قضية تستحق النظر
إنني لا أتقدم هنا بفكرة نظرية، من تلك الأفكار التي هي أقرب إلى الرياضة الذهنية منها إلى المشكلات العملية، بل أتقدم بفكرة تعاودني كلما عاودتني مسألة تحيَّرت في حلها حلًّا حاسمًا، يزيل القلق من نفسي إزاءها؛ وهي مسألة لا تكتفي بأن تمس ظواهر الحياة وقشورها ثم تمضي، وإنما هي مسألة ضاربة في حياتنا عند جذورها؛ وماذا تقول في مسألة تدير سؤالها حول الذات المصرية في صميمها؟ إنه لا يكفينا أن تُفض مشكلة كهذه، لها ما لها من عمق التأثير في وجدان المصري، بعبارة عجلى نلقي بها لنستريح، وإلَّا فما كان أهون من أن نقول عن المصري — وهو قول أكرره مرارًا لنفسي عن نفسي — أقول ما أهون أن نقول عن المصري، إنه يمتد بماضيه إلى العصر الفرعوني، ثم هو عربي، وهو بمصريته تلك وعروبته هذه، جزء من الأمة الإسلامية، هذا قول سهل ومريح، وهو فوق ذلك قول نؤمن به، أو — على الأقل — يؤمن به كاتب هذه السطور، إذ هو مقتنع من عمق قلبه وفؤاده أنه مصري عربي مسلم، ثم لا يهمه بعد ذلك أن تضاف إلى هذه الأبعاد أبعاد أخرى، كالانتماء الأفريقي مثلًا. نعم، هذا قول سهل ومريح، ولكن ماذا لو حللنا هذه الصفات الثلاث — المصرية والعربية الإسلامية — فوجدنا بعض العسر في أن نجعلها متطابقة كل التطابق بعضها مع بعض؟ إن كرامة عقولنا تقتضينا ألا نقذف بشفاهنا كلمات لها من الخطورة ما لهذه الكلمات الثلاث، دون أن نكون على وعي كامل بما هو مضمر فيها من معانٍ، وإذن فهي قضية جديرة بالنظر المتأمل الدقيق، لكي تطمئن قلوبنا، بأننا إذ نصف أنفسنا بهذه الصفات الثلاث، فنحن نعني ما نقوله ونعيه.
إنه لمما يبعثنا حقًّا على ابتسامة الساخر، أن نجد أنفسنا بصدد سؤال نسأل به عن حقيقة الهوية المصرية؛ لأن السؤال عن حقيقة الهوية، إذا جاز طرحه بالنسبة إلى شعوب قصيرة التاريخ، فهو — فيما يبدو — لا يجوز طرحه على أقدم أمة في التاريخ، فمصر حين اجتازت سبعين قرنًا من الزمن، وخاضت خلالها حضارات تعاقبت عليها، لم يكن لها في كل مرحلة هوية خاصة، اختلفت عن هويتها قبل ذلك وبعد ذلك، بل كانت هي هي مصر، مع زيادة في عمق الخبرة، وفي رهافة الحس الحضاري عند أبنائها. إنها لم تكن في كل مرحلة جديدة يجيئها بها التاريخ، تغسل عن جسدها غبار المرحلة السابقة، بل كانت كالذي يرتدي ثوبًا جديدًا يضيفه إلى ثيابه، أو كانت مثل كرة الثلج التي شرح بها هنري برجسون فعل الزمن في الكائن الحي، في أن تلك الكرة كلما تدحرجت على سفح الجبل، ازدادت كثافة الثلج في كيانها. إن اللحظة الجديدة في حياة الإنسان، لا تمحو فعل اللحظات السابقات، بل تضيف إليها جديدًا، فإذا نحن أجرينا على المصري بحثًا تحليليًّا بالمنهج «البنيوي» الجديد (الذي يروجونه هذه الأيام، في النقد الأدبي وفي غيره مما يتصل بالإنسان وحياته وتاريخه) لخرجنا من البحث ببنية مركبة، بقدر ما يتسع لذلك المحصول الحيوي الخبري الغزير، الذي امتصته مصر على امتداد القرون، والذي كونت به هوية «المصري».
