نهاية لغز

كان يوم السبت هو نهاية المؤتمر، وقضى الجميع يوم الجمعة في نزهةٍ على الكورنيش وفي الكازينو.

وفي المساء قال «تختخ» ﻟ «نازك»: سأخرج هذه الليلة متنكِّرًا في ثياب رجل عجوز، وأرجو ألَّا تتبعيني، وأعدك أنني غدًا سوف أُقدِّم لك «الخنفس» وأُعيد لك العقد.

قالت «نازك»: ألا تستطيع أن تأخذني معك؟ إنني أنفع أحيانًا كما ترى.

تختخ: لا، إنها مغامرةٌ بسيطة ولا تحتاج إلى مساعدة، إنني فقط أُريد أن أسمع شيئًا ما.

وعندما أقبل الليل ارتدى «تختخ» ثياب رجل عجوز، وأخذ طريقه إلى مدينة الملاهي سائرًا ببطء يتناسب مع مظهره.

أخذ «تختخ» مكانًا قريبًا من العجوز، وجلس يتأمَّلها. لقد قرَّر أن يُراقبها أطول فترة ممكنة؛ فهي أحد الثلاثة الذي يمكن عن طريقهم معرفة مكان «الخنفس»، وكانت ثمة فكرة معيَّنة مسيطرة على رأس «تختخ»، أراد أن يتأكَّد منها.

اقتربت الساعة من منتصف الليل، وانصرف زوَّار المدينة، وظلَّ «تختخ» في مكانه متظاهرًا بالنوم، ولكن الحقيقة أنه كان يرقب العجوز بعينَي الصقر.

عندما انصرف آخر زائر، وبدأت أنوار مدينة الملاهي تُطفأ، حملت العجوز و«لعبة» أقفاص الفئران البيضاء، واتجها ناحية خيمة «السيرك» لمقابلة المهرِّج كما يحدث كل ليلة، وبعد فترة انضمَّ إليهما «حسبو»، واختفَوا جميعًا داخل الخيمة. تحرَّك «تختخ» من مكانه محتميًا بالظلام حتى اقترب من باب الخيمة، وظلَّ واقفًا في انتظار خروجهم، ولم يطلِ انتظاره؛ فقد خرجوا جميعًا بعد أن استبدل المهرِّج ملابسه، واتجهوا ناحية مطعم مدينة الملاهي حيث يتناول الجميع طعامهم.

مرةً أخرى تحرَّك «تختخ»، ووقف مستترًا بالظلام يرقبهم وهم يأكلون، كان مهتمًّا حتى بطعامهم؛ فعن طريق الملاحظة فقط يستطيع أن يتأكَّد من الفكرة التي في رأسه.

ابتسم «تختخ» وهو يرقبهم يتناولون طعامهم؛ فقد كانت فكرته تتأكَّد، وفي النهاية اتجه جميع العاملين إلى أماكن نومهم، فاتجه المهرِّج إلى عربته، واتجه «حسبو» و«لعبة» والعجوز إلى عربتهم، فتبعهم «تختخ» مرةً أخرى، وعندما تأكَّد أنهم دخلوا جميعًا، اقترب بهدوءٍ من العربة ووقف بجوارها يستمع، وقد ركَّز حواسَّه كلها في أذنَيه؛ فقد جاءت اللحظة الحاسمة!

لم يهتمَّ «تختخ» بالحديث الدائر؛ فهو لم يكن يستطيع من مكانه أن يستمع إلى الكلمات الكاملة، ولكنه على كل حال استطاع تمييز الأصوات، وبعد أن وقف نحو نصف ساعة ابتسم ابتسامةً واسعة، ثم أخذ طريقه في الظلام إلى منزله، لقد تمَّ كل شيء، ولم يبقَ إلَّا القبض على «الخنفس».

