حقيقة البهلوان

كانت الفكرة التي استقرَّ عليها رأي «تختخ» أن يتنكَّر في ثياب ولدٍ ممن يعملون في مدينة الملاهي، وأن يذهب إلى هنالك للبحث عن عمل؛ لعله يستطيع أن يكون بجوار البهلوان، يراه عن قرب، وقد يُساعده الحظ فيراه بدون ثياب التنكُّر وبلا أصباغ.

وفي المساء اعتذر بأنه مُتعب، ثم صعد إلى غرفته، حيث قضى بعض الوقت في ارتداء ثياب التنكُّر، وتغيير شكل وجهه ببعض الأصباغ الخفيفة، ووضع على رأسه طاقيةً زرقاء لها ذيل، وعندما هبط الظلام تسلَّل خارجًا من غرفته إلى السلم الخلفي إلى الحديقة، وفتح بابها وسرعان ما ابتلعه الظلام.

سار «تختخ» مسرعًا في طريقه إلى مدينة الملاهي، وبعد نصف ساعة بدأت أنوار المدينة تلمع في الظلام، وأحسَّ بأنه مُقبِلٌ في هذه الليلة على مغامرةٍ لا يعرف نهايتها، ولكنه لم يتردَّد، وسرعان ما اندمج في جمهور الداخلين إلى المدينة الساهرة.

اتجه «تختخ» رأسًا إلى لعبة «النشان»، فوجد «حسبو» في مكانه، وبالقرب منه تجلس السيدة العجوز وبجوارها «لعبة»، وهما تُناديان على الفئران البيضاء «والبخت»، ففكَّر لحظات، ثم تقدَّم من السيدة العجوز وقال: ألا تُريدين مساعدًا للعمل معكم؟

ردَّت السيدة في ضيق: امشِ من هنا، إننا لا نجد ما نأكله، فمن أين لنا أن نعطيك أجرة؟!

أحسَّ «تختخ» بخيبة أمل شديدة، ولكنه لم يتراجع، بل ظل واقفًا بجوار السيدة ينتظر فرصةً أخرى للحديث، وقد جاءت الفرصة بأسرع ممَّا كان يتوقَّع؛ فقد حضر المهرِّج في ملابسه الزاهية، ووقف يتحدَّث مع «لعبة» حديثًا هامسًا، فحاول «تختخ» الاستماع إلى الحديث؛ لعله يستفيد منه. ولفت ذلك نظر السيدة العجوز التي صاحت في وجهه: قلت لك امشِ من هنا، وإلَّا كسرت عظامك.

التفت المهرِّج ناحية «تختخ» قائلًا: ماذا حدث؟ لماذا أنت ثائرة؟ تدخَّل «تختخ» قبل أن ترد السيدة وقال: إنني أُريد عملًا معكم؛ فإنني عاطلٌ عن العمل منذ مدة، ولا أجد ما آكله.

قال المهرِّج بابتهاج: ابن حلال، قد هرب الولد الذي يضرب على الطبلة اليوم، وأنا في حاجةٍ إلى ولدٍ آخر، هل تعرف كيف تضرب على الطبلة؟ لم يتردَّد «تختخ» وقال: نعم، أعرف.

المهرِّج: تعالَ معي.

وأمسك بيد «تختخ» وجرَّه مسرعًا إلى الخيمة الصغيرة، ثم علَّق الطبلة في رقبته قائلًا: عليك أن تتابع صوت النفير دقة، ثم دقتَين … ثم دقة … هذا هو كل المطلوب منك.

أراد «تختخ» أن يُثبت أنه جاد فيما يفعل، فقال: وكم سآخذ في اليوم؟ ردَّ المهرِّج ضاحكًا: خذ ما يكفي لأكلك وشربك، عشرة قروش مثلًا. وافق «تختخ» على الأجرة، وسرعان ما اندمج في عمله بحماس، وهو يُفكِّر في الساعات القادمة.

مضت الساعات و«تختخ» يُحس بالتعب أكثر؛ فقد كانت الطبلة ثقيلةً على رقبته، أمَّا العمل فهو مستمرٌّ بصفةٍ دائمة، وكان الولد الذي يضرب النفير في مثل سنه تقريبًا، ودون أن يتكلما أحسَّا أنهما صديقان.