نعم، إنه ليبعث فينا ابتسامة الساخر، أن نجد مجال السؤال لا يزال مفتوحًا أمامنا: من هو المصري؟ أيدخل في عناصر هويته أنه عربي وأنه مسلم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف كان؟ لكن ما حيلتنا وفي الموقف الحاضر شيء من الخلط وتداخل العناصر بعضها في بعض حتى لتتعذر علينا الرؤية الواضحة في كثير من الأحيان؟
فمن حيث أنا مصري أراني معتزًا بميراث أسلافي، منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصريًّا يترك على تربتها آثار قدميه، وكيف لا أعتز بذلك الميراث ولم يكن المصري بما شيده لا لاهيًا ولا عابثًا؟ إنه حكم، وديانة، وعمارة، وفن، وزراعة، ونصر في القتال، فلو كان قد تسلل إلى دمائي من كل جانب من جوانب ذلك المجد أقل من خردلة، لكان فيما ورثته عن هؤلاء الأسلاف ما يملأ نفسي اعتزازًا بآبائي الأولين … إلى هنا والقول منساب في سلاسة وسهولة واقتناع، لكنني مسلم يتلو كتاب الله ويؤمن بكل ما جاء فيه، ومن بين ما جاء فيه أربعة وسبعون آية عن فرعون، وفي كل آية منها إشارة إلى ضلالة من ضلالاته.
تلك إذن إحدى النقاط التي قد تثير القلق في نفس من أراد وهو مصري مسلم أن يظل فخورًا بإسلامه في تاريخه القديم، فهل يكفي لزوال ذلك القلق أن نقول إن الآيات الكريمة إنما تعني فرعونًا واحدًا، هو فرعون موسى، (وأظن أنه هو رمسيس الثاني) جاءه موسى — عليه السلام — بآيات الله فأبى وظلم، وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ، أقول: هل يزيل القلق من نفوسنا أن تكون آيات الكتاب الكريم، التي ورد فيها ذكر فرعون، إنما قصدت إلى فرعون واحد، وأن سيئات هذا الفرعون الواحد، في مناصبته العداء لبني إسرائيل وللرسالة الموسوية، لا تمحو حسنات الفراعين وما أقاموه من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها، على مدى أربعة آلاف عام؟ اللهم نعم، وبهذا أقنعت نفسي، وحللت هذه المشكلة وأزحتها من الطريق.
لكن المشكلة الأعوص، هي ذلك التداخل المربك بين «العروبة» من جهة و«الإسلام» من جهة أخرى، فواقع الأمر هو أن هذين المفهومين لا يتطابقان أحدهما مع الآخر تطابقًا كاملًا، بل هما متداخلان، بمعنى أن العروبة والإسلام يتلاقيان معًا في العرب المسلمين، وليس العرب المسلمون هم كل المسلمين، ولا هم كل العرب، فمن العرب من هم غير مسلمين، ومن المسلمين من هم غير عرب، وبعبارة أوضح نقول: إن هناك ثلاث فئات: فهنالك فئة العرب المسلمين، وهنالك ثانيًا فئة المسلمين الذين ليسوا عربًا، كأبناء تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وغيرهم، وهنالك ثالثًا فئة العرب من غير المسلمين، معظمهم يدين بالمسيحية، كما في لبنان ومصر وغيرهما، فإذا قال المصري — مثلًا — إنني أنتمي إلى العروبة وإلى الإسلام معًا، وجب أن يكون مفهومًا أن الانتماء هنا له معنيان، وليس معناه في الحالة الأولى مطابقًا لمعناه في الحالة الثانية، فالمصري عربي بمعنى أنه يتجانس مع سائر العرب في نمط ثقافي واحد متعدد الجوانب والفروع، وأما المصري المسلم فهو ينتمي إلى الأمة الإسلامية بجانب واحد، هو جانب العقيدة الدينية، وليس من الضروري بعد ذلك أن تكون بقية جوانب الحياة الثقافية مشتركة بين المصري والباكستاني أو الإندونيسي أو غيرهما من المسلمين غير العرب.
