الفصل العاشر

سيقاضيك الطبيب الآن

لم يكن هذا الفصل موجودًا في الطبعة الأصلية لهذا الكتاب؛ وذلك لأنه على مدى خمسة عشر شهرًا حتى سبتمبر ٢٠٠٨ كان رائد الأعمال في مجال صناعة أقراص الفيتامين ماتياس راث يقاضيني شخصيًّا أنا وصحيفة «ذا جارديان»، بتهمة التشهير. لم تحقِّق هذه الاستراتيجية انتصارًا مبينًا. على الرغم من كل ما قد يتخيله مُختَصُّو التغذية علنًا من أنَّ أيَّ منتقد لهم ليس إلا أداة في يد شركات الدواء الكبرى، سوف يفعلون خيرًا في الخفاء إذا تذكروا أنني، مثل كثيرين غيري يعملون في القطاع العام، لا أملك شقة. دفعتْ صحيفة «ذا جارديان» كرمًا منها أتعاب المحامين، وفي سبتمبر ٢٠٠٨ تنازل راث عن قضيته، التي كانت قد تكلَّفتْ أكثر من ٥٠٠ ألف جنيه استرليني. كان راث قد دفع بالفعل ٢٢٠ ألف جنيه استرليني، وستأتي بقية الأتعاب بعد ذلك كما آمل. أما أنا، فلن يكافئني أحد على الإطلاق مقابل سلسلة الاجتماعات اللانهائية، والوقت الذي قضيتُه بعد أوقات العمل الرسمية، أو الأيام التي قضيتُها منكبًّا على الموائد المكتظة عن آخرها بأوراق المحكمة التي كانت تعجُّ بإحالات ترافقية لا نهاية لها.

ولكن فيما يتعلَّق بهذه النقطة الأخيرة، ثمة مصدر ارتياح وعزاء صغير، وسأذكره على سبيل العبرة؛ فقد صرتُ أعرف عن ماتياس راث الآن أكثر من أي شخص آخر على قيد الحياة. وها هي ملاحظاتي، ومَراجعي، وأقوال الشهود، التي أضعها في صناديق في الغرفة التي أجلس فيها الآن، تصنع كومة يبلغ طولها طول الرجل نفسه، وما سأكتبه هنا لا يمثل سوى جزء ضئيل للغاية من القصة الكاملة التي تنتظر قَصَّها عنه. يجب أن أذكر أيضًا أن هذا الفصل متوافر مجانًا على الإنترنت لكلِّ مَن يريد أن يطَّلع عليه.

يصحبنا ماتياس راث على نحو فظٍّ خارج الإطار شبه الأكاديمي المحدود لهذا الكتاب. في معظم الأحيان كنا مهتمين بالتداعيات الفكرية والثقافية للعِلْم الزائف، والحقائق المفبركة في الصحف القومية، والممارسات الأكاديمية المريبة في الجامعات، والترويج الأحمق لأقراص، إلخ. لكن ماذا يحدث إذا أخذنا هذه الألاعيب، وهذه الأساليب في تسويق الأقراص، وزرعناها خارج سياقنا الغربي المضمحل في موقف تجري فيه أمور مهمة حقًّا؟

في عالَم مثالي، لن يمثل هذا إلا تجربة فكرية.

يُعَدُّ الإيدز بعيدًا كل البعد عن كونه قصة طريفة. لقد تُوفي خمسة وعشرون مليون شخص جرَّاء الإيدز، ثلاثة ملايين شخص في العام الماضي وحده، وبلغ عدد الوفيات بين الأطفال ٥٠٠ ألف طفل. وفي جنوب أفريقيا، يقتل المرضُ ٣٠٠ ألف شخص سنويًّا، وهو ما يساوي ثمانمائة شخص يوميًّا، أو شخصًا كل دقيقتين. تضم هذه الدولة ٦٫٣ ملايين شخص مصابين بالإيدز، بما في ذلك ٣٠ في المائة من إجمالي النساء الحبليات. وهناك ١٫٢ مليون طفل يتيم مصاب بالإيدز تحت عمر السابعة عشرة. والأكثر مَدْعاة للشعور بالصدمة بين كل ذلك هو أن هذه الكارثة ظهرتْ فجأة، بينما كنا نقف موقف المتفرجين. ففي عام ١٩٩٠، كانت نسبة البالغين المصابين بالإيدز في جنوب أفريقيا تبلغ ١ في المائة فقط. وبعد عشر سنوات، كان هذا الرقم قد قفز إلى ٢٥ في المائة.

يصعب استثارة رد فعل شعوري تجاه الأرقام المجرَّدة، لكنني أظن أننا سنتفق حول شيء واحد. إذا كان لنا أن نغوص في أحد المواقف يعج بمثل هذا الكم من الوفيات، والبؤس، والمرض، يجب أن تحرص للغاية على التأكد من أنك تعرف ما تتحدَّث عنه. وللأسباب التي ستقرؤها حالًا، أظن أن ماتياس راث قد فاتَه هذا الأمر.

هذا الرجل هو مسئوليتنا، ويجب أن نكون واضحين حيال هذا الأمر. كان راث، الذي وُلد ونشأ في ألمانيا، رئيس قسم بحوث القلب والأوعية الدموية في معهد لينوس بولنج في بالو ألتو في كاليفورنيا، وحتى آنذاك كان يميل إلى طرح تخمينات كبرى؛ إذ نشر ورقة بحثية في دورية «جورنال أوف أورثوموليكيولر ميديسن» في عام ١٩٩٢ بعنوان «نظرية موحدة حول مرض القلب والأوعية الدموية البشري تقود طريق القضاء على هذا المرض كأحد أسباب الوفاة بين البشر». كانت النظرية الموحدة عبارة عن فيتامينات عالية الجرعة.

في البداية أسَّس قاعدة قوية من خلال تحقيق مبيعات في أوروبا؛ إذ كان يبيع أقراصه من خلال أساليب ستبدو لك مألوفة للغاية من خلال ما ورد في هذا الكتاب، وإن كانت أساليب أكثر جرأةً قليلًا؛ ففي المملكة المتحدة، زعمتْ إعلاناته أن «٩٠ في المائة من المرضى الذين يتلقَّون العلاج الكيميائي لمرض السرطان يموتون في غضون شهور من بداية العلاج»، وأشارتْ إلى أن ثلاثة ملايين حياة كان يمكن إنقاذها إذا توقف مرضى السرطان عن العلاج بالطب التقليدي. فقد كانت صناعة الدواء تترك الناس يموتون عمدًا من أجل تحقيق مكاسب مالية، مثلما أشار. فعلاجات السرطان ما هي إلا «مركَّبات سامة لا تتضمن أي علاج فعَّال على الإطلاق.»

