مقدمة من حضرة صاحب العزة الأستاذ فكري أباظة

لما كنت في لندرة سنة ١٩٢٨ ذهبت أنا وجماعة من السياح الأمريكان للمتحف البريطاني. ووصلت الجماعة يقودها «الترجمان» حتى وقفت أمام «حجر رشيد» وانتظروا البيان اللازم من «الترجمان» ولكنه وقف صامتًا، ثم قال بابتسامةٍ خبيثة: سيداتي وسادتي، في جمعيتنا هذه مصري متعلم ونائب في مجلس النواب، وهو هذا السيد (وأشار إليَّ)، فمن واجبي أن أتخلَّى عن الشرح، وأن يحتل مكاني في الإبانة والإيضاح؛ فهو ولا شك يعرف أكثر مني عن حجر رشيد وعن شامبليون، فالكلمة له! … والتفت الجميع إليَّ منتظرين الدُّرَر الغوالي والشرح المتين! … ولكني للأسف لم أكن أعرف شيئًا كثيرًا لا عن شامبليون ولا عن حجر رشيد … وكانت الصدمة عنيفةً والمركز حرجًا، ولكني تخلصت بأن أغميَ عليَّ فجأةً فاهتم بصحتي الجميع، ونسوا حجر رشید وشامبليون!

هذه الحادثة كشفت لي عن عيبٍ متفشٍّ في معلوماتنا العامَّة عن تاريخنا، وعن الرجال الذين أخلصوا وضحَّوا لهذا التاريخ …

هذا «جان فرنسوا شامبليون» مرَّت على وفاته مائة سنة، فلم يذكره عالمٌ مصريٌّ ولا صحيفةٌ مصريةٌ ولا موظفٌ مصريٌّ من موظَّفي الآثار. ولو أحيا المصريون ذكرى هذا الرجل بهذه المناسبة، لكانت فرصة نراجع فيها شيئًا عن جهود جبابرة الكاشفين لآثارات وأخبار أسلافنا، ولكن الإهمال والجحود أسدلا ستار النسيان على العظيم الذي بذل ما بذل، وضحَّى ما ضحى، فاكتشف الكتابة واللغة الهيروغليفية، وقدَّم باكتشافه خدمة عظمى لتاريخ مصر ومدنية مصر وعظمة مصر، وفتح أبوابها للسياح والعلماء ودرَّر على خزائنها الثروة من موسم السياح.

ذلك الرجل العظيم هو الذي أنطق الآثار الحجرية، فنفست فيهـا الروح بأن سلم للعلم مفتاح الرموز، فتكلَّمت ونطقت وأبانت وأفاضت على العالم الفني والتاريخ الدقيق. لـئن نسيت الحكومة ونسيت الأمة شامبليون، فإن الأب يعقوب موزر راعي كنيسة الأقباط الكاثوليك بفاقوس لم يَنْسَه، فأصدر هذه الرسالة وطبعها طبعًا متقنًا، وحرَّرها بعبـارةٍ سلسةٍ وتحقيقٍ دقيقٍ لا عن شخص شامبليون فقط، إنما عن علمـه وجهاده وطريقة بحثه وتحقيقه، فقام بواجب الحي الناضج الإحساس نحو الميت المجحود، وكشف بعبارةٍ سهلةٍ عن أعظم حادثٍ في تاريخنا المصري، فحق له الشكر من مصر والمصريين …

طالعت الرسالة الأنيقة فكنت بمثابة طالبٍ صغير، رغم سني ورغم تجاربي ورغم معلوماتي، وشعرت بشيءٍ كثيرٍ من الخجل أمام هذه المعلومات الهامة التي يجب أن يُعنَى بها كلُّ مصريٍّ يزهو فخرًا بوطنه القديم والحديث.

إنها فرصة سعيدة أن وقع في يدي هذا الكتاب. أرجو أن تُتـاح لكل مصري من مواطنيه الأعزاء، وللأب يعقوب موزر المحقق المدقق كل شكرٍ وثناء، وكل تهنئةٍ على هذا الجهد العظيم.

فکري أباظة المحامي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