الفصل الخامس

الأنا والآخر

(١) الأصالة والتقليد

وانتقالًا من الفلسفة النظرية إلى الممارسة العملية يضع الأفغاني ثنائيات الصراع بين الأنا والآخر التي تتجلَّى في الأصالة والتقليد، والإسلام والنصرانية، والشرق والغرب؛ فالتقليد أيًّا كان اتجاهه يؤدي إلى سقوط الهمة والعجز. فساقط الهمة من علم الفضيلة وصدق الدعوة ولم يبادر إليهما، بل ينتظر أن يكون تابعًا ومقلدًا لغيره فيهما. والتقليد يرفض الدين، وليس مصدرًا من مصادر العلم عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين. ومن قال إن الدين يأمر بالعسر دون اليسر، بالضار دون النافع لمجرد التقليد والمألوف، فهو كذاب؛ فالحقيقة لا تؤخذ إلا بالبرهان ولا يُحصل عليها بالتقليد. والطريق الصحيح للمعرفة، وهو البرهان، أضمنُ للمعرفة ذاتها بالتقليد. ولو كان لا بد من تقليد خاصة بالنسبة للعامة، فتقليدٌ نافعٌ ثبتت منفعته أولى من تقليد مألوف ثبتَت مضرتُه. فالنفع هنا شفيعٌ لنقص الاجتهاد. ويظل التوازي قائمًا بين الاجتهاد والتقليد، والمنفعة والضرر.١
ويكون التقليد لجهتين، تقليد الغرب وتقليد القدماء. تقليد الغرب غالبًا من الشباب، وتقليد القدماء غالبًا من الشيوخ. يقلد الشباب الغرب بمجرد تعلمه لغته والتأدب بآدابه دون فهمٍ لتجربة الغرب وتدرُّجها ومعناها. ويعتقد أن كل العيوب والرذائل ومظاهر الانحطاط ومعوقات التقدم في قومه. فيسير في تقليد الغرب، يُجلُّ الآخر، ويُسفِّه الأنا. يُعطي الآخر أكثرَ مما يستحق، ويعطي الأنا أقل مما تستحق. يأنف من الاشتراك في أيِّ عمل وطني، ويسارع بالاشتراك في عمل الأجنبي ولو كان اسمًا. يعيب كلَّ شيء في قومه، ويقدِّس كلَّ شيء عند الغريب. يسهِّل له مقاصده، ويُطلعه على معايب قومه، ويساعده على أهله. وقد يَصِل الأمر إلى حدِّ الخيانة للوطن واستعباد الغرب له، مؤثِرًا مصلحتَه الخاصة على مصلحة الجماعة. وسواء تم ذلك عن علم أو جهل فقد ابتُليَ الشرقيون بهذه العلة. والأزمة في ازدياد حتى يستيقظوا عندما يَصِل الأمر إلى دين لا يتعبدون به، وتجارة دون مال أو مجال، وفقدان الحرية الشخصية، ووقوع في القهر والذل. ولا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي. فكلاهما في التقليد سواء؛ لأن التقليد موقفٌ حضاري لا ينبع من دين أو طائفة. وقد يشعر المسيحي ببعض الميزة على المسلم في تقلُّد الوظائف لمسيحيته ومعرفته باللسان الأجنبي، فيقربه الأجانب ويوالونه. فيقع التنافر، وتحدث الفرقة في الأمة. وكلاهما متساويان في المذلة والهوان. والعجيب أن هذه الأمة التي وقعَت في تقليد الغرب كانت مبدعةً في ماضيها. أمة لم تكن شيئًا، وأصبحت كلَّ شيء في العلم والعمران، ودانَت لها الشعوب والأقوام. ثم وَهَن البنيان، وضعف التعاون، وتقطَّعَت الأوصال. ومن ثَم فإن هذه الأمة في حاجة إلى تربية جديدة حتى تُبدعَ في الحاضر كما أبدعَت في الماضي. ويضع الأفغاني قواعدَ لتربية الأمم لا عن طريق الجرائد الأجنبية بل عن طريق تعلُّم القراءة والكتابة لفهم الحياة الوطنية، وليس عن طريق إنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة على النموذج الأوروبي لحاجة ذلك إلى سلطان قوي، بل عن طريق المدارس الأهلية القادرة على التعليم الوطني. ولا يتم ذلك تدريجيًّا بالضرورة؛ لأن الأمة لا تعرف هذه العلوم الغريبة عنها ولا كيف بدأت، وفي أي تربة نبتَت. ويكفي نقلها كما فعل العثمانيون والمصريون؛ لأنها ارتبطَت بالبيئة التي نشأَت فيها، وبنظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني. لذلك لم ينجح النقل من الخارج. وبدلًا من التشدُّق بألفاظ الحرية والوطنية دون فهمٍ لمعانيها يمكن البحث عن هذه المعاني أولًا والتعبير عنها بعديد من الألفاظ الموروثة أو الوافدة. ويمكن أيضًا تغيير عادات الشرقيين وقلب أوضاع المباني والمساكن وتبديل هيئات المأكل والملبس والفرش والتنافس مع الأجنبي فيها بعادات أصيلة جديدة أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر. لكل أمة طورها الحضاري، ولا يمكن انتحال طور أمة لأمة أخرى أو تقليدها كما حدث للأفغان من تقليد الإنجليز، فأصبحوا أعوانًا لهم وامتدادًا. ولا يمكن النضال ضد الاستعمار بتقليد المستعمر بالرغم من مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب إما إحساسًا بالنقص أمامه أو لمحاربته بسلاحه.٢

وقد يكون التقليد أيضًا للقدماء والأسلاف وهو الأقل شيوعًا عند الأفغاني؛ فتقليد الغرب أخطر من تقليد القديم الذي يمكن محاربته بضرورة الاجتهاد، ومن الطبيعي أن يقلِّد المسلمون آثارهم القديمة، آثار العرب والعجم المدفونة عند القدماء، الآثار العلمية والعملية، آثار الفتوحات والنهضة والعمران. ومع ذلك فالمسلم، عربيًّا كان أم أعجميًّا، إنما يعجب بماضيه وتراث الأسلاف، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله وكيف يجب أن يكون.