ربما يكون قرار البدء في تلقِّي علاجٍ للسرطان أكثر القرارات صعوبة التي يتخذها أي فرد أو عائلة، وهو ما يمثل عملية موازنة دقيقة بين فوائد مؤكدة وآثار جانبية مؤكدة بنفس القدْر أيضًا. ربما تلعب مثل هذه الإعلانات بقوة خاصة على وتر ضميرك إذا كانت أمُّك قد فقدتْ شعرها كلَّه للتوِّ أثناء تلقي العلاج الكيميائي، على سبيل المثال، على أمل البقاء حيَّةً ما يكفي كي ترى ابنك يتحدَّث.

كان ثمة شيء من الاستجابة التنظيمية المحدودة في أوروبا، لكنها كانت عمومًا في قدْر ضِعْف الاستجابات التي واجهتْها الشخصيات الأخرى المذكورة في هذا الكتاب. لقد انتقدتْ هيئة المعايير الإعلانية أحد إعلاناته في المملكة المتحدة، لكن كان ذلك هو أقصى ما كان بإمكانها فعله. وأمرتْ محكمة في برلين راث بأن يتوقَّف عن الادِّعاء بأن الفيتامينات التي يُنتجها تستطيع علاج السرطان، أو يواجه دفع غرامة قدرها ٢٥٠ ألف يورو.

لكن المبيعات كانت قوية، ولا يزال ماتياس راث يحظى بالعديد من المؤيدين في أوروبا، مثلما سترى حالًا. وجاء إلى جنوب أفريقيا مصحوبًا بالثناء، والثقة في الذات، والثروة التي كان قد راكمها كرائد أعمال في صناعة أقراص الفيتامين في أوروبا وأمريكا، وبدأ في احتلال صفحات إعلانية كاملة في الصحف.

أعلن قائلًا: «إن حلَّ وباء الإيدز هنا.» كانت الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية سامة، وتمثِّل مؤامرةً لقتل المرضى وجنْي الأموال. ووفق أحد عناوين إعلاناته: «أوقفوا الإبادة الجماعية بالإيدز التي تمارسها مجموعة شركات الدواء الكبرى. لماذا يجب أن يظل مواطنو جنوب أفريقيا يتسمَّمون بعقَّار «إيه زد تي»؟ ثمة حلٌّ طبيعي للإيدز.» وجاء هذا الحل في صورة أقراص فيتامين. «العلاج بأقراص الفيتامينات المتعددة أكثر فاعلية من أي دواء سام للإيدز.» «يحدُّ العلاج بالأقراص المتعددة الفيتامينات من خطر تطور مرض الإيدز بمعدل النصف.»

كانت شركة راث تدير عيادات تعكس هذه الأفكار، وفي عام ٢٠٠٥ قرَّر إجراء تجربة على فيتاميناته في بلدة صغيرة قريبة من كيب تاون تُسمَّى كايلتشا، وقدَّم تركيبتَه الخاصة، «فيتاسل»، لأشخاص في مراحل متقدمة من مرض الإيدز. وفي عام ٢٠٠٨، حكمتْ محكمة كيب تاون العليا في جنوب أفريقيا بعدم قانونية هذه التجربة. وعلى الرغم من أن راث يقول إنه لن يتلقى أيُّ المشاركين في التجربة الأدويةَ المضادة للفيروسات القهقرية، فقد أدلى بعض الأقارب بشهادات تقول إن أقرباءهم قد تلقَّوْا هذه الأدوية، وطُلب منهم بشكل فعلي التوقف عن استخدامها.

وللفاجعة كان ماتياس راث قد أخذ هذه الأفكار إلى المكان الصحيح تمامًا. فقد كان تابو مبيكي، رئيس جنوب أفريقيا في ذلك الوقت، معروفًا بكونه أحد «الناكرين لوجود مرض الإيدز»، وما أثار الرعب الدولي أنه بينما كان الناس يموتون بمعدل شخص كل دقيقتين في بلاده، مَنَحَ هو مصداقيةً ودعمًا لادِّعاءات مجموعة صغيرة من الناشطين كانوا يزعمون بصُوَر مختلفة أن مرض الإيدز غير موجود، وأن المرض لا يتسبَّب فيه فيروس نقص المناعة البشري «إتش آي في»، وأن العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية يسفر عن أضرار أكثر مما ينفع، إلخ.

في فترات مختلفة خلال ذروة مرض الإيدز في جنوب أفريقيا، كانت الحكومة تدفع بأن فيروس «إتش آي في» لا يعتبر السبب وراء مرض الإيدز، وأن الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية لا تفيد المرضى. ورفضتِ الحكومة وضع برامج علاجية مناسبة، ورفضتْ قبول تبرعات مجانية بالأدوية، كما رفضتْ قبول مِنَح نقدية من الصندوق العالمي لشراء الأدوية.

تقدِّر إحدى الدراسات أنه في حال استخدام حكومة جنوب أفريقيا الوطنية للأدوية المضادة للفيروسات القهقرية للوقاية والعلاج بنفس المعدلات السائدة في مقاطعة كيب الغربية (التي تحدَّتِ السياسة القومية في هذا الموضوع)، لكان من الممكن الحيلولة دون وقوع إصابات بلغتْ حوالي ١٧١ ألف إصابة جديدة بعدوى فيروس «إتش آي في» وعدد ٣٤٣ ألف حالة وفاة بين عامَي ١٩٩٩ و٢٠٠٧. وتقدِّر دراسة أخرى أن بين عامَي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥ كان ثمة وفيات غير حتمية بلغتْ ٣٣٠ ألف حالة، وفقدان ٢٫٢ مليون شخص لسنوات من معدل حياتهم المحتملة، فضلًا عن ميلاد ٣٥ ألف طفل مصاب بالفيروس دون داعٍ؛ بسبب عدم تطبيق برنامج وقاية بسيط ورخيص ضد انتقال الفيروس من الأم للطفل. ويمكن أن يَحُدَّ ما بين جرعة إلى ثلاث جرعات من عقَّار «إيه آر في» من انتقال الفيروس بصورة هائلة، بتكلفة زهيدة جدًّا. ولكن لم يكن الدواء متوافرًا.

