الفصل الثاني

الفكر النظري (الرد على الدهريين) (التوحيد)

(١) النقد النظري

الرد على الدهريين إجابة على سؤال من أحد القراء في الهند عن معنى لفظ «نيتشر» السائد في الأقطار الهندية. فالسؤال محلي حول موضوع محلي وليس سؤالًا عن المذهب الطبيعي Naturalism الغربي. والسؤال طويل ومركب ومتعدد الجوانب، عن حقيقة المذهب الطبيعي كما شاع في الهند وعن الطبائعيين، وهل يمكن أن يكون المذهب عماد المدنية؟ وما قصده؟ وهل ينافي مقاصد أصول الدين أو يعارضها؟ وما علاقة هذا المذهب بمطلق الدين في عالم المدنية؟ وماذا كانت صورة المذهب قديمًا؟ ومَن هم دعاته الآن؟ ولماذا ينتشرون؟ وما الغاية من ذلك کله؟١
والحقيقة أنه لما استقر الاستعمار في الهند شجع الإنجليز أحمد خان بهادور، وهو لقبٌ تعظيمي في الهند، من صنيعتهم لخلع دين المسلمين، والتدين بمذهب الإنجليز. فألَّف كتابًا يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لإرضاء الإنجليز. ثم قال بالمذهب الدهري. فلا وجود إلا للطبيعة العمياء دون إله حكيم. وجميع الأنبياء كانوا طبيعيِّين ومن ثم يمكن التخلص من الشرع وبالتالي من الجهاد، ودفع المسلمين إلى الشهوات والحياة الدنيا. وبنى الإنجليز له مدرسة عليكرة، مدرسة المحمديين لنشر الدعوة. فأوروبا لم تتقدم إلا بالمذهب الطبيعي. وقد كافأه الإنجليز بتعيين ابنه مولوي محمود عضوًا في مجلس قرية من قرى الهند لا يزيد حجمها على شبراخيت في مصر. ووعدوا كلَّ من اتبعوه بتعيينهم في وظائف الحكومة. وهو دجال آخر الزمان، يهدف إلى محو الإسلام في الهند. فالدهریون هم جيش الحكومة الإنجليزية في الهند. واستمر تلميذه الأول سميع الله خان في تضليل المسلمين، وكان صديقًا للورد نورثبروك الذي كان يعمل على تنفير المصريين من الدولة العثمانية.٢
وقد كتب الكتاب بالهندية والفارسية. لا ينقسم إلى فصول أو أبواب كما هو الحال في التأليف الحديث، بل إلى عدة مطالب غير مرقمة أو مرتبة وخاتمة للكتاب. تشمل عرضًا تاريخيًّا للمذهب وفِرَقه، وهو الجزء الأصغر ثم أربعة عشر مطلبًا في خطورته على الأديان والرد عليه، وهو الجزء الأكبر، أربعة أضعاف الجزء الأول وهو ما يتفق مع عنوان الكتاب.٣
وهو مذهب ظهر في اليونان في القرنَين الرابع والثالث قبل الميلاد، يهدف في رأي الأفغاني إلى محو الأديان ووضْع أسس الإباحة والاشتراك في الأموال والأبضاع بين الناس. ففسدت الأخلاق وانهارَت الأمم، أي إنه قضى على الطبيعة والمجتمع، وفسدَت المدنية، ونقضَت الهيئة الاجتماعية الإنسانية، والدين هو أساس النظام الاجتماعي والتمدن. فالمذهب ضد الدين وضد أي تنظيم على أساس ديني.٤ فواضح من هذا التعريف أن العرض الموضوعي يشمل النقد بل يتجاوز النقد العرض الموضوعي. لا يتجاوز العرض نشأته التاريخية مكانًا وزمانًا ثم بعد ذلك يبتلع النقد العرض. والنقد كله يقوم على أساس خطورته على الدين وقضائه عليه؛ لأن الدين أساس المجتمع. فالمذهب يمحو الدين وبالتالي يقضي على المجتمع ويكون سببَ انهياره في التاريخ. وهو النقد الشعبي الرائج في الصحف الدينية المحافظة التي تعتبر كلَّ تفكير في المادة وكلَّ تنظيم اجتماعي يقوم على الشراكة مادية وإلحادًا، نقد رجال الدين للمذهب الطبيعي وهو ما زال سائدًا حتى الآن، وليس نقد العلماء من داخل المذهب في مقدماته ونتائجه وحججه واستدلالاته وبراهينه.٥
ومنذ تاريخ اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد وُجد تياران: الأول تيار إلهي يُثبت وجود ذات مجردة عن المادة والزمان، مخالفة للمحسوسات في صفاتها، منزهة عن صفات الجسم وأعراضه، واحدة منزهة عن التأليف والتركيب، وجودها ذاتها وذاتها وجودها. وهي المصدر الأول والمبدع لكل الكائنات. ويعرف أنصار هذا التيار باسم المتألهين، أي الخاضعين لله، مثل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، والثاني طبيعي لا يثبت إلا المادة المدركة بالحس، ولا يوجد شيء وراءها. لذلك سُميَ أنصار هذا المذهب باسم الماديين، والمذهب نفسه بالمادية Marérialisme. المادة طبيعة، والطبيعة مادة. يرجع اختلاف خواصها إلى طبيعتها. ويسمى أيضًا المذهب الطبيعي. ويعربه الأفغاني ويسميه ناتورالیزم Naturalisme كشيخ تعلَّم اللغات الأجنبية على كبر. يذكرها أيضًا بالفرنسية «ناتير» وبالإنجليزية «نيتشر» وبالألمانية «ناتور». وعرف أيضًا عند العرب باسم الطبيعيين والأصح الطبائعيين الذين يقولون بالطبائع مثل أصحاب الطبائع من المعتزلة والنظَّام والجاحظ ومعمر بن عباد، وهشام بن الأشرس.٦

والحقيقة أن هذا التصنيف الثنائي للمذاهب غيرُ دقيق بالرغم من شيوعه في الكتب الثانوية والثقافة الفلسفية الشعبية الشائعة لتثقيف العامة. فالمتألهون ليسوا هم الخاضعين لله بل المثبتون لله؛ لأن الأفغاني لا يفرق ضمنًا بين الإيمان والعمل، بين الفكر والسلوك. فمَن يُثبت وجود الله يكون بالضرورة مطيعًا له. كما أن وضع أفلاطون وأرسطو معًا في نفس المذهب الإلهي غير دقيق. أفلاطون إلهي وأرسطو طبيعي. صحيح أن الأول يقول بالمثال المجرد ولكن الثاني يقول بالطبيعة التي تتجه نحو الكمال. الأول لا يقول بالخلق بل بالصنعة ربما من مادة أولى قديمة، والثاني يقول بالمحرك الذي لا يتحرك، ويحركه الله نحو العالم بالعشق. كما أن فيثاغورس وسقراط وأفلاطون يسيرون في نفس الاتجاه، إثبات المعنى المستقل عن المادة، سواء كانت المعاني الرياضية مثل فيثاغورس أو الأخلاقية مثل سقراط أو الفلسفية مثل أفلاطون.

وينقسم أنصار المذهب الطبيعي إلى خمس فِرَق في تكوين العالم، الكواكب والحيوان والذبات على النحو الآتي:

  • (١)
    تكوين العالمَين العلوي والسفلي عن طريق الصدفة والاتفاق، والترجيح بلا مرجح، وهو في رأي الأفغاني يناقض بداهة العقل. وأهم ممثل لهذه الفرقة ديموقريطس. فالعالَم مكونٌ من أجزاء صغيرة صلبة متحركة بالطبع، ومن حركاتها تظهر الأجسام وهيئاتها بقضاء العماء المطلق. وواضح أن الأفغاني لا يصبر على العرض كي يستوفيَه معه بل يُسرع بالنقد في أول العرض ويعتبره مناقضًا لبداهة العقل، ويعني به قواعد الإيمان. فقد يرى آخر أنه متفق مع العقل الطبيعي. وهو المذهب الذي كتب فيه ماركس رسالته للدكتوراه معتبرًا إياه مؤسس المادية الأولى. ويسمي الأفغاني العماء العماية. كما يسمي الحتمية القضاء، وهي ألفاظ إسلامية تكشف عن قراءة الآخر بمصطلحات الأنا طبقًا لقواعد التشكل الكاذب، جدل اللفظ والمعنى في الالتقاء الحضاري، التعبير عن مضمون الأنا بلفظ الآخر أو التعبير عن مضمون الآخر بلفظ الأنا.٧
  • (٢)

    الأجرام السماوية والكرة الأرضية على حقيقتها منذ الأزل ولا تزال، لا بداية لها. وكل شيء لاحِق مكنون في السابق، الشجرة في البذرة، والثمرة في الشجرة، والكائن الحي في الخلية إلى ما لا نهاية. فالمقادير اللامتناهية توجد في المقادير المتناهية. وهي نظرية الكمون والطفرة الشهيرة التي قال بها النظام وأقرانه من أصحاب الطبائع. وهو رأي لا يتناقض مع القرآن في وصف تطور الجنين في رحم الأم من العلقة فالمضغة إلى عظام إلى لحم. والأفغاني لا يعلق عليه ولا ينقده.

