الفصل الأول

طوال السنوات الثماني الأولى من حياة ووكر، لم تختلف ليلة عن سابقتها. الروتين نفسه المتمثِّل في تفاصيل صغيرة، متصلة في ترتيبٍ دقيقٍ، كلٌّ منها بسيط، وكلٌّ منها مصيري.

يجعل هذا الروتين السنوات الثماني تبدو طويلة، وبلا نهاية تقريبًا، حتى حاولتُ أن أفكِّر فيها فيما بعدُ، عندما وجدتُها قد تبخَّرَتْ إلى لا شيء؛ لأن شيئًا لم يتغير.

استيقظتُ الليلةَ في الظلام على صوت ضوضاء آلية منتظمة، ثمةَ مشكلة في سخان المياه. «خخخخ» ثم توقَّفَ. «خخخخ»، «خخخخ».

لكن ليست هناك مشكلة في سخان المياه، إنه ولدي ووكر، ينخر وهو يلكم رأسه بقبضة يده مرة بعد الأخرى.

إنه يفعل هذا من قبل بلوغه العامين من عمره؛ فقد وُلِد بطفرة وراثية شديدة الندرة تسمى «متلازمة القلب والوجه والجلد»، وهو اسم فني لخليطٍ من الأعراض. وهو يعاني من تأخُّرٍ عامٍّ ولا يستطيع الكلام؛ لذا لا أعرف البتة المشكلةَ التي يعاني منها، ولا أحد يعرف. هناك فقط ما يزيد بقليل عن المائة شخص في العالم الذين يُعانون من هذه المتلازمة. يظهر هذا الاضطراب ظهورًا عشوائيًّا، وهو خلل بلا سببٍ أو أصلٍ محدَّدٍ، ويطلق عليه الأطباءُ متلازمة يتيمة؛ لأنه يبدو غير معلوم المصدر أو السبب.

أعدُّ النخراتِ وأنا أتحسَّس طريقي إلى حجرته: واحدة كل ثانية. لكي أجعله يتوقَّف عن ضرب نفسه، عليَّ أن أغريه بالعودة إلى النوم؛ ما يعني اصطحابه إلى الطابق السفلي وإعداد زجاجة التغذية له، ثم حمله والعودة به إلى السرير.

يبدو هذا أمرًا يسيرًا، أليس كذلك؟ لكن مع ووكر، كل شيء معقَّد؛ فبسبب هذه المتلازمة لا يستطيع ووكر تناوُلَ طعامٍ صلبٍ عن طريق الفم، أو بلعَ شيء بسهولة. ولأنه لا يمكنه الأكل؛ فإنه يتناوَل نوعًا من الألبان الصناعية أثناء الليل من خلال نظامِ تغذيةٍ. ويسير هذا اللبن في أنبوب ممتد بين كيس غذاء ومضخَّة مثبتة على حاملٍ معدني، وعبر فتحة في رداء نوم ووكر ومنها إلى صمام دائم معقد الشكل مثبَّت في بطنه، يُعرَف أحيانًا بأنبوب التغذية عن طريق البطن أو «ميكي». ولكي أحمله من السرير وأنزل به إلى المطبخ لإعداد زجاجةِ التغذية التي ستهدِّئ من رَوعه ليعود بعدها إلى النوم، عليَّ أن أفصلَ أنبوبَ التغذية من ميكي. ولكي أقوم بهذا، عليَّ أولًا أن أُغلِقَ المضخة (في الظلام حتى لا يستيقظ تمامًا) ثم أُغلِقَ أنبوب التغذية، وإذا لم أُغلِق الأنبوبَ، فسينسكب اللبن الصناعي اللَّزِج على السرير أو الأرضية (السجادة في غرفة ووكر لونها أزرق فاتح: هناك بقع تُشبِه صحراء جوبي تحت أقدامي، نتَجَتْ عن مراتٍ سابقةٍ انسكب فيها اللبن الصناعي ولم ألتفت إليه). ولكي أغلق الأنبوب، أضغط بإبهامي على أسطوانة بلاستيكية حمراء صغيرة أسفل منزلق (هذا هو الجزء المفضَّل لديَّ من الروتين؛ شيء واحد، على الأقل، سهلٌ يمكنني التحكُّم فيه)، ثم أفتح سوستة رداء نومه المكوَّن من قطعة واحدة (ووكر صغير الحجم، وينمو نموًّا شديد البطء، حتى إنني لا أشتري أرديةَ نومٍ جديدةً له ذات مقاس أكبر إلا كلَّ عام ونصف)، وأصل إلى الداخل لأفصل الأنبوب من ميكي، وأسحب الأنبوب من الفتحة الموجودة في رداء نومه وأعلِّقه على الحامل المعدني الذي يحمل المضخة وكيس الغذاء، ثم أعيد غلقَ ميكي وأغلق سوستة الرداء. بعد ذلك، أحمل ووكر الذي يبلغ وزنه حوالي عشرين كيلوجرامًا من أعماق سرير الأطفال الذي ينام فيه؛ فهو ما زال ينام في سرير أطفال. هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نُبقِيَه في السرير ليلًا، فبمقدوره أن يُحدِث كثيرًا من المشكلات إذا كان بمفرده.

