الفصل السادس

هراء الساعة

سنرفع الآن سقف اللعبة. لقد صار الطعام، بلا جدال، هوسًا قوميًّا، وصارت صحيفة «ديلي ميل»، بصورة خاصة، منخرطة في مشروع وجودي عجيب مستمر، مفتشة في كدٍّ عبر الأشياء غير الحية في الكون بغرض تصنيفها باعتبارها سببًا في السرطان، أو علاجًا له. يقع في القلب من هذا المشروع بأكمله عدد صغير من الشائعات الكاذبة، وحالات سوء فهم أساسية للأدلة تتكرَّر بصورة لافتة.

وعلى الرغم من ارتكاب عدد كبير من هذه الجرائم من قِبَل الصحفيين، فإننا سنعود إلى هذه الجرائم لاحقًا. أما الآن، فسنركز على «مُختَصي التغذية»، الأعضاء في مهنة ابتُدِعَت حديثًا، الذين يتوجب عليهم خلق مساحة تجارية دومًا لتبرير وجودهم. وفي سبيل تحقيق ذلك، يجب على هؤلاء إضفاء غموض على عملية التغذية وزيادة تعقيدها، وترسيخ اعتماد الأشخاص عليهم. تعتمد مهنة هؤلاء على مجموعة بسيطة جدًّا من الأخطاء في طريقة تفسيرنا للأدبيات العلمية؛ فيقومون بإجراء عملية استقراء مبالَغ فيها استنادًا إلى «بيانات البحوث المعملية» لطرح ادِّعاءات حول البشر، ويستقرِئون من «بيانات المشاهدة» لطرح «ادِّعاءات للتدخلات العلاجية»، و«ينتقون» الأدلة انتقاء، وأخيرًا، يشيرون إلى أدلة بحثية عملية منشورة تبدو، قدر ما يستطيع المرء أن يَحْزِر، غيرَ موجودة من الأساس.

هذه التحريفات والتشويهات للأدلة جديرةٌ بمناقشتها؛ نظرًا لأنها تُعتبر — بشكل أساسي — توضيحات مدهشة للطريقة التي يمكن أن يسيء بها الأشخاص فهم الأمور، وأيضًا لأن الهدف من هذا الكتاب هو أنك يجب أن تتحصَّن مستقبلًا من الأشكال الجديدة للهُراءات. هناك أمران أيضًا يجب أن نكون في غاية الوضوح بشأنهما؛ أولًا: أنا أنتقي هنا أمثلةً فرديةً كأدواتِ دعمٍ، ولكن هذه الأمثلة تُميِّز الفئة التي تنتمي إليها بأسرها، وقد كان بإمكاني استخدام المزيد من الأمثلة. لا أحد يتعرَّض للترهيب، ويجب ألا يعتقد أحدٌ منهم في تميُّزه بين جموع مُختَصي التغذية، على الرغم من أنني متأكد من أن بعضًا ممن جرى ذكرهم هنا لن يستطيعوا فهم كيف اقترفوا أي أخطاء.

ثانيًا: لا أسخر من نصائح تناول الغذاء البسيط، المنطقي، الصحي؛ فاتباع نظام غذائي صحي بسيط، إلى جانب العديد من جوانب أسلوب الحياة الأخرى (التي ربما يُعتبر الكثير منها أكثرَ أهميةً، وهو ما لن تعرفه من خلال قراءة الأوراق البحثية)، مسألةٌ في غاية الأهمية. لكن يتجاوز حديث مُختَص التغذية في وسائل الإعلام الأدلة؛ إذ يدور حديث هؤلاء — في كثير من الأحيان — حول بيع الأقراص العلاجية، وفي بعض الأحيان يدور حول بيع البِدَع الغذائية الجديدة، أو تشخيصات جديدة، أو ترسيخ الاعتماد على مُختَص التغذية؛ ولكنَّ حديث هؤلاء دومًا يكون مدفوعًا برغبتهم في خلق سوق لأنفسهم، يكونون فيه الخبراء، بينما تكون أنت مجرد شخص مغفَّل وجاهل.

استعدَّ لتبادل الأدوار.

(١) الأخطاء الرئيسية الأربعة

(١-١) هل للبيانات وجود؟

ربما تمثِّل هذه أبسط الشائعات الكاذبة على الدوام، وهي إشاعة تتكرَّر بمعدل مثير للدهشة، في بعض مظانِّ السلطة العلمية. فها هو مايكل فان ستراتن يتحدَّث عن «الحقائق» على محطة «بي بي سي» في برنامج «نيوزنايت». إذا فضَّلت ألا تصدِّق بلا دليل أن حديث ستراتن حديث صادق، وقاطع، وربما به شيء يسير من السلطوية، فيمكنك مشاهدة الفيديو على الإنترنت.

«عندما بدأ مايكل فان ستراتن الكتابة عن القوى الطبية السحرية لعصائر الفواكه، اعتُبِر شخصًا غريب الأطوار.» هكذا يبدأ برنامج «نيوزنايت». «أما الآن، يجد نفسه في طليعة الموضة.» (في عالم يبدو فيه الصحفيون يصارعون مع العِلْم، يجب أن نلاحظ أن برنامج «نيوزنايت» ذكر «غريب الأطوار» على أحد طرفَي النقيض و«موضة» على الطرف الآخر. ولكن الحديث عن ذلك يأتي في فصل لاحق.) يُعطي فان ستراتن الصحفيَّ كوبًا من العصير، ثم يقول ضاحكًا ضحكة خافتة: «لقد أُضيفت سنتان إلى عمرك المتوقع من خلال ذلك!» ثم تتلو ذلك لحظةٌ من الجدية يقول فيها: «حسنًا، حتى أكون أمينًا في ذلك، ستة أشهر.» تصحيح، «أظهرت دراسة حديثة نُشرت الأسبوع الماضي توًّا في أمريكا أن تناول الرُّمان، وعصير الرُّمان، يمكن أن يقي المرء من الشيخوخة والتغضُّنات.»

بسماع ذلك في برنامج «نيوزنايت»، ربما يَخْلُص المُشاهِد — بطبيعة الحال — إلى أن دراسةً نُشرت مؤخرًا في أمريكا تُظهر أن الرُّمان يمكن أن يقي من الشيخوخة. لكن إذا زرت موقع «ميدلاين»، وهو أداة البحث التقليدية في العثور على الأوراق البحثية الأكاديمية الطبية، فلن تجد دراسةً كهذه، أو على الأقل لا أستطيع أنا العثور عليها. ربما هناك كتيِّب من نوع ما من مجال صناعة الرُّمان تداولته الألسن. ويمضي فان ستراتن قائلًا: «هناك مجموعة كاملة من جَرَّاحِي التجميل في الولايات المتحدة ممن كانوا يقومون بإجراء إحدى الدراسات قاموا بإعطاء بعض النساء الرُّمَّان لتناوله، وعصير الرمان لِشُرْبِه، قبل وبعد إجراء الجراحة التجميلية، وكان أنْ أَفْضَى ذلك إلى تَعَافِيهن في نصف الوقت، وإلى مضاعفات أقل بمقدار النصف، وغياب التجاعيد!» مرة أخرى، هذا ادِّعاء محدَّد جدًّا — تجربة بشرية على الرُّمان والجراحة — ومرة أخرى، لا يوجد أيٌّ من ذلك في قاعدة بيانات الدراسات الأكاديمية.

إذن هل يمكن توصيف العرض في برنامج «نيوزنايت» باعتباره «كذبًا»؟ بالطبع لا. دفاعًا عن معظم مُختَصي التغذية، سأدفع بأنهم يفتقدون الخبرة الأكاديمية، وسوء النية، وربما القوة الفكرية اللازمة بحيث يُنتَقَدون باعتبارهم كاذبين. ويناقش الفيلسوف والأستاذ الأكاديمي هاري فرانكفورت من جامعة برنستون هذا الموضوع بإسهاب في مقاله الكلاسيكي المنشور عام ١٩٨٦ تحت عنوان «عن الهراء». بحسب نموذج فرانكفورت، يُعتبر «الهراء» شكلًا من أشكال التزييف يختلف عن الكذب؛ فبينما يَعْرِف الكاذب الحقيقة ويحرص عليها، تجده ينزع عمدًا إلى التضليل. أما قائل الحقيقة، فيعرف الحقيقة ويحاول تقديمها لنا. لكن لا يعبأ صاحب الهراءات بالحقيقة، ويحاول ببساطة إثارة إعجابنا:

من المستحيل بمكان بالنسبة إلى أي شخص أن يكذب إلا إذا كان يعتقد أنه يعرف الحقيقة. لكن لا تتطلَّب الهراءات توافُر مثل هذه القناعة … فعندما يتحدَّث رجل صادق، لا يقول سوى ما يظن أنه حقيقي؛ وبالنسبة إلى الشخص الكاذب، يُعتبَرُ من قبيل الأمور التي لا مفرَّ منها عَدُّ مقولاتِه كاذبةً. غير أن صاحب الهراءات لا يعبأ بأيٍّ من ذلك؛ فهو لا ينتمي إلى جانب الحقيقة أو الكذب. فلا يعبأ أمثالُ هؤلاء بالحقائق على الإطلاق، مثلما يعبأ بها الشخص الصادق والشخص الكاذب، اللهم إلا إذا كانت الحقائق قد تتعلَّق بمصلحته الشخصية في الإفلات بما يقول. فلا يعبأ أمثال هؤلاء بكون الأشياء التي يقولونها تُعَبِّر عن الواقع بدقة، بل ينتقون منها ما يروقهم، أو يختلقونها اختلاقًا، لِتُلائِم أغراضهم.