ليس الفتى مَن قال هذا أبي
ولكنَّ الفتى مَن قال ها أنا ذا٣
ويأخذ الصراع بين الأصالة والتقليد شكلَ الصراع بين الأجداد والأحفاد. يعيب الأفغاني على الأحفاد عدمَ اتباع سنن النبي، والفخر بالثبات والصبر والإقدام والبسالة والاعتصام بحبل الله، ويدعوهم إلى استلهام الأجداد. ويستنفرهم للتمسك بالأصالة التي يرمز لها الأجداد. فللأحفاد حقٌّ في ميراث الأجداد. وفي نفس الوقت يؤيد الأفغاني الشباب في معركتهم ضد الشيوخ. فمن سفهِ الرأيِ أن يعتقد الرجلُ أفضليتَه على الغير بالعمر والمشيب فقط. وربما أفادت السنون تجارب ولكن الأقدمية لا تُجدي الأفضلية غالبًا. ليست الأفضلية بالعمر والزمن ولكن بالعمل. وتجربة العمر قد تكون أقلَّ من علم الشباب. العلم قد يكون في الأحداث ولكن التجارب لا تكون إلا في الشيوخ، وبالرغم من أن كثيرًا من الآباء يستميتون ليُحيوا أبناءَهم فقليل من الأبناء لا يستثقلون طول حياتهم ويستعجلون موتهم. فالآباء أكثر رحمة من الأبناء، والأبناء أكثر قسوة على الآباء.٤
والسبيل إلى تجاوز التقليد هو العودة إلى الأصول الأولى المبرَّأة من البدع، والتي تؤدي إلى الاتحادِ ولمِّ الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، والحث على الفضائل. والدليل على ذلك تاريخ الأمة العربية ونبوغها العلمي في الماضي بعد أن عرفَت طبَّ بقراط وجالينوس وهندسةَ إقليدس وهيئةَ بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو. ودليل آخر اليابان الحديثة. ليس صحيحًا أن اليابان قد ارتقَت بتقليد الغربيِّين دون توسُّط الدين. فاليابان مثل الصين أخذت بالأفضل، تركوا الأوثان وأخذوا العلم، وقلدوا الغرب على نحو صحيح، وأقاموه على قواعد المدنية السليمة والمتفقة مع أخلاقهم وعاداتهم، ونبذوا ما كان مألوفًا في الغرب ولا يوافق طباعهم. أخذوا بالتدريج والارتقاء، لا فرق بين ذكر وأنثى في التربية على حب الوطن. لم تُقِم اليابان حضارتها على وثنيتها بل على العلوم الحديثة وعلى أخلاقها وآدابها. اليابان أمة شرقية مثل الصين ومصر تعتمد على العلم والعقل كما نص القرآن وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وكما أوصى الحديث اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. ومما ساعد اليابان في نهضتها العمرانية ميل الإمبراطور الميكادو «العادل» إلى تقييد الحكومة بالدستور وقبوله الشورى. فبعث البعثات إلى أوروبا لتعليمِ أسرته أشكالَ الحكم النيابي الدستوري وقواعده حتى تعجَّب إمبراطور النمسا من شدة رغبة إمبراطور اليابان في الحكم الدستوري النيابي، وهم يريدون التخلص منه في الغرب. وذهب تعجُّبُه عندما أخبره إمبراطور اليابان بأنه يُقيم حياتَه على أربعة أشياء: بلاده، ورعيته، والعدل، وأخيرًا احترامه لنفسه. ولا تتحقق هذه المبادئ الأربعة إلا بالحكم النيابي الدستوري. تعلَّمت اليابان أنه لا قوة مع الجهل، ولا ضعف مع العلم. فتحمَّلَت جورَ الغربيِّين، وأخذَت بالتقليد الصحيح، وأرسلَت البعثات إلى أوروبا بالمئات في العلوم والفنون. وبعد ربع جيل انتظمَت المحاكم وعمَّ العلم، وانتشرَت المدارس الوطنية، وأُسسَت هيئات اجتماعية وقومية حديثة صحيحة دون تقليد للإفرنج. ورُفعت التُّهَم عن الشرقيِّين بأنهم لا يُحسنون الإدارة أو معرفة الحقوق أو العدالة. استعملَت اليابان أولًا عددًا من الإخصائيِّين الأجانب ثم تفوَّق اليابانيون عليهم وأخرجوهم من بلادهم بعد أن أصبحَت اليابان دولة شرقية متفتحة، مع أن مصدر شقاء باقي الشرقيِّين الامتيازات الأجنبية، والمحاكم المختلطة الأجنبية التي تُحابي الأجنبي على الوطني. والناس أبناء ما يُحسنون. ولله في خلقه شئون.٥ فواضح إعجاب الأفغاني بتجربة اليابان التي يقارنها بتجربة محمد علي، الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضي والحاضر، بين العلم والحرية. ولا يفصل الصين كما يفصل اليابان.
والاجتهاد عند الأفغاني طريقُ التمسك بالأصالة والمعاصرة في آنٍ واحد، والبعد عن تقليد القدماء والمحدثين. الاجتهاد ضدُّ التقليد. فباب الاجتهاد مفتوح. ولم يُغلَق باب الاجتهاد لا نصًّا ولا عقلًا ولا واقعًا. ويُنكر الأفغاني كلَّ قول يسدُّ باب الاجتهاد. بل إن الاجتهاد عند الخلف أكثر منه عند السلف. فما أقل المجتهدين في السلف وما أكثرهم في الخلف. ويرفض قول القاضي عياض في إحدى المسائل. فهذا اجتهاده الذي قد يؤدي إلى الجمود. ويحقُّ لغيره ومَن يأتي بعده أن يجتهد من جديد نظرًا لتبدُّل الأزمان. فلماذا يقال باب الاجتهاد مسدود؟ وأي دليل نصي أو عقلي أو تاريخي يدل على ذلك؟ وأي إمام قال إنه لا ينبغي لأمير أن يجتهد بعده والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان؟ ولو عاش أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل اليوم لجددوا مذاهبهم القديمة طبقًا لظروف العصر. واجتهاد القدماء ما هو إلا قطرة من بحر وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. لقد نزل القرآن بلغة العرب وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وذلك من أجل أن يفهم وأن يعمل الإنسان بالعقل لتدبُّر معانيه وفهم أحكامه ومقاصده. وفكر الأفغاني هو فكر شرعي يقوم على الاجتهاد عن طريق الالتحام المباشر بالواقع والتنظير المباشر له اعتمادًا على روح الإسلام ومقاصد الشريعة وليس القياس الفقهي القديم الآلي الثابت، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. فالنص هو الواقع، والعلة مقاصد الشريعة، والفرع أحوال المسلمين من استعمار وقهر وتسلُّط وتخلُّف وتجزئة، والحكم هو النضال والثورة. يعتمد على المعقول والمنقول والمعاش. والاجتهاد مذكور بنص القرآن. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. لقد أضرَّ جمودُ بعض المستعلمين بالإسلام والمسلمين. لذلك يفتخر الأفغاني بصفات التعقل والتروِّي وانطلاق الفكر من الأوهام. نعم، في الإمكان أبدع مما كان. وتعجز العينُ المجردة عن رؤية الأشباح والأجرام البعيدة، وتستعين بالمجاهر والنظارات. وإذا كان على مستوى الخلق ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه على مستوى الصنعة هناك باستمرار في الإمكان أبدع مما كان. والعصامي قد يكون لمن يخلفه عظامًا. والعظامي فقط قد يبقى وارثًا للعظام.٦

(٢) الإسلام والنصرانية

ويتجلَّى الصراع بين الأنا والآخر في الإسلام والنصرانية، أو الشرق والغرب، أو التحرر والاستعمار، أو السقوط والنهضة، ويبدأ الأفغاني بآية قرآنية إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ من أجل النظر في التاريخ، والإجابة على سؤال شكيب أرسلان تلميذه: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ ويبدأ بتقريرِ واقعٍ حسيٍّ بديهيٍّ، أن الله خلق الإنسانَ عالمًا صناعيًّا، ويسَّر له سبلَ العمل، وهداه إلى الإبداع والاختراع، وقدَّر له الرزق من صنع يدَيه، يَفلح الأرض ويرعَى الحيوان، ويخيط الملابس، ويبني المساكن تحقيقًا لفكره وإبداعه. ولو لم يعمل ويجتهد لعاش عالةً على غيره يستجدي العون. وهو في فكره وعمله في حاجة إلى مَن يُرشده ويُعلمه وهو الدين. فالدين مرشدٌ للحياة. وتتنازع في الإنسان صفتان متناقضتان: الشجاعة والجبن، الجزع والصبر، الكرم والبخل، القسوة واللين، العفة والشره، الكمال والنقص. لذلك احتاج إلى التربية منذ طفولته الأولى لتنشئة الإنسان على الفضائل دون الرذائل. وتبدأ في الإنسان ثلاثة بواعث: الأول يرفعه نحو الأسرار الإلهية وبالتالي اكتشاف الدين، والثاني نحو الخواص الطبيعية وبالتالي اكتشاف العلم، والثالث نحو الحقائق الإنسانية وبالتالي اكتشاف العلوم الإنسانية. ويعتمد في إشباع هذه البواعث على كلِّ ما اختزن الآباء والأمهات والأقوام والمربون. أما التكوين البدني فلا شأن له بالاستعدادات الذهنية إلا قوة أو ضعفًا. الاستعدادات موجودة بالطبع، ويختلف الناس فيها قوة وضعفًا، فطرة واكتسابًا. قد يتفوق فيها السابقون على اللاحقين، وقد يتفوق فيها اللاحقون على السابقين. ويظل للروح سلطانٌ على البدن والذهن كما يقضي بذلك العقلاء.

