهذه الطريقة لم يعد ممكنًا، إلا في حالة الحوادث الجسمية كالاصطدام أو انقلاب القطار، ولم يعد بوسع لصوص القطارات إسقاط الطرود الصغيرة أثناء سير القطارات؛ فلقد أصبح غير ممكن أن يحركوا هذه العبوات الضخمة.

لكن عبء عملية الصندقة قد وقع على عاتق شركات الشحن التي تقوم بتجميع البضائع المرسلة في وجهة واحدة داخل هذه الصناديق الكبيرة، وعلى هذه الشركات أيضًا تفريع الصناديق وتوزيع الطرود إلى نهاياتها المرغوبة.

وقد ساعد نظام الصندقة على سرعة عمليات الشحن والتفريغ في النقل البحري، بل والجوي أيضًا، وتقليل الفاقد أثناء عملية النقل بين السكك الحديدية والسفن، وبالرغم من الفوائد التي جناها النقل بواسطة الصناديق إلا أن هناك بعض مشاكل مرتبطة بتوحيد أحجام الصناديق،٤ وطريقة رفعها بالأوناش؛ مثال ذلك هل يحمل الصندوق من أعلى أم من أسفل؟ ولا شك أن الرفع من أعلى أسهل وأسرع، ولكن ذلك يقتضي أن يكون قاع الصندوق قويًّا ليحتمل الوزن الذي بداخله. ويمكن التغلب على هذه المشكلة بإضافة إطارات حديدية حول الصندوق، ولكن هذه الإطارات تتعرض للصدأ خلال عمليات النقل البحري، وقد يمكن صناعة الإطارات من الصلب، لكنه مكلف؛ ولهذا توضع إطارات حديدية مغطاة بالألمنيوم.

وقد تعددت أنواع الصناديق حسب نوع البضائع التي تحملها؛ فهناك صناديق خاصة للثلاجات (البرادات) واللحوم، وأنواع أخرى ذات تنظيم داخلي لحمل السلع الزجاجية أو الفخاريات، أو الدراجات. وهناك صناديق مفتوحة لنقل طوب البناء بأشكاله المختلفة، وقرميد أسقف البيوت، وصناديق أخرى مجهَّزة بضغط الهواء لنقل السلع المسحوقة (البودرة). وهذه تمكِّن من ضغط المسحوق أو سحبه أثناء عمليات ملء أو تفريغ الصندوق.

ونظرًا لتوحيد القياسات وإنتاج السلع وتبادلها ونقلها بكثرة، فإن فكرة الصندقة، وإن كانت ناجحة تمامًا، إلا أنها لم تعُد كافية في المناطق ذات الكثافة العالية في النقل السلعي؛ فالصندقة تتضمن تأخيرًا في عمليات ترتيب السلع داخل الصندوق في شركة الشحن من أجل تجميع السلع المنقولة في الاتجاه الواحد، لهذا فإن عدة تطبيقات جديدة في مجال نقل السلع قد لاقت نجاحًا كبيرًا في عدد من الدول الصناعية.

ففي النقل الحديدي في أمريكا الشمالية أصبحت السلع تجمع في شاحنات مجرورة، ثم تُرفع تلك الشاحنات بحمولتها كما هي فوق عربة السكة الحديدية بعد فكها من الجرار. وعلى هذا النحو أصبحت عربات السكك الحديدية عبارة عن رصيف حديدي يجري على عجلاته، يحمل فوقه شاحنة كاملة بعجلاتها، وتُسمَّى هذه الطريقة النقل على الظهر Piggy-back traffic.
وفي فرنسا أُدخلت تعديلات على هذه الطريقة بمقتضاها تدخل عجلات الشاحنة في جيوب معدَّة على سطح عربة القطار، وذلك لتقليل ارتفاع الشاحنة بما يتفق مع الأنفاق التي تعبرها الخطوط الحديدية أو الجسور التي تمر من تحتها، وتُسمَّى هذه الطريقة نظام الكانجرو Kangarou System تشبيهًا لها بحيوان الكانجرو الأسترالي الذي يوجد في بطنه كيس أو جيب يحمل فيه الصغار. وأهم مزايا طريقة الكانجرو عدم الحاجة إلى استخدام الونش كما يحدث في الطريقة الأمريكية؛ فالجرار يصعد بالشاحنة فوق ظهر العربة الحديدية ثم يتركها، وفي محطة الوصول يستقبلها جرار آخر تربط إليه وينطلق بها إلى وجهتها. وفي هذا أيضًا مزية السرعة وتقليل إشغال عدد من الأيدي في عملية النقل الحديدي (انظر القسم المصور، الفصل الثامن من هذا الكتاب).
وقد ابتكر الناقلون في السكك الحديدية أفكارًا أخرى لأنواع معينة من السلع ذات الحجم الكبير والتي لا يسهُل صندقتها، كالفحم وخام الحديد والأسمنت، والطين الخاص بعمل الفخاريات والصيني، وذلك بشرط أن يكون هناك استمرار يومي لشحن مثل هذه السلع من مكان ثابت إلى آخر: مثلًا من المناجم إلى المصانع. ومن أهم المبتكرات في هذا الصدد قطار بضاعة يتكون من عدد ثابت من عربات النقل ذات مواصفات واحدة، لا يفك رباطها بين بعضها البعض، وتمر العربات — في حالة الفحم وخام الحديد — تحت أنبوب يفرغ شحنة محدودة داخل كل عربة، ثم يقلع القطار إلى وجهته. وهناك تفتح العربة من أسفل أوتوماتيكيًّا لتُفرغ حمولتها في فتحات خاصة بعدد العربات، ثم يكمل القطار دورته متجهًا إلى المنجم. وهكذا يمكن للقطار أن يقوم بعدة رحلات يومية دون توقف يذكر، ودون تدخُّل كبير من جانب اليد البشرية، ودون فاقد أو تالف يذكر. وقد قدرت هيئة السكك الحديدية البريطانية أنه بهذه الطريقة التي تُسمَّى القطار الدائري المرح Merry-go-round يمكن نقل خمسة ملايين طن من الفحم في السنة باستخدام ٢٠٥ من العربات، بدلًا من استخدام ٢٠٠٠ عربة بالطريقة العادية.

وهناك أنواع مختلفة من العربات موجهة لخدمة سلع خاصة، لمزيد من المحافظة عليها؛ مثال ذلك العربات التي تنقل صفائح وملفات الصلب الثقيلة، المجهَّزة بغطاء حديدي منزلق للمحافظة على الملفات من عوامل الجو.

وإذا كان النقل الحديدي قد أصبح في إمكانه نقل الشاحنات فوق ظهره فإن العكس قد حدث أيضًا؛ فقد أصبح في الإمكان نقل العربات الحديدية التي تنقل السوائل، كالبترول وبعض المواد الكيميائية، فوق مجرورات كبيرة تربط إلى جرار ضخم يتجه بها على الطريق البري صوب وجهتها، دون الحاجة إلى تفريغ الحمولة مرتين: الأولى عند محطة السكة الحديدية، والثانية عند المصنع أو المكان المتجهة إليه هذه الحمولة. ومعنى هذا اختصار عمليات النقل إلى النصف، وتوفير الوقت بنسبة كبيرة. ولمزيد من الوصف راجع بعض هذه المستحدثات في الفصل الثامن القسم المصور من هذا الكتاب.

هذا ولا يمكننا تتبع جميع أشكال الاستحداثات التي أدخلتها السكك الحديدية في العالم لمواجهة مشكلات النقل، ومحاولة استقطاب النقل السلعي مرة أخرى، فإن تتبعها قد يخرجنا عن موضوعنا الأساسي بعض الشيء. ويمكننا أن نقول: إنها كلها تنطوي على محاولات لتطبيق مبدأ السرعة والأمان ورخص الأجور. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن التحسينات تمتد إلى القضبان ونظام الإشارات الأوتوماتيكية لمزيد من الأمان.

(٢-٧) متاعب النقل الحديدي

(أ) العمالة البشرية

برغم التحسينات المذكورة في النقل الحديدي، فإن هناك مشكلات مستعصية سببها الرئيسي العامل البشري وليس العنصر المادي، وهذا يُثبت من جديد أن التقدم التكنولوجي أسرع بكثير من التقدم البشري عامة؛ وذلك لأن العلاقات المادية بسيطة بالقياس إلى العلاقات البشرية والحضارية الشديدة التعقيد والتشابك والتداخل. وعلى هذا فإن التقدم الذي أحرزه تكنيك النقل يعوقه في أحيان كثيرة إضرابات عمال الشحن أو عمال السكك الحديدية أو عمال صناعة السكك الحديدية. ويؤدي هذا إلى تكدس البضائع، سواء كانت طرودًا عادية، أو صناديق موحدة القياس، أو شاحنات مختلفة الأنواع. ويترتب على ذلك أن جميع المكاسب التي يجنيها التقدم التكنولوجي، يجبُّها العامل البشري في علاقاته المتفاعلة داخل جميع المستويات الاجتماعية في المجتمع الواحد أو المجتمع الدولي.

وإلى جانب ذلك، فإن للنقل الحديدي عيبًا يختص به بالمقارنة بالنقل البري، ذلك هو أنه لا توجد تلك العلاقة المباشرة التي تتضمنها المواجهة الشخصية بين العملاء من الشاحنين وبين صاحب أو مدير شركة للشحن البري، فهيئات السكك الحديدية عادة أجهزة إدارية كبيرة تنتفي فيها المسئولية المباشرة بين الشاحن وإدارة النقل السلعي الحديدي؛ وبالتالي يصعب تحديد المسئولية في التأخير والتلف أو الفاقد.

(ب) النقل الحديدي في سوق المنافسة

على الرغم من هذه المصاعب التي يسببها العامل البشري في النقل الحديدي، نجد أن السكك الحديدية عامة قد نجحت في تثبيت أقدامها في نقل السلع، في مواجهة منافسة متزايدة من جانب كافة وسائل النقل الأرضية الأخرى، بما في ذلك النقل المائي الداخلي والنقل الجوي. ولكن الصورة غير ذلك تمامًا في نقل الأشخاص؛ ففي هذا المضمار تفقد السكك الحديدية أرضًا كثيرة، وخاصة في مواجهة الطريق البري والجوي.

النقل الحديدي في سوق المنافسة؛ مثال من الولايات المتحدة

جدول ٦-١: أولًا: في مجال النقل السلعي (بليون طن/ميل).
السكك الحديدية النقل النهري النقل البري أنابيب البترول النقل الجوي
السنة طن/ميل ٪ طن/ميل ٪ طن/ميل ٪ طن/ميل ٪ طن/ميل ٪
١٩٤٠ ٤١٢ ٦٣ ١١٨ ١٨ ٦٢ ٩ ٥٩ ٩ ٠٫٠١٤ ٠٫٠٠٢
١٩٥٠ ٦٢٨ ٥٧ ١٦٣ ١٥ ١٧٢ ١٦ ١٢٩ ١٢ ٠٫٣١٨ ٠٫٠٣
١٩٦٠ ٥٩٥ ٤٥ ٢٢٠ ١٧ ٢٨٥ ٢١ ٢٢٨ ١٧ ٠٫٧٨٠ ٠٫٠٦
١٩٦٧ ٧٤٢ ٤٢ ٢٧٤ ١٥ ٣٨٨ ٢٢ ٣٩١ ٢١ ٢٫٦٠٠ ٠٫١٥
جدول ٦-٢: ثانيًا: في مجال نقل الأشخاص (بليون شخص/ميل).
السنة السكك الحديدية النقل النهري النقل البري* مترو المدن النقل الجوي
شخص/ميل ٪ شخص/ميل ٪ شخص/ميل ٪ شخص/ميل ٪ شخص/ميل ٪
١٩٣٩ ٢٣ ٦٥ ١٫٥ ٤٫٣ ٩ ٢٦ ٠٫٩ ٢٫٧ ٠٫٦ ٢
١٩٤٩ ٣٥ ٥٣ ١٫٤ ٢٫١ ٢٢ ٣٤ ٠٫٨ ١٫٣ ٦٫٧ ١٠
١٩٦٩ ١٣ ١٣ ٣٫٣ ٢٫٧ ٢٥ ٢٠ ٨٥٫٥ ٦٧
ملاحظات: المقصود النقل «بالباصات» فقط، وبذلك لا يشتمل على السيارات الخاصة.
†  المقصود أنواع النقل الحديدي الكهربائي داخل نطاقات وحدود المدن فقط. وقد أُدمج في السكك الحديدية في أرقام ١٩٦٩. الأرقام نقلًا عن (مع بعض التعديل في الكسور العشرية) Information Please Almanac, 1970, P. 185.
ويمكننا أن نُلخِّص نتائج الجدولين على النحو التالي:
  • أولًا: في مجال النقل السلعي نجد زيادة كبيرة في حمولة كل وسائل النقل، ولا يزال النقل الحديدي مسيطرًا بحصة تزيد عن خُمسي الحمولة السلعية. لكن هناك اتجاهًا إلى التناقص في نسبته المئوية بالقياس إلى ارتفاع متزايد في حصة النقل البري والأنبوبي، وتذبذب واضح في حصة النقل النهري (الذي يشتمل على النقل في البحيرات العظمى). والخلاصة أنه في نحو ربع قرن كانت نسبة الزيادة في هذه الوسائل على النحو التالي (باعتبار سنة ١٩٤٠ سنة الأساس = ١٠٠): السكك الحديدية ١٨٠، النقل النهري ٢٣٢، النقل البري ٦٢٦، النقل الأنبوبي ٦١٢، النقل الجوي ١٨٥١٤.

    رغم أن نمو حمولة السكك الحديدية قد سجلت أقل نسبة، إلا أنه يجب علينا أن ندرك أن هناك حدودًا للنمو بالنسبة لشبكة الخطوط الحديدية، وإلا أصبحت خاسرة اقتصاديًّا، وأن التحسينات التكنولوجية التي طرأت هي المسئولة عن هذا النمو في الحمولة؛ لأن أطوال الخطوط الحديدية لم تزد في تلك الفترة.

  • ثانيًا: في مجال نقل الأشخاص نلحظ المنافسة القوية من جانب النقل الجوي والبري. وقد كانت السكك الحديدية تساهم بنقل نحو ثلثَي المسافرين في عام ١٩٣٩، وارتفعت هذه المساهمة إلى ٧٤٪ عام ١٩٤٤. ولا شك أن ذلك الارتفاع كان نتيجة الحرب العالمية الثانية، واتجاه عمليات النقل الجوي والبري للأغراض العسكرية. ومنذ نهاية الحرب أدى النمو السريع في إنتاج السيارات والطائرات، وافتتاح طرق برية سريعة وإنشاء شبكة نقل جوي داخلية كثيفة، إلى جذب المسافرين إلى النقل الجوي والبري لتفوقهما على النقل الحديدي بالمرونة (الطريق البري) والسرعة (الطريق الجوي).

    ومما لا شك فيه أن عظم مساحة الولايات المتحدة وتباعُد مراكزها الإنتاجية والحيوية أعطى الطيران الداخلي مجالًا مثاليًّا لممارسة نشاطه بنجاح في وجه وسائل النقل الأرضية، وهذا هو ما يحدث أيضًا في الدول ذات المساحات الشاسعة، كالاتحاد السوفييتي وأستراليا وكندا، مع فوارق التقدم التكنيكي ومنافسة شركات الطيران في الولايات المتحدة بالقياس إلى الدول الأخرى.

    أما النقل البري فقد نجح في اجتذاب المسافرين إليه في نوعين من المناطق: أولهما منطقة الكثافة المدينية الهائلة في شرق الولايات المتحدة، والثانية في المناطق الريفية والرعوية الواسعة التي تقل فيها خدمات السكك الحديدية (راجع الشكل ٣-١ [والخرائط]٥ ٣-١ و٦-٩).
ونتيجة لهذا فإننا نجد أن السكك الحديدية كانت الوسيلة الوحيدة، من بين وسائل النقل المذكورة، التي سجلت نقصًا في خدمة نقل الأشخاص خلال السنوات خلال ١٩٣٩–١٩٦٩. فإذا اعتبرنا أرقام ١٩٣٩ = ١٠٠، فإننا نجد أرقام ١٩٦٩ كانت على النحو التالي:
  • السكك الحديدية ٥٦٫٥٪.