أرى أن فان ستراتن، مثل كثير من الأشخاص المذكورين في هذا الكتاب، ينتمي إلى حدٍّ كبير إلى معسكر «الهُراءات». هل من غير الإنصاف انتقاء هذا الرجل انتقاءً من بين أشخاص آخرين كثيرين؟ ربما. في إطار العمل الميداني البيولوجي، يلقي الباحث عشوائيًّا على الأرض مربَّعًا يشتمل على أسلاكٍ يُطلِق عليه «مربع عينات»، ثم يفحص أي عينات تقع تحته، وهو الأسلوب الذي اتَّبَعْتُه مع مُختَصي التغذية، وإلى أن يكون هناك قسم لدراسات العلم الزائف مع وجود جيش من طلاب الدكتوراه يُجْرون بحوثًا كَمِّيَّة حول أيٌّ من هؤلاء هو الأسوأ، لن نعرف أبدًا أيُّ مُختَصي التغذية هو الأسوأ على الإطلاق. يبدو فان ستراتن رجلًا لطيفًا وودودًا. ولكن يجب أن نبدأ من مكان ما لنعرف الأسوأ.

(١-٢) ملاحظة، أم تدَخُّل؟

هل يتسبَّب صياح الديك في شروق الشمس؟ لا. هل يجعل زِرُّ الإضاءة هذا الحجرة أكثر سطوعًا؟ نعم. قد تحدث الأشياء في الوقت نفسه تقريبًا، لكن ليس ذلك إلا دليلًا ضعيفًا عَرَضِيًّا على وجود علاقة سببية. لكن يُعتبر هذا النوع من الأدلة تحديدًا هو النوع الذي يستخدمه مُختَصُّو التغذية في وسائل الإعلام باعتباره دليلًا دامغًا على ادِّعاءاتهم في ثاني شائعاتنا الكاذبة الأساسية.

وفقًا لصحيفة «ديلي ميرور»، تُعتبر أنجيلا داودن — مُختَصة تغذية معتمدة — «رائدة التغذية في بريطانيا»، وهو لقب لا تزال الصحيفة تستخدمه على الرغم من انتقادها من قِبَل جمعية التغذية؛ لطرحها ادِّعاءً في وسائل الإعلام دون وجود أي دليل عليه على الإطلاق. ها هو مثال مختلِف وأكثر تشويقًا من مثال داودن: استشهادٌ من عمودها في صحيفة «ميرور»، كتبت فيه عن الأغذية التي تحقِّق الوقاية من الشمس أثناء موجة حارة: «وجدت دراسة أسترالية في عام ٢٠٠١ أن زيت الزيتون (ممزوجًا بالفواكه، والخضراوات، والبقول) يوفر وقايةً يمكن قياسها ضد تغضُّن الجلد. أكثِرْ من تناول زيت الزيتون من خلال استخدامه في متبِّلات سلطة، أو بِغَمْس الخبز فيه بدلًا من تناوله مع الزبد.»

تلك نصيحة محدَّدة للغاية، تنطوي على ادِّعاء محدَّد للغاية، تشير إلى مرجع محدَّد للغاية، وتنطوي على نبرة سُلْطَوِية واثقة للغاية واضحة، وهو ما يُعتبر نموذجًا لما يوجد في الأوراق البحثية التي يستعين بها مُختَصُّو التغذية في وسائل الإعلام. لنذهبْ إلى المكتبة ونبحث عن الورقة البحثية التي تشير إليها داودن («تغضُّن الجلد: هل يمكن أن يصنع الطعام فارقًا؟» بوربا إم بي وآخرون، ذا جورنال أوف ذا أمريكان كوليدج أوف نيوتريشن، فبراير ٢٠٠١؛ مجلد ٢٠ (عدد ١): ص٧١–٨٠). قبل أن نَمْضي قُدُمًا، يجب أن نكون واضحين في أننا ننتقد «تفسير» داودن لهذا البحث، لا البحثَ نفسه، الذي نفترض كونه وصفًا أمينًا للعمل البحثي الذي نُفِّذ.

كانت هذه دراسة قائمة على الملاحظة، لا دراسة قائمة على التدخل العلاجي. فلم يَجْرِ إعطاء الأشخاص المشاركين في التجربة زيت زيتون لفترة من الوقت ثم قياس الفروق في التجاعيد؛ بل على العكس تمامًا. استعانت الدراسة بأربع مجموعات مختلفة من الأشخاص للحصول على مجموعة متنوعة من أساليب الحياة، وهو ما شمل أشخاصًا يونانيين، وأستراليين من أصول إنجليزية-كلتية، وسويديين، ووجدَتْ أن الأشخاص الذين يمتلكون عاداتٍ غذائيةً مختلفةً تمامًا — وأنماطًا حياتية مختلفة تمامًا، مثلما قد نفترض — كانت لديهم أيضًا كميات مختلفة تمامًا من التغضنات.

لا يُعتبر ذلك مفاجأة كبيرة بالنسبة إليَّ، ويلقي الضوء على موضوع بسيط جدًّا في مجال بحوث الأمراض الوبائية يُعرف باسم «المتغيرات المُحَيِّرة»، وهي عبارة عن أشياء تتعلَّق بكلٍّ من النتيجة التي يجري قياسها (التجاعيد) والشيء الذي يجري قياسه (الطعام)، لكنها أشياء لم تفكِّر فيها بعدُ. ربما تُرْبِك هذه المتغيرات علاقة سببية ظاهريًّا، وهو ما يستوجب التفكير في طرق استبعاد أو تقليل المتغيرات المُحَيِّرة لأدنى حدٍّ للوصول إلى الإجابة الصحيحة، أو على الأقل الانتباه الشديد إلى وجودها. وفي حالة هذه الدراسة، هناك متغيرات محيرة أكثر مما ينبغي بحيث لا يمكن وصفها جميعًا.

آكُلُ جيدًا — متناولًا الكثير من زيت الزيتون، كيفما اتفق — ولا توجد لديَّ تجاعيد كثيرة. وأنتمي أيضًا إلى خلفية طبقية متوسطة، وأملك كثيرًا من المال، ووظيفة مكتبية، وإذا تجاهلنا التهديدات الطفولية بالمقاضاة وبالعنف من قِبَل الأشخاص الذين لا يسمحون بأي مناقشة لأفكارهم، تُصبِح لديَّ حياة خالية من الصراعات بشكل عام. أما الأشخاص الذين تختلف حيواتهم تمامًا، فسوف تكون لهم نظم غذائية مختلفة تمامًا، وتجاعيد مختلفة. سيكون لهؤلاء سجلَّات وظيفية مختلفة، وجرعات مختلفة من الضغوط، وفترات مختلفة من التعرُّض للشمس، ومستويات مختلفة من الثراء، ومستويات مختلفة من الدعم الاجتماعي، وأنماط مختلفة من استخدام مستحضرات التجميل، وغيرُ ذلك كثيرٌ. أستطيع أن أتصور أسبابًا عديدة تفسِّر وجود تجاعيد أقل لدى الأشخاص الذين يتناولون زيت الزيتون، دون أن يحتل زيت الزيتون — باعتباره يلعب دورًا سببيًّا؛ أي باعتباره يُفضي إلى أثر مادي فِعْلِي على البشرة عند تناوله — مكانًا بارزًا في قائمة أسبابي.

والآن — وحتى نصبِح أكثر إنصافًا تجاه مُختَصي التغذية — هم ليسوا وحدهم في عدم قدرتهم على فهم أهمية المتغيرات المحيرة، في غمرة لهفتهم لوجود قصة واضحة. ففي كل مرة تقرأ في إحدى الصحف أنَّ «تناوُلَ كمية معتدلة من الكحول» يرتبط بنتيجة صحية أفضل — كمعدلات إصابة أقل بأمراض القلب، سمنة أقل، وأي شيء آخر — وهو ما يُثلج صدورَ أصحابِ صناعة الكحول كثيرًا، وأصدقائِك بالطبع، الذين يقولون: «حسنًا، مثلما ترى، يبدو أنه من الأفضل لي أن أتناول قليلًا من الكحول …» في حين يتناولون الكثير منه — لا شك أنك ترى أمامك في هذه الحالة صحفيًّا ذا ذكاء محدود، يبالغ في تفسير دراسة بها متغيرات مُحَيِّرة كثيرة جدًّا.

يرجع هذا — وَلْنَتَّسِمْ بالأمانة هنا — إلى أن الممتنعين عن تناول الكحوليات تمامًا يُعتَبَرون أشخاصًا غير طبيعيين؛ فهم ليسوا كالآخرين. سيكون لدى هؤلاء بالتأكيد سببٌ لامتناعهم عن تناول الكحول، وربما يكون هذا السبب أخلاقيًّا، أو ثقافيًّا، أو ربما طبيًّا، إلا أن هناك خطرًا داهمًا أن يكون لسبب امتناعهم عن تناول الكحول، أيًّا ما كان، تأثيراتٌ أخرى على صحتهم، وهو ما يُربك العلاقة بين عادات شربهم والعواقب الصحية. مثل ماذا؟ حسنًا، ربما يكون الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعات عِرْقية محدَّدة يتَّسِمون أيضًا على الأرجح بالسِّمْنة؛ لذا يصبحون أقل صحة. ربما يميل الأشخاص الذين يمتنعون عن تناول الكحول إلى الاستزادة من تناوُل الشوكولاتة ورقائق البطاطس. ربما تُجْبِرُك حالتك الصحية السيئة القائمة أصلًا، على الإقلاع عن تناول الكحول، وهو ما يغيِّر من طبيعة الإحصاءات، جاعلًا الممتنعين عن تناول الكحول يَبْدُون أقلَّ صحةً ممن يشربون الكحول باعتدال. ربما يكون الممتنعون عن تناول الكحول مدمنين في مرحلة التعافي. من بين مَن أعرف، يُعتبر هؤلاء على الأرجح أكثر الأشخاص امتناعًا عن تناول الكحول على الدوام، وهم الأكثر ميلًا على الأرجح للسِّمْنة أيضًا؛ جرَّاء كل تلك السنوات الطويلة من إدمان الكحول. ربما يكذب بعضُ مَن يقولون إنهم لا يتناولون الكحول مطلقًا.

لكل ذلك، نتوخَّى الحَذَر في تفسير بيانات الملاحظة، ومن وجهة نظري أرى أن داودن قد أجرت عملية استقراء مبالَغًا فيها استنادًا إلى البيانات المتوافرة، في خِضَمِّ حماسها لتقديم حِكمة غذائية محدَّدة «للغاية» — بثقة ويقين كبيرين — في عمودها الصحفي (لكن ربما تختلف معي في ذلك بالطبع، وها أنت الآن تمتلك الأدوات اللازمة للاختلاف بصورة ذات مغزًى).