والدين وضعٌ إلهي، والبشر هم الداعون إليه، تتلقَّاه العقول عن المبشرين المنذرين. فهو مكتسبٌ لمن لم يخصَّهم الله بالوحي ومنقولٌ لهم بالإبلاغ والدراسة والتعليم. وهو أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأذهان، وتصطبغ به النفوس، وما ينتج عنه من عادات وممارسات بدنية، وعزائم وأدوات. فهو سلطان الروح ومرشدُها لتدبير البدن وكأن الإنسان مجردُ لوح أبيض ينقش عليه الدين أول ما ينقش. ولو خرج الإنسان على الدين لم يخرج عما تركه فيه من صفات. واضح أن الأفغاني يجعل تقدُّمَ النصرانية وتخلُّفَ الإسلام إنما هو راجع لقانون تاريخي، القدرة على السيطرة على العالم وإعادة تصنيعه بهدي الدين. وأن الإنسان به الخير والشر، ورسالته في العالم تقتضي غلبةَ الخير على الشر. وأن الإنسان في بواعثه إما يكون عالمًا إلهيًّا أو عالمًا طبيعيًّا أو عالمًا إنسانيًّا. وهي مقدمة ضرورية للإجابة على سؤالِ تخلُّفِ المسلمين وتقدُّمِ النصارى وإرجاع ذلك للدين دون أن يطور ملاحظاته بأن النصارى تركوا الدين القديم وأخذوا دينَ العقل والعلم والإنسان والطبيعة فتقدموا، وأن المسلمين أخذوا الدين الشعائري العقائدي الفقهي وتركوا الدين العقلاني العلمي الإنساني الطبيعي فتخلَّفوا.٧

وقامت المسيحية على المسالمة والمياسرة في كل شيء، ورفع القصاص، وطرح الملك والسلطة، ونَبْذ الدنيا وبهرجها، وأوصَت بطاعة ملوك الدنيا وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والابتعاد عن التنازع والأحقاد والأهواء كما هو الحال في الوصايا على الجبل. هذا على مستوى النظر، وهي مبادئ صحيحة في كل دين. أما على مستوى العمل فقد قام المسيحيون بعكس ذلك، التقاتل على الدنيا، والمفاخرة والمباهاة، ورغد العيش، والصراع بين الممالك، والتغلُّب على الأخطار. يُبدعون في فنون الحرب، ويستعملونها ضد بعضهم البعض وضد الغير، فانقلب المثالُ إلى ضده. وتحوَّل المسيحيون إلى وثنيِّين، وبدلًا من تطبيق محبة الجار طبقوا شريعة الغاب. وقام الإسلام على طلبِ الغلبةِ والشوكة والفتح والعزة، ورفضِ كلِّ قانون يخالف شريعته، ونبذ كل سلطة لا تقوم على أساسه، فهم أهل قتال وحرب، وعلم وقوة، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. لذلك حرَّمت الشريعة المراهنة إلا في السباق والرماية أي في الفنون العسكرية. وهي مبادئ صحيحة للإسلام ولكل دين يبغي العزة لقومه في الدنيا والنجاة في الآخرة، أما على مستوى العمل فإنهم مستضعفون متخلفون مستعمرون أذلاء، فاقَتهم الأممُ الأخرى في الفنون العسكرية وأصبحوا مقلدين لها. عاشوا تحت سلطة مخالفيهم، ورضخوا لهم. لقد اخترع أهل النصرانية مدافعَ الكروب والميتراليوز وبندقية مارتين، وأحكموا الحصون، وأقاموا البواخر قبل المسلمين. وهنا تكمن المأساة، تحوَّل النصارى إلى مسلمين فتقدموا، وتحوَّل المسلمون إلى نصارى فتأخروا. كل فريق عمل عكس ما توحي به تعاليم دينه، فتقدم النصارى، وتخلف المسلمون.

ويتساءل الأفغاني: ألم ترسخ الديانتان في قلوب الناس؟ هل نبذَت كلُّ ملة عقيدتَها وكُتُبَها المقدسة؟ هل تبدَّلَت سننُ الكون؟ هل طغَت الأبدان على الأرواح؟ هل طغى الخيال على العقل؟ هل انقلب الناس على الدين وعصَت النفوس؟ هل السبب اختلاف الأجناس مع أن البشر متقاربون وينتسبون إلى أصل واحد؟ هل السبب اختلاف الأقطار وطبائع البلدان؟ ولا يجيب الأفغاني على هذه التساؤلات ولكن يعطي حجة تاريخية. فالتاريخ خير شاهد؛ فقد تمثَّل المسلمون الأوائل الإسلام فبهروا الأبصار. وانتصر العرب والفرس والترك بفضل الإسلام. وكانت للمسلمين في الحروب الصليبية آلاتٌ نارية مثل المدافع أفزعَت المسيحيِّين، وكان محمود الغزنوي يحارب الوثنيِّين في الهند بالمدافع، فهزمهم عام ٤٠٠ه قبل أن يعرف النصارى عنها شيئًا. فلماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ تقدَّم النصارى ضد قواعد دينهم، وتخلَّف المسلمون ضد قواعد دينهم كذلك. كان سببُ تقدُّمِ النصارى أنهم أبقَوا على عادات وطبائع الرومان، وبقيَت في الأعماق. وجاءت النصرانية ولم تغيِّرهم في شيء. بقيَت النصرانية في الكنائس والأديرة، خارج الحياة العامة. ثم شرَّعوا الحروب الصليبية فانتهت النصرانية، وتزعزعَت العقائد، وعادوا كلهم إلى الوثنية التي نشئوا عليها، وأصبحوا مسيحيين في الظاهر، وماديين في الباطن. أما المسلمون فبعد تمثُّلِهم الأول للإسلام وأصوله ظهر أقوام بلباس الدين، وأدخلوا في أصوله ما ليس منه. فانتشرَت عقائد الجبر والاستكانة بالإضافة إلى ما أدخله الزنادقة والسوفسطائيون في القرنين الثالث والرابع، ووضع الأحاديث المهبطة للعزائم. وتحول السم من الخاصة إلى العامة خاصة بعد انحسار التعليم والتقصير في الإرشاد. ولم يبقَ الدين إلا عند خاصة الخاصة. ومع ذلك لو أصبح المسلمون مسلمين، أو عادوا إلى الأصول لخفت العوارض وما لحق بهم من تخلُّف في التاريخ. هذه المقارنات بين المسلمين والنصارى تقوم على المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في مرآة الآخر وقراءة الآخر في مرآة الأنا مع بيان أوجه التشابه والاختلاف بين التجربتَين التاريخيَّتَين كما فعل الطهطاوي في تخليص الإبريز وكل أدب الرحلات الذي حاول علم الاستغراب تحويلَه إلى علم دقيق.٨
وإذا كانت أوروبا قد وصلَت إلى مبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة بالعقل فإن أهل أوروبا يكونون مستعدين لقبول الإسلام إذا أحسنت الدعوة إليه. فالإسلام مقارنةً بالديانات الأخرى يتسم بيُسْر العقائد وقُرْب تناولها. وأقرب الناس إليه الأمريكيون. فلا يوجد بين الإسلام وأمريكا عداوة كما هو الحال بين الإسلام وأوروبا، وقد تحققت نصفُ نبوءة الأفغاني، وانتشر الإسلام بين الأفريقيين الأمريكيين، الإسلام الأسود، وأصبح قوة مؤثرة في حياة الأمريكيين في الداخل والخارج بما يمثله من دعوة إلى الفضائل وسياسة خارجية لصالح الشعوب. ولم يتحقق النصف الآخر وهو تحوُّل أمريكا إلى عدوٍّ للإسلام مع أوروبا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والبحث عن عدو جديد. وقد لفت القرآن نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام؛ لأنه يدعوهم بلسانهم، العقل والتجربة. ولكنهم يرون سوء حال المسلمين فيتراجعون عن الإسلام. ومن ثَم يكون السبيل إلى الدعوة إلى الإسلام، التغيُّر العملي والتحقق بالإسلام. فالقرآن أولُ مَن دعى إلى الوصول إلى الحقائق بالبراهين الفلسفية والبحث عن العلل. وقد كان العرب في الجاهلية لا شيء معهم. وبفضل القرآن ملكوا العالم، وفاقوا الأمم علمًا وصناعة، فلسفة وحضارة. وإذا استطاع القرآن ذلك قديمًا فهو قادر على أن يصنعه اليوم. العيب في المسلمين والتبعة على الأمة، الانصراف عن الأخذ بروح الإسلام والعمل بمعانيه ومضمونه، وانشغال المسلمين بالألفاظ والإعراب، والوقوف على الباب دون الدخول إلى المحراب. وكما لخص تلميذ الأفغاني القضية عندما ذهب إلى الغرب، فقال: رأيت إسلامًا بلا مسلمين، وعندنا مسلمون بلا إسلام.٩