  • (٣)

    النبات والحيوان قديمان بالنوع، والأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص. ولا شيء من الجراثيم الأولى قديمة بل محدثة. قالب سابق يتكون فيه اللاحق. وينقد الأفغاني هذه الفرقة الثالثة بأن كامل الخلقة قد ينتج عن ناقص الخلقة، وأن ناقص الخلقة قد ينتج عن كامل الخلقة، وهو رأي وسط بين القدم والحدوث. فالأجرام السماوية قديمة بالشخص والحيوان قديم بالنوع ولكن الجراثيم الأولى محدثة. وهو ما يصعب فهمه. وحجة الأفغاني، خروج الكامل من الناقص والناقص من الكامل غير حاسمة في نقد هذه الفرقة الثالثة.

  • (٤)

    إثبات التطور مع الإيهام بالبيان. فأنواع الحيوان والنبات تقلَّبَت على أطوار، وتبدَّلَت على أدوار على مرِّ الزمان حتى وصلت إلى هيئاتها الآن. وهو رأيُ أبيقور أحد أتباع ديوجينس الكلبي؛ فقد كان الإنسان في بعض أطواره مثل الخنزير ذي شعر كثيف، ثم تطور حتى وصل إلى صورته الحسنى التي هو عليها الآن. ولا يوجد برهان على ذلك في رأي الأفغاني مع أن أصحاب نظرية التطور يعطون عشرات البراهين في وصف تطور الكائنات الحية لبيان اتصالها حتى ولو كانت هناك بعض الحلقات المفقودة؛ فالعلم الطبيعي وتطور الأحياء قادرٌ على اكتشافها بمزيد البحث والاستقصاء. ولا يوضح الأفغاني إذا كانت هذه الفرقة مستقلة أم أنها فرعٌ من الفرقة الثالثة.

  • (٥)
    القول بالحدوث عند الماديِّين المتأخرين بعد أن بيَّن علمُ الجيولوجيا، علم طبقات الأرض، بطلانَ قِدَم الأنواع، ثم اختلف أنصار هذا الرأي في موضوعين: الأول تكوين الجراثيم النباتية والحيوانية؛ فالبعض يرى أن تكوين الجراثيم جاء نتيجةَ تناقصِ التهاب الأرض ثم انتهى هذا التكوين بنهاية التطور. والبعض الآخر يرى أن تكوين الجراثيم ما زال متصلًا حتى الآن خاصة في خط الاستواء حيث تشتدُّ الحرارة. وينقد الأفغاني رأيَ الفريقين لعجزهما عن بيانِ سببِ حياة هذه الجراثيم النباتية والحيوانية خاصة بعد ما تبيَّن أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، يوجب التئامها، وتحفظ تكوينها، وأن القوة الغاذية هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيًّا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة ضَعُف تماسكُ البسائط وتجاذبُها فصارت إلى الانحلال، وقد ظنَّ فريقٌ ثالث أن هذه الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن الشمس، وهو ما لا يتفق مع القول بأن الأرض كانت جزءًا ملتهبًا من الشمس مما يؤدي إلى احتراق هذه الجراثيم وصِوَرها في النار.٨
والثاني موضوع الخلاف هو التحول من النقص إلى الكمال؛ فالبعض يرى أن لكل نوع جرثومة، ولكل جرثومة طبيعة تميل إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجذب ما يلائمها من الأجزاء غير الحية ليصير جزءًا لها بالتغذية، ثم تملؤه بلباس نوعه. وينقد الأفغاني هذا الرأيَ بعلم الكيمياء وإثباته أنه لا فرق بين نطفة الإنسان ونطفة الحيوان، وبتماثل النطفة في العناصر البسيطة، وبالتالي بالعجز عن تفسير التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها. والبعض الآخر يرى أن جراثيم الأنواع خاصة الحيوانية متماثلة في الجواهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالفٌ جوهريٌّ ولا انفصال ذاتي، وبالتالي يجوز الانتقال من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان وحكم الحاجة والضرورة وقضاء سلطان القسر الخارجي. ويمثِّل دارون هذا الرأيَ في أصل الأنواع. فأصل الإنسان قرد ثم عرض له التنقيح والتهذيب للصورة بالتدريج على توالي الأزمان وبتأثير العوامل الخارجية حتى ارتقى إلى درجة يسميها الأفغاني برزخ أو ران أو ثان، وهو لفظ قرآني صوفي، وهو نوع من القردة العليا حتى وصل إلى صورة الإنسان الأول، البمبم وسائر الزنوج، ثم إلى الإنسان القوقازي، ويسخر الأفغاني من ذلك بأنه طبقًا لهذه النظرية يمكن أن يكون البرغوث فيلًا بمرور الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثًا. فالتطور تقدمٌ ونكوص، ارتقاء ورجوع. وهي حجة خطابية؛ لأن التطور يخضع لقانون. كما يسأل الأفغاني دارون عن سبب اختلاف الأشجار في بقعة واحدة وزمان واحد، تُروَى بماء واحد وفي طينة واحدة، وسبب اختلاف أشكال الأسماك في بحيرة واحدة وطعام واحد ومياه واحدة، واختلاف أشكال الحيوانات وهي تعيش في منطقة واحدة. ويسأل عن العلة الفاعلة لهذه الجراثيم في استكمالها الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة والإبداع، لكلٍّ منها وظيفة محددة. كيف يمكن إرجاع ذلك إلى الضرورة العمياء دون إرادة واعية مريدة قاصدة؟ ويرى الأفغاني أن العجز عن الرد على هذه التساؤلات يجعل نظريةَ التطور مجردَ جهل ووهم وخرافة مثل المشابهة الواهية بين الإنسان والقرد التي هي مجردُ عماية وحيرة، والحقيقة أن الأفغاني هو الذي يتحول من العلم إلى الدين عن طريق تشخيص العلل الطبيعية وتحويلها من قوانين ثابتة إلى إرادة مشخصة عالمة قادرة مريدة كما هو الحال في علم الكلام التقليدي في الأدلة على وجود الله. كما يحاول دارون تفسيرَ اختلاف الخيل في سيبريا والبلاد الروسية؛ لأنها أغزر شعرًا من الخيل في البلاد العربية مستعملًا نظرية التطور. والسبب في ذلك في رأي الأفغاني هو البيئة الجغرافية وحاجة الخيل في البلاد الباردة إلى شعر يُدفئها. وهو نفس السبب لكثرة النبات وقلته لكثرة الأمطار أو ندرتها، وكذلك السمنة في البلاد الباردة والنحافة في البلاد الحارة طبقًا لدرجات الحرارة. كما ينقد الأفغاني ساخرًا نظرية التطور الهاوية بأن مَن يقطع ذَنَب كلب عدة قرون تتولد الكلاب بلا أذناب بعد أن تكتسب الصفاتِ الوراثيةَ، ولأنه لم تَعُد للذَّنَب حاجة في الطبيعة فاستغنت عنه مع أن الختان موجود منذ آلاف السنين عند العبرانيين والعرب ولم يُولد إنسان مختنًا.٩ ويستعمل الأفغاني أسلوبَ الحجاج التقليدي في علم الكلام، ويتخيل المعترض ويردُّ عليه سلفًا بطريقة فإن قيل … قال. ولا يتعرض الأفغاني للنقد الرئيسي لنتائج نظرية التطور على الأجناس البشرية وهي العنصرية التي تجعل الإنسان الأبيض أكثر رقيًّا من الزنجي، وتجعل الزنجي وسطًا بين الإنسان والحيوان.
وبالإضافة إلى كثرة التقسيمات والتعريفات للفِرَق التي تقول بنظرية التطور على طريقة الفِرَق الكلامية القديمة فإن الأفغاني يفرِّق بين رأي المتقدمين والمتأخرين من أنصار نظرية التطور؛ إذ رفض المتأخرون رأيَ المتقدمين نظرًا لاستحالةِ خلوِّ المادة من الشعور لتفسير هذا النظام المتقن والهيئات البديعة. وجعلوا للكون العلوي والسفلي علةً مركبة من ثلاثة أشياء: المادة (ماتيير)، والقوة (فورس)، والعقل (إنتليجانس)، أو الإدراك بترجمة الأفغاني الحرة أو المعربة. وباجتماع هذه القوى الثلاث تتجلى الأشكال والهيئات الحية النباتية والحيوانية نظرًا لما يلابسها من شعور يؤدي إلى البقاء الشخصي وحفظ النوع. ثم تظهر الأعضاء والآلات لأداء الوظائف الشخصية والنوعية بالتعامل مع الأزمنة والأمكنة وفصول السنة. ويرى الأفغاني أن هذا هو أفضل ما هو موجود في المذهب المادي، الجمع بين المادة والشعور. وهو أيضًا أبعد عن العقل والمنطق وأقرب إلى الوهم. فإذا كانت المادة مكونة من أجسام أو ذرات على رأي ديموقريطس فإن هذا الرأي الجديد، الجمع بين المادة والشعور، لا ينطبق على علة تركيب الأجسام في النظام الكوني؛ إذ يلزم عن هذا الرأي، شعور المادة، أن يكون لكل جزء شعورٌ أو قوة يتمايز به عن سائر الأجسام؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد بمحلَّين كما يقول قدماء المتكلمين. فلا يقوم علم واحد بجزأين أو أجزاء. وكيف يطَّلع كلُّ جزء على مقاصد الأجزاء الأخرى؟ كيف يفهمها؟ وأي جماعة: جماعة، برلمان، مجلس شورى أو سنات (مجلس شيوخ) تشاور لإبداع هذه المكونات المركبة على غاية الإبداع؟ وكيف تعلم الأجزاء ضرورة تكونها في هيئة طير يأكل الحبوب أو اللحوم؟ وكيف تعلم أنها ستكون ذكرًا أم أنثى، بحلمة واحدة أو بحلمات؟ وكيف تُدرك حاجاتها إلى الأجزاء الأخرى؟ ولا سبيل إلى الإجابة على هذه التساؤلات إلا بإعلان العجز والحيرة والتردد والجهل، لزم إذن علمُ كلِّ جزء بباقي الأجزاء العلوية والسفلية مراعاةً لنظام الكون حتى لا يقعَ الخلل فيه نظرًا لقيام العالم على ناموس واحد. وكيف يكون لكل جزء أبعادٌ غير متناهية ولا يدرك ولا بالمجهر؟ وإذا كان العلم مجردَ ارتسام الصورة المعلومة في ذات العالم المادي، وهي صورة غير متناهية مع أن الأجسام متناهية، فإن ذلك يناقض العقل. وإذا كانت الأجزاء على درجة من العلم والقوة فلِمَ تُصاب الكائنات بالآلام والعناء للتخلص منها؟ لماذا عجز الإنسان والحيوان عن الحفاظ على حياتهما؟ ولا يُجيب الأفغاني على هذه التساؤلات ولكنه ينتهي إلى أن هذا المذهب خرافة وأملَته الحيرة. ولا يفسر مبدآه، الطبع والشعور، أيَّ شيء. وهما مبدآن متناقضان؛ إذ كيف يكون شيئان مختلفَين في الخواص ومتماثلَين في العناصر؟ افتراض الأجزاء إذن رجمٌ بالغيب، ولا سبيل إلا أن تكون مختلفة لتفسير اختلاف الخواص. وتؤدي هذه المذاهب كلها إلى إنكار الألوهية. أنصارها كالخلابيص، يقومون بحركات لإضحاك الناظرين، ويقدمون شيئًا لا نظام له. فهم لا علمَ ولا إنسانية لهم، بعيدون عن مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض. ليس المقصود التشنيع عليهم بل إظهار الحق وكشف الواقع.١٠