إذا كنا نتَّسِم بالحداثة حيال هذا، وأردنا أن نقدِّم نقدًا بنَّاءً، فماذا كانت داودن ستكتب بدلًا من ذلك؟ أعتقد، هنا وفي مواضع أخرى، أنه على الرغم مما قد يقوله الصحفيون ومَن ينصِّبون أنفسهم «خبراء»، يستطيع الناس تمام الاستطاعة فَهْمَ الأدلة على ادِّعاءٍ ما؛ وأي شخص يُخفي أو يُشَوِّه تلك الأدلة، أو يبالغ فيها — حتى لو أشار ضمنًا إلى أنه يُسْدِي معروفًا إلى القارئ — لا تستقيم مقاصده على الأرجح. وبينما يُعتبر التطعيم الثلاثي مثالًا ممتازًا على مواضع جاذبية التهديدات، والذُّعر، والخبراء القَلِقِين ونظريات المؤامرة الإعلامية، لم يَجْرِ تفسير المادة العلمية نفسها إلا نادرًا.

لذا، من خلال القدوة، لو كنتُ خبيرًا غذائيًّا في وسائل الإعلام، ربما أقول، إذا جرى الضغط عليَّ، بعد إسداء كل النصائح المتفائلة المنطقية: «وجد أحد الاستطلاعات أن الأشخاص الذين يُكثرون من تناول زيت الزيتون لديهم تجاعيدُ أقل.» وربما أشعر أنني مُضطرٌّ إلى الإضافة قائلًا: «على الرغم من أن الأشخاص الذين يتَّبِعون نُظُمًا غذائية مختلفة في طبيعتها قد يختلفون بطرق كثيرة.» ولكن حينئذ، سأكتب عن الطعام أيضًا قائلًا: «لا تقلق، إليك وصفة لذيذة لتَتْبِيلَة السَّلَطَة على أي حال.» حينها لن يوظِّفني أحدٌ لأكتب عمودًا حول التغذية.

(١-٣) من طاولة البحث المعملي إلى أغلفة المجلات الفاخرة

يُحِبُّ خبراء التغذية الاستشهاد بالبحوث العلمية المعملية الأساسية؛ نظرًا لأنها تجعلهم يَبْدُون كما لو كانوا منخرطين بفاعليةٍ في عملية من العمل الأكاديمي المعقَّد الغامض العالي التقنية. لكن يجب أن تحذر للغاية من طريقة استقرائك مما يحدث لبعض الخلايا في إناء، على طاولة بحثٍ معملية، إسقاطًا على النظام المعقد لكائن بشري حي؛ حيث يمكن أن تسير الأشياء بطريقة معاكِسَة تمامًا لما قد يُشير إليه البحث المعملي. يستطيع أي شيء قتل الخلايا في أنبوب اختبار. فبإمكان سائل غسيل الأطباق قتل الخلايا في أنبوب اختبار، إلا أنك لا تستطيع الاستعانة به في علاج السرطان. وليس هذا إلا مثالًا آخر على كيف أن علم التغذية — على الرغم من وصف الطب البديل بكلمات بليغة مثل كلمة «شامل» — يُعتبر في الواقع تقليدًا علاجيًّا متقادمًا، وغير متطور، وفجًّا، وفوق كل ذلك «اختزاليًّا».

سنرى لاحقًا باتريك هولفورد — مؤسِّس معهد التغذية المثالية — يقول إن فيتامين ج أفضل من عقار علاج الإيدز «إيه زد تي» بناءً على تجربةٍ سُكِبَ فيها فيتامين ج على بعض الخلايا في إناء. وحتى ذلك الحين، إليك مثالًا يُقدِّمه مايكل فان ستراتن — الذي سقط في مربع عيِّناتنا للأسف، ولا أرغب في تقديم شخصيات أخرى كثيرة أو إرباكِك — الذي يكتب في «ديلي إكسبريس» باعتباره مُختَصَّها الغذائي قائلًا: «أظهرتِ البحوث الأخيرة أن مسحوق الكُرْكُم يقي بصورة هائلة من أنواع كثيرة من مرض السرطان، خاصة سرطان البروستاتا.» هذه فكرة شائقة، جديرة بالمتابعة، وقد أُجريت بعض الدراسات المعملية التخَرُّصِيَّة على الخلايا، عادةً خلايا الفئران، تنمو أو لا تنمو تحت الميكروسكوبات، مع إضافة خلاصة الكركم إليها. وبينما تتوافر بعض البيانات المحدودة للنموذج الحيواني، فليس من الإنصاف بمكان القول بأن الكُرْكُم، أو الكاري، في العالم الحقيقي، «يقي بصورة هائلة من أنواع كثيرة من مرض السرطان، خاصة سرطان البروستاتا»، لدى أشخاص حقيقيين، وهو ما يرجع على أقل تقدير إلى عدم امتصاصه بالكامل.

قبل أربعين عامًا، كتب رجل يُدعى أوستن برادفورد هيل، الأب الروحي للأبحاث الطبية الحديثة — الذي كان عاملًا رئيسيًّا في اكتشاف العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة — مجموعة من الإرشادات، كانت عبارة عن نوع من القائمة المرجعية؛ لتقييم العلاقة السببية، والعلاقة بين التعرُّض لأحد العلاجات ونتائجه. تعتبر هذه الإرشادات حَجَرَ الأساس في الطب القائم على الأدلة، وغالبًا ما تكون جديرة بتذكُّرها. يجب أن تكون ثمة علاقة ترابطية قوية ومتَّسِقَة، وخاصة بالشيء الذي تجري دراسته؛ بحيث يتحقَّق السبب المُعتقَد قبل الأثر المفترض في الوقت الملائم. وبشكل مثالي، يجب أن يكون ثمة تدرُّج بيولوجي؛ مثل أثر جرعة-استجابة؛ ويجب أن تكون العلاقة بين السبب والنتيجة مُتَّسِقة، أو على الأقل لا تتعارض كليًّا مع ما هو معروف بالفعل (نظرًا لأن الادِّعاءات الاستثنائية تتطلَّب دلائل استثنائية)، ويجب أيضًا أن تكون العلاقة بين السبب والنتيجة منطقية من الناحية البيولوجية.

يتحلَّى مايكل فان ستراتن هنا بقدرٍ من المصداقية من الناحية البيولوجية، وشيء آخر. فالأطباء والأكاديميون يتوخَّوْن الحذر الشديد من الأشخاص الذين يطرحون ادِّعاءاتٍ كهذه بناءً على أسس واهية؛ لأن هذا شيءٌ يسمعه المرء كثيرًا من الأشخاص الذين يريدون بيع شيء، لا سيما شركات الدواء. وليس على جمهور الناس أن يتعاملوا مع دعاية شركات الدواء بصورة عامة؛ إذ إن الشركات غير مسموح لها حاليًّا بمخاطبة المرضى في أوروبا — وهذا شيء محمود — لكنها لا تكفُّ عن مطارة الأطباء بلا توقُّف، ويستخدمون الكثير من نفس الحِيَل المستخدمة في صناعات العلاج الإعجازي. ويتلقَّى المرء هذه الحيل في كلية الطب، وهو ما يجعلني قادرًا على تعريفك بها الآن.

تحرص شركات الدواء حرصًا بالغًا على الترويج للميزات النظرية (مثل: «يعمل هذا الدواء على مستقبِلات زد ٤ أكثر؛ لذا فإن أعراضه الجانبية أقل لا محالة!») أو بيانات التجارب على الحيوانات أو «النتائج البديلة» (مثل: «يُحَسِّن هذا الدواء من نتائج اختبارات الدم؛ لذا يقي من النوبات القلبية حتمًا!») كَبُرْهان على فاعلية أو تفوُّق منتجها. وتلعب الكثير من كتب التغذية الرائجة الأكثر تفصيلًا — إذا كان قد حالفك ما يكفي من الحظ لقراءتها — بورقة شركة الدواء القديمة هذه بثقة وقوة شديدتين. ستزعم هذه الكتب، على سبيل المثال، أن «تجربة استخدام العلاج الوهمي الموزَّعة عشوائيًّا كعنصر ضابط» أظهرت «فوائد» لفيتامين محدد، في الوقت الذي تعني فيه أن التجربة قد أظهرت تغيرات في «نتيجة بديلة».

على سبيل المثال، ربما لم تُظْهِر التجربة سوى أن ثمَّة كميات قابلة للقياس من الفيتامين زادت في مجرى الدم بعد تناول أحد الفيتامينات، مقارنةً بالعلاج الوهمي، وهو ما يُعتبر نتيجة عادية جدًّا في حد ذاتها. على الرغم من ذلك، يجري تقديمُ نتائج كهذه إلى القارئ العادي غير الواعي باعتبارها نتيجةً إيجابيةً. أو ربما تكون التجربة قد أظهرت أن ثمة تغيرات في مؤشر دم آخر، ربما مستوى مكون يصعب فهمه في الجهاز المناعي يقدِّمه مُختَص التغذية، مرة أخرى، في الإعلام باعتباره دليلًا حقيقيًّا على وجود فائدة في العالم الواقعي.