(٣) الشرق والغرب

الشرق والغرب أحد مظاهر ثنائيات الأنا والآخر على مستوى المواجهة وكما بدَت في الاستعمار الحديث. ويرسم الأفغاني صورتَين للشرقي والغربي ويحدِّد معالمهما وخصائصهما التي تجعل الغربيَّ يستعمر الشرقي، والشرقي يقبل استعمار الغربي. ويأخذ الإنجليزي نموذجًا للغربي. فالإنجليزي قليلُ الذكاء عظيمُ الثبات، كثيرُ الطمع والجشع، عنودٌ صبور متكبر، على عكس ما هو شائع من ذكاء العربي. وواضح أن هذه الصفات إرادية أكثر منها ذهنية، رومانية أكثر منها يونانية. ويأخذ العربي نموذجًا للشرقي. فالعربي أو الشرقي على عكس الإنجليزي كثيرُ الذكاء، عديمُ الثبات، قنوعٌ جزوع، قليل الصبر متواضع. فواضح أن صفات الشرقي هي العكس، صفات ذهنية، وعيبه ضعف الإرادة وجزعه وعدم ثباته وصبره ونقص طموحه. فكان من الطبيعي أن يستعمر الغربيُّ الشرقيَّ بهذه الصفات المتباينة. فالاستعمار إرادة بلا عقل. كما يثبت الإنجليزي على الخطأ إذا تسرَّع وقاله أو باشره، والشرقي لا يثبت على الصواب ولا على طلبه. فيفوز الإنجليزي على العربي بفضيلة الثبات، ويخسر العربي أو الشرقي كلَّ حقٍّ لرذيلة التلوُّن والتردد وقلة الثبات وعدم الصبر. استعمر الغربيُّ الشرقيَّ لثبات الغربي وتردُّد الشرقي وهي صفة أيضًا من صفات الإرادة إيجابًا وسلبًا، والأفغاني يعيش في عصر نيتشه، وتُوفي قبله بثلاثة أعوام. وما أكثر ما ورد في القرآن من ذكر للصبر اصْبِرُوا وَصَابِرُوا، وَالَّذِينَ صَبَرُوا، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. والأمة العربية خاصة والمسلمون عامة أحوج ما تكون إلى الصبر والثبات. يستهويها الوعدُ الكاذب وترضى به ولا تصبر على الوعد الصادق، وتخسر في الحالتين؛ فالأفغاني لا يشخص الداء ولكنه يشير إلى الدواء. وربما تغيَّر الأمر الآن بعدما أصبح الصبرُ داءً لا دواء.

والمصريون خاصة والشرقيون عامة في لقائهم مع الإنجليز أو الغرب مثل رجل مُثرٍ ترك من الأموال والأملاك وخلفه ورثةٌ سفهاء مبذرون. لذلك قضَت الشريعة بالحجْر على الوارث. وهذا الوصي هو الغرب. وفرق بين حجْر الشريعة الذي يمكن أن يرفع وبين وصاية الغرب الباقية إلى الأبد فتتحول إلى استعمار وتملُّك واستعباد. ويتخذ الغرب ذريعة حفظ حقوق السلطان أو إخماد فتنة ضد الأمير أو إنقاذ نصوص الفرامين أي صكوك الدائنين أو حماية حقوق المسيحيِّين أو الأقليات أو حقوق الأجانب وامتيازاتهم أو دفاعًا عن حرية الشعوب المقهورة أو تعليم أصول الاستقلال أو إعطاء الشعب حقوقَه تدريجيًّا من الحكم الذاتي أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته. ويصدق الشرقي هذه الدعوى كما قال الشاعر.

ما زال يغدق آلاء ويشفعها
بما يفوق أماني النفس بالعظم
فيطيع الشرقيُّ الغربيَّ منتظرًا تحقيقَ الوعود. والغربي نفسه يعتبر الشرقي خاملًا جاهلًا متعصبًا. أراضيه خصبة، ومعادنه كثيرة، ومشاريعه كبيرة، وهواؤه معتدل، والغربي أولى بالتمتع بكل هذا عن الشرقي، ويضع خطة للاستيلاء عليه. فالبقاء للأصلح. ويستعمل لذلك عدة أساليب، منها: إقصاء كل وطني يمكن أن يجهر بمطالب وطنية، تقريب الأسقط همة، والأبعد عن المطالبة بالحق، تفريق البلاد طوائف وشيعًا، وإيثار واحدة على الأخرى حتى يقع الشقاق بينهما، ويتقارب كلٌّ منهما للأجنبي طالبًا العون والتأييد ضد الطوائف الأخرى.١٠

ولا يتم مطلب الاستقلال إلا بترقية النفس بالعلم الصحيح، والوقوف على مواطن الضعف، ومعرفة الواجبات، وكيفية تحقيق الهدف، واقتصاص الضعيف من القوي، واتفاق الكلمة، وجمع الأهواء. نهض الغرب بالعلم والعمل، وانحطَّ الشرق بالجهل والكسل. الداء دفين في جسم الشرق يجب معرفتُه قبل طالب الدواء. والدواء هو العزة كما قال الشاعر:

عِش عزيزًا أو مُتْ وأنت كريمٌ
بين طعْنِ القَنا وخَفْق البنود
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبه الدم

وهو دواء أخذه الغربيون فحقق لهم العظمة والاستعلاء. ووجده الشرقيون مرًّا فطرحوه جانبًا كما قال الشاعر:

ولا يُقيمُ على ذلٍّ يُراد به
إلا الأذلَّانِ عيْرُ الحيِّ والوتَد

والأديب في الشرق يموت حيًّا ويحيَا ميتًا، بينما الأدباء في حياتهم أفقر الفقراء فإذا هم بعد الموت يصيرون بالرثاء وحفلات التأبين أغنى الأغنياء. فلا يلتفت إلى عظمائه إلا بعد مماتهم.