ونظرية التطور ليست جديدة. قال بها العرب، شعراء وفلاسفة وعلماء، قبل الأوروبيِّين مثل قول المعري.

والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد

لم يأتِ دارون بجديد، وربما لا يوجد جديد على سطح الأرض من حيث الجوهر والأصول، المهم أن يعترف الخلف بفضل السلف وأن يقوموا بإخراج النظرية وغيرها من بطون الكتب. الخلاف في طريق الوصول إليها. ما وصل إليه القدماء بالعقل وصل إليه الأوروبيون بالتجربة، وما وصل إليه القدماء للمعرفة وصل إليه المحدثون للكشف والاختراع. وهو أيضًا ما قاله أبو بكر بن بشرون في رسالته لأبي السمح في بحث الكيمياء، استحالة التراب إلى نبات ثم إلى حيوان. وأرفع المواليد الإنسان. فالنبات أرفع درجات التراب، والحيوان أرفع درجات النبات، والإنسان أرفع درجات الحيوان، في سلسلة متصلة لا تنتهي. قال بذلك القدماء قبل دارون مع الاعتراف بفضله وثباته وصبره وخدمته للتاريخ الطبيعي، بالرغم من مخالفة الأفغاني له في نسمة الحياة التي أوجدها الله لا على سبيل الارتقاء من القرد إلى الإنسان، أو أن يصبح البرغوث فيلًا لأن فيه ما يشبه الخرطوم. بل إن الأفغاني ينبه على عدم الإغراق في نسبة النشوء والارتقاء له لأنه يلتقي مع دارون في رصد الظاهرة ويختلف في تفسيرها؛ فالتطور عند دارون متصل الحلقات وعند الأفغاني منفصل الحلقات، وهو نفس الخلاف بين دارون وسبنسر ولامارك ودوركايم من ناحية وبين برجسون من ناحية أخرى.

وما يعيبه الأفغاني على الدكتور شميل ليس قوله بالتطور الذي قال به القدماء، ولكن سيره على أثر دارون مثل بشنر وهكسلي وسبنسر، وتحمُّل أعباء التكفير من غير علم دقيق. وبالرغم من جرأته الأدبية ورسوخه في الفلسفة وعدم خوفه من سخط المجموع وتسميته الحكيم أو حكيم الشرق، إلا أنه وقع في التقليد الأعمى للغرب، وانتصر لدارون ونشر مذهبه رغم معارضة الدين، أي إن الأفغاني يعيب عليه تغريبه أي تقليده للغرب بالرغم مما قد يُعاب على الأفغاني من سلفيته أي تقليده للقدماء. بل إن شميل يُنكر الخلق وهو ما زال مطروحًا عند دارون. فبالرغم من أن مجموع التطوريين يُنكرون الخلق بناء على التدرج في الأحياء إلا أن دارون نفسه وصل إلى النقطة الجوهرية، وهي موجد نسمة الحياة، وقال إني أرى الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة. فما ينبغي ظهور الحياة على نحو طبيعي. ولكن الماديين أنكروا على دارون ذلك وجعلوا مذهبه ناقصًا؛ لأن غايتهم إنكار الخلق، وشميل يوافق دارون إذا أنكر الخلق ويختلف معه إذا أثبته. فالأفغاني «يؤسلم» دارون ويجعله يقول بالتطور والخلق في آن واحد. ويعيب على شميل قراءته الغريبة لدارون وبالتالي تغريبه وعدم رؤيته للآخر من منظور الأنا. وينتهي الأفغاني من هذا العرض النقدي لنظرية التطور إلى أن حصر الحياة كما هو الحال في المذهب الطبيعي في أنواع قليلة لا ضرر منه، والانتخاب الطبيعي أمرٌ معروف في انتخاب النساء والأزواج. وقد حرص العرب عليه لتحسينِ نسلِ الحيوان. فكان العربي يطوف البيد كي يبحث لفرسه عن زوج حرصًا على الأنساب المختارة.١١
تمثل رسالة الرد على الدهريين النقاشَ الدائر في الغرب في القرن التاسع عشر إثر نظرية دارون وترويج أحمد خان لها في الهند كجزء من التغريب العام للتخفيف من حدة التقابل بين الشرق والغرب في عصر مواجهة الاستعمار. ويردد الأفغاني نفس الحجج التي ردَّدَتها الدوائر الدينية الكاثوليكية خاصة في الغرب ضد نظرية التطور. فهي تعتبر إحدى بدايات علم الكلام الجديد أو الفلسفة الجديدة في التعامل مع الثقافات الوافدة من الغرب الحديث كما تعامل القدماء، متكلمين وفلاسفة، مع الثقافات الوافدة من اليونان غربًا وفارس والهند شرقًا. كما تعبر عن الحالة الثقافية الراهنة والأفكار الشائعة عن المادية والإلحاد والمذهب الطبيعي والنقد الشائع لها في أذهان الناس الذي تقوم به الدوائر الدينية المحافظة من خلال سطوة أجهزة الإعلام وتأثيرها، يعتمد الأفغاني على البحث التاريخي والدليل العقلي، أي على الرواية والدراية، النقل والعقل. يجعل العقل الغريزي أي الطبيعي العلمي الصافي رافضًا لها مع أنه قد يكون قابلًا لها؛ فالعقل الديني يقوم على افتراض الانفصال بين العلة والمعلول. والعقل العلمي يقوم على افتراض الاتصال. يعبر نقد الأفغاني عن اختياره المسبق. لذلك يستبدل بلفظ البقاء الفناء. فيقول الصراع من أجل الفناء وليس من أجل البقاء. ويتصور العالم على نمط الألفة وليس على نمط الصراع. ويعتبر الألفة نظامًا إلهيًّا والصراع نظامًا شيطانيًّا مع أن النظامَين مشاران إليهما في القرآن الكريم. ولكن الذي ساد في الثقافة الشعبية هو نظام الألفة دفاعًا عن الوضع القائم ودرءًا لحركات التغير الاجتماعي ولمخاطر الثورة. لذلك ألصق نظام الصراع بالماركسية، وجعلوه دمويًّا عنيفًا كما هي الصورة الشائعة للصراع الطبقي الذي تروج له الدوائر الدينية الرجعية المحافظة.

(٢) النقد العملي

لا يكتفي الأفغاني بنقد الدهريِّين نقدًا نظريًّا مبينًا تهافت نظرية التطور، ولكنه ينتقل إلى بيان مضارها من الناحية العملية وآثارها السيئة على أخلاق الأفراد وحياة الأمم ومسارها في التاريخ. وهي المطالب الأربعة عشر التي تمثل ثلاثة أرباع الرسالة. فالنقد العملي أهم من النقد النظري. النقد العملي يقين، والنقد النظري قد يكون ظنًّا.

