الفصل الثاني عشر

كيف تروِّج وسائل الإعلام لسوء فَهْم العامة للعلم

يجب أن نفسر كل هذا، ونقدِّر مدى تغلغل حالات سوء الفهم وسوء التمثيل في ثقافتنا. إذا كنتُ معروفًا بأي حال من الأحوال، فأنا معروفٌ بتفكيكي قصص وسائل الإعلام الحمقاء حول العلم، وهو ما يمثِّل القسط الأعظم من عملي، «مجمل أعمالي»، وأشعر بالخجل قليلًا في أن أقول إن لديَّ أكثر من خمسمائة قصة للاختيار من بينها كي أُبيِّن الأفكار التي أرمي إلى عرضها هنا. ربما تَعتبِر هذا نوعًا من الهوس.

لقد غطَّينا الكثير من الموضوعات في مواضع أخرى؛ المسيرة الإغوائية لإضفاء الصفة الطبية على الحياة اليومية، الخيالات حول الأقراص، التقليدية والزيف، والادِّعاءات الصحية المضحكة حول الطعام، وهي الادِّعاءات التي يتورَّط فيها الصحفيون شأنهم شأن مُختَصي التغذية. لكنني أريد أن أركِّز هنا على القصص التي يمكن أن تدلَّنا على الطريقة التي يُدرَك بها العلم، والأنماط المتكرِّرة البنائية التي ضُلِّلنا من خلالها.

تتمثَّل فرضيتي الأساسية في الآتي: الأشخاص الذين يمسكون بزمام الأمور في وسائل الإعلام مِن خريجي كليات الدراسات الإنسانية لا يملكون إلا معرفةً ضئيلة بالعلم، ويفتخرون بجهلهم وكأنه وسام شرف! وعلى نحو سِرِّي، في أعماق أعماقهم، ربما يبغضون حقيقة أنهم حَرموا أنفسهم من الاطلاع على التطورات الأهم في تاريخ الفكر الغربي في القرنين الماضيين، لكن ثمة هجومًا ضمنيًّا في جميع التغطيات الإعلامية للأمور العلمية؛ فمن خلال اختيارها للموضوعات، وطريقة تغطيتها، تخلق وسائل الإعلام ما يشبه محاكاةً ساخرة للعلم. وفق هذا النموذج، يُصوَّر العلم باعتباره عبارات لا أساس لها من الصحة، وغير مفهومة، وتوجيهية تصدر من العلماء، الذين يُعَدُّون هم أنفسُهم رموز سلطة متعسِّفة غير منتخبة، تنعَم بالقوة على الصعيد الاجتماعي. إنهم منفصلون عن الواقع؛ فهم يقومون بأعمال إما مضحكة أو خطرة، ولكن أيًّا ما كان الأمر، فإن كل شيء في العلم واهٍ، ومتناقضٌ، وربما سيتغيَّر سريعًا، والأكثر مثارًا للسخرية أنه سيكون «صعب الفهم». وبعد رسم هذه المحاكاة الساخرة، يهاجمها العاملون في مجال وسائل الإعلام، كما لو كانوا ينتقدون حقيقةَ ما يدور العلم حوله.

تنتمي القصص الإخبارية العلمية بشكل عام لواحدة من ثلاث فئات: القصص المضحكة، وقصص «الاكتشافات الكبرى»، وقصص «الذعر». وكلٌّ مِن هذه القصص يشوِّه العلم ويقوِّضه، كلٌّ منها بطريقتها الخاصة. وسنعرض لكلٍّ منها بالترتيب.

(١) القصص المضحكة: المال مقابل لا شيء

إذا أردتَ أن تُنشر أبحاثك في وسائل الإعلام، فألقِ بجهاز التعقيم المضغوط، وتخلَّ عن الماصة، وتخلَّص من نسخة برنامج «ستاتا»، وبِعْ روحك إلى شركة علاقات عامة.

في جامعة ريدينج، هناك رجل يُدعى د. كيفن وارويك، وكان مصدرًا غزيرًا لقصص لافتة لبعض الوقت. فتجده يضع شريحةً من بطاقة هوية لا سلكية في ذراعه، ثم يُري الصحفيين كيف يستطيع فتح الأبواب في القسم الذي يعمل به باستخدامها، ثم يصرِّح قائلًا: «أنا سايبورج، مزيجٌ من رجل وآلة»،١ وتتأثَّر وسائل الإعلام به أيما تأثُّر. هدفتْ إحدى القصص الإخبارية المفضلة حول أحد بحوثه — على الرغم من أنها لم تُنشر في أي مجلة أكاديمية من أي نوع بالطبع — إلى بيان أن مشاهدة برنامج «ريتشارد وجودي» يحسِّن أداء الأطفال في اختبارات الذكاء على نحوٍ أكثر فاعلية كثيرًا من جميع الأشياء الأخرى التي يتوقع المرء أن تؤدِّي إلى نتيجة كهذه؛ مثل بعض التمارين، أو شرب بعض القهوة.

لم يكن هذا أمرًا مضحكًا عابرًا، بل قصة إخبارية، وعلى خلاف معظم القصص العلمية الحقيقية، أفضتْ إلى ظهور مقالة افتتاحية في صحيفة «ذي إندبندنت». لست بحاجة إلى البحث مطوَّلًا للعثور على المزيد من الأمثلة؛ فثمة خمسمائة قصة للاختيار من بينها، مثلما ذكرتُ. يقول العلماء: «الخيانة أمرٌ جيني.» ويقول الباحثون: «الحساسية من الكهرباء حقيقية.» ويقول أحد علماء البيولوجيا التطورية من كلية لندن للاقتصاد: «في المستقبل، سيكون لجميع الرجال أعضاء ذكرية كبيرة الحجم.»

هذه قصص فارغة، مجرد ملء فراغ منافٍ للعقل، تَتَّخِذ هيئة العلم، وتبلغ أنقى صورها في قصصٍ «وَجَد» العلماء فيها معادلةً خاصة بشيء ما. كم هم مجانين أولئك العلماء! ربما تكون قد استمتعتَ مؤخرًا بالطريقة المثالية لتناول الآيس كريم ، أو بالمسلسل التليفزيوني الكوميدي المثالي ( ، وفق صحيفة ذا تليجراف)، أو البيضة المسلوقة المثالية (ديلي ميل)، أو النكتة المثالية (ذا تليجراف مرة أخرى)، أو أكثر الأيام كآبة في العام ( ، في جميع الصحف في العالم تقريبًا). أستطيع أن أستمر في ذكر الأمثلة.