من المثير للاهتمام أن زميل ماتياس راث ومرءوسه، وهو محامٍ جنوب أفريقي يُدعَى أنطوني برينك، يرجع الفضل إليه في تعريف تابو مبيكي بكثير من هذه الأفكار. كان برينك قد عثر على المادة المتعلِّقة بموضوع «إنكار مرض الإيدز» في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وبعد الكثير من البحث والقراءة، صار مقتنعًا بأن الأمر لا بد أنه صحيح. وفي عام ١٩٩٩، كتب مقالًا عن عقار «إيه زد تي» في إحدى صحف جوهانسبرج بعنوان «دواء من الجحيم». أسفر المقال عن نقاش علني مع عالِم فيروسات بارز. تواصل برينك مع مبيكي، مرسلًا إليه نُسَخًا من النقاش الذي دار، ورُحِّب به باعتباره خبيرًا. وتعتبر هذه الحالة شهادة صادمة على خطر الرفع من شأن الأشخاص المتهوِّسين من خلال الانخراط معهم في نقاشات.

في خطاب التغطية الأول الذي أرسله لطلب العمل لدى ماتياس راث، وصف برينك نفسه بأنه «رائد معارضي وجود مرض الإيدز في جنوب أفريقيا، ومعروف بمقالاتي الكاشفة عن سُمِّيَّة وعدم فاعلية أدوية الإيدز، وبنشاطي السياسي في هذا الصدد، وهو ما جعل الرئيس مبيكي ووزيرة الصحة د. تشابالالا-ميسمانج يصدران الأوامر بمنع تداول الدواء في عام ١٩٩٩.»

في عام ٢٠٠٠، عُقد مؤتمر الإيدز الدولي سيِّئ السمعة في دربان. كان الفريق الاستشاري الرئاسي لمبيكي متخمًا بصورة مسبقة «بمعارضي مرض الإيدز»، وكان من ضمنهم بيتر ديوسبرج وديفيد رازنيك. في اليوم الأول، اقترح رازنيك وجوب حظر جميع اختبارات فيروس «إتش آي في» من حيث المبدأ، وضرورة أن تتوقَّف جنوب أفريقيا عن فحص إمدادات الدماء لاكتشاف وجود فيروس «إتش آي في» من عدمه؛ إذ قال: «لو كانت لي سلطة حظر اختبارات أجسام فيروس «إتش آي في» المضادة … لطبَّقتُ هذا الإجراء على نحو شامل.» وعندما أدلى الأطباء الأفارقة بشهادتهم حول التغيير الهائل الذي تسبَّب فيه مرض الإيدز في عياداتهم ومستشفياتهم، قال رازنيك إنه لم يرَ «أي دليل» على وجود كارثة تتعلَّق بمرض الإيدز. لم يكن مسموحًا بدخول وسائل الإعلام، لكن كان ثمة صحفي من صحيفة «فيليدج فويس» حاضرًا. قال الصحفي إن بيتر ديوسبرج «قدَّم عرضًا تقديميًّا بعيدًا كل البعد عن الواقع الطبي الأفريقي، حتى إنه جعل كثيرًا من الأطباء المحليين يهزون رءوسهم في عدم اقتناع.» لم يكن الإيدز هو ما كان يودي بحياة الرُّضَّع والأطفال، مثلما كان معارضو الإيدز يقولون، بل العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية.

أرسل الرئيس مبيكي خطابًا إلى قادة العالَم مقارِنًا صراع «معارضي مرض الإيدز» بالصراع ضد نظام الفصل العنصري. ووصفتْ صحيفة «واشنطن بوست» ردَّ الفعل في البيت الأبيض قائلة: «شعر بعض المسئولين بالصدمة البالغة من نبرة وتوقيت الخطاب — خلال الاستعدادات النهائية لمؤتمر يوليو في دربان — حتى إن اثنين منهم على الأقل، وفق مصادر دبلوماسية، شعرا بوجوب التأكد مما إذا كان الخطاب حقيقيًّا أم لا.» خرج مئات من المبعوثين من خطاب مبيكي للمؤتمر شاعرين بالاشمئزاز، لكن عددًا أكبر منهم وصفوا أنفسهم بأنهم كانوا يشعرون بالحيرة والارتباك. ووقَّع ٥٠٠٠ باحث وناشط حول العالم على إعلان دربان، وهو وثيقة ناقشتْ وانتقدتْ، على نحو خاص، الادِّعاءات والمخاوف — على الأقل الأكثر اعتدالًا منها — ﻟ «معارضي مرض الإيدز». وعلى وجه التحديد، ناقشت الاتهام بأن الناس كانوا يموتون ببساطة جراء الفقر:

إن الأدلة على أن مرض الإيدز يحدث بسبب فيروس «إتش آي في-١» أو فيروس «إتش آي في-٢» قاطعة، وشاملة، وغير ملتبسة … ومثلما هو الحال مع أي عَدْوى مزمنة أخرى، تلعب عوامل مشتركة متعددة دورًا في تحديد درجة خطورة المرض. فيميل الأشخاص الذين يُعانون من سوء التغذية، ويُعانون بالفعل من أمراض أخرى، أو يكونون من كبار السن، لأن يكونوا أكثر عرضةً للتطور السريع لمرض الإيدز إثر الإصابة بعدوى فيروس «إتش آي في». لكن لا يُضعِف أيٌّ من هذه العوامل الأدلةَ العلمية على أن فيروس «إتش آي في» هو المتسبِّب الوحيد في مرض الإيدز … ويمكن الحدُّ من انتقال المرض من الأم إلى الطفل إلى النصف أو أكثر من خلال تناوُل جرعات على فترات قصيرة من الأدوية المضادة للفيروسات … إن ما ينجح في إحدى الدول ربما لا يكون ملائمًا في دولة أخرى. لكن عند مناقشة المرض، يجب أن يدرك الجميع أولًا أن فيروس «إتش آي في» هو العدُوُّ. وستؤدي البحوث، لا الخرافات، إلى تطوير علاجات أكثر فاعليةً وأقل ثمنًا.