يدِّعي الماديون أنهم الحكماء بصرف النظر عن اختلاف أسمائهم بين الدهريِّين والماديِّين والطبيعيِّين والاشتراكيِّين والشيوعيِّين والعدميِّين. ويدَّعون أنهم المدافعون عن الظلم ورافعو الجور، وأنهم العارفون بالأسرار وكاشفو الحقائق والرموز، والواصلون إلى بواطن الأمور، والمطهرون الأذهان من الخرافات من أجل تنوير العقول، وأنهم محبو الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب الخير للمساكين. وهم في الحقيقة مدعو النبوة لترويج مذاهبهم، أي أنهم متنبئون. هم صدمة على القوم، وصاعقة عليهم. يُميتون القلوب الحية، ويقومون بنفث السم في الأرواح، وزعزعة راسخ النظام. هم سببُ انهيار الأمم وسقوط العروش، وإفساد الأصول واقتلاعها.١٢

ويفصل الأفغاني غايات النيتشريين الحقيقية بعد ادعاءاتهم السابقة وهي:

  • (١)

    جحد الألوهية وإنكار البنيان المسدس، نسق الأفغاني الأخلاقي، العقائد الثلاث: الإنسان أشرف المخلوقات، والأمة أشرف الأمم، والحياة الدنيا للمعاد، والخصال الثلاث: الحياء والأمانة والصدق، والنزول من علياء الإنسانية إلى حضيض الوحشية الحيوانية.

  • (٢)

    بطلان الأديان كافة؛ لأنها أوهام باطلة ومواضعات. ولا يحق لملة ادعاء أفضليتها على سائر الملل مما يؤدي إلى الركود مع أن الدعوة إلى أشرف الملل وخير أمة قد يؤدي إلى العنصرية والحروب بين الأديان والأوطان، أو إلى الارتكان للعقيدة دون العمل بها وتحقيق شرطها مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط أفضلية الأمة الإسلامية.

  • (٣)

    اعتبار الإنسان مثل سائر الحيوانات وعدم الارتفاع على مستوى البهائم، بل الانخفاض إلى ما هو أخس منها. وقد يؤدي ذلك إلى الإتيان بالقبائح واقتراف المنكرات وممارسة العدوان.

  • (٤)

    إنكار الحياة بعد الموت، واعتبار مقصد الحياة الدنيا الشهوة البهيمية. فتتحرر النفوس من الأخلاق، وتمارس العدوان والقتل والسلب وهتك الأعراض والغدر والخيانة، وارتكاب كل خبيث والوقوع في كل رذيلة، والإعراض بالعقل عن كسب الكمال البشري ومعرفة الحقائق وأسرار الطبيعة.

  • (٥)

    الاشتراك في الأموال والأبضاع وإباحة تناول ما للغير؛ نظرًا لأن المذهب الطبيعي يؤدي إلى المادية والاشتراكية والنزعة الإنسانية بالرغم من وجود نزعات اشتراكية إنسانية أخلاقية وروحية ومثالية.

  • (٦)

    إزالة صفة الحياة للفوز بالقوة فيصبح الإنسان كالأنعام يعيش وفقًا لقانون الغاب ولا يُعرف له قانون إلا القوة والغلبة.

  • (٧)

    إزالة صفتَي الأمانة والصدق، وهما صفتان تقومان على الإيمان بيوم الجزاء وإزالة ملَكَة الحياء حتى شاعت الخيانة وراج الكذب، وهذا الثالوث الأفغاني الأمانة والصدق والحياء يمثل قواعد الأخلاق وقوانين التاريخ.

  • (٨)

    الإباحة والاشتراك، وشيوع المشتهيات ولو اغتصابًا وخيانة وكذبًا، وارتكاب الشرور والرذائل، وإتيان الدنايا والخبائث مما يؤدي إلى فناء الأمم، وتساوي الجميع في الحظوظ فتدفع النفوس إلى الأخذ بالأسهل والابتعاد عن شاق الأعمال. ومن المبادئ الإنسانية حبُّ الاختصاص والرغبة في الامتياز. ومن ثَم تؤدي المادية إلى الركود وعدم التحرك إلى معالي الأمور.

  • (٩)
    العداوة للنوع الإنساني، وسيادة الماليخوليا على أنصاره، يتخيلون الإصلاح والنجاح وهم مفسدون في الأرض باثون بذور الشقاق بين البشر.١٣
وواضح من هذا الوصف لغايات المذهب الطبيعي بعض التسطيح، وفهم على مستوى العقائد الشائعة والثقافة الشعبية والوعاظ وخطباء المساجد، واللجوء وإلى الأساليب الخطابية والحجج الإحراجية والنقد الأخلاقي نظرًا لأثر النظر على العمل وتكرار النقد الأخلاقي العام، مرة إثبات الخصال الثلاث والعقائد الثلاث للمؤلهين ومرة نفيهما عن الطبائعيِّين، وبيان مزايا الفريق الأول وعيوب الفريق الثاني، وتحويل الأفكار إلى أمراض نفسية كما يفعل وليم جميس بل برجسون وكل الوضعيِّين، والدفاع عن الرأسمالية والتمايز والاختصاص ضد المساواة، والدفاع عن المنافسة والربح ضد تكافؤ الفرص، وهي سمة الفكر الديني التقليدي.١٤

ويتبع النيتشريون في تحقيق غاياتهم عدةَ مسالك وطرق، أهمها:

  • (١)

    الجهر بالمقاصد صراحة في حالة الاطمئنان، واستعمال الرمز والإشارة والكنية والتلويح والتدليس في حالة السطوة وكأنهم فرقة باطنية شيعية صوفية.

  • (٢)

    العمل على هدم النسق الأخلاقي المسدس عند الأفغاني، كله أو بعضه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو إبطال لوازمه وكأن الغاية من المذهب إبطال الأخلاق.

  • (٣)

    الاكتفاء بأفكار الصانع، وجحد الثواب والعقاب لإفساد باقي العقائد مع أن العقائد الثلاث عند الأفغاني، الإنسان أشرف المخلوقات، الأمة أشرف الأمم، كمال الإنسان نحو المعاد ليس من بينها إثبات وجود الله، وإن كان متضمنًا في المعاد.

  • (٤)

    تزيين الإباحة والاشتراك وتحسينهما وتزيينهما لاستمالة النفوس وهو تكرارٌ للقصد بحيث لا يبدو الفرقُ واضحًا بين الغاية والوسيلة، كما أنه تصور شعبي للاشتراكية وتشويه لها من خلال الإعلام الغربي ونظم الحكم التسلطية الرجعية.

  • (٥)
    القيام بأعمال جاهلية تأنف منها الطباع وتأباها الشرائع الإنسانية، مثل اغتيال معارضيهم والغدر بهم والفتك بآلاف الأرواح البريئة وإراقة الدماء الشريفة بالحيلة والمكر. وهي أساليب لا ترتبط بالطبائعيِّين بالضرورة، تستغلها كلُّ القوى السياسية التسلطية للتخلص من الخصوم رأسمالية أو اشتراكية. وممارسة العنف ظاهرةٌ اجتماعية لها أسبابها في بنية المجتمع، العنف القاهر الذي يولد العنف المحرر.١٥
وواضح من هذا الوصف السلبي للوسائل التي يتبعها النيتشريون لتحقيق مقاصدهم التصورات الشائعة في الثقافة الشعبية تحت أثر أجهزة الإعلام الغربية الرأسمالية أو العربية الإسلامية الخاضعة للنظم التسلطية الرجعية. مع أن أصحاب الطبائع أيضًا لديهم القدرة على كشف الزيف والنفاق والخديعة بالدين وبالمثالية. يتسمون بالصدق والإخلاص للمبادئ، ويستشهدون في سبيل الحرية والعدالة والمساواة بين البشر. وارتبطوا بالنزعة الإنسانية والأممية وتوحيد القوى الثورية ضد الاستعمار العالمي، وهو أيضًا ما كان يعمل له الأفغاني بوحدة قوى الشرق التحررية في مواجهة قوى الاستعمار الغربية.١٦ وأخيرًا، يستقرئ الأفغاني التاريخ ويبيِّن كيف انهارت الأمم التي تبنَّت المذهب الطبيعي، أمة وراء أمة، وكأن المذهب الطبيعي لم يقدِّم أيَّ شيء إيجابي مثل تقدم العلم، وكأنه لم يكن رد فعل على التصور الخرافي الوهمي للطبيعة، فيتحدث طويلًا عن مطلب في بيان الأمم التي خضعَت للذل، وضرعَت للضَّيم بعد العزة والشرف. ويعدِّد ستَّ أمم هي:
  • (١)
    الأمة اليونانية (الكريك): كانوا قليلي العدد، وورثوا العقائد الثلاث، خصوصًا الحياء، أي الأنفة والكبرياء. واستطاعوا مقاومة الفرس. ووصلوا إلى درجة عالية من العلوم، وثبتوا ثباتَ الأبطال. امتدَّ سلطانهم إلى الهند بصفة الأمانة، فكانوا يرجحون الموت على الخيانة كما هو الحال في قصة تيمستوكليس القائد اليوناني الذي نبذه الناس وطردوه، ففر ولجأ إلى أرتكزيس ملك فارس، فأمره بمحاربة اليونان، فأبى وانتحر بالسم. ثم ظهر أبيقور، واتبعه الدهريون، وأنكروا الألوهية، وجعلوا الإنسان معجبًا بنفسه مغرورًا يظن أن الكون العظيم خُلق لخدمة وجوده الناقص، وهو أشرف المخلوقات والعلة الغائية لجميع المظاهر الكونية. قاده الحرصُ والجنون والخرف إلى الاعتقاد أن له عوالمَ نورانيةً وحياة أبدية بعد هذا العالم، فيها سعادة دائمة وليس فيها شقاء. فقيد نفسَه بالسلاسل والتكاليف مخالفًا نظام الطبيعة العادل، ووقف في وجه رغباته وحرم نفسه من الحظوظ الفطرية وهو لا يختلف عن الحيوانات. وما يفتخر به من الصنائع أخذه تقليدًا للحيوانات. فالنسيج من العنكبوت، والبناء من النحل، وإنشاء القصور والصوامع وادخار الأقوات من النمل، والموسيقى من البلبل. فإذا كان هذا حاله من النقص فلا يزيد متاعبه والاغترار بأنه يزيد على الحيوانات والنبات والاعتراف بوجود حياة أخرى. بل عليه ترك التكاليف والتمتع بالبدن والأخذ باللذة وعدم ترك أي فرصة، ولا ينقاد إلى أوهام الحلال والحرام واللائق وغير اللائق. فهذه أمور وضعية تقيَّد بها الناسُ جهلًا. فالإنسان ابن الطبيعة. ترك الناس الحياء واعتبروه ضعفًا للنفس، وارتكاب كل قبيح دون انفعال أو خجل في المجاهرة، هتك الأبيقوريون ستارَ الحياء، وأراقوا ماءَ الوجه، واستحلُّوا أموالَ الناس حتى سمُّوا بالكلاب دون رادع أو زاجر، تنبح في الأسواق. وكانت النتيجة أن سقط اليونان إلى حضيض البلاد، وكسد سوقُ العلم والحكمة، وانتهَوا إلى الذل واللؤم، وتحوَّلَت الأمانة إلى خيانة، والحياء إلى وقاحة، والوقار إلى سفل، والشجاعة إلى جبن، ومحبة الوطن إلى أنانية. وتهدَّمَت الأركان الستة، ووقعوا في أيدي الرومان عبيدًا بعد أن كانوا أسيادًا.١٧