  • النقل المائي الداخلي (النهري والبحيرات) ٢٢٠٪.

  • النقل البري العام (الباصات) ٢٧٣٪.

  • النقل الجوي ١٢٥٠٣٪.

وعلى الرغم من نجاح وسائل النقل الأخرى في جذب المسافرين عن السكك الحديدية، فإن الإحصاءات تؤكد أن القطار هو أكثر أمانًا وأن السيارة هي أكثر وسائل نقل الأشخاص تعرضًا للحوادث، ولا يحتاج الجدول التالي إلى إبراز أكثر دلالة لهذه الحقيقة:

جدول ٦-٣: حوادث السير في الولايات المتحدة.
وسيلة النقل مليون شخص/ميل عدد الوفيات عدد الوفيات لكل مليون شخص/ميل
١٩٦٨ ١٩٦٦ ١٩٦٨
سيارات خاصة وتاكسي ١٥٣٠٠٠٠ ٣٦٥٠٠ ٢٫٤٠ ٢٫٤٠
سيارات خاصة على الطرق الرئيسية ٤٢٠٠٠ ٥٣٠ ١٫٢٠ ١٫٣٠
الباصات ٦٦٦٠٠ ١٦٠ ٠٫٢٢ ٠٫٢٤
السكك الحديدية ١٣١٠٠ ١٣ ٠٫١٢ ٠٫١٠
الطيران الداخلي ٨٦٩٠٠ ٢٥٨ ٠٫٢٤ ٠٫٣٠

(ﺟ) القضبان الحديدية ومقاييسها

تشكل القضبان الحديدية الطريق الخاص للنقل الحديدي، ومنها استمد هذا النوع من النقل اسمه، ويتكون الطريق الحديدي من خطين متوازيين من القضبان الحديدية مثبتة إلى الأرض بواسطة عوارض خشبية (أو حديدية أو من الخرسانة المسلحة حسب ظروف البيئية وتآكل العوارض)، وتُسمَّى هذه العوارض «فلنكات»، وتمهد الأرض جيدًا، بحيث لا تكون هناك انحدارات كبيرة، ثم تُثبَّت الفلنكات بطرق وأعداد مختلفة حسب سرعة ووزن القطارات، وعلى هذه الفلنكات تُثبَّت القضبان الحديدية.

ونظرًا لأن هذا الطريق الحديدي الخاص هو الأساس الذي يقوم عليه النقل الحديدي، فإن الاهتمام الذي يوجه إلى صيانته بالغ الأهمية في السكك الحديدية، وهو في الحقيقة الشغل الشاغل لهيئات السكك الحديدية: هناك دائمًا إصلاحات وتغيرات وتفتيش مستمر على مدى ثبات الفلنكات والقضبان، منعًا للاهتزازات أو الانزلاق وحوادث الخروج عن الخط والانقلاب. وبعبارة أخرى فإن تأمين الخط الحديدي هو أساس الأمان النسبي الذي يتمتع به النقل الحديدي بالمقارنة إلى وسائل النقل الأرضية الأخرى.

وكل التحسينات التي طرأت على النقل الحديدي (السرعة وثقل القاطرات وعربات الركاب أو البضاعة) ما كان لها أن تتم لولا حدوث تحسينات كثيرة مماثلة في القضبان والطريق الحديدي؛ ففي بداية عصر السكك الحديدية كان وزن المتر الواحد من القضيب الحديدي ٢٠ كيلوجرامًا، وأصبح متوسط وزنه الآن ٥٠ كيلوجرامًا، ولمضاعفة مقاومة القضبان للنقل والسرعة ارتفع وزن المتر في الولايات المتحدة إلى ما بين ٦٥ و٨٠ كيلوجرامًا. لكن مثل هذه القضبان الثقيلة تكلف غالبًا، ومن ثم فإن هناك محاولات عديدة في أوروبا لتقليل التكلفة بابتكارات جديدة؛ مثال ذلك استخدام قضبان طويلة مثبتة إلى العوارض بمواد مرنة (بلاستيك) تحيط بطبقة من الصلب لزيادة تقويته، وتتكون قاعدة القضبان من الكاوتشوك أو البلاستيك، ولنعومة السير تلحم القضبان إلى بعضها لأطوال مائة متر أو أكثر مع جعل الفواصل القليلة مشطوفة بزوايا متقابلة في طرف القضبان لكي يتمدد هذا القضيب الطويل أو ينكمش دون ترك فاصل يزعج السير.

وإلى جانب ذلك فإن الطرق الحديدية لا تتميز باتساع واحد بين القضيبين، وفي العالم ثلاثة مقاييس، هي:
  • (١)

    السكة الضيقة، وهي التي يبلغ اتساع قضبانها ٣ أقدام و٦ بوصات؛ أي ١٫٠٦ متر.

  • (٢)

    السكة العادية، ويبلغ اتساع قضبانها ٤ أقدام و٨٫٥ بوصات، أي ١٫٤٣ متر.

  • (٣)

    السكة العريضة التي يبلغ اتساع القضبان فيها ٥ أقدام و٣ بوصات، أي ١٫٦ متر.

وقد اتخذت الدول واحدًا من هذه المقاييس بناءً على ظروفها وخلفيات الاستثمار الحكومي والأهلي. والملاحظ أن كثيرًا من المستعمرات البريطانية في أفريقيا قد أُنشئت فيها خطوط حديدية ضيقة، وهو ما يعوق النقل السريع. ولكن معظم أجزاء العالم تستخدم المقياس العادي، بينما يستخدم الاتحاد السوفييتي المقياس العريض، وأيًّا كان المقياس الذي تستخدمه الدولة، فإن ذلك لا يعني شيئًا إلا إذا كان هناك مقياسان مختلفان، ففي هذه الحالة يصبح النقل الحديدي عملية مكلفة؛ لما يتضمنه من تفريغ وشحن عند نقط التقاء الخطوط ذات المقاييس المختلفة. وقد كان ذلك من بين معوقات النقل الحديدي في مصر، حينما كانت الخطوط الرئيسية الحكومية (مقياس عادي) تلتقي بخطوط الشركات الأهلية (سكة ضيقة). وقد ألغت مصر هذه السكك الضيقة بعد انتهاء امتيازاتها.

ويُمثِّل تعدد المقاييس في أستراليا حالة لا مثيل لها، وتؤدي فعلًا إلى إقامة عقبات لا داعي لها أمام النقل الحديدي، ومثل هذه الحاجة نجدها بصورة مخفضة في الهند والبرازيل.

ففي إقليمَي أستراليا الغربية وكوينزلاند نجد السكة الحديد الضيقة، وفي إقليم نيوساوث ويلز السكة الحديد العادية المقياس، وفي إقليمَي فكتوريا وأستراليا الجنوبية تسود السكة الحديدية العريضة؛ وسبب الاختلاف راجع إلى أن كل إقليم كان يبني خطوطه الحديدية في وقت مغاير لغيره، وفي غياب خطة مركزية عامة، وعدم وجود سلطة مركزية ذات نفوذ، وبسبب هذا الاختلاف في مقاييس الخطوط الحديدية الأسترالية تحدث إضاعة كبيرة للوقت وتلف للبضائع في النقل الحديدي؛ فالقطار يستغرق ١٤ يومًا ليقطع الرحلة من مدينة سدني في نيوساوث ويلز إلى مدينة بيرث في أستراليا؛ نظرًا لتغير مقياس الطريق الحديدي ثلاث مرات: المقياس العادي في نيوساوث ويلز، والعريض في فكتوريا وأستراليا الجنوبية، والضيق في أستراليا الغربية، بينما يمكن أن تستغرق هذه الرحلة خمسة أيام فقط لو كان هناك مقياس حديدي موحد. وقد شعرت أستراليا بضرورة توحيد القياس. ومنذ عام ١٩٦١ بدأت تنفيذ خطة التوحيد بالنسبة للخطوط التي تربط عواصم الأقاليم السابق ذكرها، وفعلًا تم تنفيذ أول مرحلة في عام ١٩٦٨، حينما حُوِّل الخط الضيق إلى المقياس العادي بين مدينتي بيرث وكالجورلي في أستراليا الغربية.

(٢-٨) أنماط الخطوط الحديدية

fig30
خريطة ٦-٧: أداء السكك الحديدية الألمانية.

الأهمية النسبية للحركة على الخطوط الحديدية وتأثير الانقسام السياسي لألمانيا على انفصال الحركة الثقيلة؛ نتيجة تكوين مراكز اقتصادية جديدة لها توجيه مخالف في كلٍّ من ألمانيا الغربية والشرقية.

إن أطوال الخطوط الحديدية ومدى كثافة شبكة النقل الحديدي في معظم الأقاليم هي نتاج تفاعل أربعة عناصر، هي:
  • (١)

    درجة التقدم في مضمار الحضارة الصناعية بمعناها الواسع؛ أي الأخذ بمبدأ الإنتاج للتسويق.

  • (٢)

    كثافة السكان.

  • (٣)

    درجة التقدم في استغلال الموارد الطبيعية.

  • (٤)

    شكل التضاريس.

وتُنتج هذه العناصر معًا أشكالًا مختلفة من الشبكات الحديدية؛ فالعناصر الثلاثة الأولى تلعب دورها واضحًا في تكوين شبكة كثيفة، كما هو الحال في بريطانيا وشرق الولايات المتحدة وشمال فرنسا ونطاق الراين الألماني وشمال إيطاليا، من بين مناطق أخرى كثيرة. وتحدد أشكال التضاريس شبكة الخطوط بمسارات محددة في المناطق الجبلية أو بشبكة واسعة في مناطق السهول. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك الخطوط الحديدية المتحددة المسارات في جنوب فرنسا، والمنتشرة في صورة شبكة في السهل الفرنسي الشمالي (انظر الخريطة ٦-٩).

وتحدد مناطق الإنتاج اتجاه الخطوط الحديدية بينها وبين موانئ التصدير، ويتضح هذا في سهول البمبا في الأرجنتين، كما توضحه شبكة الخطوط الحديدية في أستراليا وجنوب أفريقيا وزائيري ونيجيريا بوضوح شديد (انظر الخريطة ٣-٦، ٦-١٠).

وليست الكثافة السكانية وحدها دافعًا لوجود شبكة حديدية؛ ففي الصين أو جاوة نجد خطوطًا حديدية قليلة، وذلك بالرغم من أن النقل الحديدي رخيص. لكن العبرة في مد الخطوط الحديدية بكثرة تنقل الأفراد والبضائع، وهما شرطان لم يكن لهما وجود واضح في الصين إلى فترة غير بعيدة.

ويمكننا أن نضيف إلى العناصر الأربعة السابقة عنصرًا خامسًا يتدخل بوضوح في مدى كثافة الحركة على الخطوط والشبكات الحديدية؛ ذلك هو الحدود السياسية القومية التي تؤدي بالضرورة إلى انخفاض كثافة الشبكة وحركة النقل معًا. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبلُ (انظر الخريطة رقم ٣-٣)، ويؤكد ذلك أيضًا حالة ألمانيا بعد تقسيمها (انظر الخريطة ٦-٧).

fig31
خريطة ٦-٨: أداء السكك الحديدية الفرنسية، نموذج لشبكة حديدية كثيفة.

وخلاصة القول أنه يمكننا أن نميز بين ثلاثة أنماط في الخطوط الحديدية، هي: الشبكة الكثيفة، والخطوط العابرة للقارات، وخطوط الاختراق.

  • أولًا: الشبكة الكثيفة Net work: وهذه هي الشبكة الحديدية التي تخدم منطقة ازدحام سكاني وكثافة في الإنتاج والخدمات، كمنطقة لندن أو الرور، موسكو، أو بلجيكا. وتتكون الشبكة عادة من خطوط حديدية متقاربة، متوازية ومتقاطعة في نقاط عديدة لكي تقوم بخدمة المنطقة خدمة جيدة. وقد بلغت الشبكات المحلية درجة التشبع في عدد من المناطق أو الدول، مثل بلجيكا وألمانيا الغربية وبريطانيا وشمال شرق الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الحالات لا نجد خطوطًا حديدية جديدة، بل على العكس في بعض الحالات إلغاءً لخطوط أو تقليل الخدمة على خطوط أخرى. وفي مقابل ذلك تُبنى وصلات جديدة بين بعض الخطوط لتقصير المسافات في المناطق التي تشتد بها كثافة النقل السلعي أو نقل الأشخاص. ومثل هذه الوصلات الجديدة تُبنى أيضًا بغرض تبسيط شكل الشبكة، أو تحويل قطارات الحركة البطيئة أو السريعة عليها، حسب مقتضيات الحال.

    والمناطق التي تتمتع بمثل هذه الشبكات الكثيفة هي بعينها المناطق التي تزيد فيها منافسة وسائل النقل الأخرى للسكك الحديدية؛ مما يسبب لها خسارة واضحة. وقد كان هذا هو السبب الذي دعا الكثيرين إلى الاعتقاد بأن السكك الحديدية قد فقدت عرشها، ولكن — وكما قلنا من قبل — فإن هذه المناطق، بما فيها من نشاطات بشرية متعددة، كانت قد دعت إلى نشأة شبكة حديدية كثيفة من قبلُ، وتدعو إلى جانبها كثافة وسائل النقل الأخرى للأسباب نفسها.

    وقد ركزت هيئات النقل الحديدي جهودًا خارقة، سبق أن ذكرنا طرفًا منها، من أجل تحسين النقل الحديدي وتسهيله؛ لتمكين السكك الحديدية من الوقوف بنجاح أمام منافسة وسائل النقل الأخرى. وقد كان إقفال بعض الخطوط الحديدية أو تقليل الحركة عليها، من بين الوسائل التي اتبعتها هيئات السكك الحديدية لتحسين موقفها المنافس. وقد يؤخذ ذلك على أنه تراجع. لكنه في الواقع تراجع حكيم؛ فهو يقلل من خسائر الخطوط غير الناجحة، ويزيد من المقدرة على المنافسة في مناطق أخرى. وقد بلغت أطوال الخطوط الحديدية التي أُقفلت في وجه الحركة في فرنسا ٢٠٠٠ كيلومتر عام ١٩٣٨، ارتفعت إلى ١٥ ألف كيلومتر عام ١٩٥٨. وفي بريطانيا أُقفلت ٦٧٠٠ كيلومتر من الخطوط الحديدية بين أعوام ١٩٤٩–١٩٦١، واقترحت تقارير لجنة بيتشنج Beeching عام ١٩٦٣، مزيدًا من إقفال الحركة على خطوط أخرى. وفي الولايات المتحدة بلغت أطوال السكك الحديدة القمة عام ١٩١٦ (٤٢٥ ألف كم) انخفضت إلى ٤١٧كلم عام ١٩٢٥، ثم إلى ٣٩٣ ألف كم عام ١٩٤٠ وإلى ٣٥٥ ألف كم عام ١٩٦٩. ومعنى ذلك أن ٦٢ ألف كم من أطوال السكك الحديدية الأمريكية قد أغلقت في الفترة ١٩٢٥–١٩٦٩.
  • ثانيًا: الخطوط العابرة للقارات Trans-continental: هذا هو النمط الثاني من الخطوط الحديدية، والهدف منه ربط الأراضي البعيدة المختلفة في تركيبها الاقتصادي والسكاني عبر مساحات ومسافات واسعة. وفي النهاية نجد الخطوط العابرة للقارات تربط بين محيطين أو بحرين متباعدين عبر دولة واحدة أو عدة دول. ومن أمثلة الخطوط العابرة للقارات داخل الدولة الواحدة، خط حديد سيبيريا الذي يربط أجزاء الاتحاد السوفييتي من المحيط الباسيفيكي إلى البحر البلطي. وإذا استكملنا شبكة الاتصال الحديدي بين الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية سوف نجد خطًّا حديديًّا عابرًا للقارات يربط بين المحيط الباسيفيكي في الشرق والمحيط الأطلنطي في الغرب. وهناك أيضًا مجموعة الخطوط العابرة لأمريكا الشمالية في كندا والولايات المتحدة (راجع خريطة ٦-٩)، وهي التي تربط المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي في عدة نقاط.