يكتب هذه القصص مراسلون عِلميون بصورة دائمة، وتليها تعليقات محمومة — في ظل إجماع عام عليها — من خريجي كليات الدراسات الإنسانية حول مدى جموح وشرود هؤلاء العلماء؛ لأنه من منظور العقلية التي ترى العلماء باعتبارهم حَمْقى في فرضية «المحاكاة» التي أطرحها، هذا هو مصدر جاذبية هذه القصص؛ فهي تلعب على أوتار رؤية العامة للعلم باعتباره غير ذي صلة؛ شططًا علميًّا لا قيمة له.

تُطرَح هذه القصص أيضًا لجَنْي الأموال، وللترويج للمنتجات، ولملء صفحات الصحف دون تكلفة، بأدنى حدٍّ من الجهد الصحفي. لنأخذ بعضًا من أبرز الأمثلة. يُعَدُّ د. كليف آرنال ملك قصة المعادلات، وتشمل أحدث أعماله معادلات أسوأ يوم في العام، وأكثر الأيام سعادة في العام، وإجازة نهاية الأسبوع الطويلة المثالية، والكثير والكثير. وبحسب محطة «بي بي سي»، فهو «البروفيسور آرنال»، وهو عادة «د. كليف آرنال من جامعة كارديف». في حقيقة الأمر، هو رائد أعمال خاصة يقدِّم دورات في بناء الثقة وإدارة الضغوط، ومارَس التدريس بدوام جزئي في جامعة كارديف. لكن يحرص المكتب الصحفي للجامعة على وضعه في قائمة قصص النجاح الشهرية التي ترصدها وسائل الإعلام. هذا مبلغ ما وصلنا إليه من تَرَدٍّ.

ربما تضع آمالًا توَّاقة على هذه المعادلات، ربما تظن أنها تجعل العلم أكثر «فائدةً» و«مرحًا»، مثل موسيقى الروك المسيحية. لكن يجب أن تعلم أن مصدرَ هذه المعادلات شركاتُ العلاقات العامة، التي غالبًا ما تكون مهيَّأةً تمامًا ومستعدةً لأن يرتبط اسم أحد العلماء بها. في حقيقة الأمر، إن شركات العلاقات العامة منفتحة تمامًا على عملائها بشأن هذه الممارسة؛ إذ يُشار إليها باعتبارها «خبرة مكافئة إعلانية»، يجري من خلالها نشر قصة «إخبارية» يمكن ربطها باسم أحد العملاء.

صارت معادلة كليف آرنال لتحديد أسوأ أيام العام حدثًا إعلاميًّا سنويًّا ثابتًا، رَعَتْها شركة «سكاي ترافل»، وظهرت في شهر يناير، الوقت المثالي لحجز إجازة. أما معادلته ﻟ «أسعد أيام العام»، فتظهر في يونيو — تلقَّتْ بعض الأضواء الإعلامية أيضًا في صحيفتي «ذا تليجراف» و«ميل» في عام ٢٠٠٨ — ورَعَتْها شركة «وول» لصناعة الآيس كريم. ورعتْ شركة «تسكو» معادلة البروفيسور كاري كوبر لوضع علامات لتقدير الإنجازات في عالم الرياضة. ابتدع د. ناثان إفرون — وهو أستاذ علم البصريات الإكلينيكية في جامعة مانشستر — معادلةَ أثر جاذبية الجعة، وهي المعادلة التي تصبح من خلالها السيدات أكثر جاذبيةً بعد تناول بعض الجعة، وهي معادلة موَّلتْ إنتاجها شركة تصنيع المنتجات البصرية «بوش آند لومب»؛ وجرتْ رعاية معادلة ضربة الجزاء المثالية، التي وضع تركيبتها د. ديفيد لويس من جامعة ليفربول جون مورز، من قِبَل شركة «لادبروكس»؛ ومعادلة الطريقة المثالية لجذب هدايا الكريسماس المطوية في أسطوانات مزيَّنة، التي ابتدعها د. بول ستيفنسون من جامعة سَري، ورعتْها شركة «تسكو»؛ ومعادلة الشاطئ المثالي، التي ابتدعها د. ديمتريوس بوهاليس من جامعة سَري، ورعتْها شركة «أوبودو» للسفر والرحلات. هؤلاء أشخاص ينتمون إلى جامعات مرموقة، يضعون أسماءهم على خبرة مكافئة إعلانية لشركات العلاقات العامة.

أعرف كيف يتلقَّى د. آرنال أجْرَه؛ لأنني عندما كتبتُ في الصحيفة منتقدًا قصص معادلاته التي لا نهاية لها قُبَيْل الكريسماس، أرسل إليَّ رسالة البريد الإلكتروني الساحرة هذه:

بالإشارة إلى ذكرك اسمي متصلًا بشركة «وولز»، لقد تلقَّيْتُ توًّا شيكًا منهم. مرحى وتحياتي في الكريسماس. كليف آرنال.

ليست هذه القصص فضائح، لكنها فقط سخيفة. إنها قصص غير مفيدة بكل تأكيد؛ فهي نشاطٌ ترويجي متخفٍّ في صورة أخبار. تلعب هذه القصص — على نحو هازئ نوعًا ما — على حقيقة أن معظم محرِّري الأخبار لن يتعرَّفوا على قصة علمية إذا كانت تتخايل أمامهم عاريةً من أي زخارف. فهذه القصص تعتمد على عدم توافر وقت كافٍ لدى الصحفيين في الوقت الذي لا بدَّ فيه أن يملئوا صفحات الصحف بمواد إخبارية؛ إذ تُكتَب موضوعات أكثر بعدد أقل من الصحفيين. يعتبر هذا، في حقيقة الأمر، مثالًا رائعًا على ما أطلق عليه الصحفي الاستقصائي نِك ديفيز «الإنتاجية الصحفية المفرطة»؛ بمعنى إعادة الإنتاج غير النقدي للبيانات الصحفية في صورة محتوًى، ومن بعض الجوانب تعتبر هذه المسألة مجرد نموذج مصغَّر لمشكلة أكبر كثيرًا تنسحب عمومًا على جميع التخصصات الصحفية. فقد أظهرتِ البحوث التي أُجريتْ في جامعة كارديف في عام ٢٠٠٧ أن ٨٠ في المائة من جميع القصص الإخبارية المعتبرة قد «بُنِيت كليًّا، أو بصورة رئيسية، أو جزئيًّا من خلال مصادر ثانوية، وفَّرتْها وكالات الأنباء وصناعة العلاقات العامة.»

يدهشني أن بإمكانك قراءة بيانات صحفية على الإنترنت، دون دفع مقابلها في محلات بيع الصحف.

