الفصل الثامن

وجَّه جون سبيد حديثه إلى ويليام برنتون قائلًا: «لقد نجحنا في وضع ستراتون على بداية الطريق إلى حد كبير، وأعتقد أنه سيتقصَّى الحقيقة في هذه القضية. ولكن، في غضون ذلك، يجب ألا نضيع الوقت. لا بد أنك تتذكر أننا، مع كل قدراتنا على الاستطلاع، لم نتوصل إطلاقًا إلى شيءٍ عن القاتل بأنفسنا. أقترح أن نبدأ في التوصل إلى الحقيقة بأنفسنا على النهج نفسه الذي سيسير ستراتون عليه. ثمة احتمال قوي أن نصل إلى لغز هذه القضية بأكملها بسرعة تفوقه بمراحل. فكما أخبرتك من قبل، أنا رجل لي خبرة بالصحافة إلى حد كبير، ولكن مع كل ما لديَّ من قدرات تؤهلني لدخول أي غرفة في أي منزل، وفي أي مدينة، وفي أي بلد، وملازمة المشتبه به ليلًا ونهارًا في الوقت الذي يستحيل فيه على أي شخصٍ أن يتخيل وجودي بالقرب منه؛ لو مع كل هذه القدرات عجزت عن اكتشاف المرتكب الحقيقي للجريمة قبل أن يصل إليه جورج ستراتون، فلن أشهد مطلقًا أن شيكاجو مَنشئي، أو أن الصحافة مهنتي.»

قال برنتون: «مَن في ظنك الشخص الذي يشتبه ستراتون في كونه مرتكب الجريمة؟ فقد أخبر المأمور بأن اسم القاتل معه في مفكرته.»

قال سبيد: «لا أعرف، لكنَّ ثمة شكوكًا بداخلي. كما تعرف، لديه في مفكرته أسماء جميع المدعُوِّين إلى مأدبة العشاء، لكنه ميَّز اسم ستيفن رولاند بعلامتين. أما اسم الخادمة، فقد حدده بعلامة واحدة. وعليه، أظن أنه يعتقد أن ستيفن رولاند هو مرتكب الجريمة. بالطبع تعرف رولاند؛ ما رأيك فيه؟»

أجابه برنتون، بوجهٍ عابس: «أظنه قادرًا تمامًا على فعلها.»

أضاف سبيد قائلًا: «لكن، لا تزال متحيزًا ضد هذا الرجل؛ ولهذا لا تعتبر شهادتك في حقِّه حيادية.»

أجاب برنتون: «أنا لست متحيزًا ضد أي شخصٍ كان. لكنِّي أعرف ذلك الرجل فحسب. إنه شخصٌ لا يُعرَف إلا بالخسة والجُبن. الأمر الوحيد الذي يجعلني أظن عدم ارتكابه للجريمة، هو أنه شخص أجبن من أن يتحمل العواقب في حال القبض عليه. إنه دنيء وقح، لكنه جبان. لا أظن أن لديه من الشجاعة ما يكفي لارتكاب أي جريمة، حتى إن ظن أنه سينتفع من ورائها.»

«حسنًا، ثمة أمر واحد، يا برنتون، هو أنه لا يمكن اتهامك بمحاباة رجل، ولو كان في ذلك أي عزاء لك إذا عرفته، فيمكنك أن تكون على يقين أن جورج ستراتون على الطريق الصحيح.»

أجاب برنتون، بوجهٍ كئيب: «أتمنى له النجاح بكل تأكيد، وإذا جاء برقبة رولاند إلى المشنقة؛ فلن أندب حزنًا على ما حدث.»

قال سبيد: «أتفهَّم ذلك، لكن الآن علينا أن نستعد ونتخذ خطواتٍ بأنفسنا. هل لديك أي اقتراح؟»

«لا، ليس لديَّ ما أقترحه، باستثناء إمكانية أن نؤدي دور المخبر وتتبُّع رولاند.»

«حسنًا، المشكلة في ذلك أننا سنكرر ما يفعله ستراتون نفسه لا أكثر. والآن، سأخبرك باقتراحي. لنفترض أننا طلبنا النصح من ليكوك.»

«مَن هو ليكوك؟ أتقصد الروائي؟»

«روائي؟! لا أظنه كتب من قبلُ أي روايات، لا أتذكر هذه النقطة.»

«أوه، لم أكن أعرف. خُيِّل إليَّ أني تذكرت اسمه مرتبطًا برواية ما.»