    وفي أستراليا نجد أيضًا الخط العابر للدولة من الشرق إلى الغرب. وفي أمريكا الجنوبية يعبُر الخط الأرجنتين وشيلي ليصل بين المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي. وفي أفريقيا خط عابر معقد الاتجاهات، لكنه يربط بين المحيط الهندي (في نقطتين هما بيرا في موزمبيق، ودار السلام في تنزانيا) والمحيط الأطلنطي الجنوبي في نقطة واحدة هي بنجويلا-لوبيتو في أنجولا)، وبذلك يعبُر هذا الخط أنجولا وزائيري وزامبيا، ومن هنا يتفرع إلى اتجاهين: القديم منهما يتجه جنوبًا عبر زمبابوي (روديسيا) إلى موزمبيق، والحديث (في مرحلة الإنشاء) يتجه شمالًا عبر زامبيا وتنزانيا إلى دار السلام.

    fig32
    خريطة ٦-٩: الخطوط الحديدية العابرة للولايات المتحدة.

    وبرغم سبق أوروبا في استخدام النقل الحديدي، إلا أنه لا يوجد فيها خط عابر للقارة أُنشئ بهذا الهدف، أو بناءً على خطة مسبقة هدفها الوحيد عبور القارة، وبرغم ذلك فإن في أوروبا الآن خطوطًا عابرة كثيرة، ربما أكثر من أي قارة أخرى. وقد جاء هذا نتيجة اقتراب الشبكات الحديدية القومية من بعضها؛ ومن ثم ربطت إلى بعضها، باتفاقات دولية؛ مثال ذلك الخط العابر من البحر المتوسط في إيطاليا إلى موانئ بحر الشمال في ألمانيا وهولندا، والذي حُفرت من أجله عدة أنفاق طويلة في جبال الألب في سويسرا والنمسا.

    وأشهر الخطوط العابرة في أوروبا قطار الشرق السريع الذي يمتد من إسطنبول ويمر ببلجراد وفيينا وشتوتجارت وباريس ولندن. وفي الحقيقة فإن الجزء الممتد من إسطنبول عبر بلغاريا ويوجسلافيا قد أُنشئ بهدف سياسي، كجزء من خط برلين-بغداد ليربط بين ألمانيا والدولة العثمانية، ويهدف إلى تهديد مصالح بريطانيا في الخليج العربي والمحيط الهندي. وكان ذلك في بداية هذا القرن، حيث كان هناك تحالف بين ألمانيا وإمبراطورية النمسا والدولة العثمانية ضد الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية.

    ومن بين الخطوط الأخرى العابرة لأوروبا إكسبريس الشمال بين باريس وموسكو مرورًا ببرلين، وإكسبريس الجنوب بين مدريد وباريس، وإكسبريس البحر المتوسط-بريطانيا من مرسيليا إلى لندن مرورًا بباريس وكاليه ودوفر إلى لندن، وإكسبريس روما-برلين مبتدئًا بنابولي، ومرورًا بفلورنسا وميلانو وإنسبروك وميونخ. ويمكننا أن نجد في أوروبا خطوطًا عابرة كثيرة أخرى، ويجب أن نلاحظ وجود المعابر البحرية التي تكمل الطرق الحديدية إلى كلٍّ من بريطانيا والجزر الدانمركية والسويد.

    فهناك عبَّارات بحرية تنقل القطار بحمولته من الموانئ الفرنسية (وخاصة كاليه) والبلجيكية (أوستند) والهولندية (روتردام) إلى الموانئ الإنجليزية المقابلة، وعبَّارات أخرى تعمل بانتظام بين كوبنهاجن وموانئ دانمركية أخرى إلى مالمو والموانئ السويدية المقابلة. وقد كانت هناك عبَّارات على مضيق البسفور. لكن الجسر الجديد الذي تم افتتاحه في أواخر عام ١٩٧٣ فوق هذا المضيق قد سهل العبور الحديدي لأول مرة بين أوروبا وآسيا، ومما يسهل الانتقال بين الشبكات الحديدية القومية في الدول الأوروبية أنها كلها تتخذ مقياسًا موحدًا للقضبان الحديدية، وهو المقياس العالمي (٤ قدم و٨٫٥ بوصات).

  • ثالثًا: خطوط الاختراق Intragressive, Iine of Penetration: وهذا النمط عبارة عن خط يمتد من ميناء ما صوب الداخل حيث توجد منطقة إنتاج أو تجمع سكاني. ومثل هذه الخطوط نادرة الظهور في القارة الأوروبية، باستثناء مناطق محدودة، مثل إقليم لابلند في شمال اسكندنافيا (نارفيك-كيرونا) والشمال السوفييتي الأوروبي (خط كوتلاس-أوختا-فركوتا-سالكهارد).
    وقد كان نمط السكك الحديدية الفرنسية في ١٨٥٠ من هذا النوع، حيث امتدت الخطوط الحديدية من باريس إلى ١٢ مدينة في صورة إشعاع نجمي مركزه العاصمة الفرنسية. وكانت توجد خطوط حديدية منعزلة بين متز ونانسي وبين ديجون وشالون، وبين روان Raonne (على أعالي اللوار) وليون، وبين أليه Alés وأفنيون ومرسيليا.

    وفي عام ١٨٦٠ ظهر هذا النمط الإشاعي في النقل الحديدي الإنجليزي. وبطبيعة الحال كانت لندن مركز هذا الإشعاع، مع خطوط منعزلة في شمال إنجلترا، والسبب في ظهور خطوط الاختراق على هذا النحو في القرن الماضي في فرنسا وبريطانيا راجع إلى أن خطوط التجارة أقدم من الخطوط الحديدية، وأنه كان على هذه الخطوط أن تتبع حركة التجارة والنقل لكي تصبح استثمارات ناجحة اقتصاديًّا، وتُثبِت أنها قادرة على استيعاب النقل التجاري ومنافسة الطرق الأقدم.

    وهذا الارتباط بطرق التجارة يفسر لنا سبب امتداد الخطوط الحديدية في نفس الاتجاه الذي كانت تسلكه القنوات والطرق النهرية الملاحية، مثال ذلك المحوران القديمان للنقل النهري في بريطانيا: المرزي-التيمز، والسفرن-الهمبر. ويتقاطع هذان المحوران عند برمنجهام، المركز الصناعي الكبير في بريطانيا.

    أما في القارات الأخرى، فإن طرق الاختراق ظاهرة واضحة من دراسة أي خريطة للخطوط الحديدية، وخاصة في المناطق المدارية، حيث تظهر مناطق محدودة للنشاط الاقتصادي في الداخل، تحتاج إلى طريق حديدي يربطها بميناء التصدير، أو حيث تكون العاصمة في الداخل؛ ومن ثم يمتد منها خط حديدي إلى ميناء الدولة. والأمثلة كثيرة على خطوط الاختراق الحديدية في إثيوبيا وبرما وتايلاند وشمال أستراليا وبيرو والبرازيل.

    fig33
    خريطة ٦-١٠: النقل في نيجيريا، نموذج لسيادة النقل الحديدي. يلاحظ أن الطرق الحديدية والنهرية لا تتنافس، بل كل يجري في مساره مكملًا للآخر، والحال نفسه نجده بالنسبة للطرق البرية التي تتعامد على محور الخطوط الحديدية، ونادرًا ما تجري موازية لها، وبذلك فإن شبكة النقل النيجيرية عبارة عن محاور رئيسية تسيطر عليها الخطوط الحديدية. لاحظ أيضًا أن الخطوط الحديدية مرتبطة في اتجاهاتها الرئيسية بين ميناءي التصدير في لاجوس وبورت هاركوت، وبين مناطق إنتاج الخامات الزراعية والتعدينية الموجهة للتصدير، وهي بذلك تُمثِّل خطوط الاختراق أصدق تمثيل. مناطق النشاط الاقتصادي: (١) نطاق القطن والفول السوداني. (٢) نطاق جديد في الشمال الشرقي تمتد إليه الخطوط الحديدية لأغراض استراتيجية في هذه المنطقة من الدولة، بالإضافة إلى الرغبة في التعمير السكاني والاقتصادي. (٣) نطاق الكاكاو والقطن. (٤) نطاق الأخشاب والمطاط. (٥) نطاق نخيل الزيت. (٦) منطقة التعدين في هضبة جوس (القصدير والكولمبايت). (٧) منطقة الفحم (لجنايت) في إينوجو (٨) منطقة إنتاج البترول الجديدة في دلتا النيجر.

(٢-٩) ملكية الخطوط الحديدية

منذ بداية عصر السكك الحديدية اختلفت الدول في شكل ملكية الطرق الحديدية؛ ففي بريطانيا بدأ النقل الحديدي بشركات خاصة. وكذلك كان الحال في الولايات المتحدة. أما في القارة الأوروبية فقد كان الميل واضحًا إلى امتلاك الدولة لهذه الوسيلة الجديدة من وسائل النقل؛ ففي فرنسا وبلجيكا وألمانيا أشرفت الدولة على الخطوط الحديدية، واشترت امتيازات الشركات الخاصة التي كان قد سمح لها بإقامة الخطوط الحديدية في بداية العصر الحديدي. وهكذا نجد مبدأين: الشركات الخاصة، وإشراف الدولة بطريقة أو أخرى (شركات وطنية مساهمة – تأميم شركات خاصة – ملكية كاملة للدولة).

وقد كان في بريطانيا عدد كبير من الشركات التي تمتلك خطوطًا حديدية. ونتيجة للتضارب والمضاربة، أصدرت الحكومة البريطانية قانونًا عام ١٩٢١ يقضي بإدماج هذه الشركات المتعددة في أربع شركات رئيسية، كنوع من التنظيم في مجال النقل الحديدي. وبعد الحرب العالمية الثانية أممت بريطانيا النقل الحديدي كله (عام ١٩٤٨). وهكذا أصبحت الولايات المتحدة وبوليفيا، ومناطق أخرى قليلة في العالم تسير على مبدأ ملكية الشركات للخطوط الحديدية، بينما يسود في بقية العالم أنواع وأشكال مختلفة من ملكية الدولة أو مساهمتها بنِسب مؤثرة في إدارة السكك الحديدية.

وتعطينا الولايات المتحدة مثالًا ممتعًا في دراسة ملكية الشركات للخطوط الحديدية، ففي بداية عصر السكك الحديدية في أمريكا كانت المنافسة على أشدها بين الشركات على اجتذاب الركاب والبضائع في مناطق محدودة. وعلى سبيل المثال كانت هناك في عام ١٨٥٠ أحد عشرة شركة تعمل على خط حديدي واحد، طوله ٤٠٠كلم، يربط بين مدينتي بفلو (على بحيرة إيري) ومدينة الباني (على أعالي نهر الهدسن)، وفي عام ١٩١١ كان في الولايات المتحدة أكثر من ١٣٠٠ شركة تعمل في النقل الحديدي. لكن المنافسات الحادة والمضاربات والأزمات، بالإضافة إلى اندماج الشركات في تجميع Pool أو ترست Trust، قد أدى إلى إخراج (أو إفلاس أو بيع) الشركات الضعيفة وخروج الشركات الكبيرة في صورة أقوى وأكثر احتكارًا. وفي الوقت الحاضر (الستينيات) توجد ١٠٥ من الشركات تكاد تسيطر تمامًا على كل شبكة النقل الحديدية الأمريكية، ومن أمثلة اندماج الشركات أن شركة نيويورك المركزية N.Y.Central System ضمت إليها شركة توليدو وأوهايو، وأصبحت بذلك تمتلك ١٦ ألف كيلومتر من أطوال السكك الحديدية الأمريكية (٥٪ من طول الشبكة الأمريكية) وتنقل سنويًّا ٤٥ مليون راكب (١١٪ من حركة الركاب) و١٦٥ مليون طن من البضائع (١٣٪ من حركة البضائع الأمريكية)، وفي أواسط الستينيات اندمجت هذه الشركة مع شركة شيزابيك وأوهايو.
وأكبر شركات السكك الحديدية الأمريكية هي «أتشيزون توبيكا وسانتافي» Atchison Topeka and Santa Fe Road، التي تمتلك ٢١ ألف كيلومتر من الخطوط الحديدية التي تمر عبر ١٢ ولاية بين شيكاجو ولوس أنجلوس. وتمتلك كل شركة من شركات الخطوط الحديدية الأمريكية محطاتها ومخازنها وورش الإصلاح والقاطرات والعربات وخطوطًا تلغرافية وتليفونية، فضلًا عن خطوطها الحديدية، ولكن كل هذه الشركات تنتمي إلى «اتحاد السكك الحديدية الأمريكية» الذي يخطط كثيرًا لتحسين النقل الحديدي منذ إنشائه عام ١٩٢٣، وبالرغم من ملكية الشركات لعرباتها، إلا أن عربات البضاعة تعمل في صورة تجميع بين الشركات حتى لا تتعرض البضائع لعمليات التفريغ والشحن كثيرًا.

(٢-١٠) حقائق رقمية عن السكك الحديدية

أصبحت صناعة النقل الحديدي من الصناعات ذات الثقل في عالم الصناعة في الوقت الحاضر؛ فهي تضم أعدادًا كبيرة من الأيدي العاملة والمهندسين والخبراء والإداريين والفنيين، كما تشتمل في أحيان كثيرة على ورش ومصانع للعربات والقاطرات، وفي أحيان أخرى يمتد نشاط هيئات وشركات السكك الحديدية إلى قطاعات أخرى في عالم الصناعة والخدمات.

وقد سبق أن رأينا أن شركات السكك الحديدية الأمريكية تحتكر كثيرًا من الخدمات. وتمتلك أيضًا شاحنات برية من أجل إحداث تكامل في النقل وتحقيق مبدأ النقل من الباب إلى الباب. ويمكن أن تعطينا الأسطر التالية فكرة عن ضخامة العمليات التي تقوم بها السكك الحديدية الفرنسية في عالم النقل والخدمات والصناعة.

تمتلك الحكومة الفرنسية ٥١٪ من أسهم شركة السكك الحديدية الفرنسية الوطنية S.N.S.F. ولهذه الهيئة (عام ١٩٦٩) ٣٦ ألف كم من أطوال الخطوط الحديدية، منها ٩٠٠٠ كيلومتر من الخطوط المكهربة، وتشتغل على هذه الخطوط ٦٥٠٠ قاطرة بخارية (فحم) و٣٠٠٠ قاطرة ديزل، و١٤٠٠ قاطرة تسير بالدفع الكهربائي، ٣٧٥ ألف عربة ركاب وشحن، ويعمل بالشركة ٣٦٠ ألف شخص.

وتتميز الشركة بتكامل رأسي وتركُّز أفقي. ويتمثل التكامل الرأسي في امتلاك محطات كهربائية تُنتج حوالي ١٧٠٠ مليون كيلووات ساعة من الطاقة، وامتلاك ٣٩ مصنعًا لبناء القاطرات والعربات وسيارات الشحن وقوارب العبور (عبَّارات)، كما تمتلك الشركة ثمانية سفن منها ثلاث سفن للركاب وثلاث أخر للبضائع وسفينة عبور. ويتم التكامل باشتراك مالي مع شركات الصناعة الميكانيكية والهندسية. ولها أيضًا أسهم ومصالح في ٩٠ شركة صناعية ومالية، ومن بينها بعض شركات النقل الأخرى. أما التركيز الأفقي فيظهر في صورة امتلاك الشركة لعدد كبير من السيارات السياحية والباصات والفنادق، بالإضافة إلى مدارس ومراكز تدريب العمال. وكذلك تمتلك مدنًا للعمال بلغ مجموعها أكثر من مائة ألف مسكن.

هذا وتبلغ أطوال السكك الحديدية في العالم الآن حوالي ١٫٢٥ مليون كيلومتر، منها حوالي ٤٠٠ ألف كم في أوروبا و٣٥٥ ألفًا في الولايات المتحدة و١٣٥ ألفًا في الاتحاد السوفييتي. وبعبارة أخرى تمتلك هذه الأقاليم الثلاثة حوالي ثلاثة أرباع الخطوط الحديدية في العالم. وتترتب دول العالم الأولى من حيث أطوال الخطوط الحديدية على النحو التالي: الولايات المتحدة ٣٥٥ ألف كلم، الاتحاد السوفييتي ١٣٥ ألف كلم، كندا ٧٢ ألف كلم، الهند ٥٧ ألف كلم، أستراليا ٤٤٫٦ ألف كلم، الأرجنتين ٤٤ ألف كلم، البرازيل ٣٨ ألف كم.