***

ليست هذه قائمة من الشكاوى، وليست هناك جدوى للشكوى، وكما قالَتْ لي ذاتَ مرة أمُّ طفلٍ آخَر يعاني من المتلازمة نفسها: «أنت تقوم بما يجب عليك القيام به.» على أي حال، هذا يمثِّل الجزءَ السهلَ من الموضوع، ويتمثَّل الجزءُ الصعب في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها ووكر في ذهني كلما حملته. فما قيمةُ حياةٍ مثل حياته؛ حياة تُعَاش في الظل، وغالبًا في ألمٍ؟ وما قيمة حياته عند مَن حوله؟ قالت لي إحدى الطبيبات منذ فترة قصيرة: «ننفق مليونَ دولار لإنقاذهم، ولكن بعد خروجهم من المستشفى نتجاهَلهم!» كنَّا نجلس في مكتبها وكانت تبكي، وحين سألتها عن السبب قالت: «لأني أرى ذلك يحدث باستمرار.»

أحيانًا تُشبه مشاهدةُ ووكر النظرَ إلى القمر؛ فأنت ترى وجه رجلٍ في القمر، ولكنك تُدرك أنه لا يوجد أيُّ شخص بالفعل هناك. ولكن إذا كان ووكر لا قيمةَ له، فَلِمَ يحمل هذا القدْر من الأهمية بالنسبة إليَّ؟ وما الذي يحاوِل أن يُرِيَني إياه؟ إنَّ كلَّ ما أريد معرفته حقًّا ما يدور في رأسه الغريب الشكل، وقلبه المتعالي، ولكن كلَّ مرة أتساءل فيها عن هذا، يقنعني على نحوٍ ما أن أنشغل بنفسي.

***

لكن، ثمَّةَ إشكال آخَر؛ فقبل أن أنزل إلى الطابق السفلي مع ووكر من أجل تحضير زجاجة التغذية، أجد أنَّ حِفَاضَه ممتلئ عن آخِره. إنه غير مدرَّب على استعمال الحمام، ودون حِفَاض جديدٍ لن يخلد إلى النوم ويتوقَّف عن ضرب رأسه وأذنيه بقوة؛ وهكذا نتحول من روتين أنبوب التغذية إلى روتين تغيير الحِفَاض.

أذهبُ إلى منضدة التغيير البالية، وأتساءل في كلِّ مرة أفعل فيها ذلك: كيف سيتم ذلك عندما يبلغ عشرين عامًا وأكون أنا في الستين؟ السر أن تُشبِك ذراعيه حتى تمنعه من ضرب نفسه بعنف، ولكن كيف تغيِّر الحِفَاض الممتلئ لولدٍ يزن عشرين كيلوجرامًا، بينما تشلُّ حركة يديه حتى لا يلكم رأسه بعنف أو (الأسوأ) يُنزِل يديه ليحكَّ بها مؤخرته الصغيرة التي تشبه البرقوق، والتي تحررت فجأةً من حِفَاضها، وبهذه الطريقة تنشر البراز في كل مكان؟ وبينما في الوقت نفسه تشلُّ حركة قدمَيْه، بسبب ما ذكرته سابقًا، لا يمكنك أن تغفل ولو لثانية. ضع في اعتبارك أن كل ذلك يحدث في الظلام أيضًا!