قضى «تختخ» ليلةً ممتعة؛ فقد نام نومًا عميقًا منذ ألقى نفسه على فراشه، واستيقظ في الصباح الباكر وهو في غاية الانتعاش، وبعد أن أفطر مع الجميع قال للدكتور «الفار»: هل هذا آخر يوم للمؤتمر؟

الدكتور: نعم … هل ستحضر؟

قال «تختخ» وهو ينظر إلى «نازك» نظرةً ذات معنى: نعم … وهل يفوتني أن أحضر نهاية هذا المؤتمر المهم؟

قال الدكتور متعجِّبًا: وهل كان أمر المؤتمر يُهمُّك إلى هذا الحد؟

«تختخ» مبتسمًا: إنه يُهمُّني جدًّا؛ فأنا آسف يا دكتور أن أُبلغك أن أحد العاملين في المؤتمر، لصٌّ خطير هارب من السجن.

فزع الدكتور وهو يستمع إلى هذه الجملة العجيبة، كما التفت والد «تختخ» ووالدته إليه، وقال والده في دهشة: ماذا حدث لك؟! وما هذا التخريف الذي تقوله؟!

قال «تختخ» في هدوء: سوف تكتب الصحف غدًا قصةً كاملة، ولن تكون الأبحاث هي الشيء الوحيد الهام فيها، بل ستكون هناك أيضًا قصة أبرع مجرم في مصر!

ثم انطلق «تختخ» إلى التليفون، واتصل بالمفتش «سامي» الذي قال عندما سمع صوت «تختخ»: ما هي أخبارك؟ لقد سافرتُ في مهمةٍ خارج القاهرة، وعلمتُ أنك اتصلت بي، وقد أخطرني الشاويش «علي» أنك دبَّرت له مقلبًا، وجعلته أضحوكةً أمام عمَّال مدينة الملاهي.

قال «تختخ»: لا وقت للرد على اتهامات الشاويش، وكل ما أرجوه أن تحضر سريعًا؛ لأنني سأضع بين يديك اللص البارع «الخنفس»!

قال المفتش منفعلًا: صحيح؟!

تختخ: طبعًا، وسيعرف الشاويش «علي» أنني لم أكن أخدعه، ولكن سوء الحظ فقط هو السبب.

المفتش: وأين نلتقي؟ ومتى؟

تختخ: في مؤتمر علماء الحيوان المنعقد في المعادي، في الساعة العاشرة تمامًا.

وبعد أن انتهت المكالمة، تحدَّث «تختخ» إلى الأصدقاء، وطلب منهم الحضور إلى نفس المكان، في نفس الموعد.

في الساعة العاشرة كان أمام مبنى المؤتمر تشكيلة عجيبة من الناس يقفون معًا؛ والد «تختخ» ووالدته اللذان اهتمَّا بحديث «تختخ»، والدكتور «الفار» وابنته «نازك»، والمفتش «سامي» ومعه أحد مساعديه، و«مُحب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة»، وغيرهم ممن يُهمُّهم أمر هذا المؤتمر العلمي الكبير.

قال المفتش «سامي» موجِّهًا حديثه إلى «تختخ»: هذا أول لغز يحضر نهايته كل هذا العدد من الأصدقاء، ولعلك تنجح في الحل، وإلَّا كان موقفك صعبًا للغاية.

ابتسم «تختخ» وهو يقول: إنني متأكِّدٌ من الحل يا حضرة المفتش، وإذا لم يحدث شيء غير متوقع؛ فسيقع «الخنفس» بين يدَيك بعد دقائقَ قليلة.

دخل الجميع إلى مبنى المؤتمر، وكان «تختخ» يسير أمامهم، ولم يتردَّد الدكتور «الفار» في أن يتبعهم هو الآخر؛ فقد كان يُريد أن يعرف المجرم الذي تحدَّث عنه «تختخ».

اتجه «تختخ» إلى معرض الحيوانات التابع للمؤتمر، حيث كانت السيدة العجوز تجلس بجوار أقفاص الفئران البيضاء، وعددٌ آخر من الموظفين يجلس بجوار بقية الأقفاص.

ودون كلمة واحدة اتجه «تختخ» إلى السيدة العجوز، فنظرت إليه في عداء، ولدهشة الجميع، مدَّ «تختخ» يده، وجذب شعرها الأبيض الظاهر من تحت الطرحة!