هناك مشكلات مع استخدام مثل هذه النتائج البديلة. فغالبًا ما ترتبط هذه النتائج البديلة ارتباطًا واهيًا بالمرض الحقيقي، وفق نموذج نظري مجرد تمامًا، وغالبًا ما يجري تطويرها في العالم المثالي للغاية لأحد حيوانات التجارب التي يجري استنسالها جينيًّا، وتُستبقى تحت ظروفٍ من التحكم النفسي الشديد. يمكن استخدام نتيجة بديلة — بالطبع — لطرح واختبار الفرضيات حول مرض حقيقي لدى إنسان حقيقي، وإن كان يجب التأكد من صحة النتائج بعناية بالغة. هل تُظهِر النتيجة البديلة علاقة جرعة-استجابة واضحة؟ هل تتنبأ النتيجة البديلة بالمرض تنبُّؤًا صحيحًا، أم أنها لا تمثِّل إلا «متغيرًا مشتركًا»؛ شيئًا مرتبطًا بالمرض على نحو مختلف (على سبيل المثال، يتسبَّب «عن طريقها» أكثر مما يشترك في «التسبب» فيه؟) هل ثمة تفرقة واضحة محدَّدة بين القيم العادية وغير العادية؟

يجب أن أكون واضحًا في أن كلَّ ما أفعله هو أنني أستقي الكلام من أفواه مُختَصي التغذية المُحتفَى بهم من قِبَل الإعلام؛ فهؤلاء يقدِّمون أنفسهم باعتبارهم رجالَ ونساءَ علم، يملئون أعمدتهم في الصحف، والبرامج التليفزيونية، والكتب، بمراجع تُحِيل إلى بحوث علمية. بعدها أُخْضِعُ مزاعِمَهم إلى المستوى نفسه تمامًا من البحث المدقَّق الشديد البساطة، الخالي من أي تعقيدٍ أستخدمه مع أي عمل نظري جديد، وأي زعم من قِبَل شركات الدواء، وأي خطاب بلاغي لتسويق أقراص، إلخ.

بينما يُعَدُّ استخدام بيانات النتائج البديلة أمرًا مفهومًا، يتميز أولئك العارفون ببواطن الأمور بالتحفُّظ والحذر دومًا. فنحن «نهتم» بالعمل النظري المبكِّر، لكن الرسالة المتضمَّنة في ذلك غالبًا ما تكون: «ربما يكون الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك …» فأنت سترغب في أن تُضفي على أي نتيجة بديلة أي أهمية فقط إذا كنت قد قرأت كل شيء عن النتيجة البديلة، أو إذا كان بإمكانك أن تكون في غاية اليقين من أن الشخص الذي يؤكد لك صحَّتَها في غاية الكفاءة، وكان يُجري تقييمًا سليمًا لجميع البحوث في مجال ما، إلخ.

تنشأ مشكلات مشابِهة مع بيانات تجارب الحيوانات. لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذا النوع من البيانات ذو قيمة في المجال النظري؛ لوضع الفرضيات، أو للإشارة إلى مخاطر تتعلَّق بالأمان، عند تقييمها بحرص. لكن يتميز مُختَصُّو التغذية في الإعلام، في غمرة شغفهم بطرح مزاعم تتعلق بأساليب الحياة، بالعمى الشديد في كثير من الأحيان تجاه مشكلات تطبيق هذه الأطروحات النظرية المعزولة على البشر، وسيظن أي شخص أنهم فقط يُنَقِّبون في الإنترنت بحثًا عن نُتَف عِلمية عشوائية لبيع أقراصهم وخبراتهم (تخيَّل ذلك). فعلى أي حال، ربما يختلف المرض والنسيج الحي في أحد النماذج الحيوانية تمامًا عن المرض والنسيج في نظام بشري حي، بل إن هذه المشكلات تكون أكبر كثيرًا مع نموذج الطبق الزجاجي المُخْتَبري. فقد يُفضي إعطاء الحيوانات جرعات كبيرة بشكل غير معتاد من المواد الكيميائية إلى تشويه المسارات الأيضية المعتادة، وإعطاء نتائج مضلِّلة، إلخ. فمجرد قدرة شيء ما على زيادة أو نقصان أحد المكونات في أحد النماذج لا يعني أن ذلك الشيء سيؤدي إلى التأثير نفسه لدى أحد الأشخاص، مثلما سنرى في الحقيقة الصادمة عن مضادات الأكسدة.

ماذا عن الكُرْكُم الذي كنا نتحدث عنه قبل أن أحاول أن أريكم العالَم الكامل لتطبيق البحوث النظرية في هذه الذرة من البهار؟ حسنًا، نعم، هناك بعض الدلائل تشير إلى أن الكركمين — وهو مركب كيميائي في الكركم — نَشِطٌ جدًّا بيولوجيًّا، بشتى الطرق المختلفة، في نُظُم كثيرة مختلفة (هناك أيضًا أسس نظرية للاعتقاد بأن الكركمين قد يكون مسرْطَنًا، فحاذِرْ). لا شك في أن هذه المادة تعتبر هدفًا صالحًا للبحث.

لكن بالنسبة إلى الزعم بأننا يجب أن نأكل المزيد من الكاري من أجل تغذية الجسد بكمية أكبر منه، وبأن «البحوث الأخيرة» أظهرت أنه «يوفِّر وقايةً عالية من أشكال كثيرة من السرطان، خاصة سرطان البروستاتا»، ربما يكون من الأفضل أن يتريَّث المرء حياله ويضع المزاعم النظرية في سياق الجسد. يجري امتصاص كمية قليلة جدًّا من الكركمين الذي تتناوله. وعلى المرء أن يأكل جرامات قليلة منه حتى يبلغ مستويات كبيرة يمكن تحديدها من المصل، لكن حتى يحصل المرء على جرامات قليلة من «الكركمين»، يجب تناول ١٠٠ جرام من «الكُركُم». وما بين البحوث والوصفات، ثمة أشياء كثيرة يجب على المرء التفكير فيها أكثر مما قد يخبرك مُختَص التغذية.

(١-٤) انتقاء الأدلة

تتمثَّل الفكرة هنا في أن تحاول تقديم جميع المعلومات لمساعدة الآخرين على الحكم على قيمة إسهامك، لا المعلوماتِ التي تفضي إلى الحكم في اتجاه محدَّد أو آخر فقط.

ريتشارد بي فاينمان

هناك ما يُقدَّر بحوالي خمسةَ عَشَرَ مليونَ بحثٍ أكاديميٍّ طبيٍّ منشورٍ حتى الآن، و٥٠٠٠ دورية تُنشر شهريًّا. وسوف يتضمَّن الكثير من هذه المقالات مزاعمَ متعارضةً؛ ما يجعل انتقاء ما هو ذو صلة — وما ليس بذي صلة — مهمةً ضخمةً. ومن ثَمَّ يتخذ الناس على نحو حتمي طرقًا مختصرة لتلقِّي المعلومات؛ فتجدنا نعتمد على مقالات نقدية، أو على تحليلات ماورائية، أو كتب أكاديمية مقرَّرة، أو شائعات غير مؤكَّدة، أو عروض صحفية قائمة على الثرثرة حول أحد الموضوعات.

هذا إذا كنت مهتمًّا بالوصول إلى حقيقة الأمر. ماذا لو كانت لديك وجهة نظر محددة تريد أن تثبتها؟ ثمة بعض الافتراضات في غاية السخف؛ حتى إنك لا تستطيع أن تجد ولو شخصًا واحدًا يحمل درجة الدكتوراه في أي مكان في العالم يُصَدِّق لك على صحتها؛ وبالمثل هناك مزاعم قليلة للغاية في الطب في غاية السخف، حتى إن المرء لا يستطيع بأي حال من الأحوال استحضار أي دليل تجريبي منشور يؤيدها، لكن يمكنك وقتها أن تذكر علاقة واهية، وأن تنتقي الأدبيات انتقاءً متحيزًا، وتشير فقط إلى الدراسات التي تؤكد وجهة نظرك.

تأتي إحدى أعظم الدراسات عن انتقاء الأدلة في الأدبيات الأكاديمية من مقالٍ حول لينوس بولنج، الأب الروحي لعلم التغذية الحديث، وعمله الإبداعي حول فيتامين ج والبرد. ففي عام ١٩٩٣، نشر بول نيبستشايلد، أستاذ علم الأوبئة في جامعة ماسترخت، فصلًا في كتابه الأكاديمي المقرَّر العظيم «المراجعات المنهجية». قام نيبستشايلد بمهمة شاقة استثنائية تتمثَّل في تناول أدبيات البحوث مثلما كانت عندما كان بولنج يعمل، وأخضعها إلى نفس المراجعة المنهجية الفاحصة التي يجدها المرء في ورقة بحثية حديثة.

وجد نيبستشايلد أنه بينما تشير بعض التجارب إلى أن فيتامين ج يتميز ببعض الفوائد، فإن بولنج اقتبس بشكل انتقائي بعض الأدلة من الأدبيات المنشورة لإثبات وجهة نظره. وحين أشار بولنج إلى بعض التجارب التي كانت تناقض نظريته بشكل حاد، فإنه لم يفعل ذلك إلا لدحض مزاعمها باعتبارها قاصرةً منهجيًّا. لكن مثلما أوضح فحصٌ موضوعي، كانت الأوراق البحثية التي استشهد بها لدعم وجهة نظره قاصرةً أيضًا.

دفاعًا عن بولنج، كان عصره عصرًا اتَّسمت معرفة الناس فيه بالمحدودية، وربما لم يكن واعيًا تمامًا بما كان يفعل. أما اليوم، فقد صار انتقاء الأدلة أحد أكثر الممارسات المشبوهة شيوعًا في مجال العلاجات البديلة، خاصة في مجال علم التغذية؛ حيث يبدو انتقاء الأدلة مسألةً مقبولة بصورة أساسية باعتباره ممارسةً عاديَّةً فيه (في حقيقة الأمر، انتقاء الأدلة هذا هو ما يساعد على توصيف ما يتصوره معالجو الطب البديل على نحوٍ مبالَغ فيه نوعًا ما باعتباره «منظورهم المنهجي البديل»). يحدث هذا في مجال الممارسات الطبية الشائعة أيضًا، مع فارق أساسي؛ ألا وهو أن انتقاء الأدلة يُنظَر إليه باعتباره مشكلةً كبرى، وقد بُذِل جهدٌ شاقٌّ للتوصُّل إلى حلٍّ لها.