لكن لديَّ روتيني في هذا الشأن؛ أُمسك يده اليسرى بيدي اليسرى، وأضع يده اليمنى تحت إبطي الأيسر كي أوقفها عن الحركة — قمت بهذا مرارًا وتكرارًا، فهو مثل المشي — وأُبعِدُ كعبَيْه عن منطقة الخطر باستخدام مرفقي الأيمن لأمنع ركبتيه من الانثناء، وأؤدِّي المهمة الكريهة الفعلية بأكملها بيدي اليمنى. لم تَعُدْ زوجتي جوانا تستطيع القيام بذلك بمفردها، وهي أحيانًا تناديني لأساعدها، ولا أكون لطيفًا أبدًا حينما تفعل.

وعملية تغيير الحِفَاض نفسها مهمةٌ يتعيَّن القيامُ بها بدقة بالغة كما يفعل خبير الذخائر في فيلمٍ لجيمس بوند يسعى إلى إبطال مفعولِ قنبلة ذرية: فتْحُ حِفَاض جديد للطفل وإلباسه، الملمس المميز لأشرطة الفيلكرو الخشنة على ورق الحفاض الناعم، الشك في أن الحِفَاض لن يصمد أبدًا، والراحة الغامرة لإعادة تثبيته في النهاية … تم إنجاز المهمة بنجاح! كل شيء على ما يرام مرة أخرى! ثم يأتي بعد ذلك إعادة إدخال رجلَيْه في رداء النوم.

الآن نحن جاهزان للتوجُّه إلى الطابق السفلي لإعداد زجاجة التغذية.

نهبط ثلاث مجموعات من الدَّرج لأسفل، ونحن ننظر من نوافذ منبسط الدرج أثناء نزولنا. يتحرك ووكر؛ لذا أصف الليل له بصوت خفيض. لم يطلع القمر هذه الليلة والجو رطب مقارنة بالمعتاد في شهر نوفمبر.

في المطبخ، أقوم بطقوس إعداد زجاجة التغذية: الزجاجة البلاستيكية الخفيفة الوزن جدًّا (ثالث زجاجة نجرِّبها قبل أن نجد بغيتنا، وهي كبيرة ومناسبة لمهاراته الحركية الضعيفة، إلا أنها خفيفةٌ بالقدر الكافي كي يحملها)، والعبوة الاقتصادية الحجم للَّبن الصناعي إنفاميل (التي لا يساعد حجمها على حملها؛ لأن وزنها كبير)، والمعايرة الدقيقة التي تتم بيد واحدة لملاعق صغيرة من مسحوق بابلوم المصنوع من الحبوب ودقيق الشوفان (السوائل الخفيفة قد تتسرب إلى رئتيه؛ وقد استغرق الأمرُ شهورًا حتى نصل لهذه النِّسَب التي يسهل ضبطها، والتي توفِّر لنا القوامَ الذي يسهل التحكُّم فيه. رأسي مليء بمثل هذه الأرقام: الجرعات وأوقات إعداد الطعام، ومعدل التبرز/الهرش/الصراخ/النوم). ذلك الشعور الليلي بالضيق لوجود طبقةٍ رقيقةٍ من مسحوق بابلوم في كل مكان: هل يمكن أن ننعم بحياة منظمة مرة أخرى؟ والشعور الثاني، بالخزي، لتفكيري في مثل هذه الأفكار في المقام الأول. ثم يأتي البحث، في مصفاة الأطباق الممتلئة دائمًا ذات اللونين الأبيض والأزرق (دائمًا ما نغسل أشياءنا، مثل: أنبوب المص المدرج، أو السرنجة، أو زجاجة الطعام، أو كوب معايرة الأدوية)، عن حلمة الزجاجة (ولكن الحلمة المناسبة هي التي قمت أنا بتوسيع فتحتها على شكل حرف إكس حتى تسمح بمرور السوائل الأكثر سمكًا)، والغطاء البلاستيكي للحلمة. ثم أضع الغطاء على الحلمة، وأشعر بالارتياح حين أسمع صوت طقطقة غطاء الحلمة وهو يدخل مكانه، وفرن الميكروويف الذي لم يَعُدْ يعمل كما ينبغي.