إن درجات الانتماء لا تتدرج درجة درجة من درجات «الأهمية»، بل قد يكون أشد ما أنتمي إليه التصاقًا ليس هو أهم جانب من جوانب حياتي، فربما كانت عقيدتي الإسلامية — من حيث الأهمية — أهم جوانب حياتي، لكن انتمائي لأسرتي، ولقريتي، ولوطني، وللعروبة، وللإنسانية جمعاء، يجيء فيه ترتيب الدرجات على أساس آخر غير «الأهمية»، وقد يكون هذا الأساس هو المشاركة الوجدانية، فهذه المشاركة الوجدانية بيني وبين أفراد أسرتي أقوى — بالطبع — من المشاركة الوجدانية التي بيني وبين مسلم في الصين أو روسيا، دون أن يغير هذا الموقف الوجداني من حقيقة كون إسلامي أهم جانب من جوانب حياتي.
فالمعاني كما ترى متداخل بعضها في بعض، ومن هنا كانت صعوبة التفرقة بينها، لكنها صعوبة يجب أن تُذلَّل، ليصبح تفكيرنا محددًا وواضحًا من حيث الانتماء، فنحن — من حيث الانتماء — مصريون قبل أن نكون جزءًا من الوطن العربي، ثم نحن عرب قبل أن نكون جزءًا من الأمة الإسلامية، وأكرر القول مرة أخرى، حتى لا يسوء الفهم، فأقول إن درجات الانتماء هذه شيء، و«أهمية» الإسلام للمسلم شيء آخر، ولماذا يكون انتمائي للعروبة سابقًا على انتمائي للأمة الإسلامية؟ الجواب هو أن بيني وبين العرب نمطًا ثقافيًّا كاملًا بكل جوانبه، في حين أن ما بيني وبين سائر الأمة الإسلامية هو جانب واحد من تلك الجوانب المكونة للنمط الثقافي، ألا وهو جانب العقيدة الدينية.
وقد يكون الأمر بحاجة إلى مزيد من الشرح، لنتبين في وضوح ماذا نعني بالنمط الثقافي الكامل، الذي يحتم أن أكون — أنا المصري — جزءًا لا يتجزأ من الوطن العربي، فأقول:
العروبة نمط ثقافي، من عاش حياته منخرطًا فيه كان عربيًّا، بغض النظر عن عرقه، ومن أهم المقومات التي يتألف منها ذلك النمط الثقافي، اللغة والدين وفلسفة القيم الأخلاقية والجمالية، والأعراف والتقاليد، والدعائم الأساسية التي يقام عليها النظام الاجتماعي من الأسرة وما يضبط العلاقات بين أفرادها من قواعد، إلى المجتمع القومي من حيث هو بناء موحد، تسري في أنحائه ضروب من الروابط بين الأفراد، وهنالك في التاريخ العربي رجال، لم يكن انتماؤهم العرقي عربيًّا، إذا جعلنا العروبة مقيدة بحدود جغرافية معينة، هي شبه الجزيرة العربية، لكن أحدًا منَّا لا يتردد في ضمهم إلى «العروبة» من زاوية الإطار الثقافي الذي قضوا فيه حياتهم ونشاطهم وفكرهم وعقائدهم، وإلا فمن الذي يريد منَّا أن يخرج من العروبة رجالًا من أمثال البخاري والترمذي، وابن سينا، والغزالي، لكونهم ينتمون إلى فارس من الناحية العرقية؟ وليست العروبة بدعًا وحدها في كونها قائمة على نمط ثقافي معين لا على انتماء عرقي، فها هي ذي الولايات المتحدة الأمريكية — مثلًا — قد ضمت كل أجناس الأرض من ناحية العروق، لكنها قومية واحدة برغم ذلك التنوع، بسبب الوحدة الثقافية التي يحيون في إطارها، أو هم يحاولون جهدهم أن يحيوا في إطارها، لتتحقق لهم الروح القومية في أقوى صورها.
العروبة — إذن — نمط ثقافي، تجيء اللغة في مقدمة عناصره، ونحن إذا قلنا إن العرب يتكلمون اللغة العربية، فلسنا نعني أن اللغة العربية من حيث هي طريقة خاصة للتفكير واستثارة المشاعر، وقد يوجد من يدرس اللغة العربية من غير أبنائها، دراسة تجعله ملمًّا بمعاني مفرداتها وطرائق تركيبها — كالمستشرق مثلًا — فلا نعده منخرطًا في «العروبة»؛ لأن اللغة في هذه الحالة قد دُرست من الظاهر، كما تُدرس الرموز الرياضية في معادلات الجبر والحساب، لكنها تنغرس في دارسها على نحو يجعلها مدار فكره وشعوره.