(٢) سيكون لدى جميع الرجال أعضاء ذكرية كبيرة

على الرغم من كونها جميعًا هراءات حمقاء من مجال العلاقات العامة، يمكن لهذه القصص أن تكون لها قدرة هائلة على الاختراق؛ فيمكن أن توجد قصص الأعضاء الذكرية هذه في عنوان صحيفة «صن» لقصة إخبارية حول «تقرير تطوري» ثوري أصدره د. أوليفر كاري، وهو منظِّر تطوري من مركز أبحاث داروين في كلية لندن للاقتصاد. وتُعتبر القصة نموذجًا كلاسيكيًّا على هذا النوع من القصص.

بحلول عام ٣٠٠٠، سيبلغ طول الرجل العادي نحو ١٩٥ سنتيمترًا، وسيكون لون بشرته بلون القهوة، وسيعيش ١٢٠ عامًا، مثلما تتنبأ البحوث الجديدة. لا تتوقف الأخبار الطيبة عند هذا الحدِّ فقط. سيُسَرُّ الرجال كثيرًا عند معرفة أن أعضاءهم الذكرية ستكون أكبر حجمًا، وستكون أثداء النساء جذابة أكثر.

عُرِض هذا باعتباره «بحثًا جديدًا» في جميع الصحف البريطانية تقريبًا. في حقيقة الأمر، كان مجرد مقال خيالي من منظِّر سياسي في كلية لندن للاقتصاد. هل كان مقالًا مقنعًا، حتى وفق منطقه الخاص؟

لا، أولًا: يبدو أن د. أوليفر كاري يعتقد أن التنقل الجغرافي والاجتماعي أشياء جديدة، وأن مثل هذا التنقل سيسفر عن بشر لونهم بلون القهوة بشكل موحَّد خلال ألف عام. ربما لم يذهب أوليفر إلى البرازيل؛ حيث يُنجب الأفارقة السود، والأوربيون البيض، والأمريكيون الأصليون أطفالًا معًا منذ قرون كثيرة، ومع ذلك لم يتحوَّل لون بشرة البرازيليين إلى لون القهوة. في حقيقة الأمر، لا يزال لون بشرة البرازيليين يشكِّل طيفًا واسعًا من صبغة البشرة، من الأسود إلى الخمري. وتُظهر دراسات صبغة البشرة (التي يجري بعضها على نحو خاص في البرازيل) أن صبغة البشرة لا تتعلَّق فيما يبدو بدرجة الارتباط الوراثي بالعنصر الأفريقي، وتشير إلى أن لون البشرة ربما يُشفَّر من خلال عدد صغير نوعًا ما من الجينات، وربما لا يمتزج في اللون مثلما يشير أوليفر.

ماذا عن أفكاره الأخرى؟ لقد وضع نظريةً تشير إلى أن في نهاية المطاف، من خلال عمليات انقسام اجتماعية-اقتصادية حادَّة في المجتمع، سينقسم البشر إلى جنسَيْن، أحدهما طويل، نحيف، متماثل، نظيف، يتمتع بالصحة، ذكي، وخلَّاق؛ والآخر قصير، وممتلئ، غير متماثل، متسخ، لا يتمتع بالصحة، وليس ذكيًّا مثل الجنس الأول. وهو ما يشبه كثيرًا جنس إلوي المحب للسلام وجنس المورلوك المتوحش في رواية إتش جي ويلز «آلة الزمن».

ربما تُعتبر نظرية التطور إحدى أهم ثلاث أفكار في عصرنا، ويبدو من العار عدم فهمها فهمًا صحيحًا. وقد غُطِّيَت هذه المجموعة المثيرة للسخرية من الادِّعاءات في جميع الصحف البريطانية باعتبارها قصة إخبارية، لكن لم يخطر لأيٍّ منها أن تذكر أن تقسيم البشر إلى أجناس — مثلما يعتقد كاري — يتطلَّب عادةً وجود ضغوط قوية، مثل انقسامات جغرافية. فقد كان السكان الأصليون في تسمانيا، على سبيل المثال، الذين كانوا قد انعزلوا عن العالَم مدة ١٠ آلاف عام، لا يزالون قادرين على إنجاب أطفال مع البشر الآخرين من خارج جنسهم. ويُعتبر «الانتواع التماثلي»، وهي عملية الانقسام إلى أجناس بحيث تعيش المجموعتان المنقسمتان في موطن واحد، لا تقسمهما سوى عوامل اجتماعية اقتصادية — مثلما يشير كاري — أكثر حدةً. فلفترة، لم يعتقد الكثير من العلماء أن هذا قد حدث على الإطلاق. فقد كان ذلك سيتطلَّب أن تكون هذه الانقسامات مطلقةً، على الرغم من أن التاريخ يبيِّن أن الإناث الفقيرات الجذَّابات والرجال القَبْحَى الأثرياء يمكن أن يمتزجوا بصورة لافتة في العلاقات الغرامية بينهم.

أستطيع أن أمضي في عرض البيان الصحفي، الموجود بالكامل على موقع www.badscience.net لتقرأه باستمتاع. لكن ليست المشكلات التافهة في هذا المقال غير المهم هي لُبَّ المسألة. فلعلَّ ما هو غريب أن الأمر قد تحوَّل إلى قصة علمية تُسبَق بعبارة «يقول الباحثون حاليًّا» في وسائل الإعلام كلها؛ حيث تتقبَّلها محطة «بي بي سي»، وصحف «ذا تليجراف» و«ذا صن» و«ذا سكوتسمان» و«مترو»، وغير ذلك الكثير في حماسة دون أي نقد.

كيف يحدث هذا؟ لستُ في حاجة الآن إلى أن أخبرك أن «البحث» — أو «المقال» — قد مُوِّل من قِبَل «برافو»، وهي «قناة تليفزيونية رجالية» تقدِّم برامج تدور حول البكيني والسيارات السريعة، كانت تحتفل بالذكرى الحادية والعشرين لبدء تشغيلها (خلال أسبوع ظهور مقال د. كاري العلمي المهم، فقط لإعطائك لمحة عن طبيعة البرامج في القناة، كان يمكن مشاهدة الفيلم الكلاسيكي «إغراءات»، «عندما يكتشف مجموعة من عمَّال المزارع أن المَصْرِف ينوي مصادرةَ ممتلكاتهم، يواسون أنفسهم من خلال الانخراط في مجموعة من المغامرات الجنسية الجامحة.» ربما يفسِّر هذا بدرجة ما الزاوية الخاصة ﺑ «الأثداء الجذابة» في «بحثه الجديد»).