لم يُجْدِ هذا نفعًا. فحتى عام ٢٠٠٣، رفضتْ حكومة جنوب أفريقيا، من حيث المبدأ، أن تضع برامج علاجية مناسبة باستخدام أدوية مضادة للفيروسات القهقرية، وحتى حينها لم تكن برامج كهذه توضع في حماس كبير. ولم ينقشع هذا الجنون إلا بعد حملة مكثفة قامتْ بها المنظمات المحلية مثل حملة تنشيط العلاج، لكن حتى بعد تصويت حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي لصالح السماح بتناول الأدوية، كانت لا تزال ثمة مقاومة. وفي منتصف عام ٢٠٠٥، كان ٨٥٪ على الأقل من الأشخاص المصابين بفيروس «إتش آي في» ممن كانوا يحتاجون إلى أدوية مضادة للفيروسات القهقرية لا يزالون يرفضونها. وكانت هذه النسبة تعادل حوالي مليون شخص.

مضتْ هذه المقاومة، بالطبع، أبعد غورًا من مقاومة رجل واحد؛ إذْ أتتْ معظمها من وزيرة صحة مبيكي، مانتو تشابالالا-ميسمانج. كانت ميسمانج، باعتبارها معارضة قوية للأدوية الطبية لعلاج فيروس «إتش آي في»، تَظهَر في سرور في التليفزيون للحديث عن مخاطرها، والتقليل من قيمة فوائدها، وتنفعل وتراوغ عندما تُسأل عن عدد الأشخاص الذين يتلقَّوْن علاجًا فعَّالًا. وأعلنتْ في عام ٢٠٠٥ أنها لن ترضخ ﻟ «الضغط» الواقع عليها لتحقيق هدف علاج ثلاثة ملايين مريض بالأدوية المضادة للفيروسات القهقرية، وأن الناس تجاهلوا أهمية التغذية، وأنها ستواصل تحذير المرضى من الآثار الجانبية للأدوية المضادة للفيروسات القهقرية، قائلة: «لقد بُرِّئت ساحتنا في هذا الصدد. فنحن ما نأكل.»

هذه عبارة مألوفة على نحو عجيب. وقد أشادتْ تشابالالا-ميسمانج علنًا بعمل ماتياس راث، ورفضتْ أن تستقصي طبيعة أنشطته. ولعل الأكثر مدعاةً للسرور من بين كل ذلك أن تشابالالا-ميسمانج تُعَدُّ مناصرًا شرسًا لهذا النوع من مجلَّات التغذية الفاخرة التي تُقرأ في نهاية الأسبوع، والتي لا بد أنها قد صارتْ مألوفة جدًّا بالنسبة إليك.

وتشمل العلاجات التي تدعمها لعلاج الإيدز الشمندر، والثوم، والليمون، والبطاطس الأفريقية. ولعل من الاستشهادات المألوفة نوعًا ما، المنقولة عن وزيرة الصحة في دولة يموت فيها ثمانمائة شخص يوميًّا جراء مرض الإيدز: «الثوم الطازج وقشر الليمون لا يمنحانك فقط وجهًا وبشرة جميلين، بل يَقِيَان أيضًا ضد المرض.» وقد وصف ممثلو الدول المنصة المخصصة لجنوب أفريقيا في المؤتمر العالمي للإيدز في عام ٢٠٠٦ في تورونتو بأنها كانت عبارة عن «كشك سلطة»؛ فقد تألَّفتْ من بعض الثوم، وبعض الشمندر، والبطاطس الأفريقية، وخَضْراوات أخرى متنوعة. وأُضيفتْ بعض صناديق الأدوية المضادة للفيروسات لاحقًا، لكنها — كما قيل — كانت مقترضة في اللحظات الأخيرة من ممثلي الدول الأخرى في المؤتمر.

يحب معالجو الطب البديل الإشارة إلى أن علاجاتهم وأفكارهم لم تَجْرِ عليها بحوث كافية. ومثلما تعرف الآن، غالبًا ما يكون هذا غير صحيح، وفي حالة الخَضْراوات المفضلة لدى وزيرة الصحة، أُجريتْ بحوث بالفعل، أسفرتْ عن نتائج كانت بعيدة كل البعد عن كونها واعدة. وعند إجراء لقاء معها حول هذا الأمر في إذاعة جنوب أفريقيا، قدمتْ تشابالالا-ميسمانج الإجابات التي يتوقَّع المرء سماعها في أيِّ مناقشة في حفل غداء شمال لندن عن العلاجات البديلة.

سُئلتْ أولًا عن الأبحاث الآتية من جامعة ستلنبوش، التي أشارتْ إلى أن نباتها المفضل، البطاطس الأفريقية، ربما يمثِّل خطرًا حقيقيًّا للأشخاص الذين يتناولون أدوية لعلاج الإيدز. وقد أُوقِفت إحدى التجارب على البطاطس الأفريقية لعلاج فيروس «إتش آي في» قبلَ إتمامها؛ نظرًا لأن المرضى الذين تلقَّوْا خلاصة النبات أصيبوا بتثبيط حادٍّ في نخاع العظم، وانخفاض في عدد خلايا «سي دي ٤» — وهو شيء ضارٌّ — بعد ثمانية أسابيع. بالإضافة إلى ذلك، عندما جرى إعطاء الخلاصة من النبات نفسه إلى قطط مصابة بفيروس نقص المناعة القططية، استسلمتْ أكثر لمرض الإيدز القططي بالكامل بصورة أسرع من مجموعات القطط الضابطة التي لم تتناول الخلاصة. لا يبدو أن البطاطس الأفريقية تُعتبر رهانًا جيدًا للشفاء من الإيدز.