يتمثَّل الحل في عملية يُطلَق عليها «المراجعة المنهجية». فبدلًا من التسكُّع على الإنترنت وانتقاء الأوراق البحثية المفضَّلة التي تدعم التحيزات وتساعد على بيع منتجٍ ما، يكون لديك، في حالة المراجعة المنهجية، استراتيجيةَ بحثٍ واضحة للحصول على البيانات (المذكورة نصًّا في ورقة الباحث، بل تشمل مصطلحات البحث التي استعان بها الباحث في قواعد بيانات الأوراق البحثية)، ثم يقوم الباحث بجدولة خصائص كل دراسة يجدها، ثم يقيس — غاضًّا البصر عن النتائج — الطبيعة المنهجية لكل ورقة بحثية (حتى يرى إلى أيِّ درجة كان الاختبار منصفًا فيها)، ثم يعقد الباحث مقارنةً بين البدائل، وأخيرًا يقدِّم ملخَّصًا نقديًّا متوازنًا.

هذا هو ما يُطبَّق في كوكرين كولابوريشن في جميع موضوعات الرعاية الصحية التي تصادفها المؤسسة، بل تدعو أيضًا الناس إلى طرح أسئلة إكلينيكية جديدة في حاجة إلى إجابة. وقد كشف هذا التمحيص الشديد للمعلومات عن فجوات هائلة في المعرفة؛ إذ كشف عن أن «أفضل الممارسات» كانت في بعض الأحيان قاصرةً قصورًا قاتلًا، وببساطة من خلال التنقيب بشكل منهجي في البيانات المتوافرة مقدَّمًا، أفضى هذا التمحيص الشديد إلى إنقاذ أرواح أكثر مما يمكن أن يتصور المرء. في القرن التاسع عشر، مثلما قال طبيب الصحة العامة موير جراي، أحرزنا تقدُّمًا عظيمًا من خلال توفير مياه نظيفة نقية. وفي القرن العشرين، أحرزنا تقدمًا مماثلًا من خلال توفير معلومات نظيفة نقيَّة. وتُعتبر المراجعات المنهجية إحدى أعظم أفكار الفكر الحديث، ويجب أن يُحتفَى بها.

(٢) طرح مشكلة مضادَّات الأكسدة

رأينا أنواعًا من الأخطاء يرتكبها أولئك في حركة عِلم التغذية في محاولاتهم الحثيثة لتبرير مزاعمهم الأكثر غموضًا وتقنيةً. ولعل الأمر الباعث على السرور أكثر هو أن نلتمس فهمنا الجديد ونطبِّقه على أحد المزاعم الرئيسية في حركة علم التغذية، بل على اعتقاد واسع الانتشار إلى حدٍّ ما عمومًا؛ ألا وهو الزعم بأن المرء يجب أن يأكل المزيد من مضادَّات الأكسدة.

مثلما نعرف الآن، هناك طرق كثيرة لتحديد ما إذا كانت الأدلة البحثية المؤيدة لأحد الادِّعاءات تتراكم أم لا، ومن النادر بمكانٍ أن تُفضِي معلومةٌ وحيدة إلى ربط جميع الأدلة في حزمة واحدة متينة. في حالة أحد الادِّعاءات حول الطعام، على سبيل المثال، هناك أشياء كثيرة مختلفة يمكن أن يتقصَّاها المرء؛ مثل كونِ الطرح منطقيًّا من الناحية النظرية، أو كونِه مدعومًا بما نعرفه من ملاحظة النُّظُم الغذائية والحالة الصحية، أو كونِ الطرح تدعمه «تجارب علاجية»؛ حيث يجري إعطاء إحدى المجموعتين نظامًا غذائيًّا، والمجموعة الأخرى نظامًا آخر، وكونِ تلك التجارب تقيس نتائج واقعية؛ مثل «الموت»، أو نتيجة بديلة؛ مثل اختبار دم، ترتبط افتراضيًّا فقط بمرض ما.

لا أهدف هنا بأي حال من الأحوال إلى الإشارة إلى أن مضادات الأكسدة لا تَمُتُّ بأي صلة «كليًّا» للصحة. وإذا كان لديَّ شعارٌ أضعه على هذا الكتاب بالكامل، فسيكون: «أعتقد أنك ستجد الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.» إنني أهدف إلى «طرح المشكلة» المتعلِّقة بالرؤية التغذوية السائدة حول مضادات الأكسدة، التي تتخلَّف حاليًّا بنحو عشرين عامًا عن الدلائل البحثية.

من منظور نظري بحت، تُعتبر فكرة أن مضادات الأكسدة مفيدة للصحة فكرة جذابة. عندما كنتُ طالبًا في كلية الطب — لم يكن ذلك منذ وقت طويل — كان أكثر الكتب الدراسية شيوعًا في الكيمياء الحيوية يُسمى «ستراير». يَعِجُّ هذا الكتاب الضخم بمخطَّطاتِ تدفُّقٍ متداخلة معقدة حول طريقة تحرُّك المواد الكيميائية — وهو ما يتألَّف منه الإنسان — عبر الجسد. يعرض الكتاب كيف تُكَسَّر الإنزيمات المختلفة إلى عناصر جزيئية مكونة، وكيف يجري امتصاص هذه الجزيئات، وكيف يجري إعادة تجميعها في صورة جزيئات جديدة أكبر يحتاج إليها الجسد لبناء العضلات، وشبكية العين، والأعصاب، والعظام، والشعر، والأغشية، والمخاط، وكل شيء آخر يتكون منه جسد الإنسان، وكيف تتكسَّر الأشكال المختلفة للدهون ويعاد تجميعها في صورة أشكال جديدة من الدهون، أو كيف تتكسَّر أشكال الجزيئات المختلفة — السكر، الدهون، وحتى الكحول — تدريجيًّا، خطوة بخطوة؛ لإفراز الطاقة، وكيف يجري نقل الطاقة، وكيف يجري استخدام المنتجات الثانوية من هذه العملية، أو تخزينها في شيء آخر ليجري نقلها في الدم، ثم يتم التخلص منها في الكُلى، أو تمثيلها غذائيًّا إلى مكونات أخرى، أو تحويلها إلى شيء مفيد في مكان آخر، إلخ. وهذه هي إحدى أعظم المعجزات في الحياة، وهي عملية مدهشة بصورة غير محدودة، وجميلة، ومعقَّدة.

بالنظر إلى هذه الشبكات الكبيرة، الهائلة المتشابكة، من الصعوبة بمكان ألا يندهش المرء من قدرة الجسد الإنساني على أداء وظائف شديدة التنوع، وكيف أن الجسد يمكن أن يقوم بأشياء تشبه أعمال الخيمياء من نقاط بداية مبدئية كثيرة جدًّا. يسهل تمامًا انتقاء أحد العناصر في هذه النظم الشديدة التشابك ويصير المرء متشبِّثًا بفكرة أن هذا العنصر في غاية الأهمية. ربما يكون هذا بسبب أن هذا العنصر يَظهر كثيرًا في الرسوم البيانية، أو ربما يظهر نادرًا، ويبدو أنه يؤدي وظيفة مهمة فريدة من نوعها في موضع مهم. وسيكون من اليسير افتراض أنه حال وجود كمية أكبر من هذا العنصر، فإن وظيفته ستُؤدَّى بفاعلية أكبر.

لكن، مثلما في جميع النظم المتشابكة الهائلة — مثل المجتمعات، على سبيل المثال، أو الشركات — قد يُفضي تدخُّلٌ في موضع ما إلى نتائج غير متوقَّعة تمامًا؛ إذ إن هناك آليات تغذية استرجاعية، أو آليات تعويضية. وقد يَحُدُّ من معدلات التغيير في موضع محدَّد عوامل غير متوقعة تمامًا بعيدة كل البعد عما يغيره المرء، وقد تفضي الكميات المفرطة من شيء ما في موضع ما إلى تشويه المسارات والتدفقات المعتادة؛ ما يفضي بدوره إلى نتائج متناقضة بديهيًّا.

تتمثَّل النظرية التي تقوم عليها الرؤية القائلة إن مضادات الأكسدة مفيدة للإنسان في «نظرية الجذور الحرة للشيخوخة». تتسم الجذور الحرة بأنها قابلة للتفاعل الكيميائي بصورة هائلة؛ مثل أشياء كثيرة في الجسد. وغالبًا ما تُستخدم هذه التفاعلية استخدامًا جيدًا جدًّا. على سبيل المثال، إذا أصيب المرء بعدوى، وكانت ثمة بكتيريا ضارة في الجسد، فربما تأتي خلية بَلْعَمِيَّة من الجهاز المناعي، وتحدد البكتيريا باعتبارها جسمًا ضارًّا، وتُشَيد جدارًا قويًّا حول أكبر عدد ممكن يمكنها العثور عليه منها، وتقصفها بالجذور الحرة المدمرة. تشبه الجذور الحرة المواد المُبَيِّضَة بشكل أساسي، وهذه العملية تشبه كثيرًا عملية صبِّ مادة مُبَيِّضة في المرحاض. مرة أخرى، الجسم البشري أكثر حذقًا من أي شخص يعرفه المرء.

لكن الجزيئات الحرة الموجودة في غير موضعها قد تدمِّر المكونات المرغوبة للخلايا. فقد تدمر هذه الجذور بطانة الشرايين، ويمكن أن تدمر الحامض النووي، الذي يؤدي تدميره إلى الشيخوخة أو السرطان، إلخ. لهذا السبب، قيل إن الجذور الحرة مسئولة عن الشيخوخة وأمراض متعددة. هذه نظرية، ربما تكون صحيحة أو غير صحيحة.

مضادات الأكسدة عبارة عن مركَّبات تستطيع «تدمير» هذه الجذور الحرة — وتفعل ذلك بالفعل — من خلال التفاعل معها. إذا نظرت إلى مخططات التدفق البيانية الهائلة المتشابكة التي تبيِّن طريقة تمثيل جميع الجزيئات في الجسد غذائيًّا من صورة إلى التي تليها، يمكنك أن ترى أن هذا الأمر يحدث في الجسد كله.

النظرية القائلة إن مضادات الأكسدة تحقِّق الوقاية منفصلةً عن نظرية الجذور الحرة المسبِّبة للأمراض، لكنها مبنية عليها. فإذا كانت الجذور الحرة خطرة، مثلما يجري الطرح، وتشارك مضادات الأكسدة في الرسوم البيانية الكبيرة في تحييدها، فمن المفترض إذن أن يكون تناول مزيد من مضادات الأكسدة مفيدًا لك، وسيعكس أو سيبطِّئ من الشيخوخة، ويقي من الأمراض.