نصعد مجموعات الدَّرَج الثلاث لأعلى. ما زال يحاول لَكْمَ رأسه بعنف. لماذا يفعل ذلك؟ لأنه يريد أن يتكلَّم ولكنه لا يستطيع، ولأنه — هذه آخِر نظرية توصَّلْتُ إليها — لا يستطيع فعل ما يرى الآخَرين يفعلونه. أنا متأكد من أنه يدرك كيف أنه يختلف عنهم.

أحمله في مشقة شديدة إلى سريره في حجرة أخته الأكبر منه هايلي في الدور الثالث حيث أنام، حتى أكون بالقرب منه. في هذه الأثناء تكون هايلي في الدور الأسفل منَّا مع أمها في حجرة نومنا حتى يتمكَّنا من أخذ قسط من النوم. هكذا نتناوب، فبسبب هذا الولد تحوَّلَتْ حياتنا مثل البدو في نومهم. ولم تتمكَّن جوانا ولا أنا من نوم ليلتين متواليتين منذ ثماني سنوات، وكلانا يعمل بالنهار. وبعد الأسابيع الستة الأولى، لم أَعُدْ ألاحظ شعوري بالتعب: أصبحت أيامنا وليالينا أكثر مرونةً وتشابهًا.

أضعه على السرير، أوه! اللعنة! نسيتُ المضخة! أضع حوله عددًا من الوسائد حتى لا يهرب أو يقع من على السرير، بينما أنطلق عائدًا إلى الحجرة الأخرى. أتذكر ٤ سنتيمترات مكعبة (أم تُراها ٦؟) من هيدرات الكلورال، الموصوف للنوم وتقليل إيذائه لنفسه (ذات مرةٍ أخذتُ منه جرعةً: نفس تأثير جرعة مزدوجة من شراب المارتيني، ولقد طردت المدرسةُ وليام إس بوروز وهو طفل؛ لأنه استخدمه.) أُعِيد تشغيل المضخة وأُعِيد تشغيل الأنين المتكرِّر المعتدل المألوف؛ نبضه الليلي.

في النهاية، أنام بجانبه وأسحبه قريبًا مني. يبدأ في ضرب رأسه مرة أخرى، ولأننا لا نعرف طريقةً مقبولةً لتقييده آليًّا، أُقيِّد بيدي اليمنى الكبيرة يده اليمنى الصغيرة؛ فيجعله هذا يرفع يده اليسرى إلى أذنه الأخرى. أخبرني معلمه في أحد الأيام: «هو عبقري في إيجاد طرقٍ لإيذاء نفسه.» أُمسك يده اليسرى بيدي اليسرى، التي أمررها من خلف رأسه. يبدأ في ركل نفسه في المساحة بين الرِّجْلين بكعبه الأيمن، على نحوٍ قويٍّ يجعلني أجفل، فأضع رجلي الكبيرة فوق رجله الصغيرة، وأضع يدي اليمنى (المُمسِكة بيده اليمنى) على فَخِذه اليسرى لجعله يسكن، إلا أنه أقوى مما يبدو؛ فأطرافه التي تشبه أطرافَ الطيور تعطيه قوةً كبيرةً لدرجة أنه يمكن أن يحطم أذنيه إذا لم يُوقِفه أحدٌ.

بالطبع هناك احتمال لعدم جدوى كل هذا؛ فمن وقت لآخَر ينعكس تأثيرُ شراب هيدرات الكلورال ويحوِّله إلى شخصٍ ثَمِلٍ ضاحك. وليس غريبًا أن نقوم بالروتين كله مرة أخرى بعد ساعة. وعندما يصاب بالبرد (والذي يحدث ثمانِي أو عشر مرات في العام)، يُوقِظه السعال كلَّ عشرين دقيقة. وأحيانًا يصرخ لساعاتٍ دون سبب، وتأتي ليالٍ لا ينفع فيها عمل شيء، وليالٍ يكون فيها مستيقظًا على هذا الحال، يضحك ويلعب ويزحف عليَّ. لا أبالي بهذه الليالي، مهما أصابني من تعب: فبصره ضعيف، ولكن في الظلام كلانا سواء، وأعرف أن هذا يُسعِده. وبالليل هناك فترات يكون فيها طفلًا طبيعيًّا لا يختلف عن أيِّ طفلٍ عاديٍّ آخَر، وهذا يجعلني أكاد أبكي وأنا أقول لك ذلك.