«من المرجَّح للغاية أن تكون مُحقًّا. لم أعرف للقصص البوليسية بطلًا أكثر شهرةً منه. لقد كان أعظم محقق فرنسي.»

«ماذا قلت؟! هل مات، إذن؟»

«مات؟! ليس كذلك، إنه هنا معنا. معذرةً، فهمت ما تقصد. نعم، إنه ميت، من وجهة نظرك.»

«أين يمكن أن نجده؟»

«حسنًا، أظنه في باريس. إنه شخص من الطراز الأول يستحق أن تتعرف عليه، على أي حال، ويقضي أغلب وقته حول الأماكن التي كان يتردد عليها قديمًا. في الحقيقة، إذا أردت أن تضمن العثور على ليكوك، فستجده عمومًا أثناء ساعات العمل في الغرفة التي اعتاد التردد عليها وهو في باريس.»

«لنذهب ونقابله، إذن.»

قال سبيد، بعد برهة: «سيد ليكوك، أريد أن أقدِّم لك السيد برنتون، وافد جديد انضم إلينا مؤخرًا من سينسيناتي.»

قال الرجل الفرنسي: «آه، عزيزي سبيد. يسعدني حقًّا أن ألتقي بأي صديقٍ لك. كيف حال شيكاجو الرائعة، باريس الثانية، وكيف تسير جولتك؟ أعظم جولةٍ في العالم، على ما أظن.»

قال سبيد: «حسنًا، تسير وفق ترتيب جيد نوعًا ما، تجوَّلنا من شيكاجو إلى باريس هنا في زمن أقصر كثيرًا مما تستغرقه الرحلة عادةً في الدنيا. إذن، هل لك أن تمنحنا قليلًا من الوقت أم أنك مشغولٌ الآن؟»

«عزيزي سبيد، أنا دائمًا مشغول. طبعي كطبع الناس في باريس الثانية. لا أُضيِّع وقتي، لكن لديَّ دائمًا متسع من الوقت لأتحدث مع أصدقائي.»

قال سبيد: «وهو كذلك. أنا مثل أهل شيكاجو الثانية، لديَّ عمومًا نزعة للمرح والاستمتاع أكثر من العمل، ولكن، رغم ذلك، أقصدك في مهمة عمل.»

سأل ليكوك: «شيكاجو الثانية؟ وأين هي، هلَّا أخبرتني؟»

قال سبيد: «عجبًا! في باريس، بالطبع.»

ضحك ليكوك.

«لا إصلاح يُرجى منكم، يا أهل شيكاجو. وما المهمة التي تقصدني فيها؟»

«مهمتك القديمة، يا سيدي. لُغز يحتاج إلى فكِّ خيوطه. وجاء السيد برنتون إلى هنا راجيًا الاستعانة بخدماتك في قضيته.»

فكان ردُّه: «وما قضيته؟»

بدت السعادة واضحةً على ليكوك لحصوله على مهمة عملٍ حقيقية.

figure
المحقق.

سرد سبيد بإيجاز أحداث القضية، وكان برنتون يتدخَّل من حينٍ لآخر ليصحح له بعض النقاط التي يخطئ فيها. بدا سبيد يعتقد أن هذه النقاط غير جوهرية، لكن ليكوك أخبره بأن سر العمل البوليسي كله يكمن في الالتفات إلى التفاصيل البسيطة.

قال ليكوك، في حزن: «حسنًا، لا توجد معضلة حقيقية في فك خيوط ذلك اللغز. كنت أتمنى لو أنها قضية عسيرة، لكن، كما تعلم، من واقع خبرتي في العالم القديم، ومع الامتيازات التي يتمتَّع الفرد مِنَّا بها في هذا العالم؛ فإن الأمور التي قد تستعصي على أهل الدنيا تبدو لنا يسيرةً للغاية. والآن، سأوضِّح لكما مدى بساطة الأمر.»

صاح سبيد: «يا إلهي! قطعًا لا تقصد من كلامك أنك ستفسر اللغز، هكذا، دون أدنى تردد، في الوقت الذي أنهكنا أنفسنا فيه طويلًا، ودون أن نفلح؟»

رد المحقق الفرنسي: «في الوقت الحالي، لستُ مستعدًّا لأن أُقر بمرتكب هذه الجريمة. هذه مسألة تفاصيل. والآن، لنرَ ما نعرف، ونصل منه، إلى ما لا نعرف. الحقيقة الوحيدة التي نحن على يقين منها بناءً على إفادة الطبيبَين من سينسيناتي، هي أن السيد برنتون مات مسمَّمًا.»