هناك عدة مشكلات مع هذا الطرح كنظرية؛ أولًا: مَن قال إن الجذور الحرة سيئة دومًا؟ إذا كان المرء سيطرح وجهة نظر تعتمد على النظرية فقط، وعلى الرسوم البيانية، فيمكن للمرء إذن جمع جميع الأشياء معًا وجَعْلُها تبدو كما لو كان المرء يقول كلامًا منطقيًّا. مثلما قلت، الجذور الحرة في منتهى الأهمية بالنسبة إلى الجسد للقضاء على البكتيريا في خلايا المناعة البلعمية؛ إذن هل يجب إقامةُ شركةٍ وتسويقُ نظامٍ غذائيٍّ «خالٍ من» مضادات الأكسدة للأشخاص المصابين بعدوى بكتيرية؟

ثانيًا: هل يعني كون مضادات الأكسدة منخرطة في أداء شيء جيد، أنَّ تناول المزيد منها سيجعل هذه العملية أكثر كفاءة بالضرورة؟ أعرف أن الأمر ظاهريًّا يبدو منطقيًّا، لكن هكذا هو الأمر مع أشياء كثيرة، وهذا هو الشيء المثير حقًّا بشأن العلم (وهذه القصة على نحو خاص)؛ ففي بعض الأحيان لا تأتي النتائج بما يتوقعه المرء تمامًا. ربما يجري إفراز كمية زائدة من مضادات الأكسدة، أو تحويلها إلى شيء آخر. ربما تلزم مضادات الأكسدة موضعها لا تفعل شيئًا؛ لأنه لا حاجة إليها. ففي نهاية المطاف، سيكفي نصف خزان ممتلئ من الوقود لنقلك عبر المدينة، مثله مثل الخزان الممتلئ. أو ربما، إذا كانت لديك كمية هائلة على نحوٍ غير معتاد من مضادات الأكسدة تقبع في أنحاء الجسد لا تفعل شيئًا، فإنها لا تفعل شيئًا على الإطلاق. بل ربما تفعل شيئًا ضارًّا جدًّا؛ وهو ما سيكون أمرًا غير متوقَّع، أليس كذلك؟

هناك سببان آخران يفسران لماذا بدت نظرية مضادات الأكسدة فكرةً جيدةً قبل عشرين عامًا. أولًا: عندما يلتقط المرء صورة ثابتة للمجتمع، يجد أن الأشخاص الذين يتناولون الكثير من الفواكه والخضراوات الطازجة يميلون إلى العيش وقتًا أطول، ويصابون بالسرطان وبأمراض القلب بمعدل أقل، وهناك الكثير من مضادات الأكسدة في الفواكه والخضراوات (على الرغم من أن ثمة أشياء أخرى كثيرة فيها أيضًا، ومثلما قد تكون افترضتَ على نحو صحيح، هناك أيضًا الكثير من الأشياء الصحية الأخرى تتعلَّق بحياة الأشخاص الذين يتناولون الكثير من الفواكه والخضراوات الطازجة الصحية؛ مثل وظائفهم المرموقة، والاستهلاك المعتدل من الكحول، إلخ).

ثانيًا: عندما يلتقط المرء صورةً سريعةً للأشخاص الذين يتناولون أقراصًا مكمِّلة تحتوي على مضادات أكسدة، غالبًا ما يجد أنهم يتمتعون بصحة أفضل، أو يعيشون أطول؛ لكن مرة أخرى (على الرغم من أن مُختَصي التغذية حريصون على تجاهل هذه الحقيقة) ليس أيٌّ من ذلك إلا استقصاءات رأيٍ لأشخاصٍ قرروا بالفعل أن يتناولوا أقراص فيتامين. وهؤلاء أشخاص يهتمون على الأرجح بصحتهم، ويختلفون عن المواطنين العاديين — وربما عنك — في أوجه كثيرة، تتجاوز مسألة استهلاكهم لأقراص الفيتامين؛ ربما يمارسون تمارين رياضية أكثر، ربما لديهم شبكات دعم اجتماعية أكثر، ربما يدخنون أقل، يتناولون كحولًا أقل، إلخ.

لكن كانت الأدلة المبكرة التي جاءت في صالح مضادات الأكسدة واعدةً حقًّا، وتجاوزت ما هو أكثر من بيانات المشاهدة المعملية للتغذية والصحة. فقد كانت ثمة نتائج فحوصات دم مغرية للغاية أيضًا. ففي عام ١٩٨١، قام ريتشارد بيتو، أحد أشهر علماء الأوبئة على مستوى العالم، الذي يرجع إليه الفضل مع آخرين في اكتشاف أن التدخين يتسبَّب فيما نِسْبَتُه ٩٥ في المائة من حالات سرطان الرئة، بنشر ورقة بحثية مهمة في مجلة نيتشر. كان قد راجع عددًا من الدراسات التي أظهرت وجود علاقة إيجابية بين تناول كمية كبيرة من مركَّب بيتا كاروتين (مضاد أكسدة متوافر في الغذاء) في الوجبة الغذائية وبين انخفاض خطر الإصابة بمرض السرطان.

شمل هذا الدليل «دراسات حالات مقترنة بحالات ضابطة»؛ حيث كان يَجري مقارنة أشخاص لديهم أنواع مختلفة من السرطان مع أشخاص ليس لديهم سرطان (وإن كانوا يتوافقون في العمر، والطبقة الاجتماعية، والجنس، إلخ)، ووُجد أن الأشخاص غير المصابين بمرض السرطان لديهم نسبة بلازما كاروتين أعلى. كانت هناك أيضًا «دراسات استباقية»، صُنِّف فيها الأشخاص من خلال مستوى البلازما كاروتين لديهم في بداية الدراسة، قبل أن يصاب أيٌّ منهم بالسرطان، ثم جرت متابعة حالاتهم عبر سنوات عديدة. أظهرت هذه الدراسات تضاعُف معدل الإصابة بسرطان الرئة مرتين في المجموعة الأقل من حيث مستوى البلازما كاروتين، مقارنة بأولئك الذين يحظَوْن بالمستوى الأعلى. بدا الأمر كما لو أن تناول المزيد من مضادات الأكسدة هذه ربما يكون شيئًا مفيدًا جدًّا.

أظهرت دراسات مشابهة أن مستويات البلازما الأعلى في فيتامين ﻫ المضاد للأكسدة كانت ترتبط بمستويات أقل من الإصابة بمرض القلب. وقيل إن حالة فيتامين ﻫ فَسَّرت الكثير من الاختلافات في مستويات مرض القلب الإسكيمي بين دول مختلفة في أوروبا، وهو ما لم يمكن تفسيره من خلال الاختلافات في مستويات كولسترول البلازما أو ضغط الدم.

لكن محرِّر مجلة نيتشر كان حَذِرًا. فقد أُضيفت حاشية سفلية إلى ورقة بيتو البحثية كانت كالتالي:

يجب على القرَّاء غير المنتبهين (إذا كان ثمة قرَّاء هكذا) ألَّا يعتبروا المقال المصاحب إشارةً إلى أن استهلاك كميات كبيرة من الجزر (أو أي مصادر غذائية أخرى للبيتا كاروتين) تقي بالضرورة ضد مرض السرطان.

كانت حاشيةً سفليةً تنطوي على بصيرة بالغة حقًّا.

(٢-١) فك مغاليق حُلم مضادات الأكسدة

مهما يَقُلْ معالجو الطب البديل الشديدو الصخب، يهتم الأطباء والأكاديميون بتقفِّي الآثار التي قد تُفضي إلى نتائج؛ لذا لا تُؤخَذ مثل هذه الفرضيات الجذابة — وهو ما قد يُنقِذ ملايين الأرواح — باستخفاف. وقد جرى العمل على أساس هذه الدراسات، في ظل تجارب ضخمة كثيرة على الفيتامينات أُعِدَّت وأُجرِيَت في أماكن كثيرة حول العالم. ثمة سياق ثقافي مهم أيضًا لهذا النشاط المحموم لا يمكن تجاهله؛ ألا وهو نهاية العصر الذهبي للطب. قبل عام ١٩٣٥ لم يكن ثمة علاجات فعالة كثيرة متاحة. كان لدينا الأنسولين، وتناول الكبد لعلاج أنيميا نقص الحديد، والمورفين — وهو دواء ذو سحر سطحي على الأقل — لكن من أوجُه كثيرة، لم يكن للأطباء نفعٌ كبيرٌ. ثم فجأة، بين عامَيْ ١٩٣٥ و١٩٧٥، تمخَّض العلم عن سيل متواصل من المعجزات.

حدث كلُّ شيء تقريبًا نربط بينه وبين الطب الحديث في ذلك الوقت: علاجات مثل المضادات الحيوية، الغسيل الكلوي، زرع الأعضاء، العناية المُرَكَّزة، جراحة القلب، كل دواء سمع المرء به، وأكثر من ذلك. وفضلًا عن العلاجات الإعجازية، كنا لا نزال في طور اكتشاف تلك العوامل القاتلة الخفية، والمباشِرة، والبسيطة التي لا تزال وسائل الإعلام تشير إليها في أسًى بالغٍ في عناوينها الرئيسية. فاتَّضح أن التدخين، وهو ما أثار دهشة الجميع تقريبًا — وهو عامل خَطِر وحيد — هو السبب في جميع أنواع سرطان الرئة تقريبًا. وثبت أن مادة الأسبستوس، من خلال إجراء بحوث تتَّسم بالشجاعة وعدم التقليدية، تُسَبِّب ورم الظهارة المتوسطة.