تحدثتُ إلى أصدقاء في عدد من الصحف، وإلى صحفيين علميين حقيقيين أخبروني بأنهم خاضوا مواجهات مع دسك الأخبار في صحفهم، محاولين بيان أن ذلك لم يكن قصة إخبارية علمية. لكنهم لو كانوا رفضوا الكتابة عنها، لفعل ذلك صحفي آخر — ستجد في الغالب أن أسوأ القصص العلمية كتبها مراسلو السلع الاستهلاكية، أو صحفيو الأخبار غير المتخصصين — وإذا كان لي أن أقترض مفهومًا من نظرية التطور، تتمثل ضغوط الاختيار التي تواجه الموظفين في الصحف القومية في اختيار الصحفيين الذين يكتبون في إذعان وفي سرعة بالغة مقالات تجارية لا قيمة لها باعتبارها «قصصًا علمية».

أحد الأشياء التي تبهرني أن د. كاري أكاديمي بحق (على الرغم من أنه منظِّر سياسي، وليس عالِمًا). لا أسعى إلى تشويه مساره المهني، فأنا متأكد من أنه قد أجرى الكثير من البحوث المثيرة، لكن في جميع الاحتمالات لا يوجد مما سيفعله في مهنته باعتباره أكاديميًّا متمكِّنًا نسبيًّا في مجموعة راسل الرائدة للجامعات ما سيسفر عن هذا القدر من التغطية الإعلامية — أو يحظى باختراق ثقافي على هذا النحو — مثل هذا المقال الساذج، المربح، الخيالي، الخاطئ، الذي لا يفسِّر أيَّ شيء لأي شخص. أليستِ الحياة غريبة؟

(٣) جسيكا ألبا لها طريقةُ سَيْرٍ مثالية، وفق إحدى الدراسات

هذا عنوان من صحيفة «ذا ديلي تليجراف» حول قصة تناولَتْها شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية، لا أقلَّ من ذلك، وفي كلتا الحالتين كانت القصة مصحوبةً بصورة مجازية شديدة الجاذبية لامرأة شديدة الفتنة. هذه هي القصة المضحكة الأخيرة التي سنرويها، ولا أروي هذه القصة إلا لأنها تُبرز مجهودًا خفيًّا شجاعًا جدًّا.

«وفق فريق من علماء الرياضيات في كامبريدج، تمتلك جسيكا ألبا، الممثلة السينمائية، أكثر طريقة سَيْر مثيرة بكل تأكيد.» كانت هذه الدراسة المهمة من تنفيذ فريق — فيما يبدو — يرأسه البروفيسور ريتشارد ويبر من جامعة كامبريدج. كنتُ في غاية السرور عندما رأيتُ الدراسة تُنشَر مطبوعةً أخيرًا؛ إذ إنني، باسم البحث العلمي، كنتُ قد تفاوضتُ مع «كلاريون» — شركة العلاقات العامة الراعية — لبيع سمعتي مقابل إجراء بحث كهذا، قبل ذلك بستة أشهر، ولا يوجد ما هو أفضل من مشاهدة الزهور تتفتَّح.

ها هي رسالة البريد الإلكتروني الافتتاحية لهم:

نحن بصدد إجراء استطلاع حول أكثر عشر مشيات إثارةً عند المشاهير لصالح عميلنا شركة «فييت» (كريم إزالة الشعر)، ونودُّ أن ندعم استطلاعنا بمعادلة من خبير تُظهِر أي المشاهير صاحب أكثر طرق السير إثارةً، مع وجود نظرية تدعم المعادلة. ونودُّ الحصول على مساعدة طبيب علم نفس أو متخصص في مجال مشابه يستطيع أن يتوصَّل لمعادلات تدعم نتائجنا؛ إذ إننا نشعر بأن وجود خبير يُدلِي بدلوه ومعادلة تدعم نتائجنا سوف يمنح القصة ثقلًا أكبر.

أسفر هذا — مثلما رأينا — عن ظهورهم في صفحات الأخبار في صحيفة «ذا ديلي تليجراف».

أجبتُ على الرسالة في الحال، متسائلًا: «هل ثمة أي عوامل تودُّون أن تكون ممثَّلة على وجه الخصوص في المعادلة؟ ربما شيء مثير؟» أجابت كيرين: «مرحبًا د. بن، نودُّ في الحقيقة أن تشمل عوامل المعادلة نسبة طول الفخذ إلى طول السمانة، وشكل الساق، ومظهر البشرة، وهزة (أرجحة) الأرداف … هناك أتعاب ٥٠٠ جنيه استرليني سندفعها مقابل خدماتك.»

كانت ثمة بيانات استطلاعية أيضًا؛ فقد أخبرتْني كيرين قائلةً: «لم نُجْرِ الاستطلاع بعدُ، لكن نعرف النتائج التي نريد أن نحقِّقها.» هذه هي الروح! «نريد أن تعتلي بيونسيه القائمة، يليها الشهيرات الأخريات صاحبات الأرجل الريانة مثل جيه-لو وكايلي، وأن تأتي الشهيرات من أمثال كيت موس وآمي واينهاوس في نهاية القائمة؛ إذ لا تُعَدُّ الأرجل النحيفة والشاحبة غير البضَّة مثيرةً كالأرجل الأخرى.» اتضح أن الاستطلاع كان عبارة عن رسالة بريد إلكتروني داخلية أُرسلت إلى كلِّ مَن في الشركة. رفضتُ عرضهم الكريم، وانتظرتُ. ولكن لم ينتظر البروفيسور ريتشارد ويبر. وهو نادم على ذلك الآن. عندما خرجتِ القصة إلى النور، أرسلتُ إليه رسالةً عبر البريد الإلكتروني، واتضح أن الأمور كانت أكثر عبثيةً مما كان لازمًا. وحتى بعد فبركة الاستطلاع، كان عليهم إعادة فبركته:

لم أصادق على ما جاء في البيان الصحفي لكلاريون، وهو بيان في الحقيقة يتضمَّن أخطاءً وتضليلًا في الإشارة إلى وجود أي محاولات جادة قد بُذلتْ لإجراء أي عمليات حسابية جادَّة. لم يكن ثمة «فريق من علماء الرياضيات من كامبريدج». لقد طلبتْ مني كلاريون المساهمة من خلال تحليل بيانات استطلاع آراء ثمانمائة رَجُل طُلب منهم تصنيف عشرة مشاهير وفق «درجة إثارة طريقة السير». ولم تأتِ جسيكا ألبا في قمة القائمة، بل جاءت في المرتبة السابعة.

هل هذه القصص على هذا النحو من السوء؟ هي بالتأكيد قصص بلا معنًى، وتعكس نوعًا من الازدراء للعلم. إنها ليست إلا قصصًا ترويجية في مجال العلاقات العامة للشركات التي زرعتْها زرعًا، لكنها تدلُّ على أن هذه الشركات تعرف تمامًا أين تكمن نقاط ضعف الصحف. وكما سنرى، تُعتبر بيانات الاستطلاعات المفبركة تذكرةً رائجةً في وسائل الإعلام.