    بهذا العرض الخطابي الإنشائي يحمل الأفغاني تبعةَ انهيار الحضارة اليونانية إلى عامل وحيد، ومذهب أوحد هو المذهب الطبيعي. والتاريخ لا يتحرك بعامل واحد بل بمجموعة من العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أن ما يعرضه الأفغاني ليس كلُّه شرًّا، مثل أن الإنسان سيد المخلوقات، خلق الكون لتسخيره له، وأن هناك حياة بعد الموت كلها سعادة دون شقاء، وأن الإنسان مكلف على الأرض، وأن نظام الطبيعة عادل، وأن الإنسان قادر على السيطرة على رغباته وانفعالاته، وأنه لا يجوز تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. وهل من مظاهر السيادة استيلاء اليونان على فارس والهند والروم ومصر؟

  • (٢)
    الأمة الفارسية: كانت للأصول الستة فيها، نسق الأفغاني الديني الأخلاقي، أعلى مكانة أحقابًا طويلة حتى وصلوا إلى درجة عالية من الشرف. تمثلوا الصدق والأمانة فكان أول تعليم ديني عندهم دون كذب وكما عرضت لذلك الشهنامة. وامتداد الملك حتى ظهر مزدك الفيلسوف الدهري، وادَّعى أنه أتى لرفع الجور والظلم. فنزع منهم الخصال، وادعى أن كلَّ القوانين الموضوعة تؤدي إلى الظلم، وقائمة على الباطل، وأن الشريعة الدهرية هي الباقية لا تُنسخ، وموجودة عند الحيوانات. فقد جعلت الطبيعة حقَّ الطعام والشراب والبضاع مشاعًا بين الناس دون تخصيص. فلماذا يحرم الإنسانُ نفسَه ما أحلَّت الطبيعة باسم الشريعة والأدب؟ وبأيِّ حقٍّ تكون الملكية خاصة وهي مشاع بين الناس؟ ولماذا حظر النساء والميل لواحدة دون الأخرى، والأنثى للذكر والذكر للأنثى؟ البيع والشراء اغتصابٌ وظلم، وتطبيق حد السرقة على الفقير المحروم. القوانين جائرة تمنع كلَّ شيء، والطبيعة محررة تُبيح كلَّ شيء. شاعت هذه التعاليم فعمَّ الغدر والخيانة، وانتهى الحياء، وغلبَت الدناءةُ والسفالة، وسادَت الصفات البهيمية. فقتل أنو شروان مزدك وشيعته. ولكنه لم يقضِ على أفكارهم التي عَلِقَت بالعقول حتى هاجمهم العرب وانهزموا مع الروم.١٨ وواضح من هذا العرض المبسط تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية الفكرية بعامل واحد هو العامل الأخلاقي، وأن الحياة قبل المذهب الطبيعي كانت جنةً وانقلبَت بعد ظهوره إلى نار في ثنائية تطهرية بين الحق والباطل، الخير والشر، الصواب والخطأ، العلم والجهل. كما أنه يُنكر أي ثورة تقوم على الظلم والجور، تلك الثورة التي لم تَقُم في عهد البراءة الأولى قبل الدنس والخطيئة في المذهب الطبيعي. كما أن نقدَ تطبيقِ حدِّ السرقة على الضعيف وترك الشريف حديث عن الرسول. ولماذا الدفاع عن الملكية الخاصة والإسلام أقرب إلى الملكية العامة لما تعمُّ به البلوى؛ كالماء والكلأ والنار! وما العيب في نقد التجارة وأخلاق التجار كما فعل ابن خلدون؟ وهل القتل وسيلة التعامل مع المفكرين؟
  • (٣)
    الأمة الإسلامية: جاءتها الشريعة، وعلَّمَتها هذه العقائد والخصال، فبسطوا سلطانهم على الأمم في الشرق والغرب، كسرى وقيصر. والباقي دفع الجزية. ثم ظهر الطبيعيون في القرن الرابع بمصر تحت اسم الباطنية وخزانة الأسرار الإلهية، وانبثُّوا في كل أرجاء العالم الإسلامي خاصة في إيران. ودلسوا على المسلمين عن طريق إثارة الشك في القلوب حتى يضعف الإيمان، والإقبال على الشاك في حيرته ليمنُّوه بالنجاة وهدايته، وخداعه بدعاتهم للتشكيك في الشريعة بأن لها ظاهرًا وباطنًا، الظاهر للمحجوبين والباطن للمستنيرين، ثم إسقاط التكاليف عن المستنيرين والوقوع في الإباحية والشك في الحلال والحرام، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والفضائل والرذائل. هي مجردُ ألفاظٍ لمعانٍ مخيلة وليس لها حقيقة واقعية. وأفكار الألوهية والإقرار بالمذهب الطبيعي عن طريق التنزيه، فالله منزَّهٌ عن المخلوقات، لا موجودَ ولا معدوم. وإثبات الاسم وإنكار المسمى سفسطة، بالإضافة إلى قتلِ معارضيهم الذين يكشفون أمرهم، والجهر بالآراء بعد التمكُّن من السلطة، وإبطال التكاليف، ورفع الأحكام الظاهرة والباطنة. فالقيامة من القائم بالحق، فقاموا بالتأويل. أصبح الكمال نقصًا والنقص كمالًا. انحل الإيمان، وانتهت السعادة، وفسدَت الأخلاق، وعمَّ الجبن والخور والخوف والكذب والمنافع الشخصية والخيانة والشهوات البهيمية حتى أتى الاستعمار الفرنسي على سوريا. فلم يستطع الناس المقاومة. فقتل الأبرياء، حوالي مائتي عام أثناء الحروب الصليبية، مع أن الإفرنج كانوا خائفين من المسلمين قبل أن تفسدَ عقائدهم. ثم قام أوباش التتر والمغول مع جنكيزخان، واخترقوا بلاد المسلمين، وهدموا المدن. كل ذلك بسبب تفشِّي تعاليم الدهريين والقضاء على الأخلاق الإسلامية الراسخة في القلوب. فكانت أسباب السطوة الغربية على البلاد. ثم عادت الأخلاق الإسلامية، وطردَت الأمم الإفرنجية من سوريا، وصدُّوا هجمات جنكيزخان ولكن دون العودة إلى مكانتهم الأولى. وكان ذلك بداية الانحطاط منذ الحروب الصليبية أي منذ تفشِّي الآراء الباطنية الدهرية كسمٍّ قاتلٍ.١٩ واضح من هذا العرض أيضًا أن الدهرية هي الشماعة الوحيدة التي تُعلَّق عليها أخطاء البشر، والعامل الأوحد في انهيار الأمم. ويعتبر الأفغاني الباطنية من الدهرية مع أنهم من غلاة الروحانيِّين، فالمادة لديهم روح، وأقرب إلى النزعات الصوفية الإشراقية. كما يرى أن التنزيه طريق لإنكار الألوهية مع أنه إثبات لها دون تجسيم أو تشبيه. كما يتبنَّى تصورًا آليًّا لحركة التاريخ، وكأن العودة إلى الأخلاق مفتاحٌ سحري يقلب الهزيمة نصرًا، والسقوطَ نهضة، ويصحح ما فعلَته الدهرية، الشر الكامن في كل عصر.
  • (٤)
    الأمم الشرقية: ويعني الأفغاني بالأمم الشرقية شمالَ العراق، منطقة كركوك. فقد أنكر الدهريون هناك الألوهية. وظهروا في لباس المهذبين. ولوَّنوا الظواهرَ بألوان المحبة. وادَّعوا طلبَ الخير للأمة وهم حملة العلم والمعرفة بما حفظوا من كلمات ناقصة. ولقَّبوا أنفسهم بالهادين وهم أهل غباوة ورذيلة. يستعملون العقل والمعرفة في تبيُّن وجوه الغدر والاختلاس. تسودهم الشهوة وحبُّ الدنيا.٢٠ ولا يعطي الأفغاني جديدًا في هذا الوصف، ولا يبيِّن كيف قامت الدولة بالإيمان وانهارَت بالدهرية. هم أقرب إلى الشيعة الباطنية بهذا الوصف ولا يمثلون أمة جديدة يُضرَب بها المثل.
  • (٥)
