الفصل الثاني والثلاثون

يومان في بنغازي

الأربعاء ٧ سبتمبر الساعة الثانية بعد الظهر.

وقفت مع آخرين أمام مكتب شركة السياحة الإيطالية، بجوار الكاستلو ننتظر أوتوبيس شركة الليتوريا.

وبعد ربع ساعة وصل الأتوبيس اللوكس، ذو المقاعد المريحة والسقف المُعَدِّ لحمل الحقائب الثقيلة والخفيفة.

فركبنا، وسارت بنا العربة مجتازة شوارع طرابلس الجديدة وضواحيَها وأرباضها حتى وصلنا إلى المطار العامر بأكثر من طائرة بين صغيرة وكبيرة.

الوصول إلى بنغازي

وكشف الموظفون على الباسبورتات وأركبونا الطائرة، فطافت بنا فناء المطار الواسع وأخذت تزمزم وتحلِّق إلى أن ارتفعت فوق البحر، وسارت باطمئنان حتى وصلت بنا إلى مطار بنغازي في منتصف الساعة السادسة مساء.

ووقف بالمطار عدد من الموظفين والعمال والحمَّالين من الإيطاليين والوطنيين.

والوطنيون يلبَسون الملابس المغربية الأنيقة من سلطة وسروال وطربوش طويل الزر.

وكان لطربوشي المحترم عمله وأثره، فأحاط بي الإخوان الطرابلسيون مرحِّبين بلهجة تكاد تكون مصرية: أهلًا وسهلًا! الحمد لله على السلامة يا سيدنا المبارك.

ومن المطار إلى المدينة في أوتوبيس الشركة، فأنزلني أمام فندق إيطاليا الكبير.

مع زميل طرابلسي

وبعد أن قيَّدتُ اسمي في الفندق ركبت عربة قاصدًا إدارة جريدة «بريد برقة» ومجلة «ليبيا المصورة»، وفي الطريق سألني الحوذي الكهل عن مصر وأهلها وذكر لي أن له ولدًا يتلقى العلم في الأزهر الشريف.

ولم أجد الزميل الأستاذ عمر فخري المحيشي صاحب الجريدة والمجلة في مطبعته، فتركت له بطاقتي وكتبت له عليها أنني في انتظاره بالفندق.

ثم عدت إلى الفندق وجلست أستمع لجوقة موسيقية لا بأس بها.

ولم أكَد أتناول القهوة، حتى حضر الأستاذ المحيشي وأقبل عليَّ مسلِّمًا مرحِّبًا سائلًا عن أُسرة الأهرام عامة والزميل الأستاذ عبد الرحمن نصر خاصة، ثم انتقلنا إلى قهوة في الميدان حيث عرَّفني إلى فريق من إخوانه التجار والأدباء.

figure
الجامع العتيق في ميدان البلدية.

وركبنا عربة إلى الحي الوطني، وشربنا الشاي المغربي المنعنع في قهوة وطنية وسمعنا الراديو المصري وكان صوته ضعيفًا مخشخشًا.

واعتذر الأستاذ المحيشي عن السهر معي لموعد ارتبط به قبل مقابلتي.

عند قنصل مصر

وبعد تناول العشاء، جاءني مدير الفندق وأبلغني أن سعادة قنصل مصر يرجوني مقابلته في فندق برانيشي.

قلت: وأين هذا الفندق؟ فوصف لي المدير طريقه.

ولما وصلت سلَّمت البطاقة إلى الحاجب، فأتى إليَّ الأستاذ القنصل أحمد بهجت بك مرحِّبًا وهو يقول: أهلًا بصحافينا العجوز، لقد رآك فيس قنصل بريطانيا، وأبلغني أن مصريًّا وصل إلى فندق إيطاليا، ولو عرفت أن هذا المصري هو الصحافي العجوز؛ لحضرت لمقابلتك. فشكرته وقضيت معه ساعة.

ورجعت إلى فندقي، وأمضيت فيه السهرة.

وفي الساعة السابعة صباحًا أيقظني أحد الخَدَم طارقًا الباب وهو يقول بلهجة مصرية: اصح يا أستاذ، الساعة سبعة.

وكان الإفطار في قهوة الفندق، والتجول في ميدانه الفسيح، وفيه منتزه بديع تحيط به البارات والأندية والمتاجر ومكاتب السياحة.

وراقني منظر الأهالي، وجمال ملابسهم سواء كانت إفرنكية أو بلدية، والكل منتعلون سواء بالأحذية أو الصنادل.