وتتسم الخطوط الحديدية في الدول الأربع الأخيرة باختلافات كبيرة في مقاييس خطوطها الحديدية؛ ففي الهند ٢٦ ألف كم من الخطوط ذات المقياس العادي والباقي خطوط ضيقة. وفي أستراليا أكثر من نصف الخطوط من النوع الضيق، وفي الأرجنتين ٢٤ ألفًا خطوط عريضة، وخمسة آلاف كم خطوط عادية، و١٥ ألفًا خطوط ضيقة، وفي البرازيل تسود نسبة عالية من الخطوط ذات المقياس العادي.

وتمتلك فرنسا أطول شبكة حديدية في أوروبا؛ ففيها ٣٦ ألف كم من الخطوط الحديدية، منها تسعة آلاف كم من الخطوط المكهربة، تليها في ذلك ألمانيا الغربية بأطوال حديدية قدرها ٣٤ ألف كلم، منها ٨٫٥ آلاف كم من الخطوط المكهربة، ثم بريطانيا بأطوال قدرها ٢٩ ألف كم منها ستة آلاف مكهربة، وفي إيطاليا ٢١ ألف كم من الأطوال الحديدية منها ١٣ ألفًا مكهربة، وهي بذلك أعلى نسبة في الخطوط الحديدية المكهربة في الدول الأوروبية. وتمتلك اليابان ٢٨ ألف كم من الخطوط الحديدية موزَّعة على خطوط الدولة (٢١ ألفًا منها ٥٫٤ آلاف كم مكهربة) وخطوط الشركات (سبعة آلاف كم منها ٥٫٨ آلاف مكهربة).

(٢-١١) السكك الحديدية بين الاستثمار الخاص والتخطيط

نموذج من الاتحاد السوفييتي

نقصد بهذا المثال دراسة تطبيقية للفرق بين إنشاء الخطوط الحديدية في مسطح قاري كبير كالاتحاد السوفييتي، في بداية عهد الاستثمار الفردي الذي كان يسعى لتأمين أكبر عائد من الأرباح، وبين التخطيط المدروس من أجل تكامل وتفاعل النقل مع برامج التنمية الاقتصادية، وليس معنى ذلك أن العفوية في عصر الاستثمار الفردي — شركات أو أفرادًا — لم يكن عملية اقتصادية ناجحة.

بل إن مثل ذلك الاستثمار كان يتطلب دراسة دقيقة لمناطق الحركة أو المناطق التي يمكن أن يؤدي فيها خط النقل الحديدي إلى حركة ونشاط اقتصادي. ولكن هذه الاستثمارات الفردية لم تغامر بفتح أراضٍ جديدة للنشاط الاقتصادي؛ لأن ذلك يؤجل أرباحها فترة طويلة، بينما تستطيع الحكومات أن تتحمل ذلك ضمن إطار كبير من خطط التنمية الاقتصادية. وفيما يلي دراسة موجزة لإنشاء الخطوط الحديدية في الاتحاد السوفييتي في عهدين: القيصري والسوفييتي.

(أ) في عهد القيصرية

عرفت روسيا القيصرية «حُمَّى» السكك الحديدية متأخرة عن كثير من الدول الأوروبية الغربية؛ ففي ١٧٣٨ أُنشئ أول خط حديدي امتد بين سان بطرسبورج (العاصمة) وضاحيتها تساركوي-سيلو Tsarkoie-selo، أنشأه المهندس الألماني فوق جرتزنر. ومضت فترة طويلة حتى أُنشئ أول خط رئيسي في عام ١٨٥١ بين بطرسبورج وموسكو، وفي عام ١٨٦٠ بلغت أطوال الشبكة الحديدية الروسية ١٥٠٠ كيلومتر، بينما كانت في الولايات المتحدة في ذلك التاريخ قد زادت عن خمسين ألف كيلومتر.
وبينما كان الأمريكيون يرون في الخطوط الحديدية شرايين أساسية لفتح الآفاق الواسعة للبلاد أمام التقدم الاقتصادي، لم تهتم حكومة القيصر بهذه الوسيلة الجديدة من وسائل النقل، بل تركت هذا المجال الحيوي في أيدي المضاربين والمغامرين، ويتمثل ذلك أصدق تمثيل في الفترة بين ١٧٧٠–١٨٨٠، وهي الفترة التي شهدت «ملوك» النقل الحديدي في روسيا، من أمثال فون مك Von Meck ودرفوز Dervoz وبولياكوف Polyakov. وقد قصر هؤلاء «الملوك» اهتماماتهم على روسيا الأوروبية؛ حيث تتركز النشاطات الاقتصادية الحديثة؛ وحيث يمكن أن تجني الخطوط الحديدية أرباحًا طائلة. أما بقية الدولة فكانت متخلفة فقيرة بحيث لم تبرر — عند هؤلاء المستثمرين — عملية شق الطرق الحديدية فيها.
وهكذا ظلت الخطوط الحديدية محدودة في أطوالها وتَوزعها؛ ففي عام ١٨٨٠ كانت الأطوال الحديدية ١٩ ألف كيلومتر. وفي هذه السنة بالذات بدأت حكومة القيصر تنفذ — بواسطة الجيش — خطًّا حديديًّا يمتد إلى بلاد التركمان في وسط آسيا، وواضح أن الدافع الجوهري لهذه الخطوة من جانب حكومة القيصر هو دافع استراتيجي وعسكري. وفي عام ١٨٨٦ وصل هذا الخط إلى بلدة ميرف Merv (مرو) على الحدود الإيرانية التركمانية حاليًّا. وفي عام ١٨٨٨ وصل الخط إلى مدينة سمرقند، ذات الشهرة التاريخية كمحطة قوافل رئيسية طوال كل العصور التاريخية. وبعد قليل من إنشاء هذا الخط ظهرت أهميته الاقتصادية في فتح وسط آسيا أمام التجارة؛ فقد زادت صادرات تلك المنطقة من الجلود والقطن والفراء إلى روسيا الأوروبية.

ويعود إنشاء خط حديد سيبيريا إلى الرغبة في دعم التوسع الروسي سياسيًّا وعسكريًّا، مثله في ذلك مثل خط حديد التركستان. وقد بدأ في إنشاء خط سيبيريا عام ١٨٩٢. وكانت الرحلة من فلاديفوستوك عبر سيبيريا إلى روسيا الأوروبية رحلة شاقة قبل إتمام هذا الخط، إذ كان على المسافر أن يستخدم أجزاءً من أنهار إيرتش وأوب وينسي وآمور، ليكمل الانتقال البري بواسطة العربات والزحافات، أو على ظهور الخيل، ورغم مشقة الرحلة فقد كان هناك ثمة درب واضح بين فلاديفوستوك والأورال، وهو بصورة عامة الطريق الذي التزمته السكك الحديدية الجديدة.

وقد اتبع المهندسون الذين أنشئوا خط حديد سيبيريا المناطق سهلة الاختراق في سيبيريا الغربية، مبتعدين قدر الإمكان عن مناطق العوائق الجغرافية، فتجنبوا التاييجا (الغابات المخروطية) السيبيرية، وساروا بحذاء حدها الجنوبي حتى نهر أوب، ولكنهم في سيبيريا الوسطى اضطروا مرغمين إلى اختراق مناطق جبلية كثيرة، والتفوا بالخط الحديدي جنوبي بحيرة بايكال، وفي القسم الشرقي من الخط استفادوا من وادي آمور وسهول منشوريا حتى وصلوا إلى فلاديفوستوك بعد عشر سنوات شاقة؛ أي في عام ١٩٠٢. وقد كان العمل يسير بمعدل مد ٧٠٠ كيلومتر من الخط الحديدي كل عام، تحت ظروف المناخ القاسية وقلة الأيدي الماهرة. وقد بلغ عدد الأنفاق التي حُفرت في المناطق الجبلية ٣٠٠ نفق، ويبلغ طول الخط ٧٨٠٠ كيلومتر، وهو بذلك أطول خط حديدي عابر للقارات في العالم أجمع.

وقد ظهرت أهمية سكة حديد سيبيريا بسرعة خلال الحرب الروسية اليابانية (١٩٠٤-١٩٠٥). كما أن الانتقال من طوكيو إلى لندن، الذي كان يستغرق ٥٠ يومًا بالبحر عبر قناة السويس، كان يستغرق ١٦ يومًا عبر سكة حديد سيبيريا، مع أن سرعة القطارات في ذلك الوقت لم تزد عن ٣٥ كيلومترًا في الساعة في معظم قطاعات هذا الخط. لكن الأهمية الاقتصادية قد ظهرت خلال عشر سنوات من افتتاح هذا الطريق، فقد عمر مليون فلاح روسي وأوكراني مناطق الإستبس حول نهر إيرتش؛ وهي منطقة تُعَدُّ امتدادًا للأراضي السوداء في جنوب روسيا الأوروبية، وفي عام ١٩١٣ بلغت الأطوال الحديدية في روسيا ٦٧ ألف كيلومتر.

(ب) في العهد السوفييتي

بعد انتهاء العهد القيصري عام ١٩١٧ أخذ الحزب الشيوعي يوجه كل جهوده من أجل تطوير الدولة الجديدة صناعيًّا. وكان يرى في تطوير وسائل النقل الأساس الذي يمكن أن ينبني عليه النمو الاقتصادي. وكان النقل الحديدي يحتل مكانًا مرموقًا في نظر المخططين لضخامة الدولة وتباعُد مناطقها. لكن الظروف السياسية التي مرت بها الدولة السوفييتية في بداية نشأتها أدت إلى تعطيل خطط التنمية كثيرًا، ومع ذلك فإن الاهتمام بتطور السكك الحديدية كان يسير بشكل مرضٍ، فحولت الخطوط الحديدية المفردة إلى خطوط حركة مزدوجة في كثير من المناطق التي تستدعي ذلك. وتدريجيًّا بدأت الخطط الاقتصادية تأخذ طريقها إلى التطبيق، ومعها إنشاء طرق حديدية جديدة. وكان من جرَّاء ذلك ظهور شبكة حديدية كثيفة في المنطقة الأوروبية، وظهور شبكة جديدة شرقي الأورال، تربط بين أقاليم الأورال والتركستان وكوزباس، تخدم ثلاثة أهداف في هذه المنطقة:
  • (١)

    نقل الآلات والمعدات والبترول والخامات المعدنية من الغرب إلى الشرق.

  • (٢)

    نقل الفحم والخشب والحبوب من الشرق إلى الغرب.

  • (٣)

    نقل البترول والمعادن والقطن من الجنوب إلى الشمال.

وبناء على هذه الأهداف الثلاثة أصبحت المحاور الأساسية للخطوط الحديدية الهامة على النحو التالي:
  • (١)
    خط تركستان-سيبيريا Turk sib: وقد كان هذا باكورة الطرق الحديدية في التخطيط السوفييتي في منطقة شرق الأورال. وبدأ العمل فيه عام ١٩٣٠، ويبدأ هذا الخط من مدينة نوفوسيبيرسك، على خط حديد سيبيريا، إلى مدينة «ألما أتا» — عاصمة جمهورية قازاكستان السوفييتية، وطول الخط ١٤٠٠ كيلومتر. وقد استُكمل فيما بعدُ ليصل إلى خطوط تركستان القديمة. وقد فتح هذا الخط القسم الشرقي من قازاكستان وسفوح جبال تين شن، ويُنقل عليه الفحم من إقليم كوزباس وخشب التاييجا السيبيرية إلى قازاكستان مقابل القطن والبترول والجلود إلى الشمال. وتُمثِّل نوفو سيبيرسك واحدة من أهم وأكبر المراكز الصناعية في سيبيريا (تعدين ومصانع للصلب والحديد ومسابك للمعادن ومصانع للجرارات والطائرات). ومنذ إنشاء هذا الخط زاد سكان مدينة «ألما أتا» من ٦٠ ألف شخص إلى ٢٣٠ ألفًا خلال عشر سنوات، وهم يزيدون الآن عن نصف مليون شخص.
    fig34
    خريطة ٦-١١
  • (٢)

    خط حديد كاراجندا: ويبدأ من بترو بافلوفسك على خط سيبيريا ويتجه جنوبًا إلى كاراجندا، ثم يمتد إلى بحيرة بلكاش. وقد ساعد هذا الخط على تنمية استغلال حقول الفحم الغنية في كاراجندا، التي يُنقل منها إلى منطقة الأورال الصناعية، كما أدى إلى إمكانية استغلال مناجم النحاس الكبيرة التي توجد حول بحيرة بلكاش، وخاصة عند كونرادسكي.

  • (٣)
    خط سيبيريا الجنوبي Iougsib: وهو خط على جانب كبير من الأهمية؛ يربط منطقة الأورال الجنوبية بقازاكستان الشمالية وإقليم كوزباس المنتج الكبير للفحم. ويبدأ الخط من مدينة ماجنتو جورسك في الأورال ويمر بمدينة تسلينوجراد (حيث يتقاطع مع خط كاراجندا)، ثم مدينة بارناول على أعالي نهر الأوب (حيث يتقاطع مع خط ألما أتا)، ثم يخترق إقليم كوزباس، وينتهي إلى مدينة أباكان على الينسي الأعلى. ويخترق هذا الخط أقاليم الزراعة في شمال قازاكستان ويربط عدة مناطق تعدينية كبيرة.
  • (٤)

    خط الأورال الجنوبي: ويربط بين ماجنتوجورسك ومدن كارتلاي وترويتسك وشيليابنسك، وكلها مناطق تعدين هامة في جنوب الأورال. وقد ساعد هذا الخط، مع الخطوط الأخرى، على جعل ماجنتوجورسك واحدة من أهم مراكز الصناعة الثقيلة في الاتحاد السوفييتي.

وإلى جانب ذلك فإن السوفييت قد فتحوا بعض المناطق الشمالية أمام الاستغلال التعديني الحديث بواسطة مجموعة من الخطوط الحديدية معظمها مركز في الشمال السوفييتي الأوروبي. ومن أهم الخطوط ذلك الذي يمتد إلى طرف الأورال الشمالية ويمر بحوض البتشوار وحوض الدفينا الشمالي، ويربط المنطقة بحوض الفولجا في الجنوب ولننجراد في الغرب. وينقل هذا الخط أخشاب المنطقة، وفحم فركوتا وبترول أوختا، وحديثًا مد الخط من فركوتا عبر شمال الأورال إلى بلدة سالكهارد على مصب نهر الأوب، حيث ظهرت منطقة غنية من مناطق الغاز الطبيعي في حوض الأوب الأدنى.

وهناك مشروع آخر لمد خط حديدي من خط سيبيريا إلى حوض لينا الأوسط؛ حيث توجد ثروة تعدينية كبيرة. وقد بدأ المشروع من مدينة تايشت على خط سيبيريا ووصل إلى براتسك على أعالي نهر أنجارا، وإلى أوست كوت وكيرنسك على أعالي نهر لينا، وتهدف الخطة إلى مد الخط بعد ذلك إلى مدينة ياكوتسك على أواسط لينا.

وهكذا فإن الاهتمام بالنقل الحديدي كوسيلة لتأسيس نشاط اقتصادي حديث، قد أدى — في خلال حوالي ٣٥ عامًا — إلى تركيز للنقل في سيبيريا الغربية والوسطى والتركستان، وساعد بدون شك على حسن استغلال مصادر الطاقة الغنية المتمثلة في فحم حوضَي كوزباس وكاراجندا، وبترول إقليم باشكيريا (بين الأورال والفولجا). وقد حدا هذا النشاط بالكثير إلى القول أن الاتحاد السوفييتي قد أنشأ في تلك المنطقة «قلبًا» اقتصاديًّا جديدًا، بدلًا من الاعتماد على النشاط الاقتصادي المكثف في القسم الأوروبي من الدولة فقط.