وهل حصلتْ شركة «كلاريون كوميونيكيشنز» حقًّا على إجابة ثمانمائة مُستطلَعٍ على استطلاع الرسالة الإلكترونية الذي وزِّع داخليًّا من أجل بحثهم؛ حيث كانوا يعرفون النتيجة التي كانوا يريدونها مسبقًا، وحيث حلَّتْ جسيكا ألبا في المرتبة السابعة، لكن صُعِّدت على نحو غامض إلى المرتبة الأولى بعد التحليل؟ نعم، ربما؛ فشركة «كلاريون» جزءٌ من مجموعة «دبليو بي بي»، إحدى أكبر مجموعات خدمات الاتصالات في العالَم أجمع. وهي تقدِّم خدمات إعلانية، وعلاقات عامة، وتكوين شبكات ضغط، ويبلغ حجم أعمالها ستة مليارات جنيه استرليني، وتوظِّف ١٠٠ ألف شخص في مائة دولة.

تدير هذه الشركات ثقافتنا، وتضفي عليها أشياء تافهة لا قيمة لها.

(٤) الإحصاءات، والعلاجات الإعجازية، والمخاوف الخفية

كيف يمكن تفسير عبث التغطية الإعلامية للأمور العلمية؟ يُعتبر نقص الخبرة جزءًا واحدًا من القصة، لكن ثمة عناصر أخرى أكثر تشويقًا. يتعلَّق ما يزيد على نصف التغطية الإعلامية للأمور العلمية في أي صحيفة بالأمور الصحية؛ نظرًا لأن القصص التي تدور حول ما قد يُودِي بنا أو يُعالجنا قصصٌ تتسم بدرجة عالية من التحفيز، وفي هذا المجال تغيَّر إيقاع البحث على نحوٍ درامي تمامًا، مثلما أشرتُ توًّا باقتضاب. هذه خلفية مهمة.

قبل عام ١٩٣٥، لم تكن للأطباء قيمة بصورة أساسية؛ فقد كان لدينا المورفين للتخفيف من حِدَّة الألم — دواء ذو جاذبية سطحية، على الأقل — وكان بإمكاننا إجراء جراحات نظيفة نوعًا ما، على الرغم من استخدام جرعات كبيرة من أدوية التخدير؛ لأننا لم نكن قد توصَّلنا لأدوية تستهدف إرخاء العضلات. ثم فجأةً، بين حوالي عامَي ١٩٣٥ و١٩٧٥، تمخَّض العلم عن سَيْلٍ منتظم تقريبًا من العلاجات الإعجازية. إذا أُصيب المرء بالسُّلِّ في عشرينيات القرن العشرين، كان المرء يموت شاحبًا وهزيلًا، على غرار شاعر رومانسي. لكن إذا أُصيب المرء به في سبعينيات القرن العشرين، كان يعيش على الأرجح حتى يبلغ عمرًا مديدًا. ربما كان على المرء تناول عقَّارَيْ «ريفامبيسين» و«إيسونيازد» طوال شهور متتابعة، وهما ليسا عقَّارين طيبين، وستُحيل آثارهما الجانبية محجرَيِ العينين والبول إلى اللون الوردي، لكن إذا سار كل شيء على ما يرام، فستعيش لترى اختراعات لم يكن يمكن تصورها خلال فترة طفولتك.

لم يكن الأمر مقتصرًا على الأدوية؛ فقد حدث كل شيء نربط بينه وبين الطب الحديث في تلك الفترة، وكان سَيْلًا من المعجزات، مثل ماكينات غسيل الكُلَى التي تسمح للأشخاص بمواصلة الحياة على الرغم من فقدان عضوين حيويين. وأعادت عمليات زرع الأعضاء الناس إلى الحياة من حُكْمٍ بالإعدام. واستطاعتِ الماسحات المقطعية المحوسَبَة أن تقدِّم صورًا ثلاثية الأبعاد للأجزاء الداخلية في جسم الإنسان الحي. وتقدَّمتْ جراحات القلب كثيرًا. واختُرع كل دواء يمكن أن يَرِدَ بخاطرك في تلك الفترة. وكانت عمليات الإنعاش القلبي (عمليات الضغط والصدمات الكهربية لإعادة المرء إلى وعيه) قد بدأتْ في تلك الآوِنَة على أشدها.

دعونا لا ننسَ مرض شلل الأطفال. يشلُّ هذا المرض العضلات، وإذا أثَّر على عضلات جدار الصدر، فلا يمكن التقاط الأنفاس وزفيرها؛ ومِن ثَمَّ يموت المرء. يدفع الأطباء بأنه غالبًا ما يتراجع الشلل الناتج عن مرض شلل الأطفال تلقائيًّا. ربما، إذا كان بالإمكان جعل هؤلاء المرضى يواصلون التنفس بطريقة ما، لأسابيع متواصلة إذا تطلَّب الأمر، من خلال التنفس الآلي، من خلال حقيبة تنفس وقناع، ربما يبدأ المرضى مع مرور الوقت في التنفس بصورة مستقلة مرة أخرى. وقد كانوا على حق؛ فالناس يعودون إلى الحياة، بمعنى الكلمة، من الموت؛ ومِن ثَمَّ ولدتْ وحدات العناية المركزة.

إلى جانب هذه المعجزات التي لا سبيل إلى إنكارها، كنا لا نزال نجد تلك المعجزات الدوائية البسيطة، المباشرة، الخفية التي لا تزال وسائل الإعلام تتوق إليها في حماس بالغ من خلال عناوينها. ففي عام ١٩٥٠، نشر ريتشارد دول وأوستن برادفورد هيل «دراسة حالة مقارنة» مبدئية — إذ يجري جمع حالات لأشخاص يعانون من مرض معين، وجمع أشخاص مماثلين ليس لديهم هذا المرض، ومقارنة عوامل خطر أسلوب الحياة بين المجموعتين — أظهرتْ وجود علاقة قوية بين سرطان الرئة والتدخين. وبحثتْ دراسة الأطباء البريطانيين في عام ١٩٥٤ في حالات ٤٠ ألف طبيب — يعتبر الأطباء موضوع دراسة جيد؛ نظرًا لأنهم مقيَّدون في سجلِّ المجلس الطبي العام؛ لذا يمكن العثور عليهم مجددًا بسهولة لمتابعة ما حدث لاحقًا في حياتهم — وأكَّدت نتيجة الدراسة. كان دول وبرادفورد هيل يتساءلان إذا ما كان سرطان الرئة له صلة بالزفت أو الوقود؛ لكن اتضح أن التدخين، لدهشة الجميع، هو السبب في المرض في ٩٧ في المائة من الحالات. ستجد تفاصيل هائلة حول الموضوع في التعليقات الختامية.٢