الشرق في حاجة إلى عمل جديد، وجيل جديد، وعلم صحيح، وفهم جديد لحقيقة معنى السلطان على الأجساد والأرواح وهو الدين، وجمع شتات أهل الأديان، وقبول الموت في سبيل الحياة، حياة الوطن. وقد تأسسَت جمعياتٌ أهلية لتكوين جيل جديد لا يقرع بابَ السلطان ولا تضعف إرادتُه، ولا تَهِن عزيمته، ولا يُغريهم الوعد بالمنصب، ولا تُلهيهم تجارةٌ أو مكسب، وارتياد المكاره لنجاة الوطن. ويؤوِّل الأفغاني حديثَ الرسول اشتدي أزمة تنفرجي بأن الأزمة هي تلك الهمة التي يستثيرها في الشرقيين، وهي سنة الله في الخلق وأداة تحريك التاريخ كما قال الشاعر:
ومهما ادلهمَّ الخطبُ لا بد ينجلي
وأظلمت الدنيا فلا بد من فجر

هذه الهمة هي التي خلقَت مجدَ الأقدمين في العراق والشام والأندلس ضد روح اليأس والقنوط. لقد حاول الغربُ إضعافَ لغةِ الشرقيِّين والتدرُّج بقتل التعليم القومي، وتشجيع احتقار اللسان القومي، وإيهامه بعجزه عن الإبداع الأوروبي حتى ينفرَ الشرقي من لغته وآدابه ويقع في الرطانة الأعجمية واستجداء المناصب من الغربيِّين. ويمكن مواجهةُ ذلك بتعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسيلته الوطن، وغايته الوطن.

لا ينفع في الشرق لسانٌ ولا قلبٌ طالما خلق المالك والمملوك، الأمير والصعلوك، العالم والجاهل سواء في العالم الصوري قبل الخلق المادي، وطالما يرى الشرقيون في الحقيقة مرارة، وفي الوهن حلاوة، وفي الذل هناء، وفي طلب العلا والعز الشقاء والعناء، المشكلة في الشرق إذن مشكلة سياسية، السيد والعبد، الراعي والرعية، وطالما لا يتم القضاء على هذه الثنائية، ثنائية الأعلى والأدنى، التصور الرأسي للعالم، الاستبداد الشرقي ينتهي كلُّ إصلاح في الشرق إلى طريق مسدود، ويظل الشرقيون ضحيةَ الوهم، ويعوج الشرقي باعوجاج حاكمه، ويستقيم إذا استقام. لذلك لا ينطبق على الشرقيين مثلما تكونون يولَّى عليكم بل ينطبق عليهم مثلما يولَّى عليكم تكونون ليس الحاكم من نوع المحكوم، بل المحكوم من نوع الحاكم. الأول طريق الديموقراطية والشورى، والثاني طريق الدكتاتورية والتسلط والقهر.١١ وكما لاحظ ابن خلدون من قبل أن المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب.

ولهذا التقابل بين الشرق والغرب طَمِع الغرب في الشرق. وامتدَّت مطامعُ الغرب إلى عموم دول الشرق. وأصبحَت ممالكُ الشرق وأهله مهددةً بأن يكون مصيرُها مثلَ مصير مصر والاحتلال، والاحتلال سبب الفوضى وارتكاب المنكرات والتعدِّي والسرقات. فالشراك منصوبة والسقوط قريبٌ إلا إذا نهضَت الأمم الشرقية ووحَّدَت كلمتَها ونشطت عقولُها، وعمل أولو العزم، وحفظت أسباب الملك، ومقومات الحرية والاستقلال. وشر أدواء الشرقيين اختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف. وبعد تقسيم الدولة العثمانية إلى عشر خديويات، لكلٍّ منها استقلالُها الذاتي في نظام لا مركزي، تطالب إيران وأفغانستان والهند الآن بالاعتماد على السلطنة حماية لها من مطامع الغرب وحتى يعودَ الشرقُ للشرقيين. كان هدفُ الأفغاني إذن إيقاظَ المسلمين والشرقيين بالحجج والبراهين وإظهار فظائع حكمهم ليبيِّن لهم أسبابَ الاستعباد والذل والمهانة لمن لم يسقط بعدُ من ممالك الشرق في براثن الاستعمار أو ليؤجلَ سقوطَه ويلمَّ شمْلَه. ولكن انهيار ممالك الشرق كان لا يمكن إيقافه وهو في الانحدار لبعدِه عن الدين، والمسكنات لا تُغني عن المرض والموت، وموت الأموات خيرٌ من ميت الأحياء، وكأن الأفغانيَّ هنا مع حتمية التاريخ في السقوط والنهضة.

ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء

وبسبب هذا الطمع، وهو الباعث الأخلاقي على نشأة الاستعمار، وسَّع الأوربيون ممالكهم، وتفنَّنوا في ذلك بالحرب والقتال والغزو أو بالدهاء والحكمة واللين والخديعة. وقد أدى كلاهما إلى الاستعمار، وتحويل ممالك الشرق إلى مستعمرات، وحكَّامه إلى مستعمرين. ولفظ «الاستعمار» من الأضداد فإنه يعني الإعمار والتعمير حسب الاشتقاق، ولكنه في الواقع يعني التخريب والاسترقاق والاستعباد، ولا تُستعمر إلا البلاد الغنية في ثرواتها ومعادنها وتربتها لجهل أهلها وخمولهم. ولا تنفع المقاومة الضئيلة أمام المعدات الحديثة. وقد يدخل الاستعمار بلعبة حربية، انتصارًا لأمير أو تثبيتًا لملك أو قمعًا لثورة وبدعوى الصداقة وحب الشعب ورقيه، الاستعمار تسلُّط دول وشعوب قوية على دول وشعوب ضعيفة وجاهلة. فالقوة والعلم أسباب حركة الشعوب والتاريخ إلى مناطق الضعف والجهل. فهو قانون تاریخي ثابت. والدول تخضع لقانون الحياة، القيام والسقوط، النهضة والانهيار، وهي قوانين الحياة والموت. الضعيفُ يخشى من القويِّ ويرهبه، والقوي يستذل الضعيف ويستعبده. استعمر الإنجليز الأمريكيِّين، فقام الأمريكيون بثورة ضد الإنجليز، وتحرروا من الاستعمار دون اللجوء إلى الشكوى. وقاد استقلالَهم جورج واشنطن طبقًا لقول الشاعر:

السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
كما استقلَّت ولاياتُ العثمانيِّين، اليونان والعرب والجبل الأسود وبلغاريا ورومانيا وهي دويلات صغيرة مدافعة عن الحرية والاستقلال. لا يفرق الأفغاني إذن بين استعمار إنجلترا لأمريكا واستعمار الأتراك لدول شرق أوروبا، ويأخذ صفَّ المستعمَرين حتى ولو كانوا من النصارى ضد المستعمِرين حتى ولو كانوا من المسلمين. لم يكن حضورُ آل عثمان في دول البلقان حضورَ الفاتحين المسلمين الأوائل، حضور العدل والحرية والمساواة والتعريب بل كان حضور المستعمر الأجنبي، حضور الظلم والقهر والاستغلال والتتريك.١٢
ويحلل الأفغاني بمزيد من التفصيل وكثير من التكرار وعدم الترتيب سياسة إنكلترا في الشرق واستعمارها لمصر والهند والسودان وقمعها لثورة عرابي في مصر وثورة المهدي في السودان وقضائها على إمبراطورية المغول ثم على ثورات الهند المتعددة منذ القرن الماضي. ويبدأ بصورة فنية، وهو الخطيب الثائر هلع على ما في البيت فهلوع لإغلاق الباب، فانخلع المصراع، وانفض الجدار من ورائه. هذا حال بريطانيا في الهند وقناة السويس. كانت تريد باب أمن، فانخلع الباب وانهدم الجدار. أرادت إنجلترا بعد احتلالها مصر أن تدخلها تحت حمايتها، وتبدل بالجيش المصري جيشًا إنجليزيًّا. وتُقيم في السودان سلطةً مستقلة، وإرضاء المصريين بتنظيم أموالهم وتسكين روع العثمانيِّين. ثم قسمت الممالك في الهند، وأقامت لكل قسم حامية فيها حتى استولَت على الهند تحت غطاء الإحسان الإنجليزي والاستبشار العثماني بما يحدث في مصر والهند.