قال سبيد: «حسنًا، ثمة وقائع أخرى كثيرة أيضًا. ثمة واقعة أخرى؛ اتهام زوجة السيد برنتون بارتكاب الجريمة.»

قال ليكوك: «سيدي العزيز، هذا أمر لا شأن له بما نحن بصدده الآن.»

قال سبيد: «أجل، أتفق معك. بل أراه بلا أي صلة تمامًا.»

قطَّب برنتون جبينه لِما سمعه، وطفا على السطح من جديد استياؤه القديم من تطاول ذلك الرجل من شيكاجو.

واصل الرجل الفرنسي تدوين النقاط على سبَّابته الطويلة.

«والآن، ثمة طريقان ربما كان أحدهما سببًا في وقوع ما حدث. أولهما، أن يكون السيد برنتون هو من تناول السم بنفسه، وثانيهما، أن شخصًا ما قد وضع له السم.»

قال سبيد: «هذا صحيح، وثالثهما، أن السم ربما وُضِع عن طريق الخطأ، يبدو أنك لم تضع هذا الاحتمال في الحُسبان.»

أجابه الفرنسي بهدوء: «لم أضعه في الحسبان نظرًا لاستبعاد حدوثه. لو كان هناك أي مصادفات في الأمر؛ كأن يكون هناك سم في السكر، على سبيل المثال، أو في بعض أصناف الطعام المقدَّمة؛ لأُصيب آخرون بالتسمم خلاف السيد برنتون. وحقيقة أن شخصًا واحدًا من بين ستة وعشرين آخرين قد مات مسمومًا، وحقيقة أن هناك كثيرين سوف ينتفعون من موته، تشيران، من وجهة نظري، إلى وجود جريمة قتل عمد، ولكن حتى نتثبَّت من هذا، سأوجِّه إلى السيد برنتون سؤالًا. سيدي الفاضل، هل تناولت هذا السُّمَّ بنفسك؟»

أجاب برنتون: «قطعًا لا.»

«إذن، فنحن أمام حقيقتين. أولهما، أن السيد برنتون مات مسمومًا، والثانية، أن مَن سممه هو شخص له مصلحة في موته. سنبدأ الآن. عندما جلس السيد برنتون على العشاء كان في حالة جيدة تمامًا. وعندما نهض من ذلك العشاء كان يشعر بإعياء. ولهذا ذهب إلى الفراش. لم يرَ أي شخص آخر سوى زوجته بعدما غادر مائدة العشاء، ولم يتناول أي شيء في الفترة بين مغادرته لمائدة العشاء واللحظة التي غاب فيها عن الوعي. وعليه، لا بد حتمًا أن السم قد وُضِع للسيد برنتون وهو على مائدة العشاء. هل أنا مُخطئ؟»

أجاب سبيد: «لا، على ما يبدو أنك مُحق.»

«على ما يبدو؟! عجبًا! الأمر واضحٌ وضوح الشمس. لا يمكن أن يكون ثمة أي خطأ.»

قال سبيد: «لا بأس، أكمل. ماذا حدث بعد؟»

«ماذا حدث بعد؟ اجتمع على المائدة ستة وعشرون شخصًا، إضافةً إلى خادمتين لخدمتهم، وبذلك يصبح إجمالي العدد ثمانيةً وعشرين. أظنك قلت إنه كان هناك ستة وعشرون شخصًا، من بينهم السيد برنتون.»

«هذا صحيح.»

«عظيم. هناك شخصٌ واحد من بين أولئك السبعة والعشرين هو من سمم السيد برنتون. هل تتابعان معي تسلسل الأحداث؟»

أجاب سبيد: «نعم، نتابع معك بكل دقةٍ مثلما كنت أنت تتتبَّع أثر مجرم! استمر.»

«عظيم، ثمة أمور كثيرة واضحة. كل ما سبق حقائق وقعت، وليست نظريات. الآن، ما الشيء الذي عليَّ أن أفعله لو كنت في سينسيناتي؟ كنت سأبحث إذا ما كان ضيفٌ واحد أو أكثر قد استفاد بأي شيءٍ من موت مضيفهم. بعد ذلك، كنت سأتتبع المشتبه فيهم. وكنت سأطلب من رجالي أن يتحققوا مما فعله كل شخص مشتبه فيه قبل وقت وقوع الجريمة بشهر. لا بد أن يكون مرتكب الجريمة، أيًّا كانت هُويته، قد قام ببعض التحضيرات قبل الإقدام على فعلته. وفعل ذلك الشخص شيئًا آخر، أيضًا، كما تقولون، في أمريكا ليطمس آثاره. عظيم للغاية. يمكن تتبُّع هذه التحركات بسهولةٍ ويسر بواسطة محقق فطن. لعلي أُعيِّن في الحال سبعةً وعشرين شخصًا من أفضل مَن أعرف من الرجال لاقتفاء أثر أولئك السبعة والعشرين شخصًا.»