اختلفتْ تشابالالا-ميسمانج مع ذلك؛ إذ رأتْ أن على الباحثين أن يعيدوا أبحاثهم من جديد، و«يبحثوا» جيدًا. لماذا؟ لأن الأشخاص المصابين بفيروس «إتش آي في» الذين كانوا يتناولون البطاطس الأفريقية كانوا قد أظهروا تحسُّنًا، وقالوا ذلك بأنفسهم. وطالبتْ بأن تعرف: إذا قال شخص إنه يشعر بالتحسن، هل يجب منازعة ذلك لمجرد أن هذا التحسن لم يَجْرِ إثباتُه علميًّا؟ «عندما يقول شخص ما إنه يشعر بتحسن، هل يجب أن أقول: «لا، لا أظن أنك تشعر بتحسن»، «يجب أن أقوم بإجراء بعض الأبحاث عليك»؟!» وعند سؤالها عما إذا كان يجب أن يكون ثمة أي أساس علمي لآرائها، أجابت: «عِلم مَن؟»

وربما يكون هناك دليل، إن لم يكن إبراءَ ساحةٍ. فهذه قارة استُغلَّت على نحو مريع من قِبَل العالَم المتقدِّم؛ أولًا من خلال الغزو الاستعماري، ثم من خلال رأس المال العالمي. ولا تعتبر نظريات المؤامرة حول مرض الإيدز والطب الغربي عبثيةً تمامًا في هذا السياق. وقد جرى بالفعل ضبط شركات صناعة الدواء متلبسةً بإجراء تجارب على عقاقير في أفريقيا، وهو ما لم يكن ممكنًا على الإطلاق في أي مكان في العالَم المتقدِّم. ويتشكَّك كثيرون في أن الأفارقة السود يَبْدون أكبر ضحايا مرض الإيدز، ويشيرون إلى برامج الحرب البيولوجية التي وضعتْها حكومات نظام الفصل العنصري؛ وكانت ثمة شكوك أيضًا في أن الخطاب العلمي حول فيروس «إتش آي في»/الإيدز ربما كان أداةً؛ حصان طروادة استُغِلَّ لنشر أجندات سياسية واقتصادية غربية أكثر استغلالًا حول مشكلة هي في حقيقتها مجرد مشكلة فقر.

وهذه أيضًا دول جديدة، يعتبر الاستقلال والحكم الذاتي فيها تطورات حديثة، وتُصارِع من أجل أن تَجِدَ موْطئ قدَم تجارية وهُوية ثقافية حقيقية لها بعد قرون من الاستعمار. ويمثل الطبُّ التقليدي حلقةَ وصلٍ مهمة مع ماضٍ كان يتَّسم بالاستقلال، وبالإضافة إلى ذلك، كانت الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية — على نحو غير ضروري؛ نحوٍ نهم وعبثي — باهظة الثمن، وحتى ظهور تحركات لمقاومة هذا حققتْ نجاحًا جزئيًّا، مُنع الكثير من الأفارقة من تلقِّي العلاج الطبي نتيجة لذلك.

من السهل علينا للغاية أن نعتدَّ بأنفسنا، وأن ننسى أننا جميعًا لنا خصائصنا الثقافية الغريبة التي تحُول دون تقبُّل برامج معقولة للصحة العامة، ومن الأمثلة على هذا التطعيمُ الثلاثيُّ. وثمة أساس وجيه من الأدلة، على سبيل المثال، يُظهِر أن برامج تبادُل الإِبَر تحدُّ من انتشار فيروس «إتش آي في»، لكن هذه الاستراتيجية رُفِضت مرارًا وتكرارًا لصالح استراتيجية «فقط قل لا». فالجمعيات الخيرية التنموية التي تموِّلها الجماعات المسيحية الأمريكية ترفض الانخراط في أنشطة تنظيم النسل، وأي اقتراح يتعلَّق بالإجهاض، وحتى في الدول التي قد يشكِّل فيها التحكُّم في الخصوبة الفرق بين النجاح والفشل في الحياة، تقابَل هذه الموضوعات بنظرةٍ وَرِعة باردة. وهذه المبادئ الأخلاقية غير العملية في غاية الرسوخ، حتى إن «بِبفار» — وهي خطة الطوارئ الرئاسية الأمريكية للحدِّ من انتشار مرض الإيدز — أصرَّتْ على أن كل مَن يتلقَّى أموال المعونة الدولية يجب أن يوقِّع إقرارًا يَعِدُ فيه بوضوح بألَّا يمارس الجنس مع أيٍّ من محترفي ممارسة الدعارة.

يجب ألا نبدو فاقدي الحس حيالَ نظامِ القِيَم المسيحية، لكن يبدو لي أن مخالطة محترفي ممارسة الدعارة يُعتبر حجرَ الأساس في أي سياسة فعَّالة لمكافحة مرض الإيدز؛ فالجنس الذي يُمارَس تجاريًّا دائمًا ما يكون «العامل الناقل للمرض»، فيما يمثِّل محترفو ممارسة الدعارة مصدر خطر كبيرًا، لكن ثمة موضوعات أخرى أكثر غموضًا على المحك. إذا ضُمِنت الحقوق القانونية للعاهرات بحيث لا يتعرَّضْنَ للعنف والتمييز، فهذا يهيِّئ تمكينَهن للمطالبة بالاستخدام العام للواقي الذكري عند ممارسة الجنس، وبذلك يمكن منع الإصابة بفيروس «إتش آي في» من الانتشار في المجتمع بأكمله. هنا يلتقي العِلْم مع الثقافة. لكن ربما حتى بالنسبة إلى أصدقائك وجيرانك، في أي حي هادئ تقطنه، يعتبر المبدأ الأخلاقي الداعي إلى الامتناع عن ممارسة الجنس وتعاطي المخدرات أكثر أهميةً من البشر الذين يموتون جراء مرض الإيدز، وربما حينئذٍ لا يعتبر هؤلاء أقلَّ حماقةً من تابو مبيكي.

إذن كان هذا هو السياق الذي أقحم رائدُ صناعة أقراص الفيتامين ماتياس راث نفسَه فيه، بصورة بارزة ومكلِّفة، من خلال الثروة التي كان قد راكمها في أوروبا وأمريكا، مستغلًّا وجود مخاوف مناهضة للاستعمار دون أي مجال للسخرية، على الرغم من أنه كان رجلًا أبيض يطرح أقراصًا مصنَّعة في مصنع في الخارج. وحققتْ إعلاناته وعياداته نجاحًا هائلًا. وبدأ في ترويج المرضى الأفراد باعتبارهم دليلًا على الفوائد التي يمكن أن تتحقَّق من تناول أقراص الفيتامين، على الرغم من أن أبطال بعضٍ من أشهر قصص نجاحه قد تُوُفُّوا في الحقيقة جراء الإيدز. وعند سؤالها عن مرضى راث من النجوم الذين تُوُفُّوا، أجابتْ وزيرة الصحة تشابالالا-ميسمانج قائلة: «لا يعني بالضرورة أنني إذا كنتُ أتناول المضادات الحيوية ثم تُوفِّيتُ، أنني توفيت بسبب المضادات الحيوية.»