قارن اللغة العربية باللغة الإنجليزية — مثلًا — تجد بينهما ضروبًا من الاختلاف يستحيل ألا تكون انعكاسًا لاختلاف أبناء هذه عن أبناء تلك في طريقة التفكير ووجهات النظر واتجاهات الوجدان، خذ بعض الأمثلة، لماذا تقسم مفردات اللغة العربية أُسرًا أُسرًا، كل أسرة منها ترتد إلى «الثلاثي» الذي انبثقت منه (وهنالك قلة من أصول رباعية) بحيث يكفي العربي أن يلم بالثلاثي — مثل «ضرب» أو «كتب» — وأن يلم بطريقة استخراج الفروع التي تنبثق من ذلك الينبوع، ليكون على علم باستخراج المشتقات التي يريدها في المناسبات المختلفة، فما دام يحمل في جعبته الفعل «كتب»، أصبح يسيرًا عليه أن يستخرج منه أفراد الأسرة جميعًا كاتب، مكتوب، كتابة، كتاب … إلخ، وما كذلك اللغة الإنجليزية، فالإنجليزي إذا عرف الفعل الدال على «كتب» لم يستطع استخراج الاسم «كتاب» لأن هذا الاسم في لغته قائم بنفسه، وليس مشتقًا من فعل «كتب»، ولذلك كان عليه أن يحفظه كما ورد، فهل من شك في أن تجميع المفردات اللغوية تحت رءوسها الثلاثية، انعكاس للروابط الأسرية أو القبلية، أو العشائرية في نظامنا الاجتماعي؟ فالمتكلم باللغة العربية من أبنائها يعيش لغته في نظامه الأسري، ويعيش نظامه الأسري في لغته، فإذا وجدت جماعة من الناس، اختلفت عروقها، لكنها التقت في لغة كهذه بكل دلالاتها، كانت تلك الجماعة منتسبة إلى قومية واحدة.
ولماذا اكتفت اللغة الإنجليزية في التقسيم الكمي بأن جعلت الأسماء إما «مفردًا» وإما «جمعًا» في حين جعلته اللغة العربية تقسيمًا ثلاثيًّا: المفرد، والمثنى، والجمع، لماذا أفرد العربي للمثنى خانة، ودمجه الإنجليزي في خانة الجمع؟ فالكتابان عند العربي «مثنى» وعند الإنجليزي «جمع»؟ هل يمكن لاختلاف كهذا ألَّا يعكس اختلافًا بين الجماعتين في رؤية الأشياء؟ فبينما العربي يساير تقسيمه الثلاثي والأبعاد الثلاثية الكائنة في المجسمات كلها، وهي: الخط، والسطح، والكتلة، أو قل الطول، والعرض، والارتفاع، فاحتفظ بهذه الحقيقة الثلاثية، ليظهرها في لغته تفرقة بين ما هو مفرد، وما هو مثنى، وما هو جمع. والتقابل بين الأشياء وأبعادها، واللغة وأقسامها، تقابُل له ما يبرره؛ لأن السطح ما هو إلا خطوط تجاورت، والحجم ما هو إلا سطوح تتابعت، أقول إنه بينما للعربي هذه الرؤية، فللإنجليزي رؤية أخرى.