انطلقت عدة صرخات من الحاضرين لهذه القسوة التي أبداها «تختخ»، حتى إن والدته تقدَّمت لتمسك به، ولكن كم كان فزعهم عندما شاهدوا الشعر الأبيض قد خرج وانكشف رأس العجوز عن شعرٍ أسود خشن! وأسرع «تختخ» يقول: هذا هو «الخنفس»، اقبضوا عليه!

ولكن قبل أن يتحرَّك أحد، كانت العجوز — التي تبدو وكأنها عجوز مهدَّمة لا تستطيع السير خطوات — كانت قد انطلقت تجري مسرعة، وقفزت من نافذةٍ تفتح على أحد الدهاليز، وأسرع الجميع خلفها.

كان «تختخ» أول المطاردين، فرأى العجوز وهي تدخل قاعة المؤتمر، حيث كان يجلس عشرات من العلماء والأطباء، انطلقت منهم صيحات الدهشة وهم يرون عجوزًا في ملابسها السوداء، تجري بسرعة هائلة يتبعها ولدٌ سمين لا يكاد يلحق بها!

بينما كانت المطاردة مستمرَّةً داخل مبنى المؤتمر، أسرع المفتش «سامي» إلى الخارج، ووقف هادئًا؛ فقد كان يعرف نتيجة المطاردة مقدَّمًا، وبعد لحظاتٍ فُتح الباب الرئيسي للقاعة، وظهرت العجوز وهي تجري و«تختخ» خلفها والأصدقاء، ولم تكد العجوز تظهر حتى انقضَّ عليها عددٌ من رجال الشرطة، الذين كان المفتش قد أحضرهم من الصباح وأحاطوا بالمبنى.

قال المفتش وهو يتلقَّى «تختخ» بين ذراعَيه: على مهلك ولا داعي للمطاردة. لقد أحضرت رجالي منذ الصباح وأحاطوا بالمبنى، ولم يكن أمام «الخنفس» فرصة للهرب.

كانت العجوز أو «الخنفس» بين يدَي رجال الشرطة، فتقدَّم «تختخ» بهدوءٍ ومدَّ يده، وانتزع قناعًا كان يضعه على وجهه، وتحت القناع ظهر «الخنفس» بوجهه الشرير، «والندبة» بين شفته العليا وأنفه، فقال المفتش: خذوه إلى السجن، وخذوا منه اعترافًا بكل سرقاته، وأين يُخفي المسروقات.

قال «تختخ»: ضمن المسروقات يا حضرة المفتش عقدٌ يخص صديقتنا «نازك»، كان جزءًا من الأدلة التي قادتنا إلى «الخنفس»، صحيحٌ أنه عقد رخيص، ولكنه تذكار من الدكتور «الفار» إلى ابنته الغالية.

نظر الدكتور إلى «نازك»، فاصطبغ وجهها بحمرة الخجل وقالت: معذرةً يا أبي، ولكني أردت أن أُثبت للأصدقاء أنني مغامرة مثلهم.

دعا المفتش الجميع لتناول المرطبات على حسابه في الكازينو، وليستمعوا إلى «تختخ» يشرح لهم كيف توصَّل إلى الاشتباه في العجوز.

كانت نظرات الإعجاب تحيط ﺑ «تختخ» من الجميع وهو يقول: كانت البداية لكمةً قويةً من العجوز، وكنتُ ليلتها متنكِّرًا في شكل ولد متشرِّد يبحث عن عمل، وضبطتني العجوز وأنا أتجسَّس عليهم. لم أُصدِّق أن عجوزًا في السبعين من عمرها تسير بمشقة، يمكن أن تضرب مثل هذه اللكمة القاسية، وأخذتُ أُفكِّر في حقيقتها. ثم كانت بداية الشك هي وجود «حسبو» و«لعبة»، اللذين يعملان معًا في «السيرك»، مع الفئران البيضاء بالذات، والتقرير الخاص ﺑ «الخنفس» جاء فيه أنه متخصصٌ في تدريب هذا النوع من الفئران، وأن له ابن عم وابنة عم يعملان معًا في مدينة الملاهي … ثم العلاقة التي تربطهما بالسيدة العجوز التي تعمل نصف اليوم في المؤتمر، ونصفه الآخر في الملاهي، وعملها في المكانَين متعلقٌ بالفئران البيضاء، ثم كانت ضربة السيدة العجوز القوية، التي جعلتني أشك في شخصيتها.