(٣) النقل البري

لا شك في أن النقل البري هو أسبق وسائل النقل الذي عرفه الإنسان، وذلك حينما كان يتنقل ويتحرك على قدميه، أو ينقل بعض الحمولات على رأسه وكتفيه وظهره، وحينما استأنس الحيوان. ويمكننا أن نقسم النقل البري إلى قسمين واضحين؛ هما:
  • (١)

    النقل والتحرك على اليابس دون وجود طريق ممهد؛ أي الانتقال على الطرق الطبيعية كما مهدتها الطبيعة دون أي تدخُّل من أجل تمهيدها وتعبيدها.

  • (٢)

    النقل والتحرك على طرق مهدها الإنسان بوسائل مختلفة.

ومن الطبيعي أن يكون النقل على الطرق الطبيعية أسبق من الطرق الممهدة بواسطة الإنسان، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان قد استغنى عن الطرق الطبيعية؛ فهو لا يزال يستخدمها في النقل التقليدي بواسطة قوافل الحمالين أو قوافل الحيوان في النطاقات المتخلفة اقتصاديًّا، أو حيث لا يوجد من الظروف البشرية والاقتصادية ما يدعو إلى تمهيد الطرق، مثل قلة الحركة والتجارة في النطاقات الجبلية العالية أو الوعرة أو الصحاري أو الغابات الاستوائية البدائية.

(٣-١) الطريق البري الطبيعي

هناك كثير من أشكال الطرق البرية الطبيعية أقلها تحددًا الطرق التي تخترق السهول، حيث تتعدى إمكانات التنقل بين نقطتين لعدم وجود عوائق طبيعية واضحة ومانعة (باستثناء المستنقعات والأنهار العريضة والغابات صعبة الاختراق). وتحدد الأودية النهرية طرقًا طبيعية واضحة في أحواض الأنهار العليا والوسطى. وكذلك تتحدد الطرق الجبلية بالممرات الجبلية، وتتحدد الطرق في الصحاري والنطاقات الجافة بأماكن ونقط الحصول على المياه. وفي الغابات الاستوائية تشكل ضفاف الأنهار طرق الاختراق الطبيعية الواضحة والمأمونة. أما في نطاقات الأعشاب والأحراش فإن الطريق الطبيعي يصبح غير محدد — مثله في ذلك مثل مناطق السهول — لكن يتداخل في هذه التحديدات أو التسهيلات الطبيعية للطريق البري الطبيعي عناصر بشرية متعددة تؤدي إلى تفضيل طريق على آخر أو تكثيف الحركة على طريق؛ مما يؤدي إلى اعتبار الطرق الأخرى طرقًا طبيعية ثانوية أو احتياطية.

وأهم العناصر البشرية التي يجب أن نذكرها هي مدى عدوانية القبائل والمجتمعات التي يمر بها الطريق، أو مدى مسالمتها ومصالحتها، أو مدى ضعفها وعدم قدرتها على عرقلة حركة الطريق. ولهذا نجد أن الدول — حينما نشأت — كان همها الشاغل تأمين طرق التجارة والنقل البرية (والنهرية والبحرية بطبيعة الحال أيضًا)، وذلك إما بمد نفوذها السياسي والعسكري، وإما بعقد اتفاقات مع المجتمعات التي تمر أجزاء من الطريق عبر أراضيها.

وقد سبق أن أشرنا إلى الطريق البري الطبيعي مرات متعددة فيما سبق. (انظر الفصلين الثالث والخامس)، وأشهر الطرق الطبيعية البرية كانت طرق قوافل الحيوان والحمالين في العالم القديم؛ وسبب ذلك أن مناطق الإنتاج كانت — ولا تزال — تنتظم في مجموعتين من الأقاليم: النطاق المعتدل (البحر المتوسط وأوروبا) الذي أصبح — نتيجة لخلفيته الحضارية وكثافته السكانية — سوقًا رائجة ودائمة لمنتجات المجموعة الثانية من الأقاليم الإنتاجية؛ ونعني بها النطاق المداري والموسمي في أفريقيا وآسيا، وفيما بين هاتين المجموعتين من الأقاليم الإنتاجية المتنوعة يقف العالم الجاف كنطاق فاصل يمتد امتدادًا شاسعًا من منغوليا في الشرق إلى الصحراء الأفريقية في الغرب؛ ولهذا كان لا بد للتجارة العالمية أن تخترق النطاق الجاف؛ ومن ثم كانت الإبل هي الحيوان الرئيسي الذي اعتمد عليه النقل القديم على طول تلك الطرق العابرة للقارات.

ويكفي أن نتذكر طريق الحرير بين الصين والبحر المتوسط وأوروبا، وطرق القوافل العربية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، وطرق الصحراء الكبرى بين الإقليم المداري الأفريقي والبحر المتوسط، لندرك أهمية النقل على الطرق البرية الطبيعية القديمة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أسماء بعض الطرق الأخرى للدلالة على قدر الحركة التجارية القديمة وتنوعها: طريق العنبر بين بحر البلطيق والشمال من ناحية وحوض البحر المتوسط من ناحية ثانية، طريق اليشم أو اليشب (حجر كريم أخضر اللون Jade) بين الصين والشرق الأوسط وأوروبا، وطريق الشاي بين الصين وروسيا الأوروبية.
وطريق الشاي هو من أحدث الطرق البرية الطبيعية، وأكثرها تطرفًا نحو الشمال؛ فقد كان يعبُر أطراف المنطقة الجافة في منغوليا، ويسير محاذيًا للحد الجنوبي للغابات المخروطية الباردة في سيبيريا والسهل الروسي. ويمكن أن نقدم دراسة موجزة لهذا الطريق كنموذج للطرق الطبيعية القديمة؛ فقد ظهر هذا الطريق في القرن السابع عشر، وكانت تُستخدم فيه أنواع مختلفة من وسائل النقل: عربات العجلات وعربات الزحافات والنهر وقوافل الإبل، بين بكين — حيث يبدأ طريق الشاي — ومدينة كالجان. كانت العربات تستخدم الطريق الإمبراطوري، وبين كالجان وكياختا Kiakhta (على ضفاف نهر أورخون Orhon، الذي يصب على الشاطئ الشرقي لبحيرة بايكال) كان للمغول حق نقل التجارة بقوافل الإبل عبر صحراء جوبي.
وابتداءً من كياختا حتى بطرسبورج (لننجراد حاليًّا) كان التجار الروس ينقلون التجارة في رحلة تستغرق ستة أشهر. وكان الطريق من أركوتسك حتى بطرسبورج يُسمَّى التراكت Tract، وهو طريق طبيعي قديم يلتزم بالحافة الجنوبية للتاييجا المخروطية الروسية والسيبيرية. وكانت معظم الرحلة تتم خلال فصل الشتاء، حيث يغطي الجليد الأرض والأنهار والمستنقعات، وبذلك لا تكون هناك عقبة أمام النقل. كما أن النقل بالعربات الزحافة الثقيلة كان يسير بسرعة أكبر على الجليد الصلب، خلافًا لعربات العجلات التي تسير في الصيف في أرض المطر أو الجليد الذائب الموحلة؛ مما يؤدي إلى بطء سير العربات، ويعرضها للتوقف أو انكسار العجلات. هذا فضلًا عن احتياج النقل الصيفي إلى التزام الطرق المؤدية إلى الجسور العابرة للأنهار؛ مما يؤدي بدون شك إلى إطالة الطريق.

وطريق التراكت هذا أقدم من طريق الشاي، ويرجع تاريخ استخدامه إلى القرن الخامس عشر، كطريق التوسع التجاري والسياسي لإمارة موسكو ودولة روسيا صوب سيبيريا. وقد استخدم بعد ذلك في القرن الثامن عشر لنقل السلع الصينية، وعلى رأسها الشاي، الذي يؤرخ دخوله إلى روسيا بتلك الفترة. وقد ظل استخدام طريق التراكت لنقل الشاي عليه طول الفترة بين ١٧٧٥ و١٩٠٣. وقد حل خط حديد سيبيريا محل طريق التراكت منذ ذلك التاريخ.

وعلى طول طريق التراكت ازدهرت أسواق كثيرة، كوَّنت فيما بعدُ (وخاصة بعد إنشاء خط حديد سيبيريا) نواة المدن السيبيرية الكبيرة في الوقت الحاضر. وقد كان من الطبيعي أن تكون أسواق طريق التراكت أسواقًا موسمية؛ نتيجة لموسمية حركة النقل. ومن أهم تلك الأسواق أركوتسك، توبلسك، تيومن، إربيت، برم (انظر الخريطة ٣-٢). وكانت إربيت وبخني نوفوجراد (جوركي حاليًّا) تمثلان أسواقًا مركزية للشاي، وذلك بحكم الموقع الجغرافي لكلٍّ منهما، فمدينة إربيت تقع على نهاية طريق التراكت في سيبيريا الغربية، وعلى سفوح الأورال الشرقية، غير بعيدة عن ممر تورا الذي يخترق سلسلة الأورال في تلك المنطقة، وبخني نوفوجراد تقع على الفولجا بعد أن يخترق الطريق جبال الأورال، وبذلك تصبح كلٌّ منهما سوقًا للتجميع (إربيت) والتوزيع على مدن وأسواق روسيا الأوروبية (بخني نوفوجراد). وكانت سوق إربيت تُعقد في شهر فبراير (شباط) بينما تُعقد سوق نوفوجراد في شهر يوليو (تموز)، حيث يفِد إليها تجار الجملة من المدن الروسية. وعلى وجه العموم كان الشاي الآتي من الصين يباع ست أو سبع مرات في الأسواق الهامة على طول الطريق، ويصل أوروبا بعد أن يكون سعره قد زاد كثيرًا نتيجة لنفقات النقل وتعدد تبادله بين التجار.

وقد أقام التجار الروس محطات كثيرة على طول الطريق لخدمة النقل والمسافرين؛ فقد كانت هناك عمليات تغيير وإصلاح العربات، وتغيير الخيول وخانات (فنادق) لخدمة الركاب، ومحلات خدمات أخرى للبيع والشراء.

وفي أوروبا في القرن السابع عشر كانت الطرق عبارة عن دروب ومسارات حددتها عجلات العربات وحوافر الخيل وأقدام الناس. وكانت هذه الطرق تعبُر الأنهار عند المخاضات (المناطق الضحلة)، كما كانت مضطرة إلى الالتفاف حول المناطق المستنقعية، وتعوق مساراتها مخلفات الحقول التي يرميها الفلاحون.

وخلاصة القول أن السير كان بطيئًا للغاية خاصة إذا كانت المناطق وعرة التضاريس؛ فعلى سبيل المثال كانت عربة الخيل تقطع المسافة بين مدريد وبورجوس في شمال إسبانيا (٢٠٠ كيلومتر) في ١٨ يومًا. ولم تكن الطرق البرية في الولايات المتحدة بأحسن حالًا من مثيلاتها في القارة الأوروبية. ولا تزال الطرق المكدامية في جنوب الهند تتشابه مع الطرق الأوروبية والأمريكية في القرن السابع عشر؛ فهذه الطرق الهندية تتقلص خارج المدن إلى دروب ضيقة، ومعظمها تعبُر الأنهار على معابر حجرية كي لا تغوص العجلات في الرمال الناعمة، ولا توجد جسور على الأنهار إلا نادرًا، ويرجع ذلك إلى أن معظم أنهار الهند الجنوبية أنهار صغيرة الأحواض موسمية الجريان (في أحيان كثيرة لا تجري المياه في تلك الأنهار إلا لفترة شهرين أو ثلاثة أشهر فقط)؛ ومن ثم فإن تكلفة بناء الجسور تصبح استثمارًا بلا عائد معظم السنة، هذا فضلًا عن ضعف حركة النقل البرية عامة في الهند، حيث يسيطر النقل الحديدي على تجارة السلع.

وقصارى القول أن الطرق البرية الطبيعية تتميز باعتماد شديد على ظروف البيئة الجغرافية، فتصبح الطرق وعرة صعبة الارتياد خلال مواسم الأمطار بالنسبة للنقل بالعربات والعجلات، سواء كان ذلك في أوروبا القرن السابع عشر أو معظم الأقاليم المدارية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية في الوقت الحاضر؛ ولهذا يمكننا أن نفسر ظاهرة ارتباط الطرق البرية القديمة في غرب آسيا بالمناطق الرملية الحصوية التي لا تتحول إلى أوحال خلال موسم المطر الشتوي. وبالمثل نفسر ارتباط الطرق البرية القديمة في أوروبا بالتربة الطباشيرية أو اللومية التي تغطي الحجر الجيري. وكذلك كان النمو النباتي الغزير عقبة أمام النقل البري؛ ومن ثم تجنبت الطرق البرية المناطق الغابيَّة، والتزمت قدر الإمكان بأراضي الأعشاب والحشائش المكشوفة، كالإستبس في النطاق المعتدل والسفانا في النطاق المداري.

وحينما كانت العقبات التضاريسية تجبر الطريق على دخول منطقة غابية، فإنه كان على الإنسان أن يبذل جهدًا كبيرًا في قطع الأشجار وإبقاء الطريق مفتوحًا أمام الحركة، وعلى هذا النحو يمكن أن نستطرد كثيرًا في ذكر المعوقات الطبيعية العديدة أمام النقل البري. لكن التقدم التكنولوجي قد أوجد كثيرًا من الحلول لمثل هذه المشكلات.

(٣-٢) الطريق المُعَبَّد

يختلف الطريق المُعَبَّد عن الطريق الطبيعي في أن الإنسان قد تدخَّل بتسوية سطح الطريق بوسائل وتكنولوجيات مختلفة، وذلك بإضافة مواد صلبة تجعل الطريق ظاهرة مقاومة للظروف المناخية السائدة، وبذلك يصبح الطريق المُعَبَّد تركيبًا مغايرًا لصفات الأرض التي يمر عليها؛ فهو لا يصبح موحلًا إذا تحولت الأرض إلى وحول وبِرك في موسم الأمطار ولا يصبح ترابيًّا أو رمليًّا في موسم الجفاف.

والعقبة المناخية الوحيدة التي تقف أمام الطريق المُعَبَّد وتجعله جزءًا من الأرض المحيطة به هي ظاهرة تساقط الثلوج في العروض الباردة أو المرتفعات العالمية، ويماثلها في القوة ظاهرة الكثبان الرملية المتحركة، لكنها ليست موسمية الحدوث مثل ثلوج الشتاء.

والمادة الأساسية التي استخدمها الإنسان لجعل سطح الأرض صلبًا هي الأحجار، وذلك لقدرتها على مقاومة سير العجلات، ومقاومتها للظروف المناخية. كما أنها مادة ليست صعبة التشغيل، وهي في الوقت ذاته شائعة الانتشار في معظم البيئات الجغرافية. وقد استخدم الإنسان الأحجار في صور مختلفة. وأشيع صور استخدامها قديمًا كان قطعها في صورة «بلاط» متشابه الأحجام، يُصقل سطحه العلوي، ويُثبَّت بعمق كافٍ في التربة، بحيث يعطي الطريق سطحًا متساوي المنسوب. وأشهر الطرق التي صُنعت على هذا النحو كانت الطرق الرومانية في العالم القديم، وطرق دولة الإنكا (في جبال الأنديز في بيرو).

وقد كانت طرق الإنكا مشابهة للطرق الرومانية من حيث البناء، لكنها تختلف كثيرًا في توظيفها؛ فالطرق الرومانية كانت معدَّة للنقل بواسطة العجلات والخيول؛ ومن ثم كان «مهندسو» الطرق في روما يراعون انحدارات الطرق بحيث لا تزيد عن زوايا معينة، لا تستطيع معها عربات الحيوان الصعود أو الهبوط. أما طرق الإنكا فكانت معدَّة أساسًا لحركة الإنسان كوحدة حمل ونقل؛ إذ إن شعب الإنكا لم يستأنس حيوانات ذات قيمة في الحمل والجر ولم يعرفوا العجلة إلا بعد القرن ١٦. وعلى هذا فإن مشكلة زوايا الانحدارات لم يكن لها وجود أمام «مهندسي» الطرق في دولة الإنكا؛ ومن ثم فإن طرق الإنكا كانت مليئة بالدرج في صورة «سلالم» منحوتة في الصخر عند المنحدرات.