ثم ظهرَت الدعوة المهدية في السودان. وسارعَت إنجلترا بالتدخل في مصر كطريق للهند. وسالت الدماء على سواحل البحر الأحمر. ونفرَت القلوب من الإنجليز. وبدأ الخوف في المغرب الإسلامي وطرابلس الغرب والشرق الإسلامي. فجزيرة العرب باب الهند. وأرسلَت إنجلترا جوردون باشا إلى السودان لتفريق كلمة المحاربين فشتَّتَهم ظلمًا، وجلب قساوسة بروتستانت من السويد لنشر المسيحية بين المسلمين لإخماد الثورة، وأراد منْحَ المهديِّ لقبَ أمير كردفان. ولكنه أخفق في سعيه. فذهبَت قوةٌ إنجليزية بقيادة الجنرال جراهام إلى سواحل البحر الأحمر لاسترجاع شرف بيكر وهس من الضباط الإنجليز الذين هزمهم أنصارُ المهدي. وغلبوا ثلاثة آلاف من العراة السودانيِّين، وقتَل منهم ثمانمائة بدوي ومع ذلك لم تجبن القبائل وظلت تحارب وتقاوم. وقد فتك المهديُّ بعشرة آلاف جندي بريطاني مرة، ومرة أخرى بألفين وخمسمائة، وكلُّهم تحت مشاهير قواد جيش إنجلترا. فلا يفتُّ في عزمه انهزام بعض المنتسبين إليه. تخيَّلَت إنجلترا أنها نجحَت وهنَّأَتها الدول على انتصارها في معركة وكأنها نابليون الأول أو غليوم الثاني. وليس في أفكار غوردون أن يخمد الثورة ولكنها قد تهدأ قليلًا بفضل العثمانيين والمصريين المتعاطفين مع المهدي.

كان يكفي إنجلترا حفظ باب الهند بتأييد العثمانيين والمصريين. ولكنها التفتَت إلى تقوية باب الهند الشمالي، أفغانستان وباكستان. ولم يغنِ الباب عن انهيار البناءِ كلِّه. فقد لجأ التركمان في مرو إلى روسيا بعد أن كانوا مستقلين. وقد يتبعهم تركمان سرخس وينضمون إلى فارس، وهم مخالفون لهم في المذهب فيفتح بذلك الطريق إلى روسيا إلى فراه ثم إلى قاين ثم إلى سجستان ثم إلى الهند. وهناك قبائل أفغانية في ضجر من حكومتها قد تتبع أبناء عمومتهم التركمان. وقد تخرج قبائل أخرى على الأفغان ضد سلطة أهل السنة، وقد كانوا في الحرب الأخيرة مع الإنجليز. وقد يتجاوزون إلى روسيا لوعودها لهم، فيمتد سلطان روسيا إلى شمال الهند، وتهدد الهند، وربما يمتد إلى قناة السويس، والإيقاع بقبائل الأفغان واختلافها على الإمارة بعد أن تقرَّبت إلى ألمانيا والنمسا، وعقدت معاهدة معهما على حفظ السلام في أوروبا حتى تتفرغ لآسيا. فهل يمكن للإنجليز تفهُّم الخطر القريب وألَّا يقعوا في شرَك المسألة المصرية. يخافون منها ويقعون في شرَكِها، وهم لا يقدرون عليها إلا بمعونة العثمانيِّين وبعض المصريين؟ فواضح أن الأفغاني هنا يؤسس سياسة ضرب إنجلترا بروسيا، وضرب روسيا بإنجلترا، واللعب على تناقض المصالح بين القوتين الكبيرتين في عصره، تخويف إنجلترا بروسيا، وتخويف روسيا بإنجلترا كما حدث نفس الشيء، بعد ذلك أثناء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وقيام حركات التحرر الوطني وقادة العالم الثالث خاصة عبد الناصر بالاستفادة من التناقض بين المعسكرَين المتنازعَين لصالح الاستقلال الوطني للشعوب المتحررة.١٣

ومع ذلك يبدو الأفغاني أكثرَ تعاطفًا مع روسيا كما كان عبد الناصر فيما بعد، وأكثر عداوة للاستعمار الغربي ممثلًا في إنجلترا كما كان عبد الناصر معاديًا للاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فبريطانيا تفتح البلاد وتُوقع بين أهلها البغضاء، وتتدخَّل في أمور الشرق، وتستعمر الهند ومصر لاستعباد أهليهما. الإنجليز في ذاتهم أمة من أرقى الأمم تعرف العدل في الداخل، ولكنها تمارس الظلم في الخارج. الإنسان له حقُّ الحياة. وهو الإنجليزي، ولغيره من البشر الموت، ليس في الوجود إلا الله وحق الإنجليزي، الطمع دافعه. وكل بقعة غنية في العالم له. لذلك لا يصدر عنهم في الخارج إلا الظلم. ووسيلتهم المكر والخديعة. ومن السفه مطالبةُ الشرقيِّين الإنجليز بالعدل أو الإنصاف؛ لأن معنى العدل هو التخلِّي عن البلاد وهو ما لن تقبله إنجلترا. يكشف المعيار المزدوج لإنجلترا العدل في الداخل، والظلم في الخارج، التشدُّق بالعدل كمبدأٍ عام ثم تخصُّ نفسها بالوصاية على النوع الإنساني.