ليست وحدها في موقفها ذاك؛ فقد رفض ساسةُ جنوب أفريقيا باستمرارٍ التدخل، ويدَّعي راث دعمَ الحكومة له، كما رفض أرفعُ المسئولين الحكوميين النأيَ بأنفسهم عن عملياته أو نقدَ أنشطته. فقد ظهرتْ تشابالالا-ميسمانج في وسائل الإعلام لتقول إن مؤسسة راث «لا تقوِّض موقف الحكومة. وإن كان لها أي تأثير عليه، فهو تأثير داعم.»

في عام ٢٠٠٥، وبدافع من السخط الشديد من عدم اتخاذ الحكومة أي إجراء، وقَّعتْ مجموعة من ١٩٩ ممارسًا طبيًّا بارزًا في جنوب أفريقيا خطابًا مفتوحًا موجَّهًا إلى السلطات الصحية في كيب الغربية، مطالبين باتخاذ إجراءات ضدَّ مؤسسة راث. وجاء نص الخطاب كالآتي: «تغمر مرضانا حملات إعلانية تشجِّعهم على التوقف عن تناول الأدوية التي تنقذ حياتهم. لقد مرَّ كثير منا بتجارب مع مرضى مصابين بفيروس «إتش آي في» تعرضتْ صحتهم للخطر جرَّاء التوقف عن تناول الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية؛ نظرًا للأنشطة التي تمارسها هذه المؤسسة.»

تتواصل إعلانات راث دون توقف. بل إنه زعم أن أنشطته قد لاقتْ دعمًا من قِبَل قائمة ضخمة من الرُّعاة والهيئات التابعة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، واليونيسيف، وبرنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز. وقد أصدرتْ هذه المنظمات والهيئات جميعًا بيانات تستنكر في وضوح ادِّعاءاته وأنشطته. لا شك أن الرجل يتحلَّى بوقاحة متناهية.

تعجُّ إعلاناتُه أيضًا بالعديد من المزاعم العلمية المفصَّلة. سيكون من قبيل الخطأ من جانبنا أن نهمل الجانب العلمي في هذه القصة؛ لذا يجب أن نتقصَّى بعض هذه المزاعم إلى منتهاها، خاصة تلك المزاعم التي ركَّزتْ على إحدى دراسات جامعة هارفرد في تنزانيا. وقد وصف هذه الدراسة في صفحةٍ إعلانية كاملة، ظهرتْ أجزاءٌ منها في صحيفتَيْ «نيويورك تايمز» و«هيرالد تريبيون». ويجب أن أذكر هنا أنه يشير إلى هذه الإعلانات المدفوعة كما لو كان قد تلقَّى تغطيةً إخباريةً تُثني على عمله في الصحف نفسها. على أي حال، فقد أظهر هذا البحث أن المكمِّلات الغذائية المتعددة الفيتامينات يمكن أن تكون مفيدة للأشخاص المصابين بمرض الإيدز في العالَم النامي. لا توجد مشكلة في هذه النتيجة، وثمة أسباب كثيرة للاعتقاد بأن الفيتامينات قد تحقِّق بعض الفائدة لأشخاصٍ مرضى ويتعرضون لسوء التغذية بصورة متكرِّرة.

أشرك الباحثون ١٠٧٨ امرأةً حبلى مصابة بفيروس «إتش آي في» وقاموا بتوزيعهن عشوائيًّا لتناول إما مكمِّل غذائي من الفيتامين أو علاج وهمي. لاحِظْ مرةً أخرى، إذا كنتَ ترغب في ذلك، أن هذه تجربة أخرى كبيرة على الفيتامينات، أُجريتْ على نحو صحيح، وموِّلت تمويلًا حكوميًّا، أجراها علماء ينتمون إلى التيار الرئيسي في البحث العلمي، وهو ما يُخالِف مزاعم مُختَصي التغذية من أن مثل هذه الدراسات غير موجودة.

جرتْ متابعة النساء على مدى عدة أعوام، وفي نهاية الدراسة، صار ٢٥ في المائة ممن يتناولْنَ أقراص الفيتامين في غاية المرض أو قضَيْنَ نَحْبَهن، مقارَنةً بنسبة ٣١ في المائة ممن كُنَّ يتناولْنَ علاجًا وهميًّا. كانت ثمة فائدة ذات دلالة إحصائية أيضًا في عدد خلايا «سي دي ٤» (أحد مقاييس نشاط «إتش آي في») والأحمال الفيروسية. لم يكن في هذه النتائج أي شيء مثير بأي حال من الأحوال — ولا يمكن مقارنتها بالفوائد القابلة للإثبات للأدوية المضادة للفيروسات القهقرية التي تسهم في إنقاذ الحياة — لكنها تُظهر أن النظام الغذائي المحسَّن، أو أقراص الفيتامين العامة الرخيصة، يمكنها أن تمثل طريقة بسيطة وغير مكلِّفة نسبيًّا لتأجيل الحاجة — على نحو طفيف — إلى البدء في تناول علاج فيروس «إتش آي في» لدى بعض المرضى.

أما بين يدَيْ راث، فقد تحوَّلتْ هذه الدراسة إلى دليل على أن أقراص الفيتامين تتفوَّق على الأدوية في علاج فيروس «إتش آي في»/الإيدز، وأن العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية «تُلحِق دمارًا حادًّا بجميع الخلايا في الجسم، بما في ذلك خلايا الدم البيضاء.» والأسوأ أنها كانت «لا تحسِّن، بل تؤدِّي إلى تفاقم الاضطرابات المناعية وانتشار وباء الإيدز.» أُصيب الباحثون من كلية هارفرد للصحة العامة بالهلع، حتى إنهم أصدروا معًا بيانًا صحفيًّا يؤكِّدون فيه على دعمهم لتناول الأدوية، وينصُّون فيه على نحو غاية في الوضوح، وفي جلاء غير ملتبس، على أن ماتياس راث قد أساء تقديم النتائج التي توصَّلوا إليها. وعجزتِ الجهات التنظيمية الإعلامية عن اتخاذ أي إجراء.