    الأمة العثمانية: ويفرد الأفغاني نموذجًا من الأمة العثمانية وكأنها ليست جزءًا من الأمة الإسلامية. ويعتبر الدهريين سببَ خيانة العثمانيِّين لصالح الروس. يعدُّون أنفسهم أبناء العصر الجديد. فالإنسان حيوان، والأخلاق ضد الطبيعة، وضعها تحكم العقل وتطرف الفكر. أنكروا الشرف والحياء والأمانة والصدق والعفة والاستقامة، فجلبوا المذلة على الأمة.٢١ وهذا أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد، والدعاية المضادة منه إلى التحليل العلمي الرصين.
  • (٦)
    الشعب الفرنسي: له النصيبُ الأوفر من الأصول الستة. فرفع منار العلم والصناعة بعد الرومان حتى ظهر فولتير وروسو يزعمان حمايةَ العدل ومغالبة الظلم، وإنارة الأفكار، وهداية العقول. فنبشَا قبرَ أبيقور الكلبي، وأحيَوا الدهريِّين الذين نبذوا كلَّ تكليف ديني، وغرسوا الإباحة والاشتراك، وجعلوا الآداب خرافية، والأديان مخترعة بسبب نقض العقل الإنساني، وإنكار الألوهية والتشنيع على الأنبياء. خطَّأَهم فولتير، وسخر منهم، وقدح في أنسابهم، وعاب رسالتهم ومع ذلك دخلت الأباطيلُ نفوسَ الفرنسيين، ونالَت من عقولهم، فنبذوا المسيحية، وتحولوا إلى شريعة الطبيعة، وألَّهُوا جمال النساء في محراب الكنيسة. وكل ما في الطبيعة من آثارها وليس من الله. وكانت تعاليمُ الدهريِّين سببَ اندلاع الثورة الفرنسية التي فرَّقَت أهواء الأمة وأفسدَت أخلاق الناس. فاختلفوا وانقسموا. وانغمس كلُّ فريق في شهوته، وأعرض الجميع عن المنافع العامة. واختلَّت سيادتهم الخارجية. وحاول نابليون الأول إعادةَ المسيحية ولكنه لم يستطع محوَ الأضاليل، فظلوا مختلفين إلى الآن. قالوا بالاشتراكية ومذهب الكمون، نسفوا كلَّ عمران على أرض فرنسا.٢٢ وواضح أن الأفغاني هنا أيضًا يضع فولتير وروسو مع الدهريين وهما من أنصار التأليه الطبيعي Deism. كما يعارض فلسفة التنوير ويرفض الثورة الفرنسية، ويضع نفسه مع المشايخ المعمَّمين مما يجعل موقفَه النظري أقلَّ جرأة ونقدًا من مواقفه العلمية، ويمثِّل خلفًا بين النظر التقليدي والعمل الثوري.
ويخصص الأفغاني جزءًا خاصًّا لدحض مطلب السوسیالست (الاجتماعيون)، والنهيلست (العدميون) والكومونيست (الاشتراكيون) مستعملًا اللفظَ المعرب كأساس واللفظ المترجم كفرع. وهم صنوفٌ من الدهرية في الأمة الفرنسية. تُزيِّن الظاهر وتدَّعي الدفاع عن الضعفاء والمطالبة بحقوق المساكين والفقراء. وكل طائفة لها غاية مخالفة. ولكنها تشترك جميعًا في رفع الامتيازات الإنسانية، وإباحة الكل، واشتراك الكل في الكل، وسفك الدماء، وتخريب العمران، وإثارة الفتن. المشتهيات في الأرض منحة من الطبيعة ومن فيضها للتمتع بها دون اختصاصِ واحدٍ بها دون الآخر. الدين والملك عقبتان عظيمتان ضد الطبيعة، أي الإباحة والاشتراك. والحل هو القضاء على السلطتَين الدينية والسياسية، قتل الأغنياء، وإنشاء المدارس تحت ستار المعارف والبداية بالتربية، إشارة إلى روسو. وهي في النهاية طوائف تؤدي إلى انقراض المجتمع البشري، وواضح أن الأفغاني قد وقع ضحيةَ التفسير الرأسمالي للدين، وينقد الاشتراكية والاجتماعية، ويخلط بينهما وبين الشيوعية والعدمية. يرى العيب في نقد الامتيازات والقضاء على الإقطاع وملَّاك الأراضي، ونقد السلطتَين الدينية والسياسية!٢٣
ويخصص الأفغاني فقرةً خاصة لمورمون. وهو أيضًا من دعاة الطبيعة. ظهر في إنجلترا وأمريكا. وادَّعى أنه ملهمٌ من الطبيعة. يقول بالإباحة والاشتراك للمؤمنين بالطبيعة دون غيرهم. ودعا كلَّ مؤمن إلى الاجتماع مع كلِّ مؤمنة. فالزواج شركة، والنبوة اشتراك. وهي الدعوة المنتشرة الآن في أمريكا في يوتا، والتي تسمَّى الطائفةُ باسمه.٢٤
ويُنهي الأفغاني هذا النقدَ النظري العملي بالإعلان عن أساس النقد مطلب في مضار إنكار الألوهية.٢٥ فالدهرية تُنكر الألوهية والمعاد مما يؤدي إلى إنكار الأخلاق فتنهار الأمم. كلما انتشر المذهب فسدَت أخلاقُ الأمة. اختلَّت العقول، وتملَّكَت الحِيَل من القلوب وألوان التلبيس حتى تعمَّ الرذائل وعبادة الشهوات وارتكاب الخيانات حتى تنقرض الأمة أو تُستعمَر وتُستعبَد. أخفى البعض المقصد الأصلي وهو الإباحة والاشتراك، واكتفى بإنكار الألوهية وجحد المعاد تحت شعار حرية الفكر وهو ما يؤدي إلى فساد الحياة الاجتماعية وزعزعة أركان المدنية. ولا يمكن الجمع بين الدهري والأمانة والصدق وشرف الهمة وكمال الرجولة. وكثير من خاطرات جمال الدین تعبِّر عن هذا النقد الديني للدهرية، مثل: كيف لا يفضل أضعف حيوان ناهق يذكر الله إنسانًا ناطقًا يُنكر وجود الله؟ فإذا ما تم إنكار الألوهية فإن الإنسان يعبد هواه يكفر الإنسان في كل شيء لا يرضاه ويعبد كل شيء يهواه. والاعتقاد بالألوهية هو الذي يؤدي إلى الاعتقاد بالمعاد، وبالتالي نَيل السعادة الأبدية مَن اعتقد أن لا حياةَ إلا هذه الفانية فقد خسر الأولى والثانية. فالسعادة لا توجد في هذه الحياة الدنيا بالرغم من أنها ضالة البشر السعادة في الدنيا ضالة البشر. وإذا وجدها أحد قلَّما يدل عليها. ولا أظنها من موجودات هذا العالم الفاني.٢٦

(٣) البديل الديني الأخلاقي

إذا كان الردُّ على الدهريين ونقد الدهرية نظريًّا وعلميًّا يمثِّل الجانبَ السلبيَّ فإن البديل الديني الأخلاقي هو الجانب الإيجابي الذي يقدِّمه الأفغاني، وهو متضمَّنٌ أيضًا في الجانب السلبي. إنكارُ الدين سببُ السقوط وإثباتُ الدين طريقُ الخلاص. الدين قوام الأمم، وبه خلاصها وسعادتها ومستقبلها في مقابل النيتشرية وهي جرثومة الفساد وأرومة الأداد، أي مصدر الأمور الفظيعة، وسبب خراب البلاد وهلاك العباد؛ فالدين والنتيشرية على طرفَي نقيض كالحق والباطل، الخير والشر، الصلاح والفساد، الفوز والهلاك. والإنسان ظلومٌ جهول هلوع جزوع. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. لذلك أتاه الدين لإكماله كي يتمسكَ بأصوله وتربيته على الخصال المتوارثة حتى تُشرقَ العقولُ بالمعارف، وتهتديَ إلى السعادة، ويُقيمَ البشر المدنية ويحافظوا على ثباتهم وبقائهم.٢٧

لقد أفاد الدين ثلاث عقائد وثلاث خصال. وأكسبها عقول البشر. وهي أساس قيام الأمم وعماد بنيتها الاجتماعية، وقوام مدنيتها، وشرط تقدمها ورقيها ونَيل سعادتها لإبعاد النفوس عن الشر ومفارقتها للأجساد، ويبعدها عما يهدِّد البقاء ولها آثار جليلة على المجتمع البشري ومنافع المدنية والروابط بين الأمم وبقاء النوع والمسالمة بين الأفراد ورقي الأمم. وهذه العقائد الثلاث هي:

  • (١)
    الإنسانُ مَلَكٌ أرضيٌّ، أشرفُ المخلوقات، من أجل رفعِ الإنسان من الخصال البهيمية، وسموِّه إلى العالم العقلي، وتجاوزه شريعة الغاب. وهو ما يتفق مع القرآن، في اعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض، أعظم المخلوقات بتحمُّلِه الأمانة بعد أن رفضَتها السموات والأرض والجبال وأبَيْنَ أن يحملْنَها وأشفقْنَ منها. وهذه العقيدة لا تبتعد كثيرًا عن مقصد الدهرية باعتبارها الإنسان مركز الكون وآخر درجة في سُلَّم التطور، وما تزهو به الحضارة الغربية منذ عصورها الحديثة والتحول من التمركز على الله Theocentrism إلى التمركز حول الإنسان Anthropocentrism والتي فيها صدر الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان. وظهرَت النزعة الإنسانية Humanism فلماذا وضع الدين والدهرية على طرفَي نقيض والإنسان يجمعها كما جمع الصوفية بين الله والإنسان في الإنسان الكامل؟
  • (٢)
    یقینُ كلِّ متدين أن أمَّتَه أشرفُ الأمم، وكل مخالف له فهو على باطل مما يدفع إلى التنافس بين الأمم. ولماذا يغفل الأفغاني أن هذا الاعتقاد قد يؤدي إلى التعصب وحروب الأديان، والعنصرية والصهيونية والحروب والمنازعات؟ ولماذا لا يكون النموذج، المساواة بين الأمم والتفضيل بينها في الخيرات وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا؟
  • (٣)
    الحياة الدنيا ممرٌّ للحصول على كمال المعاد في عالم أوسع وأرحب. تدفع إلى التزود بالمعارف بعيدًا عن الجهل، والارتقاء في العلم، والتقارب بين الأمم، والترابط بينها بالمحبة وإلَّا وقع الإنسان في الكذب والنفاق والحِيَل والخداع والرشوة والاختلاس، واقتصر على الحسِّ والحرص والشَّرَه والغدر والاغتيال وهضم الحقوق والجدال والقيام بدور الجلَّاد.٢٨

    وواضحٌ خلوُّ هذه العقائد الثلاث من الإيمان بالله، بل تكتفي بالإيمان بالإنسان والجماعة والمعاد، وأن العقائد ليس لها صدقٌ في ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق الخير للفرد والجماعة وتقدم التاريخ. تعبر عن روح إشراقية وثنائية متطهرة، الصعود إلى أعلى في الخلاص والهبوط إلى أسفل في السقوط.

    وهناك أيضًا خصالٌ ثلاث تتوارثها الأمم، وتطبع النفوس بطابع الدين، فالأخلاقُ أساس الدين، والدين يقوم على الأخلاق كما هو الحال في النزعات المثالية. وهذه الخصال، وتعني الفضائل هي:

    • (١)

      الحياء. وهو انفعال النفس من إتيان ما يجلب اللائمةَ والتوبيخ. ويلزم عنه شرف النفس. وكل أمة تفقد الغيرة والإباء تُحرَم من الترقِّي. وبه تتمُّ روابط الألفة بين آحاد الأمة. وبدونه تقع في الفحشاء والشهوات البهيمية. وواضح أن هذا التعريف غيرُ جامع مانع، يساوي بين الحياء وشرف النفس والغيرة. ويجعله سببًا للترقِّي، والتقدم له أسباب عديدة. ويربطه باللائمة والتوبيخ معه أنه قد يرتبط برؤية الحسن والجميل.

    • (٢)

      الأمانة. وهي أساس المعاملات والمعاوضات في الأعمال. والأمة في حاجة إلى حكومة جمهورية أو ملكية مشروطة أو مقيدة. والحكومة في حاجة إلى رجال أمناء يقومون بالأعمال، يجمعون الكلمة، ويمنعون الاعتداء دون استعلاء على أحد. ويعطي الأفغاني هنا معنًى اقتصاديًّا سياسيًّا للأمانة وليس معنًى أخلاقيًّا نفسيًّا كما أعطى للحياء. كما أن فكَره يقوم على دور. تحتاج الأمانة إلى حكومة وتحتاج الحكومة إلى أمانة.

    • (٣)
      الصدق. نظرًا لأن الإنسانَ كثيرُ الحاجات منح خمسة مشاعر، هي الحواس الخمس، فإنها كلها لا تعمل إلا بالصدق. فالكاذب يرى البعيدَ قريبًا والقريبَ بعيدًا، والنافع ضارًّا والضار نافعًا. الصدق إذن شرطُ عمل الحواس، وأساس مبدأ التحقق. يقوم الصدق عند الأفغاني بدور معرفي، صدق عمل الحواس، وتتأسس عليه الأخلاق. وهو نفس المقياس النفسي الأخلاقي في تعريف الحياء.٢٩

ولا يبين الأفغاني إذا كانت هذه الخصال في بدايتها فطرية أو مكتسبة. ويكتفي بالقول بأنها متوازنة بين الأمم. فهي مكتسبة من حيث التربية دون توضيح عمن اكتسبها الإنسان الأول؟ ولا يبين هل هي خصال فردية أو جماعية؟ هل هي عند كل الأفراد والشعوب أم أن هناك فروقًا فردية فيها؟ ولماذا اختار الأفغاني هذه الخصال الثلاث واستبعد غيرها؟ وما الدليل العقلي والنقلي على اختيارها دون غيرها؟ كما تبدو أحيانًا متداخلة فيما بينها من حيث الوظائف الاجتماعية، بل ومتداخلة مع غيرها. ميزتها أنها أحيانًا تقوم على تفسير نفسي اجتماعي تاریخي كما يفعل علماء النفس والاجتماع والتاريخ.

ولما كانت الفضيلةُ وسطًا بين طرفَين، وكانت الحكمة المحافظة على الهيئة المتوسطة، والفضائل هيئات متوسطة بين خلَّتَين ناقصتَين خصَّص الأفغاني مطلبًا في الوسائل التي يمكن أن تلزم النفس حدود العدل. فكل فرد في فطرته شهوات تُحيل إلى مشتهيات. والأولى دافع للحصول على الثانية، وهو ما يسمَّى في الظاهريات الشعور باعتباره ذاتًا noèse، والشعور باعتباره موضوعًا noème. ولم تحدد الطبيعة طريقة محددة لذلك. ومع ذلك هناك طريقان عرفَتهما البشرية: طريق حق وطريق باطل، هدى وفتنة، تعفُّف من ناحية وسفْك دماء واغتصاب حقوق من ناحية أخرى، طبقًا لثنائية الأفغاني التطهرية. والطريقة المثلى هي حدُّ الاعتدال وقِصَر النفوس عليه تخفيفًا للأهواء. ويكون ذلك بطرق أربع:
  • (١)

    المدافعة الشخصية. وهو طريق النضال والقتال وإسالة الدماء، طريق الجلَّاد، وغلبة القوي على الضعيف. فإذا قَوِيَ الضعيفُ وضَعُفَ القويُّ طبقًا لجدل السيد والعبد تدور الدائرة، ويستمر الفساد في النوع الإنساني. فالأفغاني هنا يدين العنف واستعمال القوة لتحقيق الخير والمنفعة العامة.

  • (٢)

    شرف النفس. وهو طريقٌ يمنع صاحبَه من إتيان ما يُذَمُّ عند قومه، وهو ما يتغيَّر بتغيُّر الأقوام وعند البدو والحضر مثل الحيلة والمكر، مقبولة عند قوم مرفوضة عند آخرين. ولما كان لكل كائن علة غائية فغاية الأخلاق توسيع الرزق، والشرف من أجل البقاء. ومن ثَم يجوز جعل شرف النفس ميزانًا للعدل. وأما حبُّ المحمدة فقد يتعارض مع الشهوات. ولا يمكن الجمع بينه وبين شرف النفس. وكلاهما اختياران.

  • (٣)

    الحكومة. وقوتُها تكمن في الكفِّ عن العدوان الظاهر ورفع الظلم البيِّن ولكنها لا تستطيع منْعَ الاختلاس والزور والتمويه والباطل المزين والفساد الملوَّن بصِيَغ الإصلاح، والخفايا والدسائس. الحكومة تقوم بالأمن الخارجي ولكنها تعجز عن منع الاضطراب الداخلي. تستطيع الحكومة أن تسيطر على المجتمع ولكنها لا تستطيع التحكمَ في أهواء النفس.

  • (٤)

    الاعتقاد بالألوهية. هو الحلُّ الجذري للشهوة والأهواء، أي الإيمان بأن للعالَمِ صانعًا عالِمًا بالظاهر والباطن، قادرًا على الخير والشر، يُجازي في الحياة الأخروية. ويكبح هذا الاعتقاد والنفس عن الشهوات ويمنعها من العدوان، هاتان العقيدتان، وجود الله والإيمان بالمعاد أفضل طريق لنَيل الفضائل.