ولاحظت صبيًّا وطنيًّا من مسَّاحي الأحذية يقرأ صحيفة «كوريره دي بنغازي»، وهي الصحيفة اليومية الإيطالية في المدينة.

وحدَّثت صبيًّا وطنيًّا يبيع الصحف الإيطالية، فقال لي إنه أتم دروسه الابتدائية وتعلم فيها العربي والطلياني، ويقرأ الصحف الإيطالية وجريدة «بريد برقة».

في دار القنصلية

وقصدت ضحًى فندقَ برانيشي (وصحته عند الأرحبيين برنيقة)، وسألت عن البيك القنصل فوجدته في مكتبه.

وبعد الترحيب، قال لي: هذا مكتب مؤقت للقنصلية؛ لأنني لم أجد دارًا لائقة لها للسكن، وأنت أول مصري يزورني في القنصلية، فاتحة سعيدة إن شاء الله.

وقنصلية بنغازي أحدث قنصلياتنا المصرية.

والأستاذ بهجت بك خريج كلية الحقوق، والْتحق بعد إتمام دراسته بالقنصليات وتنقَّل بين ليفربول والحبشة وأثينا وروما وبنغازي.

ويصحبه اثنان في الخدمة السايرة، وهما: أمين أحمد صالح أفندي، من أبناء العائلات الكريمة في شبين القناطر، وحائز للبكالوريا المصرية، وعوض مصطفى أفندي، من أهالي أصوان، وحائز للشهادة الابتدائية.

وكلاهما مهذَّب مهندَم أنيق الملايس، قالا لي إنهما يسكنان مع عائلة إيطالية، وشكيا من غلاء الأكل والملابس وبقية الحاجيات بالنسبة لما يتناولانه من راتب ضئيل.

وركبت مع البيك القنصل تكسًا صحبنا فيه إيطالي، قال لي بهجت بك: هذا الرجل سمسار، ونحن ذاهبون للفرجة على دار، وقد تعبت واللهِ يا أخي في اللف والبرم وغرامة يومية تتراوح بين ٤٠ و٥٠ ليرة أجرًا للتكسيات.

جولة في المدينة

وفي هذه اللفة تمكنت من مشاهدة القسمين الجديد والقديم من المدينة والكورنيش العظيم حيث بُنِيَ فندق برانيشي لينزله ركاب الطائرات المسافرة إلى مصر والسودان في طريقهما إلى أثيوبيا، وهو فندق عصري تأنَّقوا في بنائه وهندسته وكساء جدران قاعاته بالمرمر الثمين، وجهزوه بكل أدوات الرفاه سواء في غرف الطعام أو قاعات الجلوس والاحتفالات وغرف النوم.

figure
الكورنيش وباخرة كاتدرائية بنغازي.

وفي الطريق رأينا قطارًا صغيرًا على مثال قطارات الدلتا، قال لي القنصل المحترم إن هذا القطار يوصل إلى الليدو المعروف باسم حمامات جوليانا، وهو قطار متواضع مطيع يقف للركاب في نزولهم منه وطلوعهم إليه.

وزرنا سعادة الدكتور إريكولي فيلاني حاكم المدينة، فرحَّب وأكثر من السؤال عن مصر وحالها، وقال لي: إنه يأسف لتَركي المدينة على عجل، وينتظر أن أزورها مرة ثانية ليريني دخائلها وما فيها من منشآت عمرانية وبحرية وحربية.

وتناولت الغداء مع القنصل المحترم في فندق برانيشي وتركته على أن نتقابل إما ليلًا في الفندق، أو في الصباح بالمطار.

ومن الفندق قصدت إلى مكتب الليتوريا، فحجزت مقعدًا في الطائرة، وأبلغت الخبر إلى سعادة القنصل، واتفقت على أن أبيت في فندق برانيشي لنذهب معًا إلى المطار.

وتجولت في المنطقة المحيطة بفندق إيطاليا، فإذا بها صورة مصغَّرة لمدينة طرابلس، سواء في ساحاتها وطرقها وكورنيشها ومبانيها، وهكذا قُلْ عن المدينة القديمة وأسواقها المسقوفة وصُنَّاعِها الوطنيين الذين يشتغلون في صناعتهم بأيديهم بين سمكري ونحَّاس ونعَّال.

figure
صناع وطنيون في بنغازي.

ويمتاز القسم الجديد بالأشجار الوارفة التي تظلل ساحاته، ومع صغر المدينة، فقد رأيت فيها ثلاث قهوات في كل منها جوقة موسيقى وغناء ورقص.

والمواصلات في المدينة صعبة؛ فإن عامة الشعب يركبون دراجاتهم، وكبار الموظفين ورجال الجيش لهم سياراتهم الخاصة.