انتهى العمل قرب منتصف الليل، وأحسَّ «تختخ» براحةٍ كبيرة وهو يرفع الطبلة من رقبته ويضعها على الأرض، ويجلس بجوار عازف النفير على الكنبة الخشبية أمام خيمة «السيرك»، وهو يُشاهد الناس ينصرفون إلى منازلهم بعد العرض. تعارفا بسرعة، فقدَّم «تختخ» نفسه إلى الولد على أن اسمه «شطارة»، وكان الولد اسمه «حكشة».

قال «حكشة»: إنني جائعٌ جدًّا، هل معك أي نقود نشتري شيئًا نأكله.

أعطى «تختخ» ﻟ «حكشة» خمسة قروش، فأسرع ليشتري لنفسه ساندويتشًا أخذ يأكله بنهمٍ شديد، وبينما «تختخ» يُراقبه حتى إذا انتهى، سأله «تختخ»: هل تعمل هنا من مدةٍ طويلة؟

حكشة: لا، من أول ما نصبوا «السيرك» هنا في المعادي، وقبل هذا كنت أعمل في الإسكندرية.

تختخ: وما رأيك في هؤلاء الناس؟

حكشة: إن المهرِّج رجلٌ طيب، ولكن السيدة العجوز قاسية جدًّا، وإنها كثيرًا ما تضربني عند أي خطأ.

تختخ: وهل هي قريبة للمهرِّج؟

حكشة: إنها أم «لعبة» و«حسبو»، والمهرِّج خطيبٌ ﻟ «لعبة»، وسوف يتزوَّجان بعد انتهاء العمل في المعادي.

قال «تختخ» في نفسه: إذن فقد تكون هناك صلة قرابة بين «الخنفس» وهذه السيدة العجوز، وغالبًا فإن أحد الثلاثة أو هم معًا، يعرفون مكان «الخنفس»، ولا بد من الاستمرار في العمل معهم لمعرفة مكان المجرم الهارب. المهم الليلةَ أن أرى المهرِّج بلا ملابس تنكُّرية وبلا أصباغ؛ لعله يكون «الخنفس».

خشي «تختخ» أن ينصرف المهرِّج دون أن يراه، فقال ﻟ «حكشة»: إنني أُريد دخول الخيمة التي ينام فيها المهرِّج فهل هذا ممكن؟

حكشة: إنهم لا يُحبُّون أن يدخل عليهم أحد، وعلى كلٍّ سوف يخرجون الآن لتناول الطعام، وتستطيع أن تطلب أجرك من المهرِّج.

مضت نصف ساعة، ثم خرجت «لعبة» في ملابسَ عادية، وتبعها «حسبو»، وثبَّت «تختخ» عينه على باب الخيمة في انتظار ظهور المهرج، ولم ينقضِ وقتٌ طويل حتى شاهده يخرج بلا ملابس تنكُّرية وبلا أصباغ، كانت مفاجأةً محزنة، شعر «تختخ» بعدها بخيبة أمل شديدة، فلم يكن هناك أي علاقة بين شكل المهرِّج الحقيقي وبين «الخنفس»، بل لم يكن بينهما أي شبه … وهكذا ضاع الأمل الذي علَّقه «تختخ» على المهرِّج، فكان عليه أن يُفكِّر في شيءٍ آخر.

كان هناك احتمالٌ كبير في أن يكون «حسبو» و«لعبة» هما ابنا عم «الخنفس»، ولم تكن هناك وسيلة للتأكُّد سوى متابعتهما لحين الوصول إلى مكان «الخنفس»، فسأل «حكشة»: أين ينام هؤلاء؟

حكشة: إن «حسبو» و«لعبة» وأمهما العجوز ينامون في إحدى العربات الملحقة ﺑ «السيرك»، والمهرِّج ينام وحده في خيمةٍ أخرى.

تختخ: وأين تنام أنت؟

حكشة: أنام على هذه الدكة الخشبية التي نجلس عليها.