ولماذا حرصت اللغة العربية على التفرقة الكاملة بين المذكر والمؤنث في كل لفتة من لفتاتها، على حين اكتفت اللغة الإنجليزية في تلك التفرقة بمواضع دون أخرى، ففي العربية إذا خاطبت رجلًا بقولك «أنت» فتحت التاء، وإذا خاطبت امرأة كسرت التاء، أما في الإنجليزية فضمير المخاطب مشترك ومعظم الأسماء في اللغة الإنجليزية لا تفرقة فيها بين رجل وامرأة، فقولك «مدرس» و«كاتب» و«ممرض» وآلاف أخرى من هذا القبيل، وتنصرف إلى الرجل والمرأة على حد سواء، فإذا كنت تقرأ صحيفة أو كتابًا، ووجدت جملة إنجليزية معناها «قال الطفل إن المدرس أعطاه كتابًا»، لما عرفت أهو طفل أو طفلة، ولا عرفت أهو مدرس أو مدرسة، لأن الأسماء وحدها في اللغة الإنجليزية لا تفرق، لكننا نعرف أن اللغة العربية تتعقب تلك التفرقة بين المذكر والمؤنث في جميع أوضاعها، وفي المفرد والمثنى والجمع، فلكل من القسمين طريقته الخاصة التي تذكره بها اللغة العربية، فهل يمكن ألا يكون هذا صدًى للتفرقة الحادة في حياة العربي بين الذكر والأنثى؟ وهكذا، وهكذا، تستطيع أن تجد عشرات الجوانب الرئيسية في البناء اللغوي، الدالة على حقائق معاشة في حياة الإنسان العملية أو الفكرية، مما يبرر لنا القول بأن جماعة الناس الذين يتكلمون اللغة العربية، هي جماعة تحيا بدماء ثقافية واحدة، ولها رؤية مشتركة ترى بها العالم وما فيه، ويترتب على هذه المشاركة أن تكون تلك الجماعة مكونة لقومية واحدة.
وما قلناه عن اللغة ودلالاتها، نقول مثله عن موقف الناس من فلسفة القيم أخلاقية وجمالية واجتماعية، فإذا وجدنا جماعة تتميز دون سائر الجماعات بوقفة خاصة بها في وجهة نظرها بالنسبة إلى مبعث القيم، كان لنا ما يبرر اعتبار تلك الجماعة مندرجة في نموذج بشري واحد، ولنحصر حديثنا الآن في القيم الأخلاقية من وجهة النظر العربية، فلا بد لنا بادئ ذي بدء من لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن الفوارق بين شعب وشعب في هذا المجال، ليس هو أن شعبًا يجعل فعلًا ما فضيلة من الفضائل، في حين يجعله الشعب الآخر رذيلة، كلا، فالإنسانية كلها تكاد تتفق على الرءوس الكبرى لما هو فضيلة وما هو رذيلة، ولعل «الوصايا العشر» هي خير ما يلخص لنا أهم ما يلتقي عنده شعوب الأرض جميعًا، فيما يجب على الإنسان فعله أو عدم فعله في حياته الخُلقية، فليس بين شعوب الأرض شعب يجيز القتل بغير ذنب، ويجيز السرقة، ويجيز الكذب والغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد … كل شعوب الأرض متفقة في هذا المجال، ولا يمنع هذا الاتفاق بينها أن يزل الأفراد هنا أو هناك فيخطئوا.
أقول إن موضع الاختلاف الأساسي بين الشعوب في المسألة الخلقية، ليس هو في يقين الفضائل الواجبة، والرذائل المنهي عنها، بل موضع الاختلاف بينها هو في «تعليل» ذلك الوجوب أو هذا النهي، نعم كلنا متفقون على ضرورة الوفاء بالعهد، ولكن لماذا كان الوفاء بالعهد واجبًا خلقيًّا مفروضًا على الإنسان؟ هنا نجد الإجابات عن هذا السؤال تختلف باختلاف الثقافات التي تتميز بها الشعوب بعضها عن بعض، والذي يبرز ضروب الاختلاف هذه، هم فلاسفة الأخلاق، فهؤلاء هم الذين يتعقبون الثقافات المختلفة إلى جذورها الأولى. فقد نجد بعد البحث أن الشعب الإنجليزي يرى أن الوفاء بالعهد فضيلة؛ لأن خبرة الإنسان الطويلة بالحياة قد دلت على أن وفاء الناس بعهودهم أضمن لقيام المجتمع وعلاقات أفراده بعضهم مع بعض على أساس مكين ثابت، لكنك إذا أجريت مثل هذا البحث على جماعة العرب، لترى وجهة نظرها في تعليل هذا الوجوب نفسه الذي يقضي على الناس بالوفاء بعهودهم، فربما وجدت أن التعليل عندها هو أن ذلك من فروض الدين، وهكذا ترى تعديلات مختلفة عند الشعوب المختلفة للظاهرة الخلقية الواحدة، ولست أريد أن أترك الحديث في هذه النقطة قبل أن أعيد التوكيد بأن اختلاف الشعوب في المسائل الأخلاقية، ليس هو أن هنالك شعوبًا متمسكة بالأخلاق، وشعوبًا أخرى متهاونة فيها، بل الاختلاف — كما قلت — هو في التعليل، وهو اختلاف قلما يطرأ للإنسان العادي في حياته اليومية، لكنه يظهر على يدي من دأبه تعقب الحقائق إلى أصولها الأولى.