وقد تمضي نصف ساعة قبل أن تمر بك عربة أجرة أو تاكسي لتنقلك إلى المكان الذي تريده.

والقسمان الجديد والقديم مرصوفان بالحجر الأصم ومُناران بالكهرباء الساطعة الأنوار.

وآثار إيطاليا ظاهرة في تعمير بنغازي ظهورها في بقية مدن ليبيا الصغيرة والكبيرة.

الأستاذ الزميل عمر المحيشي

وفي المساء قابلني الأستاذ عمر فخري المحيشي في فندق إيطاليا. والأستاذ من كبار الأدباء والصحافيين المعدودين في لوبيا، ويعد مصريًّا بحكم تربيته في مدارس الإسكندرية وتردده على مصر وعلاقته بأدبائنا وصحافيينا ومطالعة ما يكتبه كبار كتابنا.

وجريدته «بريد برقة» أنشأها المرحوم السيد محمد طاهر المحيشي سنة ١٩٢٥، وكانت تصدر في أول عهدها في أربع صفحات ذات خمسة أعمدة، وكان السيد عمر يعاون أخاه طاهرًا في عمله.

وتولى السيد عمر أمر الجريدة، فوسَّع نطاق مطبعتها، ويصدرها الآن أسبوعية في سِتِّ صفحات ذات خمسة أعمدة، يشتمل كل عدد منها على مقالات سياسية محرَّرة ومترجمة وصحيفة أدبية وأخبار محلية ووطنية، وتزين أحيانًا بصور.

ثم أصدر مجلة «ليبيا المصورة» شهرية في حجم بين الصباح والمصور، وهي خاصة بالمباحث الفنية والأدبية لِلوبيا وأهلها، وطبعها متقن على ورق صقيل وصورها جلية.

ويعاونه في تحرير الجريدة والمجلة نخبة من أهل الفضل والمراسلين في أنحاء لوبيا.

في ضيافة الأستاذ المحيشي

ودار الأستاذ المحيشي في الحي الوطني على مقربة من البحر، دار وسيعة، أُعِدَّ الدور الأرضي منها لإدارة الجريدة ومطابعها والدور الأول لسكنه ومكتبه، والمكتب أنيق الفراش يحتوي على خزائن عدة صُفَّتْ فيها مجلدات الكتب والجرائد والمجلات ومعظمها من مطبوعات مصر. وفيها عدد من المطبوعات الإيطالية.

وتناولنا العَشاء معًا، وفيه الكسكسي العامر بأنواع اللحم والطير، وقد أقبلتُ عليه بشغف، فلم يبق هناك موضع لغيره من أصناف مختلفة من الطعام المغربي الفاخر.

وبعد الطعام، كانت سهرة أدبية حضرها غير واحد من أدباء لوبيا، أذكر منهم الأستاذ وهبي البوري، أديب مثقَّف تلقى علومه في المدارس الإيطالية بالإسكندرية، ومُطَّلِع على الحركة الأدبية، يشتغل بالحكومة، ويساعد في تحرير «ليبيا المصورة»، ويكتب فيها القصص، ويترجم كثيرًا عن اللغة الإيطالية.

والدكتور علي نور الدين العنيزي، مدير الأوقاف الإسلامية، درس في إيطاليا الاقتصاد والاجتماع، وأحرز دكتوراه من الجامعة.

وجرى الكلام طويلًا في الأدب والصحافة والحركة الصهيونية.

واتفق الحاضرون على الشكوى من «محطة الراديو» المصرية، وقالوا: إننا نسمع بوضوح راديو روما وبروكسل وتونس والجزائر وستراسبورج، أما راديو مصر فلا نسمعه إلا في «فصل الصيف» ضعيفًا، ثم نجده ممتزجًا بمحطات أخرى، والراديو هو الصلة الوحيدة بيننا وبينكم، فحبذا لو أصلحتموه لخدمتنا في عزلتنا.

وبينما نحن في أحاديثنا ومطارحتنا، مرَّت بالشارع «زفة عريس» يتقدمها حمَلة الشموع والأعلام، وجماعة يرتلون القصائد الدينية البليغة على قرع الدفوف.

وكلما طلبت الإذن بالانصراف أبى الإخوان إلا التمسُّك بي حتى كادوا يرغمونني على قضاء الليل معهم، والانصراف فجرًا إلى المطار، ولكنني استأذنتهم حوالي الساعة الأولى صباحًا، وودَّعوني كلهم على الباب وأركبوني عربة أقلتني إلى فندق برانيشي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