علَّق ذلك الرجل من شيكاجو: «أرى ذلك تتبعًا لظلِّهم إلى حدٍّ بعيد.»

«سيكون الأمر سهلًا للغاية. فالشخص الذي ارتكب الجريمة من المؤكد أنه، عندما ينفرد بنفسه في غرفته، يقول شيئًا، أو يفعل شيئًا، من شأنه أن يبيِّن للمخبر التابع لي أنه المجرم. ولهذا، أيها السادة، إذا أخبرتموني من هم أولئك السبعة والعشرون شخصًا؛ فسأخبركم مَنْ دسَّ السم للسيد برنتون، في غضون ثلاثة أيام أو أسبوع من الآن.»

قال سبيد: «يبدو أنك على يقين تام من ذلك.»

«على يقين من ذلك؟! الأمر تافه للغاية. إنها مجرد مسألة وقت. إذا وُجد خلال المحاكمة، على سبيل المثال، أن السيدة برنتون مذنبة، وصدر ضدها حُكم، فالطرف المذنب، بلا شك، سوف يصدر منه شيء يكشفه بمجرد أن يختلي بنفسه. فلو كان رجلًا يرغب في الزواج من السيدة برنتون، فسيجتاحه الحزن لما حدث. سيعتصر يديه ويحاول أن يفكر فيما يمكن فعله ليحُول دون تنفيذ الحكم. سيحاور نفسه ليرى إذا ما كان من الأحرى أن يُسلِّم نفسه ويعترف بالحقيقة، وإذا كان جبانًا، فسيصل إلى قناعة في داخله بأن يحجم عن فعل ذلك، ولكن سيحاول الحصول لها على عفو، أو على الأقل تخفيف حكم الإعدام إلى السجن المؤبد. ربما سيظهر بين عامة الناس هادئًا رابط الجأش، ولكن عندما يدخل غرفته، ويغلق بابه، ويطمئن أن أحدًا لن يراه، ويظن أنه بمفرده، حينها فقط سيحاسب نفسه. حينئذٍ ستخونه عواطفه ومشاعره. الأمر تافه للغاية، كما أخبرتكم، وقبل النطق بالحكم بفترة طويلة، سأخبركم باسم القاتل.»

قال سبيد: «رائع، متفقون إذن؛ سنلقاك في غضون أسبوع من الآن.»

figure
جين مورتون.

قال ليكوك: «يؤلمني أن أزعجتكما. لكن ما إن يصلني التقرير من رجالي، فسأتواصل معكما وسأطلعكما على النتائج. وخلال أيامٍ معدودات، سأخبركما باسم القاتل.»

رد سبيد: «إلى اللقاء، إذن، حتى أراك مجددًا.» وعندئذٍ غادر سبيد وبرنتون.

قال برنتون: «يبدو واثقًا تمامًا من نفسه.»

«سينفِّذ ما يقوله، بإمكانك الاعتماد على ذلك.»

لم يكن الأسبوع قد انقضى بعدُ عندما التقى السيد ليكوك بالسيد جون سبيد في شيكاجو.

قال السيد سبيد: «يُخيَّل لي من نظرة الرضا التي تشع من وجهك، أنك قد نجحت في حل اللغز.»

أجاب الفرنسي: «إذا كانت هيئتي تعكس شعورًا بالرضا، فهذا خطأ غير مقصود.»

«ألم تتوصل إذن لأي شيء؟»

«على النقيض، الأمر واضح تمامًا كمبانيكم الضخمة هنا. عدم رضائي ليس نابعًا من ذلك السبب، وإنما لأن اللغز بسيط لدرجة أن من السفاهة أن أشعر بالرضا بسببه.»

«مَن الشخص إذن؟»

رد الفرنسي: «القاتل هو شخصٌ يبدو أنه لم يخطر ببال أحد، ولكنه الشخص الذي كان من الواجب أن تحوم الشكوك حوله من البداية. الشخص الذي نال شرف قتل السيد برنتون مسمومًا ليس سوى الخادمة، جين مورتون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