حقَّق علماء الأوبئة في ثمانينيات القرن العشرين نجاحات متوالية، وكانوا يعتقدون أنهم سيجدون الأسباب التي تنطوي عليها أساليب الحياة لجميع الأمراض العضال التي تعاني منها البشرية. كان هذا مجالًا بدأ في الظهور عندما نزع جون سنو اليد من مضخة مياه برود ستريت في عام ١٨٥٤، وهو ما قضى على جيب وباء الكوليرا في حي السوهو من خلال قطع إمدادات الماء الملوَّث (كان الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، لكن لا نملك وقتًا هنا لبيان ذلك)، وكان في طريقه لأن يصير مجالًا مستقلًّا بذاته. كان الأطباء في طريقهم لتحديد المزيد والمزيد من هذه العلاقات التلازمية الأحادية بين عوامل الإصابة والأمراض، وفي خيالهم المحموم، وبواسطة إجراءات علاجية بسيطة ومشورات حَذِرة، كانوا في طريقهم لإنقاذ أممٍ بأكملها من البشر. لم يتحقَّق جانبٌ كبيرٌ من هذا الحلم؛ إذ اتضح أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.

أُجْرِيَت تجربتان كبيرتان على مضادات الأكسدة بعد نشر ورقة بيتو البحثية (وهو ما يكذِّب ادِّعاءات مُختَصي التغذية بأن الفيتامينات لم تتمَّ دراستها على الإطلاق؛ إذ لا يمكن تسجيلها كبراءات اختراع. في حقيقة الأمر، أُجْرِيَ العديد من تجارب كهذه، على الرغم من أن صناعة المكمِّلات الغذائية، وهي صناعة تُقدَّر وَفْق أحد التقديرات بأكثر من ٥٠ مليار دولار عالميًّا، نادرًا ما تتكرم بتمويلها). أُجريت إحدى هذه التجارب في فنلندا؛ حيث جرى ضم ٣٠ ألف مشارك معرضين للإصابة بسرطان الرئة، ثم وُزِّعوا عشوائيًّا لتلقِّي بيتا كاروتين، أو فيتامين ﻫ، أو كليهما، أو عدم تلقي شيء. لم تكن حالات الإصابة بسرطان الرئة بين المشاركين الذين كانوا يتلقَّوْن مكمِّلات بيتا كاروتين المفترض كونها وقائيةً أكثر وحسب، مقارنة بالعلاج الوهمي، لكن هذه المجموعة التي تناولت الفيتامين وقعت بينها حالات وفاة أكثر بشكل عام، جرَّاء سرطان الرئة وأمراض القلب.

كانت نتائج التجربة الأخرى أسوأ، وأُطلِق عليها «تجربة فاعلية الرتينول والكاروتين»؛ تمجيدًا لمحتوى البيتا كاروتين المرتفع في الجَزَر. ومن الجدير بالملاحظة، بينما لا نزال هنا، أن الجَزَر كان مصدر إحدى عمليات التضليل الكبرى في الحرب العالمية الثانية، عندما لم يفهم الألمان كيف كان طيَّارونا يستطيعون رؤية طائراتهم آتيةً من مسافات بعيدة، حتى في الظلام. وحتى نمنعهم من اكتشاف كوننا قد اخترعنا شيئًا حاذقًا مثل الرادار (وهو ما اخترعناه فعلًا)، أطلق البريطانيون شائعة غذائية محكَمَة ومفبركة تمامًا؛ فأوضحوا أن الكاروتين في الجَزَر ينتقل إلى العين ويتحوَّل إلى شبكية، وهو الجزيء الذي يكشف الضوء في العين (هذا صحيح بصورة أساسية، ويُعتبر آلية مُقنِعة؛ مثل تلك الآليات التي ناقشناها من قبل). وهكذا، وبينما كانوا بلا شك يضحكون خلف شواربهم المميزة للقوات الجوية الملكية، كنا نحن نطعم قواتنا أطباقًا ضخمة مليئة بالجَزَر، وهو ما أتى بنتيجة جيدة إلى حدٍّ بعيد.

جرت دراسة مجموعتَيْن من الأشخاص في مرحلة متقدمة من سرطان الرئة؛ مجموعة من المدخِّنين، والأخرى تألَّفت من الأشخاص الذين تعرَّضوا إلى الأسبستوس في عملهم. أُعْطِيَ نصفُهم بيتا كاروتين وفيتامين أ، بينما أُعطِي النصفُ الآخر علاجًا وهميًّا. كان من المقرر إشراك ثمانية عشر ألف شخص خلال مدة التجربة، وكانت الغاية أن تتم متابعة حالات هؤلاء على مدار ست سنوات في المتوسط، إلا أن التجربة أُنْهِيَت قبل موعدها؛ لأن الاستمرار فيها اعتُبِرَ أمرًا غير أخلاقي. لماذا؟ كان الأشخاص الذين يتناولون أقراص مضادات الأكسدة أكثر عرضةً للموت جرَّاء سرطان الرئة بنسبة ٤٦ في المائة، وأكثر عرضةً للموت بنسبة ١٧ في المائة جراء أي سبب آخر،١ مقارنة بالأشخاص الذين كانوا يتلقَّون الأقراص الوهمية. ليست هذه التجربة خبرًا جديدًا، خارجًا لتوِّهِ من المطبعة؛ فقد حدث هذا الأمر من أكثر من عقد مضى.

منذ ذلك الحين واصلت بيانات تجارب مكمِّلات الفيتامين المضادة للأكسدة، التي يُستخدم فيها العلاج الوهمي كعنصر ضابط، تقديمَ نتائج سلبية. وتجمع أحدث مراجعات كوكرين للأدبيات المتوافرة جميع التجارب حول الموضوع معًا، بعد الرجوع إلى أكبر قدر ممكن من البيانات باستخدام استراتيجيات البحث المنهجية المذكورة بالأعلى (بدلًا من الدراسات القائمة على «انتقاء الأدلة» لتنفيذ أجندة ما)؛ حيث تُقيِّم هذه المراجعات جودة الدراسات، ثم تضعها جميعًا في جدول كبير لتقدِّم أدق تقدير ممكن لمخاطر الفوائد، وتشير إلى أن مكمِّلات مضادات الأكسدة غير فعالة، بل ربما تكون ضارة.

استقت مراجعة كوكرين حول الوقاية من سرطان الرئة البياناتِ من أربع تجارب، مشيرة إلى تجارب أكثر من ١٠٠ ألف مشارك، وخَلُصَت إلى عدم وجود أي فائدة من مضادات الأكسدة، بل زيادة في معدلات خطر الإصابة بسرطان الرئة لدى المشاركين الذين يتناولون البيتا كاروتين والرتينول معًا. وقد بحثت أحدث مراجعة منهجية وتحليل ماورائي حول استخدام مضادات الأكسدة للحدِّ من النوبات القلبية والسكتات الدماغية استخدام فيتامين ﻫ، مثلما جرى بحث تناول البيتا كاروتين بصورة منفصلة، في خمس عشرة تجربة، ولم تجد أي فائدة من استخدام أيٍّ منهما. وبالنسبة إلى لبيتا كاروتين، كانت ثمة زيادة صغيرة، لكنها دالة، في معدلات الوفاة.

مؤخرًا، بحثت إحدى مراجعات كوكرين عدد الوفيات، جرَّاء أي سبب، في جميع التجارب الموزَّعة عشوائيًّا التي يُستخدم فيها العلاج الوهمي كعنصر ضابط على مضادات الأكسدة منذ بداية إجرائها (واستُخدِم في الكثير منها جرعات كبيرة، لكنها جرعات كانت تتماشى مع الجرعات التي يمكن الحصول عليها في متاجر الطعام الصحي)، مشيرةً إلى خبرات ٢٣٠ ألف شخص إجمالًا. وقد أظهرت هذه المراجعة أنه — إجمالًا — لا تَحُدُّ أقراص الفيتامينات المضادة للأكسدة من معدلات الوفيات، بل ربما تزيد من فرص الوفاة.

إلى أين يقودنا كل هذا؟ كان ثمة تلازمٌ ملحوظ بين انخفاض مستويات هذه المواد المغذِّية المضادة للأكسدة في الدم وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض القلب، ووجدت آلية منطقية تفسر كيف أمكن لهذه العناصر توفير الوقاية. لكن عند إعطاء هذه العناصر كمكمِّلات، اتضح أنها لا تُحدِث أي تأثير إلى الأفضل، أو كان الذين يتناولونها على الأرجح «أكثر» عرضةً للموت. بعبارة أخرى: من بعض الأوجه، يمثِّل الأمر عارًا؛ إذ تُعتبر العلاجات اللطيفة السريعة مفيدةً دومًا، لكن ها هي النتيجة. وهذا يعني أن ثمة شيئًا عجيبًا يجري، وسيكون أمرًا شائقًا أن نَسْبُرَ أغوارَ هذا الشيء ونحدِّد ماهيته.

لعل الأكثر تشويقًا هو كيف يُعَدُّ من غير المعهود بالنسبة إلى الناس أن يكونوا على وعيٍ بهذه النتائج حول مضادات الأكسدة. هناك أسباب متنوعة تفسر حدوث هذا. أولًا: هذه نتيجة غير متوقعة، على الرغم من أن مضادات الأكسدة، في هذا الإطار، تُعتبر بالكاد حالة منعزلة. فالأمور التي تنجح نظريًّا غالبًا ما لا تنجح عند التطبيق، وفي مثل هذه الحالات نحتاج إلى مراجعة نظرياتنا، حتى إذا كان الأمر مؤلمًا. فقد بدا العلاج الهرموني البديل فكرةً طيبة طوال عقود عديدة، حتى كشفت دراسات المتابعة عن المشكلات المرتبطة به؛ لذا غيَّرنا آراءنا. كذلك بدت مكمِّلات الكالسيوم في وقت ما فكرةً طيبة لعلاج هشاشة العظام، ولكن اتضح الآن أنها تزيد على الأرجح من مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية لدى السيدات العجائز؛ لذا غيَّرنا آراءنا.