انتهى العصر الذهبي — على ما في هذا النموذج ربما من تبسيط ولمحة أسطورية — في سبعينيات القرن العشرين. لكن البحوث الطبية لم تتوقَّف. على العكس تمامًا، ربما تقلَّصتْ فرص الوفاة في منتصف العمر إلى النصف على مدار الثلاثين عامًا الماضية على الأرجح، لكن هذا لا يرجع إلى أيِّ فتح علمي فريد درامي، يخطف الأضواء من خلال عناوين الأخبار. إن البحث الأكاديمي الطبي يتقدم اليوم من خلال الصعود التدريجي للتطورات الصغيرة المتراكمة، في فهمنا للدواء، وأخطاره وفوائده، وأفضل الممارسات في وصفه، وتطوير الأساليب الجراحية المجهولة، وتحديد عوامل الخطر البسيطة، وتجنبها من خلال برامج الصحة العامة (مثل حملة «خمس حصص من الفاكهة والخضراوات يوميًّا») وهي برامج يصعب التحقق منها في حدِّ ذاتها.

هذه هي المشكلة الكبرى مع وسائل الإعلام عندما تحاول تغطية البحوث الأكاديمية الطبية هذه الأيام. لا يمكنك اختزال هذه الخطوات التراكمية الصغيرة — التي إجمالًا تسهم إسهامًا كبيرًا في تحسين الصحة — في النموذج «الإعجازي العلاجي الخفي المثير للذعر» القائم سلفًا.

سأمضي لأبعدَ مِن ذلك، وأجادل بأن العلم نفسه يعمل على نحوٍ سيِّئ وهزيل للغاية كقصة إخبارية؛ فالعلم في حدِّ ذاته يعتبر موضوعًا لقسم «الموضوعات المطوَّلة»؛ لأنه لا يتقدَّم بكل عام من خلال اكتشافات مفاجئة تعد علامةً في عصرها. إن العلم يتقدَّم من خلال الموضوعات والنظريات الآخذة في الظهور تدريجيًّا، يدعمها حزمة من الأدلة من عدد من النظم المعرفية المختلفة في عدد من المستويات التفسيرية المختلفة. على الرغم من ذلك، تبقى وسائل الإعلام مهووسة ﺑ «الاكتشافات الكبرى الجديدة».

من المفهوم تمامًا أن الصحف يجب أن تشعر بأن وظيفتها أن تكتب عن موضوعات جديدة، لكن إذا كانت ثمة نتيجة تجربة تستحق الظهور في الأخبار، فغالبًا ما قد يرجع ذلك إلى الأسباب نفسها التي تعني أن النتيجة خاطئة على الأرجح. بعبارة أخرى: يجب أن تكون النتيجة جديدة، وغير متوقعة، ويجب أن تغيِّر ما كنا نعتقده سابقًا، وهو ما يعني أن النتيجة يجب أن تكون معلومة واحدة فريدة تتناقض مع قَدْر هائل من الأدلة التجريبية القائمة.

أنجز الكثير من العمل الرائع، قام بجزء كبير منه أكاديمي يوناني يُسمَّى جون آيوانيديس، الذي أظهر كيف ولماذا سيتضح لاحقًا أن قدرًا كبيرًا من البحوث الجديدة ذات النتائج غير المتوقعة غير صحيح. هذا مهمٌّ جدًّا في تطبيق البحوث العلمية في مجال العمل اليومي، على سبيل المثال في مجال الطب، وأشك في أن معظم الناس يفهمون ذلك بداهةً؛ فسيكون من قبيل عدم الحكمة أن يخاطر المرء بحياته بناءً على أحد البيانات غير المتوقَّعة التي تتناقض كليَّةً مع طبيعة الأشياء.

إجمالًا، تروِّج قصص «الاكتشافات الكبرى» هذه لفكرة أن العلم — بل الرؤية التجريبية العالمية بأسرها — يدور حول بيانات واهية، جديدة، خلافية للغاية، وحول اكتشافات كبرى مدهشة. وتدعم هذه الرؤية أحد نماذج المحاكاة الساخرة الرئيسية لدى خريجي كليات الدراسات الإنسانية حول العلم؛ ففضلًا عن كونه مغرقًا في الفنيات غير المهمة، فإن العلم مؤقت، ومتغير، وقابل للمراجعة الذاتية باستمرار، مثل صرعة عابرة. ومن ثم تعتبر النتائج العلمية، مثلما يمضي النقاش، قابلة للاستبعاد.

بينما يصح ذلك في المجالات البحثية المتنوعة الجديدة تمامًا، يجدر بنا أن نضع في أذهاننا أن أرشميدس كان على صواب فيما يتعلق بسبب طفو الأشياء لمدة ألفَيْ عام. كذلك أدرك أرشميدس لماذا تعمل الروافع، وربما تظل فيزياء نيوتن صحيحة حول سلوك كرات البلياردو إلى الأبد.٣ لكن هذا الانطباع حول قابلية العلم للتغيير تسلَّل بطريقة ما إلى الافتراضات العلمية الأساسية. فأيُّ شيءٍ يمكن التخلص منه باعتباره بلا قيمة.

لكن كل هذا أقرب للعدم. يجب أن ننظر الآن في طريقة تغطية وسائل الإعلام للعلم، ونستخلص المعاني الحقيقية وراء عبارة «أظهرتِ البحوث»، والأكثر أهميةً بحثُ الطرق التي تسيء وسائل الإعلام بها تمثيلَ وفهْمَ الإحصاءات بصورة متكرِّرة وروتينية.

(٥) أظهرتِ البحوث …

تكمن المشكلة الكبرى في القصص العلمية في أنها لا تتضمَّن أي أدلة علمية على الإطلاق على نحو روتيني. لماذا؟ لأن الصحف تعتقد أن القارئ لن يفهم «الجزء العلمي»؛ لذا فجميع القصص التي تتضمَّن موضوعات علمية يجب التخفيف من الجرعة الفكرية فيها، في محاولة مستميتة لاجتذاب وإشراك الجهلاء، الذين ليس لديهم أي اهتمام بالعلم على أي حال (ربما لأن الصحفيين يعتقدون أن هذا أمرٌ طيِّب للقارئ؛ ومِن ثَمَّ يجب دمقرطة العلم).