ومما ساعد على استعمار الشرق من الغرب، تفكُّك عُرى الأمة الإسلامية وعدم الاتصال بين الأقوام مثل الأفغان والإيرانيِّين؛ فقد وقعت ثورة الهند عام ١٨٦٠م، ولم تصل أخبارها إلى إيران وأفغانستان إلا بعد أن تمكن الإنجليز من إخمادها، وكذلك لا يعرف الهنود أخبار إخوانهم المسلمين؛ فالتركي والمغربي، والتونسي والجزائري والمراكشي يعلمون أنه توجد مقاطعة اسمها الهند بها ملايين من المسلمين الهنود، ويعلم الهنود أن على الأرض دولة عثمانية إسلامية، يفرحون لفرحها. ومع ذلك تجهل كلُّ أمة أحوالَ الأمم الأخرى. فلا يدري أحد أخبار الهند باستثناء وقوعها تحت الاستعمار الإنجليزي. والهند درة غالية في آسيا، كانت هدف الفاتحين منذ القدم ومطمح أنظار الملوك والسلاطين. زحف إليها الإسكندر، ودخلها فاتحًا من الشمال كما فتحها جيشُ الحجاج من الشمال، من بخارى وكابول. ثم أعاد فتْحَها السلطان محمود الغزنوي. وعطش الجيش في الطريق فأعطى خادم السلطان له قربةَ ماء فأراقها أمام الجيش لا خير في حياة إذا هلك الجيش. وفضل الموت إذا كان فيه سلامة العسكر فتحمَّس الجند، وساروا حتى وصلوا إلى مكان المياه ثم انقضوا على حصون الهند، ودكُّوها بالمدافع ثم فتحها تيمور لنك ثم نادر شاه الإيراني وأخذ من خزائنها وأموالها. وفُتحَت الهند بعد ذلك عدة مرات بحروب ومخاسر عديدة.
أما الإنجليز فقد ملكوا ثلث العالم بلا مخاطر ولا دماء ولا أموال. بل استعملوا سلاح الخديعة والحيلة، أسودًا في ملمس جلود الأفاعي. يعرضون أنفسهم خدمًا صادقين وأناسًا ناصحين، داعين إلى الأمن واستقرار النظام، وتثبيت الأمراء، وتنفيذ الفرمانات، وتأييد السلطان. فإذا تصدَّى لهم ملكٌ شرقيٌّ حاذق شوشوا عليه، وألبوا عليه الرعية، وأثاروا عليه الأحقاد، وأيَّدوا، بدلًا عنه، السفهاء من الأمراء، ودعوا إلى عصيانه أو الاتفاق معهم على خلعه، وتنصيب أمير ضعيف أحمق أو صبي لم يبلغ بعدُ سنَّ الرشد من أبنائه أو أقاربه. فعلوا ذلك بالهند. انتشروا كتجار، وفرَّقوا كلمة الأمراء، وأقرُّوا الراجات، وطالبوهم بالاستقلال والانفصال عن الدولة التيمورية لتقسيم الهند إلى ممالك صغيرة، وأغروا كلَّ أمير بلقب. فإذا ما احتاج إلى المال عاونوه، مرة بالذهب، ومرة بالسيف. ونفروهم من عساكرهم، واتهموهم بالضعف والجبن والخيانة والإضلال، وطالبوا بإحلال الإنجليز محلَّهم لما هم عليه من قوة وبسالة ونظام وقيادة إنجليزية مع بعض الجنود الهنود. ووضعوا على كلِّ عاصمة فرقةً إنجليزية لحماية الحاكم، وأعطوها أسماء محلية مثل العمرية للحكومة السنية، والجعفرية للحكومة الشيعية، والكشتية للحكومة الوثنية. فإذا ما فرغت خزائنُ الحكام فتح الإنجليز خزائنهم، وأقرضوهم بفوائد كثيرة أو قليلة. فإذا ما عجز الأمير عن السداد طالب الإنجليز بقطعة أرض للاستفادة منها وسداد الدين وإرجاعها، فيضعون أيديَهم على أخصب البقاع، ويؤسِّسون فيها القلاع والحصون على أبواب العواصم. ويُغرون الأمراء بمزيد من الإسراف والتبذير، ويُغرون الحكام بالحروب بينهم، ويأتون لمساعدتهم، ويجبرونهم على الصلح في مقابل تنازل المهزوم عن جزء من أرضه للمنتصر، وهم الخادم الصادق والناصح الأمين، حتى إذا ضعف الجميع قادوهم إلى السياف بجنوده أو خلعوه، وأحلُّوا محلَّه أحدَ أعضاء العائلة المالكة بشرط أن يقطع لهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا، ويقع الكل في مخالب الإنجليز.١٤

ويستمر الأفغاني في هذا الوصف التفصيلي المعروف في مصر أيضًا في عصر إسماعيل وتكبيله بالديون ثم شراء أسهم قناة السويس وخلعه ووضع سعيد ثم توفيق مكانه حتى احتلال مصر، مركزًا على شبه القارة الهندية خاصة في الشمال. فعندما وقعَت الحرب بين الأفغانيِّين والبنجابيِّين خاف الإنجليز من تسلُّط الأفغان. فتدخلوا للصلح بينهم. وسحروا الأفغانيِّين بلين القول حتى تركوا لهم بيشاور وما يليها، وأجلَى الأفغان بنجاب. وبعد ذلك بعشر سنوات زحف الإنجليز على بنجاب وافتتحوها بأنفسهم، واستولوا على بيشاور، وأدرك الأفغان الحيلةَ بعد فوات الأوان. وقد حدث أيضًا أن خلع الإنجليز في الهند أميرًا رأوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدلًا منه ابنَه، وجعلوا أنفسهم أوصياء عليه. واستولوا على خزائنه، وأداروا مملكته، واستولوا على عسكره، ولم يبقَ له إلا الاسم. وتمَّ لهم ذلك تحت راية العدالة والإصلاح واستقرار النظام، والمحبة والإخلاص. وإذا اشتكى الملك إلى لندن تركوه حتى يجوع. وأمراء الشرق تُلهيهم الألقاب والأسماء والألفاظ حتى ولو كانت مجردةً من أية حقوق يلتذُّ بها، مثل: نائب، راجا، خدیوي، سلطان. وفي نفس الوقت يستولي الإنجليز على كل الوظائف السامية. ويوزعون بعضهم على الطوائف لتقريب بعضها على البعض الآخر، مثل الفرس أولًا الذين على دين زرادشت، وهم المجوس، ثم الوثنيون وأخيرًا المسلمون. فليس للمسلمين حظوظٌ في الوظائف إلا ما يتركه المجوسي والوثني، وفي نفس الوقت يدَّعي الإنجليز أنهم أولياء المسلمين، وينفون علماء المسلمين الذين يؤمنون بآيات الجهاد في القرآن الكريم.

تحوَّلَت الهند إلى خراب بفضل الإنجليز بعد نهبها وتقطيعها. وأهان الإنجليز الهنود، يركلونهم بالعصيِّ لأنهم ليسوا من البشر. وتسلط الإنجليز في الأماكن العالية مع أن البراهما الذي فتح الهند قادمًا من إيران لم يذلَّ الهنود مع أنهم كانوا يعتقدون أنهم من سلالة الآلهة، وأشركوا الهنود معهم. وفتح المسلمون الهند، وعاملوا الوثنيِّين مثل معاملة المسلمين حتى أوقع الإنجليز بينهم الشقاق، يتهمون المسلمين بالتعصُّب مع أن في حكومة المسلمين سنة وشيعة ووثنيِّين وفي حكومات الإنجليز لا يوجد هندي في وظيفة شريفة، ولكن النعمة تجلب النقمة. ونعمة الهند جلبَت نقمة الإنجليز لا على ما يحيط بالهند؛ لأن الإنجليز يعتبرونه من خلال ما يجب تأمينه حفاظًا على الهند. أتَت النقمة على العثمانيِّين ومصر. فقد استولَت إنجلترا من العثمانيِّين على قبرص بحجة المحافظة على ممتلكات إنجلترا في شرق المتوسط، وربما كانت نفس الحجة لاحتلال مصر وقناة السويس باب الهند والسودان مصوع وسواكن وعدن وباب المندب وجبل طارق، وكلها أبوابٌ للهند وأفغانستان وإيران. وقد حاول الإنجليز نفسَ التحايل على أفغانستان فلم تُفلح فأتَت بجيش قوامه ستون ألف جندي لاحتلاله وهم في أعلى درجات التسليح ولكن هزمهم الأفغان، فعاد الإنجليز إلى الحيلة. أما بلاد العجم فقد تم تقسيمها إلى مناطق نفوذ بين إنجلترا وروسيا اقتصاديًّا، ملاطفة الأفغان مرة والقسوة على إيران، وملاطفة إيران مرة للقسوة على الأفغان، ضربًا للأخ بأخيه، والعدو كاسبٌ في كلتا الحالتين، توحيد الأعداء، وتفريق الأصدقاء. ولم يأتِ الأفغاني الهند ليُخيفَ بريطانيا أو لإحداث شغب عليها ولكن خوف بريطانيا من عالم أعزل يُثبت ضعفَها وعدمَ أمنِها من حكمها. إنما مهمة الأفغاني استنهاضُ الهنود ويقظة الشرق في مواجهة الاستعمار.