لعلها فكرة مرعبة أننا عندما نعتقد أننا نصنع خيرًا، ربما نتسبَّب في حقيقة الأمر في ضررٍ، لكنه ضررٌ يجب أن نُعايشه دائمًا، حتى خلال أكثر المواقف لطفًا. كتب طبيب الأطفال د. بنيامين سبوك كتابًا صُنِّفَ ضمن الكتب الأفضل مبيعًا، وحطَّمَ رقْمًا قياسيًّا بعنوان «العناية بالرُّضَّع والأطفال»، نُشِر للمرة الأولى في عام ١٩٤٦، وكان كتابًا في غاية التأثير والعقلانية. في الكتاب، يوصي د. سبوك بثقةٍ بضرورةِ أن ينام الأطفال الرُّضَّع على بطونهم. لم يكن لدى د. سبوك دليلٌ كافٍ على ذلك، لكننا نعرف الآن أن هذه النصيحة غير صحيحة، وأدى هذا الاقتراح الذي يبدو تافهًا، والذي تضمنه كتابه، وقُرئ واتُّبِعت نصائحه على نطاق واسع، إلى آلاف، وربما عشرات الآلاف، من الوفيات التي كان يمكن تجنُّبها بين الأطفال في المهد. فكلما استمع عددٌ أكبر من الناس إليكَ، كانت آثارُ خطأ صغير أكثرَ فداحة. وأنا أرى هذه النادرة البسيطة مزعجةً للغاية.

لكن بالطبع هناك سبب آخر أكثر بساطة وراء احتمال عدم وعي الناس بهذه النتائج بشأن مضادات الأكسدة، أو على الأقل عدم أخذها على محمل الجِدِّ؛ ألا وهو قوة الضغط الهائلة لصناعة كبيرة، في بعض الأحيان تكون قذرة، تبيع منتج رفاهية يُولَعُ به الكثير من الناس. لقد صَمَّمَت صناعةُ المكملات الغذائية صورةً عامة مفيدة لنفسها، لكنها صورة لا تدعمها الحقائق. أولًا: لا يوجد ثمة فارق بين صناعة الفيتامين والصناعات الدوائية والصناعة الكيميائية الحيوية (هذه إحدى رسائل هذا الكتاب، على أي حال؛ ألا وهي أن ألاعيب الصناعة لا تختلف في العالم أجمع). وتشمل قائمة اللاعبين الرئيسيين شركات مثل روتش وآفنتس، وبايوكير، تلك الشركة التي تصنع أقراص الفيتامين ويعمل لديها باتريك هولفورد، مُختَص التغذية في الإعلام، وتمتلك شركة إلدر للصناعات الدوائية جزءًا منها، إلخ. تُعتبر صناعة الفيتامين أيضًا — على نحو مثير — أسطورية في عالم الاقتصاد باعتبارها الموقع لأشنع اتحاد احتكاري للمنتجين، يعمل على تثبيت الأسعار، جرى توثيقه على الدوام. وخلال تسعينيات القرن العشرين، أُجبرت الشركات المُدانة على دفع «غرامات جنائية هي الأكبر في التاريخ القانوني» — ١٫٥ مليار دولار أمريكي إجمالًا — بعد الإقرار بارتكاب مخالفات ضد وزارة العدل الأمريكية والجهات الرقابية في كندا، وأستراليا، والاتحاد الأوروبي. إنها صناعة مقصورة على مَن فيها فقط.

متى نُشِرَ أي دليل يشير إلى أن منتجات صناعة أقراص المكملات الغذائية التي تبلغ ٥٠ مليار دولار غير فعالة، أو حتى ضارة، تَعُدْ ماكينة تسويق جبارة في تثاقل للحياة، مُصَدِّرَةً انتقاداتٍ منهجية غير صحيحة ولا أساس لها للبيانات المنشورة؛ من أجل إثارة البلبلة، ولكن ليس بما يكفي بما يجعلها جديرةً بالالتفات إليها خلال مناقشةٍ أكاديمية مفيدة، على أن هذا ليس هدفَ الشركات العاملة في هذه الصناعة. ويُعَدُّ هذا واحدًا من أساليب إدارة المخاطر التي عفا عليها الزمن، المتَّبَعَة في صناعات عديدة، بما في ذلك صناعات إنتاج التبغ، والأسبستوس، والرصاص، وكلوريد الفينيل، والكروم، وغير ذلك. يُطلَق على هذا الأسلوب «تصنيع الشك»، وفي عام ١٩٦٩ كان أحد المسئولين التنفيذيين في مجال صناعة التبغ من الغباء بما يكفي؛ حيث دوَّن هذا على الورق في مذكِّرة؛ إذ كتب قائلًا: «الشكُّ منتجنا؛ حيث إن ذلك هو الوسيلة الفضلى للمنافسة مع «منظومة الحقائق» التي توجد في عقول العامة. وهو أيضًا وسيلة لإذكاء الجدل.»

لا يجرؤ أحدٌ في وسائل الإعلام على معارضة هذه الأساليب؛ إذ تَنْصِب جماعات المصالح دفاعات تنطوي على ادِّعاءات تبدو علمية عن منتجاتها؛ لأن وسائل الإعلام تشعر بالخوف، وتفتقر المهارات اللازمة للقيام بذلك. وحتى إذا فعلوا، فسيكون ثمة مناقشة محيرة وتقنية في المحطات الإذاعية، لن يرغب أحدٌ في الاستماع إليها، وفي أفضل الأحوال لن يستمع المستهلكون إلا إلى «خلاف»؛ وبهذا تكون المهمة قد نُفِّذَت. لا أعتقد أن أقراص المكملات الغذائية في خطورة التبغ — توجد أشياء قليلة في خطورته — لكن من الصعوبة بمكان تصوُّر أي نوع آخر من الأقراص يمكن أن تُنشَر بحوث عنه تُظهِر إمكانية تسبُّبه في زيادة معدَّلات الوفاة، ثم تُستخدم أرقام إحصاءات الصناعة مرارًا لدرجة الملل، ثم تمر الأمور في يسرٍ مثلما يحدث مع موظفي شركات الفيتامينات عندما تُنشر بحوث حول أخطارها. ولكن حينئذ، بالطبع، تمتلك الكثير من هذه الشركات مساحات خاصة بها في وسائل الإعلام لبيع منتجاتها وترويج رُؤَاها للعالَم.

تمثِّل قصة مضادات الأكسدة مثالًا ممتازًا لمدى وجوب انتباهنا إلى اتِّباع مشاعرنا الحَدْسِيَّة دون تفكير بناءً على بيانات معملية ونظرية، والافتراض بسذاجة، على نحو اختزالي، أن هذا سيرتبط تلقائيًّا بشكل حتمي بالنصائح الغذائية ونصائح تناول المكملات، مثلما يريدنا مُختَصُّو التغذية في الإعلام أن نفعل. إنه مثال رائع على كون هذه الشخصيات لا يمكن أن تُعتبر بأي حال من الأحوال مصدرَ ثقاتٍ للمعلومات البحثية، وسنُبْلِي جميعًا بلاءً حسنًا إذا تذكَّرنا هذه القصة في المرة القادمة عندما يحاول أحد الأشخاص أن يُقنِعَنا باستخدام بيانات اختبارات الدم، أو يتحدث عن الجزيئات، أو النظريات التي تعتمد على رسوم بيانية ضخمة ومتشابكة للتمثيل الغذائي، أو بضرورة شراء كتابه، أو اتِّباع حِمْيَتِه العجيبة، أو شراء علبة أقراصه.

يوضِّح هذا — أكثر من أي شيء — كيف يمكن توظيف هذه الرؤية الشديدة التعقيد والاختزال للغذاء في التضليل والبيع المُفْرِط. ولا أعتقد أنَّ من قبيل المبالغة الحديثَ عن أشخاص يُستضعَفُون وتُشَلُّ قدرتُهم من خلال الإرباك، في ظل كل الرسائل المتعارضة والمعقدة بلا داعٍ حول الطعام. إذا كنت قَلِقًا حقًّا، يمكنك شراء «فروتلا بلاس» المزودة بفيتامينات أ، وج، وﻫ والكالسيوم، وخلال كريسماس عام ٢٠٠٧ ظهر منتجان لمضادات أكسدة في السوق، وهو ما مثَّل التعبير الأجْلَى لما تسبَّبت فيه حركة علم التغذية من تحريفٍ وتشويه لتفكيرنا السليم تجاه الطعام. كانت «تشوكسي بلاس» شوكولاتة باللبن تحتوي على «مضادات أكسدة» إضافية. وتقول صحيفة «ديلي ميرور» عنها إنها «أجمل من أن تكون حقيقية.» ووَفْق صحيفة «ذا ديلي تليجراف»: «إنها شوكولاتة طيبة لك، ومغرية أيضًا.» ووَفق صحيفة «ديلي ميل»: «شوكولاتة بلا شعور بالذنب. إنها قطعة الشوكولاتة الأكثر «فائدة» من خمسة أرطال من التفاح.» حتى إن الشركة المنتجة «توصي» بتناول قطعتين من الشوكولاتة التي تنتجها يوميًّا. في الوقت نفسه، تروِّج سلسلة سنسبري لنبيذ «رد هارت» — الذي يحتوي على مضادات أكسدة إضافية — كما لو كان تناوُل هذا شيئًا يجب على أحفادك عمله.

لو كنتَ بصدد تأليف كتاب حول أسلوب الحياة، لاحتوى على النصائح نفسها في كل صفحة، ولتعرفت عليها جميعًا في الحال. تناوَلِ الكثيرَ من الفواكه والخضراوات، وعَشْ حياتك كلها بكل طريقة تستطيعها. مارِسِ الرياضة بانتظام كجزء من روتينك اليومي، تجنَّبِ السِّمْنة المُفْرِطة، لا تُفرِط في تناول المشروبات الكحولية، لا تدخِّن، ولا تنْسَ الأسباب البسيطة الأساسية الحقيقية التي تفضي إلى تدهور الصحة. لكن مثلما سنرى، حتى هذه الأشياء يصعب عملها بمفردك، وفي الواقع تحتاج إلى تغييرات اجتماعية وسياسية شاملة.

هوامش

(١) عبَّرتُ عمدًا عن هذا الخطر في إطار «زيادة الخطورة النسبية»، كجزء من مزحة خاصة مريبة مع نفسي. وستعرف المزيد حول ذلك في الفصل الثاني عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