من بعض الجوانب، تُعتبر هذه دوافعَ مثيرةً للإعجاب، لكن ثمة حالات عدم اتساق معينة لا يسعني إلَّا أن أُلاحظها. لا يُخفِّف أحدٌ من الجرعة الفكرية في صفحات الأخبار المالية. ولا أكاد أفهم معظم ما في القسم الرياضي. في الصفحات الأدبية التي يمكن نزعها من الصحف، هناك خمس مقالات في صفحة كاملة أجدها شديدة الغموض، وهي الصفحات التي كلما استطعتَ أن تقنع عددًا أكبر من الروائيين الروس بالكتابة فيها، اعتقد الآخرون أنك أكثر حذقًا. لا أشكو من ذلك، بل أشعر بالحسد.

إذا قُدِّمت نتائج أحد البحوث إليك ببساطة، دون إخبارك بما جرى قياسه، وكيف، وما توصَّل إليه البحث — أي الدليل — إذن فأنتَ تأخذ نتائج الباحثين على قيمتها الظاهرية، فضلًا عن عدم الاطلاع الكامل على عملية إجراء التجربة. وثمة مثال بسيط يفسر المشكلات المرتبطة بهذا الأمر على أفضل نحو.

قارِن بين العبارتين: «أظهرتِ البحوث أن الأطفال السود في أمريكا يميلون إلى أداءٍ أقلَّ جودةً في اختبارات حاصل الذكاء من الأطفال البيض.» و«أظهرتِ البحوث أن الأشخاص السود أقلُّ ذكاءً من الأشخاص البيض.» تخبرك العبارة الأولى بما توصَّل إليه البحث؛ الدليل. أما العبارة الثانية فتتضمن الفرضية؛ أي تفسير أحدهم للدليل؛ شخص — وستوافقني على هذا — لا يعرف الكثير عن العلاقة بين اختبارات حاصل الذكاء والذكاء.

مع العلم، مثلما رأينا مرارًا، يكمن الشيطان في التفاصيل، وفي أي ورقة بحثية يوجد تصميم في غاية الوضوح؛ فلديك قسم الأساليب والنتائج، ولحمة البحث، وهو القسم الذي يعرض فيه ما جرى تنفيذه، وما جرى قياسه، ثم هناك قسم الاستنتاجات، المنفصل تمامًا، الذي تُعرض فيه الانطباعات، وتُعقد علاقة ربط بين النتائج التي جرى التوصل إليها مع تلك التي توصل إليها الآخرون لرؤية ما إذا كانت النتائج جميعًا متوافقة بعضها مع بعض، وذلك في إطار نظرية محددة. غالبًا لا يمكن الوثوق في أن يتوصَّل الباحثون إلى استنتاجٍ مُرْضٍ حول النتائج التي أسفرتْ عنها تجاربهم؛ إذ إنهم قد يكونون شديدي الحماس حيالَ إحدى النظريات؛ ومِن ثَمَّ تكون بحاجة إلى التأكد من صحة تجاربهم لتكوين وجهة نظر خاصة. ويتطلَّب هذا أن تدور التقارير الإخبارية حول بحوث منشورة يمكن، على الأقل، قراءتها في موضع ما. وهذا هو السبب أيضًا في أنَّ نشر البحوث كاملةً — وإجراء مراجعة بحثية نقدية من قِبَل أي شخص في العالم يريد أن يقرأ الورقة البحثية — أكثر أهميةً من «مراجعة الأقران»، تلك العملية التي من خلالها تُراجع المقالات الصحفية الأكاديمية سريعًا من قِبَل حفنة من الأكاديميين العاملين في المجال، الذين يُفتِّشون عن الأخطاء الكبرى وما إلى ذلك.

في إطار قصص الذعر المفضَّلة لديهم، هناك اعتماد مفرط لافت من قِبَل الصحف على البحوث العلمية التي لم تُنشَر على الإطلاق. وينطبق هذا الأمر على جميع عناوين الأخبار الحديثة كلِّها تقريبًا حول بحوث التطعيم الثلاثي الجديدة، على سبيل المثال. كان أحد المصادر التي يُشار إليها بصورة منتظمة — د. آرثر كريجزمان — قد طرح ادِّعاءات واسعة الانتشار حول وجود أدلة علمية جديدة حول التطعيم الثلاثي منذ عام ٢٠٠٢، لكنه لم ينشر بحوثه في مجلة أكاديمية حتى اليوم، بعد ذلك بستِّ سنوات. بالمثل، أفضتِ ادِّعاءات بحث «البطاطس المعدلة وراثيًّا» للدكتور أرباد بوستاي بأن البطاطس المعدلة وراثيًّا تُسبِّب السرطان لدى الفئران، إلى عناوين من قبيل «أغذية مرعبة» لمدة عام كامل قبل نشر البحث في نهاية المطاف، وقراءته وتقييمه على نحو مفيد. وعلى النقيض من تخرُّصات وسائل الإعلام، لم يدعم بحثه الفرضية القائلة بأن الأغذية المعدلة وراثيًّا ضارة بالصحة (لا يعني هذا أن ذلك شيء طيب بالضرورة، مثلما سنرى لاحقًا).

بمجرد إدراك الفرق بين الدليل والفرضية، يبدأ المرء في ملاحظة كيف يكون من النادر للغاية أن تتمكَّن من العثور على ما كشف عنه أيُّ بحث حقًّا عندما يقول الصحفيون «أظهرت البحوث».

في بعض الأحيان، يتضح أن الصحفيين أنفسهم لا يدركون ببساطة الفرق الجلي بين الدليل والفرضية. فقد غطَّتْ صحيفة «ذا تايمز»، على سبيل المثال، تجربةً أظهرتْ أن وجود أشقاء أصغر سنًّا مرتبط بوقوع حالات أقل من تصلُّب الأنسجة المتعدد. يحدث تصلُّب الأنسجة المتعدد بسبب هجوم الجهاز المناعي على الجسم. «وفق الدراسة، يحدث هذا على الأرجح إذا لم يتعرَّض طفل في مرحلة مهمة من مراحل النمو للإصابة بأي أمراض معدية من أشقائه الأصغر سنًّا.» هذا ما نشرته صحيفة «ذا تايمز».

لكن هذا خطأ. تلك هي «الفرضيَّة الصحِّيَّة»؛ أي النظرية، الإطار الذي ربما يتوافق الدليل معه، لكن ليس هذا ما أظهرتْه الدراسة؛ فكلُّ ما وجدتْه الدراسة فقط أن وجود أشقاء أصغر سنًّا بدا على نحو ما واقيًا ضد تصلب الأنسجة المتعدد. لم تُشِرِ الدراسة إلى الآلية المستخدمة في ذلك، ولم تتمكَّن من الإشارة إلى سبب وجود علاقة، مثل ما إذا كانت قد تحقَّقت من خلال تعرُّض أكثر للإصابة بالأمراض. لقد كانت مجرد ملاحظة. لقد خلطتْ صحيفة «ذا تايمز» بين الدليل والفرضية، وأشعر بسرور بالغ لحصولي على ذلك الصيد الثمين.