بالنسبة إلى مَن هم خارج هذه الدائرة، تعتبر القصة برمتها محيرةً ومريعة. كانت الأمم المتحدة قد استنكرتْ إعلانات راث باعتبارها «غير صحيحة ومضلِّلة»، وصرَّح إيريك جوميري، رئيس مكتب منظمة أطباء بلا حدود في جنوب أفريقيا، وهو رجل كان رائدًا في مجال العلاج باستخدام الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية في جنوب أفريقيا، قائلًا: «هذا الرجل يقتل الناس من خلال اجتذابهم عن طريق علاج غير معروف دون أي دليل علمي.» فقاضاه راث.

لم تكن منظمة أطباء بلا حدود وحدها التي لاحقها راث قضائيًّا، فقد أقام دعاوى قضائية طويلة ومكلِّفة انتهتْ بالتنازل عنها أو خسارتها ضد أستاذ في مجال أبحاث الإيدز، وضد منتقدين له في وسائل الإعلام، وآخرين.

كانت حملتُه الأكثر شراسةً ضد حملة تطبيق العلاج. لسنوات كثيرة، كانت هذه المنظمة هي المنظمة الأساسية في جنوب أفريقيا التي تُطلِق حملات من أجل الحصول على الأدوية المضادة للفيروسات في جنوب أفريقيا، وكانت تشنُّ حربًا على أربع جبهات؛ أولًا: تطلق حملات ضد حكومتها؛ في محاولة لإجبارها على وضع برامج علاجية للمواطنين. ثانيًا: تحارب ضد صناعة الدواء، التي تدَّعي أنها بحاجة لفرض أسعار كاملة على منتجاتها في الدول النامية من أجل تمويل الأبحاث وتطوير أدوية جديدة، على الرغم من أن صناعة الدواء — مثلما سنرى — تنفق، من إجمالي ٥٥٠ مليار دولار أمريكي تتحقَّق كأرباح سنوية عالمية لها، على الدعاية والأعمال الإدارية ضعف ما تنفقه على البحوث والتطوير. ثالثًا: هذه منظَّمة محلية، تتألَّف في معظمها من نساء سود ينتمين إلى بلدات تقوم بأعمال مهمة في مجال الوقاية والتوعية باستخدام العلاج على أرض الواقع، لضمان معرفة الناس بما هو متاح، وكيفية وقاية أنفسهم. أخيرًا: تحارب المنظمة الأشخاص الذين يُروِّجون المعلومات التي يسوقها ماتياس راث وأمثاله.

أخذ راث على عاتقه إطلاق حملة ضخمة ضد هذه الجماعة؛ فيقوم بتوزيع مواد إعلانية ضدها، تقول إن «أدوية حملة تطبيق العلاج تقتلك.» و«أوقفوا الإبادة الجماعية بالإيدز التي تمارسها مجموعة شركات الدواء الكبرى.» زاعمًا — مثلما ستحزر الآن — أن ثمة مؤامرة دولية من جانب شركات الدواء تهدف إلى إطالة أزمة مرض الإيدز لصالح زيادة أرباحها من خلال إعطاء أدوية تجعل المرضى أسوأ حالًا. ولا بد أن حملة تطبيق العلاج، مثلما يمضي طرح المؤامرة، جزءٌ من هذه المؤامرة؛ لأنها تنتقد ماتياس راث. ومثلما أكتب عن باتريك هولفورد أو جيليان ماكيث، تؤيد حملةُ تطبيق العلاج تمامًا العاداتِ الغذائية والتغذية الجيدة. لكن في المواد الترويجية لراث، تُعتبر الحملة إحدى جبهات صناعة الدواء، بمنزلة «حصان طروادة» و«كلبًا هائجًا». أفصحتِ الحملة إفصاحًا كاملًا عن مصادر تمويلها وأنشطتها، وهو ما لم يكشف عن وجود علاقة كهذه؛ في حين لم يقدِّم راث أي دليل يشير إلى عكس ذلك، بل خسر قضيةً حول هذا الموضوع، لكنه لم يصمت، بل إنه يُقدِّم خسارته لهذه القضية كما لو كانت نصرًا أحرزه.

مؤسِّس حملة تطبيق العلاج رجل اسمه زاكي أحمد، وهو أقرب شيء أعرفه بالنسبة إلى نموذج البطل. هو جنوب أفريقي ملوَّن، وفق تسمية نظام الفصل العنصري الذي نشأ في ظلاله. عندما كان في الرابعة عشرة، حاول أن يحرق مدرستَه، وربما كنتَ ستفعل أنت الشيء ذاته في ظروف مشابِهة. فقُبض عليه وسُجن في ظل النظام الأبيض العنيف الوحشي في جنوب أفريقيا، بكل ما كان يتضمَّنه ذلك. هو مثلي الجنس أيضًا، ومصاب بفيروس «إتش آي في»، ورفض أن يتناول الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية حتى صارتْ متوافرة على نطاق واسع لكلِّ مَن هم تحت مظلة نظام الرعاية الصحية العام، حتى عندما كان على وشك الموت جراء مرض الإيدز، وحتى عندما نوشد بشكل شخصي أن يُنقِذ نفسه من قِبَل نيلسون مانديلا، أحد المناصرين للأدوية المضادة للفيروسات القهقرية ولنشاط أحمد.

والآن، نأتي أخيرًا إلى أحطِّ نقطة بكل تأكيد في هذه القصة برمتها، ليس فقط بالنسبة إلى حركة ماتياس راث، لكن بالنسبة إلى حركة العلاج البديل حول العالم كله. في عام ٢٠٠٧، في ظل ازدهار عام ضخم، وفي ضوء تغطية إعلامية هائلة، قدَّم الموظف السابق لدى راث، أنطوني برينك، شكوى رسمية ضد زاكي أحمد، رئيس منظمة حملة تطبيق العلاج. وللغرابة، فقد بعث بشكواه إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، متَّهمًا أحمد بارتكاب جرائم إبادة جماعية لإطلاقه حملات ناجحة للحصول على أدوية علاج فيروس «إتش آي في» لمواطني جنوب أفريقيا.

يصعب تفسير مدى نفوذ «معارضي مرض الإيدز» في جنوب أفريقيا. إن برينك محامٍ، رجل يمتلك صداقات مهمة، ونُشرت اتهاماته في وسائل الإعلام الإخبارية الحكومية — وفي بعض وسائل الإعلام الصحفية المثلية الغربية — باعتبارها قصة إخبارية جادة. ولا أعتقد أن أيًّا من أولئك الصحفيين الذين كتبوا عن هذا الموضوع قد قرءوا اتهامات برينك إلى نهايتها.