وقد اتسمت طرق الإنكا بالاستقامة؛ إذ لم تقف المنحدرات عقبة أمامها. وكذلك كانت الطرق الرومانية تسير في خطوط مستقيمة قدر الإمكان، لتقصر زمن الرحلة بتقصير المسافة بين نقطتين. لكن في المناطق الجبلية كانت هذه الطرق تضطر للسير مع أضعف زوايا الانحدار التضاريسي؛ مما كان يجعلها تسير في أقواس طويلة. وقد أُهملت الطرق الرومانية بعد سقوط الدولة، ولم يعد باقيًا منها سوى بقايا متناهية الصغر يُحافظ عليها كآثار حضارة عظيمة خلت. وفي الواقع لم يشهد النقل البري منذ الطرق الرومانية أي تقدم يُذكر بل على العكس شهد تدهورًا واضحًا في بناء الطرق، ولم يعد لبناء الطريق أهمية إلا بعد الانقلاب الصناعي وظهور السيارة.

هذا ولم تقتصر الطرق المُعَبَّدة على الرومان والإنكا؛ فالطرق الصينية القديمة كانت مُعبَّدة بالحجارة، ويضاف إليها، في المناطق الجبلية، مسارات محفورة لتسهيل حركة العجلات؛ مثال ذلك الطريق الذي كان يربط شمال الصين بحوض اليانجتسي عبر تلال تسن لنج. وقد اشتهر الباجندا في أوغندا، بأنهم بناة طرق. لكن طرق الباجندا كانت تُستخدم لحركة الإنسان؛ ومن ثم لم تُعبَّد بالمعنى المفهوم، وإنما كانت تُنقَّى من الأعشاب لتظل مفتوحة أمام الحركة طول السنة، وربما ساعدت التربات الحمراء، من لاترايت وغيره، في هذه المنطقة الأفريقية الاستوائية، على بقاء سطح الطريق صلبًا نوعًا ما، لكثرة الحركة عليه؛ إذ المعروف أن مثل هذه التربات الحمراء تتحول إلى ما يشبه «الطوب» بتعرُّضها للأمطار المباشرة؛ مما يؤدي إلى تسرُّب مكوناتها الجيرية إلى الداخل وارتفاع ملوحتها، وتصلُّب سطحها.

ومما هو جدير بالملاحظة أن الحضارات العليا القديمة في الشرق الأوسط لم تُعبِّد طرقًا برية. ولعل هذا مرتبط بنسبة الأمطار القليلة في سهول العراق والشام ووجود حيوان الحمل الصحراوي الذي لا يستدعي طريقًا مُعبَّدًا، سواء كان هذا في التربة الفيضية العراقية أو بادية الشام وواحاتها، أو سهول الليفانت الساحلية الضيقة، أو هضاب إيران، أو سهول السند. ولا شك في أن وجود النيل في مصر، وفروعه العديدة في الدلتا، قد أدى إلى اهتمام المصريين بالنقل النهري في هذه الطرق الطبيعية العظيمة، خاصة وأن النقل النهري كان يحمل أوزانًا وأحجامًا أكبر بكثير من النقل البري على ظهور الحيوان أو في العربات؛ ومن ثم كانت الطرق البرية قليلة وقصيرة، ومتعامدة على محور النيل وفروعه الدلتاوية العديدة.

وفي خلال فترة تقسيم أوروبا إلى إمارات وإقطاعيات صغيرة لم يكن الاهتمام بالطرق البرية كبيرًا، ولم تكن هناك خطة معينة في بناء الطرق، التي تركزت كلها حول عاصمة الإمارة أو قلعة الحاكم؛ ومن ثم اقتصرت أعمال بناء الطرق على بناء الجسور والطرق المؤدية إليها لبضعة كيلومترات على أحسن الفروض. وقد كان الهدف من بناء هذه الطرق فرض المكوس وضرائب العبور على التجارة التي تخترقها؛ أي إن الطريق كان وسيلة لجمع الأموال. وقد أدى نقص الطرق في العصور الوسطى إلى شيوع استخدام النقل النهري في أوروبا الغربية.

ولا شك في أن نقص سلطة سياسية مركزية على نطاق إقليمي واسع كان واحدًا من أهم الأسباب في تدهور النقل البري وقلة الاهتمام ببناء الطرق وصيانتها. وحينما بدأت الوحدات السياسية الكبيرة تظهر في صورة دول القوميات الأوروبية خلال القرن السابع عشر وما بعده، بدأت الطرق البرية تظهر من جديد في صورة طرق طويلة تخترق الدولة، وتربط العاصمة بأقاليمها البعيدة. ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك عاملًا اقتصاديًّا هامًّا، فابتداءً من القرن السابع عشر أخذ حجم التجارة في التزايد بعد الكشوف الجغرافية وبداية استيطان العالم الجديد من ناحية، والسيطرة على تجارة المنتجات المدارية من عالم المحيط الهندي من ناحية ثانية. وفي القرن الثامن عشر بدأت الثورة الصناعية، وأخذ تكامل النشاط الاقتصادي يأخذ دوره داخل أوروبا الغربية: نشأة المصنع والمدينة الصناعية، وتكدس السكان في تلك المدن، والحاجة إلى تأمين الغذاء من الريف، والحاجة إلى تأمين الخدمات الصناعية. وقد أدت هذه النشاطات المتكاملة إلى اهتمام متزايد بطرق النقل، ومن بينها الطريق البري.

وفي ١٧٧٥ ظهرت في إنجلترا الطرق المعروفة باسم الطرق المكدامية؛ وهي طرق محسَّنة، يُستخدم فيها الرصف بالحجارة مع سطح أملس. وهذه الطريقة في رصف الطرق جاءت نتيجة لجهود ثلاثة من الأشخاص: متكاف وماكادم وتلفورد. وفي فرنسا تحسنت الطرق بعد إنشاء إدارة أبحاث خاصة بالطرق والجسور عام ١٨٣١. وقد أدى تحسُّن الطرق إلى استخدام عربات نقل ثقيلة قادرة على حمل سلع تصل إلى ما بين طن وطن ونصف كحد أقصى، وتصل سرعتها القصوى إلى ما يقرب من ثلاثين كيلومترًا في اليوم الواحد. ولكن القفزة الكبرى التي جعلت للطريق البري أهميته وحيويته المعاصرة راجعة إلى ابتكار السيارة؛ أي إن التطور الحديث في صناعة الطريق قد ارتبط بتغير وسيلة النقل البري من الاعتماد على العربة والطاقة العضلية للحيوان في الجر، إلى استخدام الطاقة الميكانيكية.

(٣-٣) العربة والسيارة

عرف الإنسان استخدام العجلة الحربية منذ القدم، وطوَّر عربة العجلات لنقل الأشخاص والسلع بعد ذلك. وأقدم ما لدينا من الأدلة يشير إلى وجود العجلة عند السومريين حوالي ٣٥٠٠ق.م، وأنها في حدود الألف الثالثة قبل الميلاد كانت شائعة في سهول العراق، وأنها دخلت وادي السند حوالي ٢٥٠٠ق.م، واستخدمها أصحاب الحضارة المينوية في كريت ٢٠٠٠ق.م، كما كانت شائعة في الأناضول في التاريخ نفسه وعرفها المصريون — عن طريق غزو الهكسوس لمصر — حوالي ١٦٥٠ق.م.٦ وتظهر العجلة أيضًا في الصين حوالي ١٤٥٠ق.م (حضارة أنيانج في إقليم هونان).

وأقدم أنواع العربات هي تلك التي تستخدم عجلتين (دولابين) فقط. وقد عُرفت العربة ذات العجلات الأربع فيما بعدُ، لكن استخدامها ظل محدودًا وغير مرغوب لفترة طويلة. ويرجع ذلك إلى أن القدماء لم يستطيعوا أن يطوروا بنجاح قرصًا يدور معه المحور الذي يربط العجلتين الأماميتين عندما تلفُّ العربة يمينًا ويسارًا. وفيما يمكن أن نستخلصه من الآثار الرومانية لم يتمكن الرومان من تحقيق ذلك أيضًا؛ ولهذا ظلت العربة ذات العجلتين شائعة الاستخدام لفترة طويلة، لسهولة استخدامها، ولكنها بدون شك أقل في كفاءتها للنقل من العربة ذات العجلات الأربع.

ولم تكن هذه هي العقبة الرئيسية أما تطوير العربة للنقل الثقيل، بل كانت هناك مشكلة ربط الحيوان إلى العربة؛ ففي الماضي كانت الطريقة الشائعة هي استخدام حلقة من الجلد توضع في رقبة الحيوان، تشده إلى العربة، وبذلك كان الجر يتجنب قوة الكتفين ويكتفي بالرقبة؛ مما كان يعوق تنفس الحيوان، ولا يؤدي إلى استخدام جيد لقوة السحب الكامنة في عضلات الحيوان. وفي القرن العاشر والحادي عشر الميلادي تمكن الإنسان من تغيير طريقة ربط الحيوان إلى العربة؛ وهذه الطريقة كانت عبارة عن إسار من الجلد الناشف يستقر فوق لوح الأكتاف؛ مما يؤدي إلى استخدام أمثل لكل طاقة الحيوان، ولا يعوق تنفسه، وترتب على ذلك أيضًا ازدياد سطح العربة ووزن السلع المنقولة. وقد شاع استخدام هذه الطريقة ابتداءً من القرن الثالث عشر.

وعلى هذا فإن التطور كان بطيئًا جدًّا، ربما استغرق ألفي عام أو أكثر في المناطق المختلفة، حتى أمكن للإنسان أن يطور استخدامًا أمثل لمبدأي العجلة وقوة الشد الحيوانية، وبعد ذلك تتالت الاستحداثات بسرعة؛ ففي القرن السادس عشر ظهرت أول عربة تستخدم اليايات (زنبركات حديدية) التي كان من شأنها امتصاص الصدمات التي تتعرض لها العجلات في دوراتها على الطريق، وبذلك أمنت قسطًا كبيرًا من الراحة لركاب العربة، أو قسطًا من الأمن بالنسبة للسلع القابلة للكسر. وفي القرن الثامن عشر هجنت أوروبا عامة — وفي بريطانيا بصفة خاصة — أنواعًا من الخيول للجر تختلف عن خيول الركوب. وكانت الصفة الأساسية التي نجح المختصون في تثبيتها في السلالة المهجنة، طاقة عضلية كبيرة وحجم كبير للحصان، وذلك على عكس الرشاقة والجمال اللذين كانا يميزان حصان الركوب من أجل السرعة، وبذلك أمكن تطوير طاقة جر حيوانية كبيرة، وفي منتصف القرن التاسع عشر جاءت الخطوة الأخيرة في تطوير عربات النقل، وهي بناء العربة بطريقة تسمح لها بحمل أوزان تراوحت بين ستة وتسعة أطنان.

وعلى هذا بلغ النقل بالعربات ذروته في النصف الثاني من القرن الماضي بعد أن اكتملت له خبرة ألفين إلى ثلاثة آلاف عام: العجلة – العربة ذات العجلتين – طريقة ربط الحيوان إلى العربة – ابتكار اليايات لامتصاص الصدمات – العربة ذات العجلات الأربع – تهجين خيول قوية للجر – بناء العربة بطريقة تسمح باتساع مسطحها فأصبحت أداة نقل سلعي ممتازة.

ولكن ما إن اكتملت كل تلك المعارف التكنولوجية حتى اقتطفت ثمارها الثورة الصناعية في النقل بابتكار القطار البخاري ثم ابتكار غرفة الاحتراق الداخلي ومن ثم السيارة، وهي في هذا تشابه تمامًا المصير الذي آلت إليه السفن الشراعية. فبعد أن اكتملت معارف الإنسان في فن الملاحة البحرية واستخدام الرياح والتيارات البحرية، وازدياد حمولة السفن، جاءت الثورة الكبرى باستخدام طاقة البخار بدلًا من الرياح في دفع السفن.

وعلى وجه العموم فإن تطور النقل بالعربات يوضح لنا أن الإنسان استخدمها استخدامًا جيدًا، لدرجة أن المبادئ التي سار عليها هي نفسها التي اتبعها النقل البري الحديث فيما بعدُ؛ فقد عمم الإنسان استخدام العربة في خطوط منتظمة بين مدن معينة ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر؛ ففي منطقة لندن والريف الإنجليزي ظهرت خطوط «العربات الطائرة» منذ ١٦٣٥، وفي ١٦٦٩ أدت التحسينات المستمرة إلى زيادة سرعة تلك العربات الطائرة إلى ٨٠ كيلومترًا في اليوم الواحد! لكن هذه السرعة لم تكن شائعة إلا على الطرق الجيدة، وفي خلال فصل الصيف فقط؛ لأن أمطار الشتاء كانت تعرقل الحركة كثيرًا.

وفي أواخر القرن السابع عشر كانت لهذه العربات خطوط منتظمة تنطلق من مركزها من لندن إلى شتى الاتجاهات المختلفة: إلى أكستر ونيوكاسل وشستر وأدنبرة … إلخ. وفي منتصف القرن الثامن عشر كانت المسافة بين لندن وأدنبرة تُقطع في عشرة أيام، لكن التحسينات الناجمة عن انتشار الطرق المكدامية الإنجليزية جعل في الإمكان قطع المسافة ذاتها في أربعة أيام ابتداءً من عام ١٧٧٦، ومع استمرار تحسُّن الطرق أصبح بإمكان هذه العربات السريعة (إكسبريس) أن تبلغ سرعة راكب الجواد، وفي ١٨٣٦ أصبحت المسافة بين لندن وأدنبرة تُقطع في ٤٦ ساعة فقط.

وعلى النحو ذاته كان الاهتمام موجهًا إلى عربات نقل السلع ذات الغطاء المصنوع من القماش السميك، وابتداءً من منتصف القرن الثامن عشر أصبح لهذه العربات خطوط منتظمة؛ فعلى سبيل المثال كانت هناك خطوط تصل مدينة برمنجهام ﺑ ١٦٨ مدينة أخرى في عام ١٧٦٠، وقبل بدء عصر السكك الحديدية بقليل زاد عدد العربات والرحلات بين لندن وبرمنجهام إلى ١٢٢ رحلة في الأسبوع، وبين برمنجهام ومانشستر إلى ١١٩ رحلة أسبوعيًّا، وبين برمنجهام وليفربول إلى ٦٨ رحلة أسبوعيًّا. ولكن النقل المائي الداخلي، والشاطئ البحري كانا أرخص من النقل السلعي على تلك العربات. وكذلك كان الحال بالنسبة لنقل الأشخاص؛ مما أدى إلى عدم اكتراث وسائل النقل المائي كثيرًا بالمنافسة الضئيلة التي ظهرت من جانب النقل بالعربات. لكن هذه النظرة سرعان ما تغيرت وشعرت وسائل النقل المائي بالمنافسة الحقيقية بظهور النقل الحديدي وانتشاره كوسيلة سريعة للنقل على اليابس. وجاءت الضربة الثانية التي تلَّقاها النقل المائي الداخلي حينما ظهرت السيارة إلى الوجود.

وقد جاء اختراع السيارة نتيجة لمجهودات عدد كبير من المخترعين، لكن أهم مشكلتين في السيارة كانتا: (١) اختراع جهاز معقول الحجم لتحريك السيارة. (٢) ابتكار عجلات ملائمة للسيارة، وإلى جوتليب داملر G. Daimler (الذي يظهر اسمه مع بنز Benz في شركة سيارات مرسيدس الألمانية) يرجع الفضل في اختراع غرفة الاحتراق الداخلي في عام ١٨٨٥، وبذلك أصبح هناك محرك ذو حجم معقول لتحريك السيارة. وفي ١٨٨٨ ابتكر جون دنلوب J. Dunlop الإطارات الهوائية لتسهيل حركة السير على الطريق، وقد ترتب على التطورات العديدة التي مرت بها السيارة بعد ذلك في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، أن أصبحت السيارة بمعناها الواسع؛ أي السيارات الخاصة وأنواع الشاحنات المختلفة، وسيلة نقل أساسية من بين مجموعة وسائل النقل البري الأخرى.