تبع ذلك وجود المسروقات في العربة الخاصة بهم، ممَّا جعلني أتأكَّد من وجود علاقة معيَّنة تربط هذه المجموعة ﺑ «الخنفس»، إن لم يكن هو شخصيًّا أحد أفرادها.

ثم كان الدليل القوي، وهو ما لاحظته من جمود تعبير وجهها، عندما سألتها فجأةً عن «الخنفس»، وكذلك عندما تحدَّثت أمامها عن عقد اللؤلؤ؛ ففي كل مرة لم يكن يظهر على وجهها أي أثر للانفعال، ومهما يكن الإنسان ثابت الأعصاب فلا بد أن عضلةً أو عصبًا، يتحرَّك في وجهه عند سماع شيء هام، وهكذا فكَّرت في أن يكون «الخنفس» يلبس قناعًا من الجلد الخفيف المغضن، بحيث يُخفي وجهه والندبة التي على الشفة، وهي أكبر دليل عليه.

قال الدكتور «الفار»: أُريد أن أعرف ما دخل عقد ابنتي «نازك» في هذا الموضوع؟

قال «تختخ» ضاحكًا: قد صنعنا منه فخًّا ﻟ «الخنفس». لقد أغريناه أن يتقدَّم لسرقته لنعرفه، ولكنه كان أبرع منا؛ فقد أطفأ أنوار مدينة الملاهي بواسطة أحد أعوانه، ثم خطف العقد من رقبة «نازك» في الظلام، ولكنه وقع في خطأ؛ لقد تمَّت عملية السرقة في ثوانٍ قليلة، ولم يكن من الممكن لأحدٍ أن يسرق العقد إلَّا إذا كان قريبًا جدًّا من «نازك»، ومرةً أخرى ظهرت العجوز في الصورة … فقد كانت قريبةً جدًّا من «نازك» ساعة السرقة، وهذا أعطانا سببًا آخر للتفكير …

وسكت «تختخ» قليلًا وشرب بعض الماء، وأنظار الجميع معلَّقة به، ثم مضى يقول: الدليل الهام عثرت عليه أمس فقط … وكان هو أفضل دليل؛ فقد تبعت «حسبو» و«لعبة» والعجوز، وهم يدخلون إلى عربتهم آخر الليل، وأخذت أستمع إليهم، وبدلًا من أن أسمع صوت رجل واحد هو «حسبو»، وصوت سيدتَين هما «لعبة» والعجوز، سمعت صوت رجلَين هما بالطبع «حسبو» و«الخنفس»، بعد أن ترك صوته على طبيعته ولم يتصنَّع صوت امرأة، وهنا أدركت تمامًا أن العجوز هو «الخنفس»، خاصةً أنه يُجيد تدريب الحيوانات على اللعب، والعجوز تُجيد هذا العمل.

لوزة: ولكن العجوز لم تكن لها يدان معروقتان … أي فيهما عروق بارزة كما ﻟ «الخنفس».

تختخ: ذلك شيءٌ سهل جدًّا؛ لقد كان «الخنفس» يلبس قفَّازًا بلون اللحم تمامًا، كما كان يلبس قناعًا يُخفي وجهه.

لم يكن من الممكن أن ينتهي اللغز دون أن يظهر الشاويش «فرقع»، الذي أقبل مسرعًا ليُحيي المفتش الذي قال له: أرجو أن تذهب فورًا وتقبض على «حسبو» و«لعبة» وتستجوبهما عن مكان المسروقات.

الشاويش: ولكني لم أجد المسروقات التي ادَّعى «تختخ» وجودها.

المفتش: سيقول لك «حسبو» أين أخفاها … أرجو أن تُسرع.

وأسرع الشاويش يجري، في حين كانت «نازك» قد عادت لثرثرتها القديمة، وانهالت على «تختخ» بمزيدٍ من الأسئلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