كيف تتحايل وسائل الإعلام على عدم قدرتها على تقديم الأدلة العلمية؟ غالبًا ما تستعين وسائل الإعلام بشخصيات رائدة في مجالها، وهو المناقض الموضوعي لطبيعة العلم، كما لو كان أولئك كهنة، أو ساسة، أو آباء. «قال العلماء اليوم … كشف العلماء … حذَّر العلماء»، وإذا أرادوا أن يحققوا توازنًا، فستجد وسائل الإعلام تقدِّم عالِمَيْن مختلفَيْن في الرأي، وإن كان دون تبرير هذا الاختلاف (وهو أسلوب يمكن أن يتجلَّى في أخطر صوره في الخرافة القائلة بأن العلماء «منقسمون» حول أمان التطعيم الثلاثي). «سيكشف» أحد العلماء عن شيء، ثم «سيعارض» آخرُ هذا الكشف. شيء أشبه بفرسان الجيداي.

تنطوي التغطية التي تتضمَّن شخصيات رائدة في مجالها على مخاطرة، في غياب الدليل الحقيقي؛ لأن هذا يترك الباب مفتوحًا على مصراعَيْه لدخول شخصيات مشكوك في مصداقيتها دون دعوة. تستطيع جيليان ماكيث وآندرو ويكفيلد والبقية التغلغل أكثر وأكثر في بيئة تُعتبر سلطتهم العلمية فيها أمرًا مسلَّمًا به؛ نظرًا لأن منطقهم وأدلتهم نادرًا ما تُختبر علنًا.

الأسوأ أنه حيثما يوجد خلاف حول ما تُظهره الأدلة التجريبية، يَختزِل ظهورُ الشخصيات الرائدة في وسائل الإعلام المناقشةَ إلى مباراة في الاتهامات المتبادلة؛ لأن ادِّعاءً مثل «التطعيم الثلاثي يسبِّب التوحد» (أو لا)، يُنْقَد فقط في إطار طبيعة «شخصية» مَن يطرح الادِّعاء، وليس الدليل الذي يمكنه تقديمه. لا حاجة إلى ذلك، مثلما سنرى؛ لأن الناس ليسوا أغبياء، وغالبًا ما يسهل فهم الدليل جدًّا.

يُرسِّخ هذا الأسلوب أيضًا من نموذج المحاكاة الساخرة لدى خريجي كليات الدراسات الإنسانية، وهو النموذج الذي يتوافر لدينا الآن جميع مكوناته، والمتمثلة في أن العلم يتمحور حول عبارات حقائقية لا أساس لها من الصحة، متغيرة، تربوية صادرة عن رموز سلطة متعسفة غير منتخبة. عندما تبدأ هذه الرموز في الكتابة حول موضوعات خطيرة مثل التطعيم الثلاثي، يمكن للمرء أن يلاحظ أن هذا هو ما يعتقد العاملون في وسائل الإعلام أنه جوهر العلم. محطتنا التالية في رحلتنا ستكون الإحصائيات حتمًا؛ إذ يُعَدُّ هذا مجالًا يتسبَّب في مشكلات فريدة لوسائل الإعلام. لكن علينا أولًا أن نحيد قليلًا عن صُلب المناقشة.

هوامش

(١) أَعدتُ صياغة هذه العبارة، وهي ليست دقيقة تمامًا.
(٢) من بعض المناحي، ربما لم يكن يجب أن يشكِّل ذلك مفاجأةً. كان الألمان قد رصدوا وجود زيادة في معدلات الإصابة بالسرطان في عشرينيات القرن العشرين، لكنهم رأَوْا — بصورة منطقية للغاية — أن ذلك ربما يرجع إلى التعرُّض إلى الغاز السام خلال الحرب العالمية الأولى. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، صار تحديد مخاطر السُّمِّية في البيئة المحيطة ملمحًا مهمًّا للمشروع النازي لبناء عِرْق متفوق من خلال «الصحة العِرْقية».
نشر باحثان — شايرر وشونيجر — دراسة الحالة المقارنة خاصتهما في عام ١٩٤٣، التي تُظهِر وجود علاقة بين التدخين وسرطان الرئة قبل أيِّ باحثين آخرين في أيِّ مكان آخر بحوالي عَقْد كامل. لم يُشَرْ إلى هذه الورقة البحثية في ورقة دول وبرادفورد هيل الكلاسيكية المنشورة عام ١٩٥٠، وإذا راجعتَ مسرد المراجع العلمية، فستجد أنها لم تُذكَر إلا أربع مرات فقط في ستينيات القرن العشرين، ومرة واحدة في سبعينيات القرن العشرين، ثم لم تُذكر مرة أخرى حتى عام ١٩٨٨، على الرغم من تقديمها معلومات قيِّمة. ربما يدفع البعض بأن هذه الحالة تبيِّن مخاطر استبعاد المصادر التي لا تُعجِب الباحث. لكنَّ البحث العلمي والطبي النازي كان مقيَّدًا بفظائع القتْل الجماعي بدم بارد، والأيديولوجيات المتشدِّدة الغريبة للنازية. وغُضَّ النظر عن هذه الورقة البحثية عمومًا، لسبب وجيه؛ فقد كان الأطباء مشاركين نشطين في المشروع النازي، وانضموا إلى حزب هتلر، الحزب الاشتراكي القومي، بأعداد أكبر من أي مهنة أخرى (كان ٤٥ في المائة منهم أعضاءً في الحزب، مقارنة بنسبة ٢٠ في المائة من المدرسين).
كان ضمن العلماء الألمان المشاركين في مشروع التدخين منظِّرو سلالات، وأيضًا باحثون مهتمون بقابلية توارث صفات الضَّعْف التي تنشأ عن تدخين التبغ، ومسألة ما إذا كان الأشخاص قد «يتدهورون» جرَّاء البيئة التي يعيشون فيها. كان يقود البحوثَ حول التدخين كارل آستل، الذي ساهم في تنظيم عملية «القتل الرحيم» التي أفضت إلى قتل ٢٠٠ ألف شخص معاق عقليًّا وجسديًّا، وساهم في «الحل النهائي للمسألة اليهودية» بوصفه رئيسًا لمكتب الشئون العرقية.
(٣) أُقِرُّ في سرور باستعارة هذه الأمثلة من البروفيسور الرائع لويس وولبرت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