ولكنني فعلتُ.

تقدِّم الصفحاتُ السبع والخمسون الأولى مادةً مألوفةً حول مناهضة الأدوية و«معارضي مرض الإيدز»، لكن في الصفحة الثامنة والخمسين، تتدهور الأمور كثيرًا في وثيقة «الاتهام» هذه فجأةً لتتحول إلى شيء أكثر سوءًا وجنونًا؛ إذ يقترح برينك ما يعتقد أنه سيكون العقاب الملائم لزاكي. ولأنني لا أرغب في أن أُتَّهم بتحرير النصوص انتقائيًّا، سأعرض هنا لك ذلك الجزء بالكامل، دون أي تدخل تحريري، بحيث تستطيع أن ترى وتستشعر ما فيه بنفسك:

العقوبة الجنائية المناسبة

بالنظر إلى حجم وفداحة جريمة أحمد وضلوعه الجنائي المباشر الشخصي في «وفاة آلاف الأشخاص»، بحسب عباراته هو، أتشرَّف بتقديم هذه الشكوى مع وافر الاحترام بوجوب فرض المحكمة الجنائية الدولية أقصى عقوبة بموجب المادة ٧٧–١ (ب) من قانون روما الأساسي، تحديدًا سجنه إلى الأبد في قفص أبيض صغير من الصلب والخرسانة، مع إضاءة مصباح فلورسنت شديد الإضاءة طوال الوقت لمراقبته، ولا يُخرِجه سجَّانوه إلا للعمل يوميًّا في حديقة السجن لزراعة خَضْراوات غنية بالمواد الغذائية، ويشمل ذلك الأوقات التي تُمطر فيها. وحتى يسدِّد دينه إلى المجتمع، عليه تناول أدوية «إيه آر في» التي يزعم وجودها يوميًّا تحت إشراف طبي لصيق بجرعات طبية كاملة، صباحًا، وظهرًا، وليلًا، دون انقطاع، للحيلولة دون تظاهره بالخضوع للدواء، بل يُدفع بالدواء، إذا لزم الأمر، عبر مَرِيئه بعد فتحِهِ بالقوة بإصبع، أو — إذا عض الإصبع وركل وصرخ أكثر مما ينبغي — يُحقَن بالدواء في ذراعه بعد تقييده في حداجة بقيود حول كعبيه، ومعصميه ورقبته، إلى أن يتوقف عن الحركة تمامًا، حتى يجري التخلص نهائيًّا من هذا البلاء الأكثر شرًّا ومقتًا وخبثًا، والبعيد كل البعد عن الوازع الأخلاقي، الذي حلَّ بالجنس البشري، الذي أصاب وسمَّم مواطني جنوب أفريقيا، معظمهم من السود، ومعظمهم فقراء، طوال ما يقرب من عَقْد من الزمان الآن، منذ اليوم الذي ظهر فيه هو وحملة تطبيق العلاج في المشهد.

•••

وقع في كيب تاون، جنوب أفريقيا، في الأول من يناير ٢٠٠٧.

أنطوني برينك

ووُصفتِ الوثيقة من قِبَل مؤسسة راث بأنها «صحيحة تمامًا وطال انتظارها.»

•••

هذه القصة لا تدور حول ماتياس راث، أو أنطوني برينك، أو زاكي أحمد، أو حتى جنوب أفريقيا، بل تدور حول الثقافة الخاصة بطريقة عمل الأفكار، وكيف يمكن أن تقوِّض هذه الطريقة. ينتقد الأطباءُ أطباء آخرين، وينتقد الأكاديميون أكاديميين آخرين، وينتقد الساسةُ ساسة آخرين. هذا شيء عادي وصحي، وهكذا تتطور الأفكار. إن ماتياس راث معالِج بالطب البديل، صُنِع في أوروبا، وهو يشبه تمامًا أصحاب الشركات البريطانيين الذين رأيناهم في هذا الكتاب. إنه ينتمي إلى عالَمهم.

وعلى الرغم من المواقف المتطرفة في هذه القضية، لم يهُبَّ أيُّ معالج بالطب البديل أو مُختَص تغذية واحد، في أيِّ مكان في العالم، لينقد ولو جانب واحد فقط من أنشطة ماتياس راث وزملائه. في الواقع، إن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك؛ فالاحتفاء براث مستمرٌّ حتى اليوم. لقد جلستُ في دهشة حقيقية وأنا أشاهد شخصيات بارزة في حركة العلاج بالطب البديل في المملكة المتحدة تُثني على ماتياس راث في محاضرة عامة (هذه المحاضرة مسجَّلة لديَّ بالفيديو، حال وجود أي شك في ذلك). ولا تزال منظمات الصحة الطبيعية مستمرة في الدفاع عن راث. وتواصل نشرات المعالجة المثلية الترويج لأعماله. ودُعيَتِ الجمعية البريطانية لمُختَصي العلاج بالتغذية للتعليق من قِبَل المدوِّنين، لكنها رَفضتِ الدعوة. فمعظم هؤلاء عند تحدِّي ادِّعاءاتهم سوف يلجَئُون للمِراء والنفاق؛ فتجدهم يقولون: «آه، لا أعرف كثيرًا عن الأمر حقًّا.» ولن يتقدم شخص واحد إلى الأمام وينشق عن الصف.

لقد أثبتتْ حركة العلاج البديل بأكملها أنها غير قادرة بصورة منهجية، وعلى نحو شديد الخطورة، على عمل تقييم ذاتي نقدي، لدرجة أنها لا تستطيع حتى أن تتقدَّم لتوجيه أي نقْد في حالة مثل حالة راث؛ وفي هذا الإطار أُدرِج عشرات الآلاف من الممارسين، والكُتَّاب، والمديرين، وغير ذلك المزيد. هكذا تفسد الأفكار إلى أقصى حدٍّ. في خاتمة هذا الكتاب، التي كُتبتْ قبل أن أتمكَّن من إدراج هذا الفصل، سوف أدفع بأن المخاطر الكبرى التي تشكِّلها الأمور التي ناقشناها هي مخاطر ثقافية وفكرية.

ربما أكون مخطئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