خلا المكان من الناس بعد قليل، وأخذ «حكشة» يتثاءب، وبعد لحظاتٍ استغرق في النوم، وجلس «تختخ» وحيدًا يتأمَّل ما حوله، كانت هذه أول مرة يرى فيها مدينة الملاهي خالية، وليس هناك سوى الأخشاب والخيم والأوراق الملوَّنة، وأصوات الحيوانات في أقفاصها، واستُغرق «تختخ» في التفكير: ماذا يفعل الآن؟ هل يعود إلى منزله دون أن يستكمل مغامرته؟ لقد عرف شخصية المهرِّج، ولم يعد موضع اشتباه … فمن هو الشخص الذي يمكن أن يشتبه فيه؟ وهل «الخنفس» موجود فعلًا في مدينة الملاهي؟ وإذا كان موجودًا، فأين هو بين عشرات العاملين في المكان؟

أخيرًا قرَّر «تختخ» أن يتجسَّس على «حسبو» و«لعبة» والسيدة العجوز؛ ولعله يسمع من حديثهم ما يدله على مكان «الخنفس». وهكذا ألقى نظرةً على «حكشة»، فوجده مستغرقًا في نومٍ عميق، فقام بهدوء، وأخذ يتجوَّل بين العربات الخشبية حيث نام العاملون، في المدينة المتنقلة دون أن يعرف أين عربة «حسبو».

لم يستمرَّ بحثُ «تختخ» طويلًا؛ فقد قابل سيدةً تجلس أمام إحدى العربات، ومعها طفلها الصغير الذي بكى، فسألها عن عربة «حسبو» فأشارت إليها.

كانت العربة كبقية العربات مصنوعةً من الخشب، ولكن عجلاتها كانت مكسوةً بالخشب من الخارج، فبدت وكأنها منزل من طابقَين. وكان الضوء يخرج من الفتحات التي بين الألواح الخشبية، فعرف «تختخ» أنهما ما زالا ساهرَين، فاقترب بخفةٍ وحاول أن يستمع إلى ما يدور بداخلها من حديث، ولكن العربة كانت مرتفعة، ولم يكن من السهل الاستماع إلى الحديث، فقرَّر أن يصعد على بروزٍ وجده في جانب العربة.

وبهذا استطاع أن يُصبح قريبًا من مصدر الصوت.

سمع «حسبو» يقول: يجب ألَّا نتركه يتدخَّل في حياتنا بهذه الطريقة، لقد أصبح يُسيطر على كل شيء.

لعبة: وماذا نفعل؟ هل نطرده، إننا نحتاج إليه؟

حسبو: نحتاج إليه … إنه …

وقبل أن يسمع «تختخ» بقية الحوار سمع صوت أقدام مسرعة خلفه، فنظر فإذا بالسيدة العجوز تقف خلفه، وقد بدت في عينيَها نظرة مخيفة.

قفز «تختخ» قفزةً سريعة، فأصبح أمامها، فقالت له بصوتٍ خشن: ماذا تفعل هنا؟

لم يجد «تختخ» إجابةً معقولةً لوقوفه بهذا الشكل على جانب العربة، فلم ينطق بحرف!

وظن «تختخ» أن المسألة انتهت عند هذا الحد، وأنه سينصرف، ولكن العجوز رفعت يدها في حركةٍ خاطفة، ثم ضربته ضربةً قويةً في صدره، وصاحت: اذهب إلى الجحيم … امشِ من هنا، لا أُريد أن أراك مرةً أخرى في هذا المكان!

لم يجد «تختخ» أمامه شيئًا يفعله سوى أن يجري مبتعدًا، وهو يلعن غباءه لأنه نسي أن العجوز لم تخرج من خيمة «السيرك». لقد بقيتْ هناك طول الوقت، ثم جاءت لتفاجئه هذه المفاجئة القاسية، وتضربه بهذا العنف الذي لا يتفق مع مظهرها.

لم تصفُ أفكار «تختخ» إلَّا عندما وصل إلى البيت، كان كل شيء هادئًا، فصعد إلى غرفته، وخلع ثياب التنكُّر، ثم جلس يُفكِّر، ويتذكَّر حديث «حسبو» و«لعبة»: من هو الرجل الذي كانا يتحدَّثان عنه؟ هل هو «الخنفس» الذي يتدخَّل في حياتهما، أم هو البهلوان؟ وأسِف كثيرًا لأنه لم يستمع إلى بقية الحديث.

بدأ النوم يغزو رأس «تختخ»، ولكنه قبل أن ينام تذكَّر الخشب الذي يكسو عربة «حسبو» من أسفل، إنها العربة الوحيدة التي تُشبه منزلًا من دورَين، فهل هذا مخبأ؟ هل يختبئ «الخنفس» في أسفل العربة؟

وقبل أن يصل إلى إجابةٍ عن هذه الأسئلة، استسلم للنوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