وكذلك أصبحت وسيلة النقل المسيطرة في المدن وفي المسافات المتوسطة. كما أنها وسيلة النقل الرئيسية في عدد من المناطق، وخاصة في المناطق التي يصعب فيها مد الخطوط الحديدية، إما لأسباب طبيعية (وعورة التضاريس وحدة زوايا المنحدرات) وإما لأسباب اقتصادية (حركة نقل قليلة إلى متوسطة لا يصبح معها إنشاء الخطوط الحديدية عملًا رابحًا). وكذلك أصبحت السيارة نمط النقل السائد في كثير من المناطق النامية لسهولة تشغيلها اقتصاديًّا بالمقارنة بتكاليف إنشاء الخطوط الحديدية. وأخيرًا أصبحت السيارة نمط نقل الأشخاص في كثير من الدول المتقدمة التي تمتلك شبكة طرق برية سريعة.

ويرجع تفوق السيارة في النقل البري، بمواصفاته سابقة الذكر، إلى عدد من الصفات التي تميزها بالقياس إلى الوسائل الأخرى. وأهم هذه الصفات ما يلي:
  • (١)

    أن المحرك ذو حجم صغير نسبيًّا، ويستهلك وقودًا محدودًا.

  • (٢)

    أن الإطارات الهوائية للسيارة تجعلها قابلة للاستخدام في مناطق الطرق غير المُعَبَّدة تعبيدًا جيدًا؛ إذ إن كل احتياج السيارة درب صلب نسبيًّا غير حجري وعر، ولا رملي، والعوائق الأساسية هي: الوحول والرمال والجليد. ولكن السيارة يمكن أن تتفادى الوحول والرمال إذا كانت مجهَّزة بإطارات عريضة. وكذلك لا تساعد الطرق المغطاة بالثلوج على السير، ولكن ذلك يمكن تفاديه بإضافات محدودة غير مكلفة (سلاسل حديدية أو إطارات خاصة).

  • (٣)

    حجم السيارة (خاصة أو شاحنة) يمكن استخدامها بمرونة تامة في شوارع المدن؛ وبالتالي فإن السيارة هي الوسيلة الفعلية للنقل من «الباب للباب». أما النقل الحديدي «من الباب للباب» فإنه في الحقيقة استعارة من النقل البري، ولا يتم بدون استخدام السيارة من المصنع أو السوق إلى محطات السكك الحديدية.

  • (٤)

    النقل البري في مجموعه أوفر من النقل الحديدي إذا توفرت شروط خاصة، فحيث تكون حركة السلع والناس غير كثيفة. وفي الوقت نفسه متعددة الاتجاهات، ومتوسطة المسافات، فإن النقل البري يكون أكثر اقتصادًا في نفقات التشغيل، ويصبح هو وسيلة النقل المسيطرة. ويحدث ذلك غالبًا في الدول النامية، والدول صغيرة المساحة، وفي المناطق الجبلية. وتنطبق هذه الشروط كثيرًا على لبنان، فليست هناك حركة نقل سلعي ذات أحجام كبيرة كتلك التي تحتاجها الصناعة في البلاد المتقدمة. ويقتصر النقل السلعي فيها على تجارة التجزئة، والمساحة الصغيرة للبنان، مع وجود النطاق الجبلي فيها، وتركُّز العمالة في عالم الخدمات في بيروت، كلها عوامل ساعدت على أن يصبح النقل البري بالسيارات هو النمط الأساسي للنقل في الدولة؛ ولهذا فإن شبكة الطرق البرية فيها كثيفة بالمقارنة بمساحتها، وعدد السيارات كبير بالنسبة لعدد السكان. ويزيد من أهمية الطرق البرية في لبنان أنها في مجموعها دولة ترانزيت لتجارة بعض دول الشرق الأوسط.

(أ) حقائق رقمية حول أهمية السيارة

قصارى القول أن السيارة أصبحت عنصرًا هامًّا من عناصر النقل البري الحديث، ويدل على ذلك بعض الحقائق الرقمية التالية:

(١) مبيعات سيارات الركوب في الولايات المتحدة: سنوات متعددة:

جدول
السنة عدد السيارات المباعة السنة عدد السيارات المباعة
١٩٠٠ ٤٠٠٠ ١٩٥٠ ٦٦٦٦٠٠٠
١٩١٠ ١٨١٠٠٠ ١٩٦٠ ٦٦٧٥٠٠٠
١٩٢٠ ١٩٠٦٠٠٠ ١٩٧٢ ٨٨٢٨٠٠٠

(٢) إنتاج السيارات في الدول الهامة ١٩٦٧:

جدول
الدولة عدد السيارات بالآلاف الدولة عدد السيارات بالآلاف
الولايات المتحدة ٨٩٧٦ إيطاليا ١٥٤٣
اليابان ٣١٧٣ الاتحاد السوفييتي ٩٤٩
ألمانيا ٢٤٨١ كندا ٩٤٧
فرنسا ٢٠١٠ أستراليا ٣٦٦
بريطانيا ١٩٤٧ إسبانيا ٣٦٣
ومما يزيد هذه الحقائق تأكيدًا ما يلي:
  • أولًا: بلغت جملة مبيعات السيارات والإطارات وغيرها من متعلقات السيارات في الولايات المتحدة عام ١٩٦٩ نحو ٦٦٧٧٣ مليون دولار. وهذه القيمة تساوي نحو ٢٠٪ من قيمة جملة مبيعات التجزئة في ذلك العام في الولايات المتحدة، كما تساوي نحو ٥٨٪ من قيمة جملة مبيعات السلع الدائمة أيضًا في السنة ذاتها.
  • ثانيًا: أنه من بين أكبر ١٥ شركة عالمية مرتبة حسب قيمة مبيعاتها عام ١٩٦٨ كانت هناك أربع شركات سيارات على النحو التالي:
    جدول
    جنرال موتورز كانت قيمة مبيعاتها ٢٢٧٥٥ مليون دولار
    شركة فورد كانت قيمة مبيعاتها ١٤٠٧٥ مليون دولار
    شركة كرايزلر كانت قيمة مبيعاتها ٧٤٤٥ مليون دولار
    شركة فولكس فاجن كانت قيمة مبيعاتها ٢٩٢٥ مليون دولار

    وكان ترتيب هذه الشركات من بين الشركات الخمس عشرة هو: جنرال موتورز الأولى، فورد الثالثة، وكرايزلر السادسة، وفولكس فاجن اﻟ ١٥. وقد بلغ مجموع مبيعات هذه الشركات الأربع ٤٠٪ من مجموع مبيعات الشركات اﻟ ١٥ الكبرى، وبذلك تفوقت شركة جنرال موتورز على شركات البترول العالمية والشركات الصناعية الضخمة، فمثلًا كانت ستاندرد أويل (نيوجرسي) الثانية (١٤٠٩١ مليون دولار) وشل الرابعة (٩٢١٦ مليون دولار) وجنرال إلكتريك الخامسة (٨٣٨١ مليون دولار).

ومجموعة الأرقام السابقة ليست في حاجة إلى مزيد من الشرح، وكل ما يهمنا منها هو أنها تؤكد بصورة لا تقبل الشك نمو أهمية السيارة في نقل الأشخاص والسلع في عالمنا المعاصر، بدليل ارتفاع إنتاج السيارات، وضخامة الشركات المنتجة للسيارات من بين الشركات العالمية الكبرى.

وفي مجال إنتاج السيارات نجد أن النسبة بين إنتاج سيارات الركوب الخاصة وسيارات الشحن غير متكافئة، وتدل على ذلك الأرقام التالية:

جدول ٦-٤: إنتاج السيارات بنوعيها في الولايات المتحدة.*
السنة المجموع الكلي بالآلاف سيارات الركوب بالآلاف سيارات الشحن بالآلاف
١٩٤٦ ٣٠٧٨ ٢١٤٧ ٩٣١
١٩٦٤ ٩٢٢٣ ٧٧٤١ ١٤٨٣
١٩٦٨ ١٠٦٥٨ ٨٨٠٥ ١٨٥٣
مجموع الأرقام عن السيارات نقلًا عن: Information Please Almanac, 1970 – World Almanac 1974.
يوضح الجدول السابق إنتاج نوعَي السيارات في الولايات المتحدة بوصفها أكبر منتج للسيارات في العالم، ويتضح منه ما يلي:
  • (١)

    في الفترة بين ١٩٤٦ و١٩٦٨ كانت نسبة الزيادة العامة في إنتاج السيارات بنوعيها ٣٥٠٪، ونسبة الزيادة في سيارات الركوب ٤١٠٪، وفي سيارات الشحن ٢٠٠٪.

  • (٢)

    في الفترة ذاتها كانت سيارات الشحن المنتجة تساوي نحو ٣٠٪ من مجموع السيارات المنتجة عام ١٩٤٦. وقد هبطت هذه النسبة إلى نحو ١٨٪ فقط عام ١٩٦٨.

ودلالة هذه النِّسب أن الاهتمام بزيادة الإنتاج في سيارات الركوب تعكس الاستخدام المتزايد لها في نقل الأشخاص، بينما يجد النقل بالشاحنات منافسة كبيرة من جانب وسائل النقل الحديدية والنهرية، ولكن علينا أن نتذكر أن النقل بالشاحنات ليس عملية اقتصادية بالنسبة للمسافات الطويلة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن ثمن سيارات الركوب أرخص بكثير من ثمن الشاحنات، وأن عمر سيارات الركوب أقل بكثير من عمر الشاحنات؛ ومن ثم فإن إنتاج سيارات الركوب يحب أن ينمو بدرجة أكبر بكثير من إنتاج الشاحنات، ونضيف إلى ذلك عاملًا آخر يؤدي إلى زيادة إنتاج سيارات الركوب؛ ذلك هو أن سيارة الركوب ترتبط ارتباطًا مباشرًا باستهلاك الفرد، بينما الشاحنات والقطارات ليس لها هذا الارتباط الشخصي.

ويؤدي ذلك إلى تدخُّل عوامل نفسية كثيرة في اختيار سيارات الركوب؛ مما ترتَّب عليه إنتاج أنواع وأشكال وطرازات مختلفة من تلك السيارات، وبتدخُّل عامل «الذوق» أكثر من عامل «المتانة» دخلت شركات الإنتاج العالمية منافسة شديدة من أجل ابتكار «الموديلات» وإدخال التحسينات المرغوبة من قِبل الجمهور، وأصبحت سيارة الركوب بذلك أشبه بسلعة استهلاكية سنوية وليست سلعة دائمة، مثلها في ذلك مثل الملابس، لكن هذا النمط الاستهلاكي لسيارات الركوب يظهر بنسبة كبيرة في الدول المتقدمة أو الدول ذات الثراء الفاحش (مثل بعض دول البترول العربية والأمريكية)، ولا يكاد يظهر إلا بصورة محدودة جدًّا في غالبية الدول النامية.

(٣-٤) الطرق الحديثة

قلنا إن السيارة بنوعيها وسيلة نقل ناجحة في مناطق ومسافات معينة، ولكن لكي تصبح السيارة وسيلة نقل ذات كفاءة عالية كان لا بد من تمهيد الطرق الحديثة التي تمكِّن السيارة من الأداء الأمثل؛ ولهذا ظهرت طرق الأسفلت وانتشرت بسرعة مع انتشار نمط النقل بالسيارات؛ وعلى هذا فإن الطريق الحديث هو استجابة طبيعية لمتطلبات السيارة؛ فقد وسعت الطرق كثيرًا، واستقامت الحنيات قدر الإمكان، وامتلأ جانب الطريق بالإشارات لإرشاد السائقين وإعطائهم معلومات أساسية عن حالة الطريق الذي ينطلقون عليه بسرعاتهم العالية. وكذلك تضاف إشارات خاصة حينما تكون هناك عمليات معينة في الطريق، كالحفر أو الإصلاح أو التوسيع.

ومع زيادة أعداد السيارات وتطور سرعتها، لم تعُد الطرق القديمة كافية لأغراض النقل البري، حتى بعد توسيع أجزاء منها، وتقليل حنياتها. ويرتبط ذلك بوجود عوائق عمرانية ثابتة لا يمكن التخلص منها إلا بإعطاء تعويضات باهظة؛ ولهذا لجأت الدول المتقدمة إلى إنشاء شبكة جديدة من الطرق الواسعة ذات الاتجاه الواحد، تشق الأرض في خطوط مستقيمة لتقصير المسافات، وتخرج منها وصلات فرعية في اتجاه المدن الرئيسية التي يتجنبها الطريق. والكثير من هذه الطرق يفرض عليها رسوم مرور لفترة طويلة، كنوع مماثل لجباية الطريق القديم، ولكن لأغراض استثمارية من أجل صيانة الطريق وتوفير الخدمات الضرورية عليه، مثل إسعاف الأشخاص والسيارات في حالات الحوادث، ويُطلق على هذه الطرق اصطلاحات مختلفة في الدول المختلفة؛ ففي ألمانيا تُسمَّى أوتوبان Autobahn، وفي إيطاليا أوتوستراد Autostrade، وفي فرنسا أوتوروت Autoroute، وفي بريطانيا موتورواي Motorway، وفي الولايات المتحدة أسماء عدة أهمها ترنبايك Turnpike، وفي مصر يُسمَّى الطريق السريع.

والهدف الأساسي من هذه الطرق السريعة هو خدمة النقل بين المدن الكبيرة. ولم تعُد تخدم الريف برغم أنها تخترقه، وذلك لتجنب وسائل النقل الريفية البطيئة، وبذلك فإن الدول المتقدمة أصبحت تمتلك شبكتين من الطرق الإسفلتية: الشبكة الكثيفة القديمة التي تتعرج داخل الريف وتخدم احتياجات السكان الريفيين، وتربط بين المدن الريفية والمدن الصناعية، والشبكة الحديثة المتكونة من عدد محدود من طرق الاختراق السريعة في صورة محاور رئيسية تتفرع عنها وصلات إلى المدن الرئيسية وشبكة الطرق القديمة.

fig35
خريطة ٦-١٢: الطرق البرية في شمال شرق الولايات المتحدة. كثافة الحركة على الطرق البرية السريعة التي تزيد فيها أعداد السيارات عن عشرة آلاف سيارة عابرة يوميًّا.

والطريق السريع هو عالم قائم بذاته، خاضع خضوعًا تامًّا لعنصر السرعة، وله خدماته الخاصة به: مطاعم وحانات ومحطات وقود وصيانة خارج المدن، وقرب تقاطعات الطرق السريعة (التي لا تلتقي إلا بواسطة جسور وأنفاق) أقيمت «الموتيلات» (اختصار موتور-هوتيل = فنادق العابرين بالسيارات) لاستيعاب حركة المسافرين. وكذلك أقيمت مثل هذه الموتيلات عند مشارف المدن التي لم تعُد قادرة على استيعاب الحركة الكثيفة التي يأتي بها الطريق السريع. وهكذا يميل الطريق السريع إلى حرمان المدن من بعض وظائفها في قطاع الخدمات، خاصة مع اشتداد كثافة المرور وازدحام الطرق والفنادق في المدن، وبذلك يتشابه الطريق السريع مع الطريق الحديدي في هذا المجال؛ فقد أدى مرور الخط الحديدي بعيدًا بعض الشيء عن المدن، إلى ظهور مركز خدمات حول محطة القطار، وفي أحيان كثيرة نمَت مدن صغيرة أو كبيرة حول المحطة، وبذلك ظهرت المدن المزدوجة، والتي يُعبَّر عنها في مصر باسم المدينة للدلالة على المدينة القديمة، والاسم ذاته مضافًا إليه مصطلح «المحطة» للدلالة على المدينة الجديدة.

وفي لبنان نجد الظاهرة نفسها واضحة في بحمدون وبحمدون المحطة. وقد نمَت بحمدون المحطة كثيرًا، بفضل الطريق البري الرئيسي بين بيروت ودمشق، للدرجة التي نسي معها الناس كلمة محطة، وأصبحت هي بحمدون بدون إضافات، بينما أضيفت كلمة «الضيعة» إلى بحمدون الأصلية، وبرغم أن العمران فيما بينهما قد اتصل نتيجة لكونهما من مراكز الاصطياف الرئيسية، إلا أن تحوُّل الأهمية النسبية عن بحمدون الأصلية إلى بحمدون المحطة ليست ظاهرة فريدة، بل إنها في الواقع هي الحكم العام؛ فوجود مركز مواصلات رئيسي يؤدي إلى سرعة نمو النواة التي تتكون حوله، بينما تركد المدينة الأصلية في ظل المواصلات الفرعية.