ويستعمل الأفغاني أسلوبَ الرمز. ويشرح أسطورة هيكل عظيم خارج مدينة إصطخر لم يأوه أحدٌ إلا مات دون معرفةِ سببِ موته. فأتاه شخص يحب الموت. وسمع أصواتًا مزعجة تريد الفتك به. فرحَّب بها لأنه سَئِم الحياة. ثم اختفت الأصوات داخل الطلسم، وتناثرَت الدراهم والدنانير. وفي الصباح أتَوا لتشييع جنازته فوجدوه حيًّا مستبشرًا. وذلك لأن هلاك مَن هلك إنما كان بالفزع مما لا حقيقة له. فكذلك بريطانيا هيكل عظيم يموت الداخلون فيه من الفزع. هكذا حال الهنود، يخافون من شبحٍ لا وجود له. فقد ذهب الإنجليز إلى الهند قوة مجتمعة، وتسابقوا مع الفرنسيِّين والهولنديِّين والبرتغاليِّين إلى أراضي الهند الواسعة، وغلبوا طيبةَ قلوب الهنود، وأوهموهم بتخليصهم من الأمم الظالمة، فرنسا والبرتغال وهولندا. سيطر الإنجليز في الهند والهند الصينية وبرما على نحو مائتين وثمانية ملايين من الشرقيين، ولو كانوا ذبابًا لأصمُّوا الآذان بالطنين. ويصيح فيهم الأفغاني صيحتَه الشهيرة لو كنتم وأنتم تُعدون بمئات الملايين ذبابًا مع حاميتكم البريطانيِّين، ومن استخدمَتهم من أبنائكم فحملَتهم سلاحها لقتل استقلالكم وهم بمجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف، لو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذبابًا لكان طنينُكم يصمُّ آذانَ بريطانيا العظمى، ويجعل في آذان كبيرهم المستر غلاد ستون وقرًا. ولو كنتم أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلًّا منكم سلحفاة وخضتم البحر وأحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى لجررتموها إلى القعر وعدتم إلى هندكم أحرارًا … اعلموا أن البكاء للنساء والسلطان محمود الغزنوي ما أتى إلى الهند باكيًا بل أتى شاكيًا السلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغرٍ باسمٍ.١٥

وهذا ما حقَّقه غاندي بعد ذلك بالساتياجراها، تحويل الملايين من الهنود إلى قوة بشرية في مواجهة الاستعمار الإنجليزي. وهو ما استأنفه غاندي وسعد زغلول وعبد الناصر ونهرو وعرابي والمهدي من قبل وليس كما يحدث الآن من تفتيت للسودان وعزله عن مصر، واتجاه مصر غربًا.

١  خاطرات ٣٨٧ / ٣٩٤، الأعمال، ص٢٧٦.
٢  الأصالة والتقليد، الأعمال، ص١٩٠–٢٠١.
٣  خاطرات، ص٢٨٩–٢٩٢  /  ٣٨٧  /  ٣٩٦ بين الأجداد والأحفاد، الأعمال، ص٢٠٤–٢٠٦  /  ٢١٠  /  ٣٨٢.
٤  قوله في الناشئة الشرقية استحسانًا واستهجانًا، خاطرات، ص۱۲-۱۳.
٥  الأعمال، ص۱۹۸–٢۰۱، أمثلة في التقليد النافع، وضربه المثل دليلًا بدولة اليابان الشرقية، خاطرات، ص۱۳، قوله في الناشئة الشرقية استحسانًا واستهجانًا وأمثلته على التقليد النافع، وضربه المثل بدولة اليابان الشرقية، وذكره أنجح الوسائل للنهوض من السقوط، خاطرات، ص۲۹۹–٣١٥.
٦  باب الاجتهاد مفتوح، الأعمال، ص۳۲۹-٣٣٠، ص٢٤٨ / ٥٣٠، الرد على الدهريين، ص۱۷۸، خاطرات، ١١ / ١٦٥–١٦٧ / ٣٩١-٣٩٢ / ٣٩٦.
٧  النصرانية والإسلام وأهلهما، الأعمال، ص٢٨٢–٢٨٨، نظريته العامة في الإسلام والمسلمين وأسباب ما ألمَّ بهم من الانحطاط مع توفُّر ما في الدين من دواعي النهوض وأسباب الرقيِّ على عكس من نهض وليس في دينه ما يحمله عليه. وفيه من أخذ العدة والنهضة المنشودة فيهم وفلسفته بذلك خاطرات، ص٣٢٠–٣٢٨.
٨  الأعمال، ص٢٨٤–٢٨٨، انظر أيضًا دراستنا: جدل الأنا والآخر، قراءة في تخليص الإبريز للطهطاوي، هموم الفكر والوطن، ج٢، دار قباء للطباعة، القاهرة ١٩٩٨م، وأيضًا «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة ١٩٩١م.
٩  أوروبا والإسلام، الأعمال ص٣٢٦-٣٢٧ انظر أيضًا دراستنا «مناهج التفسير ومصالح الأمة» في الدين والثورة في مصر، ج٧ اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ۱۹۸۹م، ص۷۷–١١٦.
١٠  العرب والشرق، الأعمال، ص٤٥٣–٤٥٨، رأيه في الإنكليز ووصفه الإنكليزي والعربي وفلسفته في الحجر الشرعي على الفرد السفيه وشكل تطبيقه اليوم على أهل الشرق من الغربيِّين، خاطرات، ص١٢٢ / ٣٩٤.
١١  الأعمال، ص٣٥٣ / ١٩٠ / ٢٣٩–٢٤٢، خاطرات ٣٩٦.
١٢  الاستعمار، الأعمال، ص٤٤٧–٤٥١، رأيه في المستعمرات والمستعمرين، وأن الاستعمار لأي دولة مهما تعاظمَت قوة واقتدارًا، فمستعمراتها إن هي إلا أثوابٌ عارية قابلة للاسترداد والأدلة على ذلك، خاطرات، ص١٢، أن الغربيين ساعون بالمطامع نحو الشرق، ورأيه في كيفية الوصول لرفع ما وقع وسيقع على الشرق وأهله من الحجر، وخطر ما يلزم ذلك الأمر من الحكمة والتدبير ووعورة المطلب، خاطرات، ص١١.
١٣  سياسة إنجلترا في الشرق، الأعمال، ص٤٦٠–٤٦٤، الإنجليز والإسلام، العروة، ص٦٨–٧١، رأيه في الإنجليز، ووصفه الإنجليزي والعربي، خاطرات، ص۱۱.
١٤  الهند والاستعمار، الأعمال، ص٥٠٨–٥٢٩، حديثه عن الهند ومستقبلها وشيء من سيرة السلطان محمود الغزنوي بفتحه لتلك الأقطار، والمقابلة بين حالة مصر في عهد محمد علي باشا وحالتها بعد الاحتلال، خاطرات، ص٢٤١–٢٧٢.
١٥  الأعمال، ٥١٨-٥١٩، حديث له عن الهند مستقبلًا وشيء من سيرة السلطان محمود الغزنوي بفتحه تلك الأقطار، خاطرات، ص١٢ / ٢٥٨-٢٥٩، الهند ومصر، خاطرات، ص٢٦٦–٢٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