ويُبطل الطبيعيون هاتين العقيدتَين من أجل الإباحة والاشتراك فينهدم بناءُ الإنسانية، وتنهار قواعدُ المدنية، وتفسد الأخلاق البشرية. قد ينخدع بأقوالهم طلابُ التمدُّن. فالدين، مهما انحطَّت درجتُه، أفضل من طريقة الدهريِّين مهما علَت. وقد ألهم اللهُ النفوسَ بالتحذير من الطبيعيِّين حفاظًا على نظام الكون والنظام الإنساني. فالدينُ فطريٌّ يطردُ آراءَ الطبيعيِّين، ويخلص النفوس منها، ويحقق سعادة الإنسان.٣٠ ولا يبيِّن الأفغاني كيف أن الاعتقاد بالألوهية أيضًا قد يكون غطاءً وستارًا يُخفي أبشعَ صورِ الاستغلال كما حدث في شركات توظيف الأموال وفي كلِّ مظاهر القهر والاستغلال باسم الدين. وواضح تعصُّب الأفغاني للدين ضد المذهب الطبيعي. فالدين مهما انحطَّ أفضل من المذهب الطبيعي مهما علا وكأن الجاهلية وعبادة الأصنام أفضل من المذهب الطبيعي. والتأليه الطبيعي والأخلاق الطبيعية هي أخلاق الفطرة، وهي من خلق الله، صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة؟
وينتهي الأفغاني من عرض هذا البديل الديني الأخلاقي بالإعلان عن موقفه الدفاعي في مطلب إن الدين الإسلامي أعظم الأديان.٣١ فهو دين متين قائم على أساس الحكمة، يهدف إلى إسعاد البشر وتدرجهم في العلم والفضيلة. وذلك لا يتحقق إلا بأربعة أمور تتم بها سعادة الأمم هي:
  • (١)

    صفاء العقول من كدَرِ الخرافات وصدأ الأوهام نتيجة صفاء التوحيد. فالأفغاني هنا يوحد بين العقل والوحي، بين بداهة العقل وتنزيه الله. وكلاهما يجتمع في النور الفطري.

  • (٢)

    استقبال النفس وجهة الشرف، وطموحها إلى بلوغ الغاية بحيث تكون لائقةً بالكمال الإنساني باستثناء النبوة. وقد فتح الإسلامُ بابَ الشرف لذلك بالدعوة إلى الإسراع إلى الفضيلة والتسابق إلى الخير. لقد قسَّم دينُ براهما الناسَ أربعة أقسام. لكلِّ قسمٍ كمالُه من الفطرة. وكان هذا التقسيم سببًا في انحطاط الدين. وفضَّلَت اليهوديةُ شعبًا على باقي الشعوب. تُكرم الأول وتُحقر الثانية. فارتفع امتياز الجنسية وقدر العِرْق. وظهر البناء الطبقي للمجتمع اليهودي، طبقة عليا للأحبار والكهان وطبقة دنيا لعامة المؤمنين. وكعب الأحبار واسطة بين العبد والرب، بين الشعب ويهوه، مخالفة لما جاء في الكتاب. فأتى الإصلاح الديني اليهودي والبروتستنتي موافقًا لما جاء به الإسلام ضد التوسط بين الإنسان والله وضد اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله.

  • (٣)

    إقامة عقائد الأمة، وهي أول ما ينتقش في النفس، على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة وليس على التقليد. وقد طلبت أوروبا في العصور الحديثة البرهانَ على صحة العقائد، وعارضَت رجالَ الدين وسلْطتهم، دفعًا للتقليد وتشجيعًا على الاجتهاد. وينفرد الإسلام عن باقي الديانات بطلب البرهان، وقيام عقائده وأصوله على العقل والبرهان.

  • (٤)
    قيام طائفة في كل أمة يختصُّ عملُها بتعليم الأمة. وهم العلماء المناط بهم تنویر العقول بالمعارف، وتحليتها بالعلوم من أجل نَيل السعادة وطائفة أخرى تقوم بتربية النفوس وتثقيفها، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر طبقًا لأمر القرآن وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. وكان الأفغاني ينوي وضْعَ كتابٍ لبيان أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا بالدين الإسلامي. ولما كان المسلمون على غير الإسلام فإن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فالأديان نافعة لقيام النظام البشري على الإطلاق، والإسلام على الخصوص.٣٢
هكذا يبدو الأفغاني من مؤسِّسي علم الكلام الجديد، مدافعًا عن الإسلام فيما تصوُّره يمثِّل خطرًا عليه وهو الدهرية أو المذهب الطبيعي، ومثبتًا وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس وأمور المعاد. ولكنه أخطأ الطريقَ ولم يُصِب الهدف. فالمذهب الطبيعي ليس ضدَّ الدين ولا الدين ضد المذهب الطبيعي. الإسلام دينُ الفطرة، أي دين الطبيعة، والطبيعة خيرة تتجه نحو حقائق الدين. الدين طبيعة، والطبيعة دين. الدين طبيعة نازلة، والطبيعة دين صاعد، لا فرق بين تنزيل وتأويل بتعبير القدماء. لذلك يوجِّه القرآنُ النفسَ والعقل نحو الطبيعة والتأمل في ظواهرها. والآية ظاهرةٌ طبيعة ونصٌّ في آنٍ واحد. الطبيعة مصدر تحرُّر دائم من النص. الطبيعات مقدمة للإلهيات في علم الكلام، ولما بعد الطبيعة في الفلسفة، والخلق والحق واجهتان لشيء واحد عند الصوفية، وتحليل العلل ومقاصد الشرع واحد في علم أصول الفقه. ومن ثَم برز سؤالٌ عند المحدثين وبحقٍّ: عود إلى النص أم عود إلى الطبيعة؟٣٣
١  الرد على الدهريين، الأعمال، ص١٢٩.
٢  العروة الوثقى، ص٢، ص١٤٠-١٤١.
٣  الجزء الأول ١٢ صفحة والثاني٤٠ صفحة.
والمطالب الأربعة عشر على النحو الآتي:
(١) مطلب مظاهر الماديين ومقاصدهم، ص١٤٠-١٤١.
(٢) مطلب ما أفاد الدين في العقائد والخصال، ص١٤١–١٤٤.
(٣) مطلب في الخصال الثلاث، ص١٤٥–١٤٨.
(٤) مطلب في تفصيل غاية النيتشريين، ص١٤٩–١٥١.
(٥) مطلب في مسالك النيتشريين في طلب غاياتهم، ص١٥١-١٥٢.
(٦) مطلب في ضرر مذاهب النيتشريين حتى بعقول من لا يأخذ فاصل بها إذا خالطهم، ص١٥٢-١٥٣.
(٧) مطلب في بيان الأمم التي خضعت للذل وضرعت للضَّيم بعد العزة والشرف، ص١٥٣–١٥٧.
(٨) مطلب في الأمة الإسلامية، ص١٥٧–١٦٣.
(٩) مطلب في السوسيالست (الاجتماعيون)، (النهيلست) (العدميون)، (الكومنيست)، (الاشتراكيون)، ص١٦٣–١٦٥.
(١٠) مطلب في دهريي الشرقيِّين، ص١٦٥.
(١١) مطلب في الأمور التي يمكن بها إلزام النفس حدود العدل، ص١٦٦.
(١٢) مطلب في مضار إنكار الألوهية، ص١٦٧–١٧٣.
(١٣) مطلب في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان، ص١٧٣.
(١٤) مطلب في الأمور التي تتم بها سعادة الأمم، ص١٧٣–١٧٩.
وهناك ملخص لموضوعاتها في الخاطرات، ص٤٠٧–٤١٠.
٤  الرد على الأعمال، ص١٢٩.
٥  طبقًا لتحليل المضمون لا يذكر الأفغاني من أعلام المذهب الطبيعي إلا ديموقريطس (٥)، أبيقور (٤)، من اليونان، دارون (٤)، فولتير (٣)، روسو (٢)، من المحدثين، مزدك (١) من فارس.
٦  الرد، الأعمال، ص١٣١-١٣٢.
٧  انظر تحليلنا لظاهرة التشكل الكاذب في «التراث والتجديد»، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ۱۹۸۰م، ص١٢٣–١٤٠.
٨  الرد، الأعمال، ص١٢٣–١٣٤.
٩  المصدر السابق، ص١٣٤–١٣٦.
١٠  المصدر السابق ص١٣٦–١٣٩.
١١  خاطرات ص١١، ص١٧١–١٧٦، الرد، الأعمال، ص١٣١.
١٢  الرد، الأعمال، ص١٤٠-١٤١.
١٣  المصدر السابق، ص١٤٩–١٥١.
١٤  انظر دراسات: الدين والرأسمالية، قضايا معاصرة، ج١ في الفكر الغربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٧م، ص٢٧٣–٢٩٤، وأيضًا: الدين والرأسمالية في الدين والثورة في مصر، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة ١٩٨٩م، ص٤٥–٦٨.
١٥  الرد، الأعمال، ص١٥١، ١٥٢.
١٦  المصدر السابق، ص١٥٣.
١٧  المصدر السابق ص١٥٣–١٥٦.
١٨  المصدر السابق ١٥٦-١٥٧.
١٩  المصدر السابق ص١٥٧–١٦١.
٢٠  المصدر السابق، ص١٦١.
٢١  المصدر السابق، ص١٦٣.
٢٢  المصدر السابق، ص١٦٣-١٦٤.
٢٣  الرد، الأعمال، ص١٥١-١٥٢.
٢٤  المصدر السابق ص١٦٤-١٦٥.
٢٥  المصدر السابق، ص١٦٧–١٧٠.
٢٦  خاطرات، ص٣٩٠–٣٩٣.
٢٧  الرد، الأعمال، ص١٣١، ١٤٠-١٤١.
٢٨  المصدر السابق، ص١٤١–١٤٤.
٢٩  المصدر السابق ص١٤٥–١٤٨.
٣٠  المصدر السابق، ص٩٣، ١٦٦–١٧٣.
٣١  المصدر السابق، ص١٧٣.
٣٢  المصدر السابق، ص١٧٣–١٧٩.
٣٣  قضايا معاصرة، ج١، في فكرنا المعاصر: عود إلى المنبع أم عود إلى الطبيعة؟ دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١٧٣–١٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