ولكن نمو المدن على جوانب الطرق السريعة الحديثة غير مرغوب، بل هو ممنوع قانونًا، وإلا انتفت الوظيفة الأساسية للطريق: التنقل والنقل السريع.

هذا ولم ينتشر نمط الطريق السريع في كل الدول المتقدمة بنفس الكثافة، وتعد فرنسا من الدول الأقل حظًّا في ذلك. ولعل هذا مرتبط بوجود شبكة طرق أسفلتية كثيفة من قبلُ، بالإضافة إلى شبكة نقل حديدية كثيفة، وبرغم ذلك فإن في فرنسا الآن اتجاهًا إلى بناء مجموعة من الطرق السريعة المحورية، جنبًا إلى جنب مع التعديلات التي تقوم بها في شبكة الطرق الراهنة لتتلاءم مع السرعة.

fig36
خريطة ٦-١٣: الطرق البرية السريعة (الأوتوبان) في ألمانيا.
fig37
خريطة ٦-١٤: كثافة شبكة الطرق البرية الأسفلتية في أمريكا الشمالية. لاحظ الفرق بين الكثافة العالية في القسم الشرقي من الولايات المتحدة وكندا، والكثافة المنخفضة للطرق في غرب القارة.

وعلى عكس ذلك فضلت بعض الدول أن تبني شبكة طرق سريعة منفصلة عن الشبكة القديمة، وربما كانت ألمانيا — خلال الحكم النازي — هي أولى الدول الأوروبية التي اهتمت بإنشاء شبكة «الأوتوبان» لتربط أجزاء ألمانيا ببرلين بمحاور برية للاتصال السريع، ولعل ذلك كان مرتبطًا بدوافع استراتيجية، إلى جانب الدوافع الاقتصادية.

وعلى وجه العموم يمكننا أن نقول إنه كانت هناك ثلاث حالات دفعت الدول إلى بناء الطرق السريعة:
  • (١)

    دول لم تكن شبكتها من الطرق البرية جيدة أو كافية، وحينما أُنشئت فيها شبكة الخطوط الحديدية قل الاهتمام بالطرق البرية فأصبحت مهملة؛ وذلك لأن مزايا السكك الحديدية في النقل كانت أكبر بكثير من النقل البري خلال أواخر القرن الماضي. وحينما دخلت هذه الدول عصر السيارة كانت الظروف مهيأة لإنشاء شبكة نقل برية حديثة؛ ومن ثم كان الاهتمام موجهًا إلى الطرق السريعة.

  • (٢)

    الدول النامية الجديدة كدول أمريكا الجنوبية، نشأت فيها الخطوط الحديدية مبكرة عن الطريق البري، وحينما دخلت هذه الدول مضمار النقل البري الكثيف كان من الأوفق أن تنشئ شبكة النقل البري على الأسس الحديثة، ومن بينها الطرق السريعة.

  • (٣)

    دول اشتدت فيها الحاجة إلى النقل البري السريع نتيجة تكاثف حركة النقل في شتى أشكالها. وهذه هي الدول الصناعية الرئيسية، كالولايات المتحدة وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا … إلخ.

وبما أن الطريق السريع عمل قومي في أساسه، فإننا لا نجد طرقًا سريعة عابرة للقارات، على نحو ما رأينا في السكك الحديدية، ولكن هذا لا يمنع من وجود وصلات تربط بين الطرق السريعة القومية عبر الحدود السياسية، كما هو حادث في أوروبا الغربية والوسطى. ولعل الطرق البرية الأمريكية (سريعة وغير سريعة) هي الطرق البرية التي يمكن أن نعدها عابرة للقارات. ومن الأمثلة على ذلك خط كندا بين الساحل الشرقي والغربي، وطريق ألكان Alcan الذي يمتد عبر كندا من أدمنتون في ولاية ألبرتا إلى ألسكا. وقد أُنشئ هذا الطريق لأسباب عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية وفترة ما بعد الحرب.

ونلاحظ من خريطة الشبكات البرية في العالم أن هذه الشبكات تتوزع بغير عدالة في أجزاء العالم المختلفة؛ ففي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أكبر تركيز لأطوال الطرق البرية وأعداد السيارات الخاصة، وخدمات النقل بالباصات، بينما تظهر الطرق في بقية العالم محدودة بمحاور وحيدة. وهناك اتجاه إلى تكثيف النقل البري في عدد من الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي والصين ودول أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى دول أمريكا اللاتينية، وخاصة البرازيل وبوليفيا وبيرو.

(٤) الأنابيب كوسيلة نقل

مما لا شك فيه أن النقل بواسطة الأنابيب يعد ثورة في مجالات النقل الخاصة بمصادر الطاقة السائلة والغازية. وفكرة نقل السوائل بالأنابيب فكرة قديمة، استُخدمت لنقل الماء من مكان إلى آخر (في الحقول أو المساكن)، ولكن نقل البترول والغاز الطبيعي، وأشياء أخرى، بواسطة الأنابيب أمر حديث. وقد مضت الآن بضع عشرات من السنين على نقل البترول أنبوبيًّا. ولعل الدافع الرئيسي لابتكار هذه الوسيلة في الولايات المتحدة، كان البعد المكاني بين مناطق إنتاج البترول في الولايات الجنوبية، ومناطق استهلاكه الرئيسية في الولايات الشمالية الشرقية.

وتمتلك الولايات المتحدة أكبر شبكة نقل أنبوبي في العالم، من أهمها خط الأنابيب المعروف باسم البوصة الكبرى The Big Inch الذي يربط بين حقول البترول في تكساس والخليج، وبين مراكز الصناعة الرئيسية في شمال شرقي الولايات المتحدة. وتبلغ أطوال الشبكة الأنبوبية الأمريكية قرابة نصف مليون كيلومتر، وفي الشرق الأوسط مجموعة من خطوط الأنابيب بين بترول العراق والسعودية وموانئ التصدير في سوريا ولبنان. وأطول خطوط الأنابيب في الشرق الأوسط هو «التابلاين» بين حقول البترول السعودية وميناء التصدير في الزهراني (جنوب صيدا في لبنان)، ويبلغ طوله ١٦٠٠ كيلومتر، وقطره ٧٦٢ مليمتر. وفي الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية يوجد أطول خط أنابيب في العالم، هو المسمى «خط الصداقة» الذي يمتد ٤٨٠٠ كيلومتر بين حقول البترول في الأورال وبين دول الكوميكون في شرق أوروبا. وقد انتهى السوفييت من بناء هذا الخط الطويل عام ١٩٦٣، ويمكن أن يوصل بخطوط الأنابيب في النمسا وألمانيا، وبذلك يتكون أطول خط أنبوبي عابر للقارات.

وقد أصبح الغاز الطبيعي يلقى مزيدًا من الأهمية كمصدر هام من مصادر الطاقة. وقد كانت الولايات المتحدة الدولة الرائدة أيضًا في استخدام الغاز ونقله بالأنابيب. وقد أصبحت شبكة الأنابيب الخاصة بنقل الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة أطول من شبكتها الحديدية (أكثر من ٣٥٠ ألف كيلومتر).

وقد أخذت أوروبا تنشئ خطوطًا أنبوبية لنقل الغاز بعد تعدد اكتشاف مصادره في أوروبا (هولندا – إيطاليا – فرنسا). وفي الاتحاد السوفييتي شبكة كبيرة لنقل الغاز الطبيعي بواسطة الأنابيب. كما أنها مدت خطًّا أنبوبيًّا إلى حقول إيران البترولية لاستغلال هذا المصدر الكبير من الطاقة، وبذلك فإن إيران هي الدولة الوحيدة من دول الشرق الأوسط التي توجد فيها أنابيب لنقل الغاز.

وقد أثبت نقل البترول والغاز بواسطة الأنابيب أنه أكثر وسائل النقل توفيرًا في التكلفة، باستثناء النقل المائي، والمشكلة الأساسية في النقل الأنبوبي أنه شديد التكلفة عند إنشائه. كما أنه ليس وسيلة نقل مرنة، بل ثابتة مثل السكك الحديدية والطريق البري. وإذا كانت الخطوط الحديدية والطرق البرية تلتقي وتتشابك وتصبح ذات اتجاهات نقل متعددة، فإن النقل الأنبوبي ليس كذلك؛ إذ إنه لا يمكن جعله وسيلة نقل متعددة الاتجاهات إلا بتكلفة عالية، وأخيرًا فإن خط الأنابيب يجب أن يشغل إلى حده الأعلى لكي يصبح استثمارًا مربحًا.

وليس البترول والغاز والماء هي فقط المواد التي تُنقل أنبوبيًّا، وإن كانت هي أكثر المواد استخدامًا لهذه الوسيلة للدرجة التي تجعلها تتبادر إلى الذهن كلما ذكرت خطوط الأنابيب. ففي الوقت الحاضر تستخدم الأنابيب لنقل مواد أخرى: ففي الولايات المتحدة خط أنابيب طوله ١٦٨ كيلومترًا لنقل الفحم المهروس ممزوجًا بالماء بين بتسبرج وكليفلاند. وفي الوقت الحاضر تنفذ بريطانيا مشروعًا رائدًا تجريبيًّا: أنبوب من الصلب قطره ١٢٧ مليمترًا يمتد من حقول الفحم في والتون إلى محطة الطاقة في ويكفيلد (إقليم يور كشاير) طول الأنبوب ١٧٠٠ متر، والمفروض أن ينقل ٤٠ طنًّا من كسر الفحم الممزوج بالماء في الساعة الواحدة. وكذلك تُنقل المواد الكيماوية بالأنابيب إلى مصنع سفرن سايد الجديد التابع لشركة الصناعات الكيماوية الإمبراطورية. وآخر مبتكرات النقل الأنبوبي هو نقل الألبان من المراعي العليا في جبال الألب الفرنسية والسويسرية والنمساوية إلى مصانع الألبان ومنتجاتها في الأودية السفلى.

(٥) النقل المعلق

بالرغم من أن معظمنا يعرف قيمة النقل المعلق بالنسبة لنقل الأشخاص في المناطق الجبلية (التليفريك)، إلا أننا لا نعرف مدى الخدمة التي يؤديها هذا النوع من النقل. والمبدأ الأساسي في النقل المعلق هو أن النقل يظل معلقًا من حبل يمتد فوقه، ولا يمس الأرض أثناء نقله. وأهم مميزات النقل المعلق هو أنه يعبُر أراضي وعرة أو غابية، وأودية مختلفة العمق، وأنهارًا مختلفة الاتساع، وخوانق ومنحدرات شديدة الميل، وغير ذلك من العوائق والعقبات الطبيعية التي تقف حائلًا دون النقل الاقتصادي، وبذلك يوفر النقل المعلق تكاليف باهظة إذا ما حاول الإنسان القيام بشتى الإنشاءات الهندسية التي تعبر العوائق الموجودة في الطريق.

والنقل المعلق ليس وسيلة نقل حديثة تمامًا، بل يعود إلى حوالي ٧٥ عامًا. وكانت الشركات الإنجليزية رائدة في هذا المجال، وفيما قبل عام ١٩١٤ صمم المهندسون الإنجليز ونفذوا عدة مشروعات للنقل المعلق في مناطق مختلفة من العالم، وفي أجواء تراوحت بين الأجواء القطبية والمدارية. ومن أقدم هذه المشروعات خط النقل المعلق الذي أُنشئ عام ١٩١٣ في جبال الأنديز في جمهورية كولمبيا، ويمتد هذا الخط ٤٧ ميلًا، ويقوم بنقل السلع المختلفة إلى ارتفاع يصل إلى نحو ٥٦٠٠ متر، ويعبُر خلال مساره خوانق يصل غورها إلى أكثر من ألف متر.

وقد تحسنت تكنولوجية النقل المعلق كثيرًا بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة في مجال نقل سلع ثقيلة، وفيما بين ١٩٢٠ و١٩٣٩ صدَّرت بريطانيا كثيرًا من مشروعاتها في مناطق مختلفة؛ مثال ذلك مناجم البوكسايت في جمايكا؛ حيث ينقل الخط المعلق ١٦٠ طنًّا من الخامة في الساعة الواحدة، وفي مناجم الجوما Algoma في كندا أقام الإنجليز خطًّا للنقل المعلق طاقته ٥٠٠ طن في الساعة. وكذلك في معامل أسمنت دالن Dalen في النرويج طاقته ٢٢٠ طنًّا في الساعة، وفي مناجم البوكسايت في غانا بطاقة تشغيل ٣٠٠ طن في الساعة.

وحتى عام ١٩٣٩ كان النقل المعلق متواضعًا في مجالي الوزن والمسافة التي يقطعها، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دخلت تحسينات كثيرة على هذه الوسيلة من وسائل النقل، فبلغت المسافة حوالي ٨٠ كيلومترًا، والحمولة ٥٠٠ طن في الساعة، كما دخلت عناصر الأوتوماتيكية في التشغيل لزيادة الأمان وتقليل الاعتماد على العنصر البشري. والاتجاه في الوقت الحاضر هو إلى مزيد من المسافات التي يقطعها النقل المعلق، ومزيد من طاقة الحمل، وزيادة الأوتوماتية في الشحن والتفريغ، وتكلفة أقل. وقد دخلت خامات جديدة في صناعة النقل المعلق لتوفير مزيد من القوة والأمان والراحة والاقتصاد في تكلفة الصلب المستخدَم. ومن أهم الخامات الجديدة عجلات من النايلون لتصبح أنعم من العجلات الحديدية أثناء جريانها على الأسلاك، وسبائك جديدة صناعية بدلًا من سبائك الصلب.

١  في ١٧٨٥ استُخدمت الآلة البخارية في مصنع للنسيج قرب نوتنجهام، ١٧٨٨ أول تجربة للبخار كطاقة دفع لقارب على إحدى بحيرات اسكتلندا، لكن أول قارب بخاري دخل التشغيل كان عام ١٨٠٢ على القناة بين نهرَي الكلايد والفورث في اسكتلندا أيضًا، ١٨٠٧ أول سفينة ركاب نهرية شغلتها شركة بولتون-وات على نهر الهدسن في الولايات المتحدة، ١٨١٩ أول سفينة بخارية (سفانا) تعبر المحيط الأطلنطي من ميناء سفانا إلى ميناء ليفربول (قطعت المسافة في ٢٩ يومًا).
٢  لكي يتمكن القطار من مواصلة سيره على سرعة ١٠٠–١٢٠ كيلومترًا، فإن قطر الحنيات في الخط الحديدي يجب أن تكون ٧٥٠ مترًا، وتنخفض سرعة القطار إلى حوالي ٥٠كلم/ساعة إذا كان قُطر الحنية ٥٠٠ متر فقط.
٣  حفر الأنفاق عملية صعبة، ويؤكد صعوبتها أنه كان يمكن حفر نصف متر في اليوم في الماضي. وقد أمكن زيادة هذا القدر إلى عشرة أمتار يوميًّا بفضل آلات الحفر الهيدروليكية التي استُخدمت في حفر نفق سمبلون.
٤  أحجام الصناديق الموحدة هي على النحو التالي:
٨ × ٨ × ١٠ قدم = ٢٫٤٣ × ٢٫٤٣ × ٣٫٠٤ أمتار
٨ × ٨ × ٢٠ قدم = ٢٫٤٣ × ٢٫٤٣ × ٦٫٠٩ أمتار
٨ × ٨ × ٢٧ قدم = ٢٫٤٣ × ٢٫٤٣ × ٨٫٢٣ أمتار
٨ × ٨ × ٣٠ قدم = ٢٫٤٣ × ٢٫٤٣ × ٩٫١٤ أمتار
٨ × ٨ × ٤٠ قدم = ٢٫٤٣ × ٢٫٤٣ × ١٢٫١٩ مترًا
٥  الناشر.
٦  ينطوي استخدام العجلة (الدولاب) على مبدأين: الاستخدام الأفقي كما في دولاب الفخار، والاستخدام الرأسي في النقل. وكان المتوقع أن تعرف حضارة ما المبدأين معًا، لكن المصريين عرفوا عجلة الفخار قبل ألف سنة على الأقل من استخدام العجلة في النقل، وحدث العكس تمامًا في كريت وشمال أوروبا، فعجلة النقل عندهم أقدم بحوالي قرنين من استخدامهم عجلة الفخار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