فكما وجدنا المشاركة في لغة عربية واحدة، تتضمن أن يكون المشاركون ذوي رؤية واحدة في موقفهم من العالم ومن الحياة، مما يبرر أن يُعَدوا أمة واحدة، فكذلك نقول إن المشاركة في تعليل واحد للظاهرة الخلقية، مبرر آخر لاعتبار المشتركين أعضاء في جماعة واحدة، فإذا اجتمع المبرر الأول والمبرر الثاني معًا في جماعة بعينها، ازدادت الفكرة قوةً، بأن تلك الجماعة منتمية إلى قومية واحدة.
وليست اللغة العربية، ووجهة النظر الأخلاقية، هما وحدهما ما يربط أبناء الأمة العربية في حقيقة واحدة، بل تضاف إليهما عوامل أخرى كثيرة، منها طريقتهم في قياس درجات الكمال للأشياء، فما الذي يجعل حيوانًا أكمل من حيوان، وشجرة أكمل من شجرة، وإنسانًا أكمل من إنسان؟ إذا بحثنا عن الجواب عند الفكر العربي، وجدنا هناك مقابلة بين «الفكرة» و«الشيء» بمعنى أن الذهن البشري يتصور صورة معينة، أو تعريفًا معينًا، للشيء، ثم تقاس مفردات الكائنات من حيث درجات كمالها، إلى تلك التعريفات العقلية لها، ليحكم على درجة كمالها بدرجة اقترابها من النموذج النظري، تلك هي خلاصة الوقفة الأوروبية، أو قل الوقفة في الغرب، وأما في الأمية العربية، فالوقفة مختلفة؛ لأن العربي — أيًّا كان موقعه من الوطن العربي الكبير — لا يقيس الشيء المراد الحكم عليه إلى «فكرة» عقلية، بل يقيسه إلى شيء آخر من جنسه، فالجواد يقاس إلى جواد أمثل، وقصيدة الشعر تقاس إلى قصيدة أخرى، الإنسان إلى إنسان آخر اتفق الرأي على كماله، وهكذا.
ليست غايتنا مما أسلفناه، دفاعًا عن وجهة لنظر وتجريحًا لأخرى، بل أردنا ضرب الأمثلة التي توضح ما زعمناه، وهو أن العروبة إن هي إلا انتماء إلى نمط ثقافي معين، وكان علينا أن نوضح ما أردناه بهذه العبارة، ومصر في هذا النمط الثقافي الذي تتميز به العروبة، قد تميزت به، وامتازت فيه، إذا كانت أقدر من سواها على تمثل تلك الرؤية بكل تفصيلاتها، وعبرت عن ذلك بسلوكها وبما أبدعته من فكر وفن.
فلئن كانت الهوية المصرية أقدم وأرسخ وأوضح من أن تكون موضعًا لسؤال، إلا أن هنالك أمورًا تثير شيئًا من القلق عند من يريد لنفسه التيقن والدقة، وهي أمور تنشأ من تحليل المفاهيم الثلاثة المقترنة وأعني المصرية، والعروبة، والإسلام، فالمصري المسلم الصادق مع نفسه، يريد أن يطمئن على أنه ليس فيما ورد عن فرعون وقومه في الكتاب الكريم، ما يستلزم انتقاصًا لشعور المصري بالاعتزاز بأسلافه، ثم يريد المصري المخلص لنفسه كذلك، أن يطمئن بأن المصرية والعروبة لا يتناقضان، بل إن الأولى تحتم الثانية، وأخيرًا يريد العربي أن يكون واضح الرؤية فيما يختص بانتسابه إلى العروبة والإسلام معًا، ولهذا كله عرضت ما عرضته هذا، لأن القضية تستحق النظر.