الليلة ليلة سعيدة: أستطيع أن أشعر به وهو يدخل في النوم بعد عشر دقائق. يتوقَّف عن النخر، ويلعب في رفقٍ بزجاجة التغذية، ويدير ظهره ويدفع بمؤخرته الصغيرة النحيلة باتجاه وَرِكي، كعلامة اطمئنانٍ، ثم يغطُّ في النوم.

ألحق به سريعًا. بسبب كل هذا الكابوس الليلي — سنوات من القلق الشديد والمرض والحرمان المزمن من النوم والفوضى الشديدة التي جلبها إلى حياتنا؛ مما هدَّدَ زواجنا ومواردنا المالية وسلامتنا العقلية — أتوق إلى لحظة إخلاده إلى النوم أمامي بجسده الواهن. لفترة قصيرة، أتمنى أن أكون أبًا لولدٍ صغيرٍ طبيعيٍّ، وأحيانًا أرى أنه هدية لي مغلفة؛ كي توضِّح لي كم هي نادرة وثمينة. ووكر، أستاذي، ولدي حبيبي، حبيب قلبي، البائس والمريض!

***

في السنوات الأولى، بعد تشخيص حالة ووكر للمرة الأولى بأنها متلازمة القلب والوجه والجلد وقت أن كان عمره سبعة أشهر، والعدد المقدَّر من البشر الذين يصابون بهذه المتلازمة يتغير في كل مرة نزور فيها الطبيب. وما زال المجال الطبي — على الأقل العدد القليل من الأطباء الذين درسوا تلك المتلازمة، أو الذين يعرفون ماهيتها — يتعلَّم المزيدَ عن هذه المتلازمة مثلنا. ولا يدل الاسم على أي شيء إلا على خليط من أبرز أعراض المتلازمة: القلب؛ النفخات القلبية الدائمة والتشوُّهات وتضخُّم القلب. والوجه؛ تشوُّه الوجه وهو من أبرز الأعراض، فهناك بروز بالجبهة وتباعُد بين العينين. والجلد؛ مشكلات جلدية كثيرة. في المرة الأولى التي وصف اختصاصيُّ علم الوراثة المتلازمةَ لي، قال: إن هناك ثمانية أطفال آخَرين في العالم يعانون منها. ثمانية! هذا مستحيل! لقد انتقلنا بالتأكيد إلى مجرة مجهولة.

لكن خلال عام، بعدما بدأ الأطباء مراجعة المصادر الطبية بحثًا عن معلوماتٍ تخصُّ هذه المتلازمة، أبلغوني بأنه توجد ٢٠ حالة؛ إذ ظهرت حالات جديدة في إيطاليا، ثم زادت إلى ٤٠ حالة. (جعلتني سرعة زيادة الأرقام أسخر من الأطباء؛ فهم أطباء متخصصون، وبالتأكيد من المفترض أن يعرفوا أكثر مما نعرف.) وظهرت أكثر من ١٠٠ حالة لهذه المتلازمة منذ اكتشافها لأول مرة في ثلاثة أشخاص والإعلان عنها بصورة علنية في عام ١٩٧٩، وهناك بعض التقديرات توصلها إلى ٣٠٠ حالة. ويُعَدُّ كلُّ شيء حول المتلازمة لغزًا وغير معروف، وقبل عام ١٩٨٦ لم يكن لها اسم محدَّد. تراوحت الأعراض بشدة من حيث حدتُها ونوعُها، (ويرى بعض الباحثين أنه ربما يوجد هناك آلاف من المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولكن لديهم أعراض أقل حدةً مما يجعل المتلازمة لا يمكن ملاحظتها.) يضرب بعضُ الأطفال المصابين بهذه المتلازمة أنفسَهم، ولكن الأكثرية لا يفعلون ذلك، يستطيع البعض التحدُّث أو الإشارة، وقليل منهم فقط متأخِّرون عقليًّا، ودرجة التأخُّر تراوحَتْ من البسيطة إلى الشديدة، وتراوحَتِ العيوبُ بالقلب من الخطيرة إلى غير الخطيرة على الإطلاق. (يعاني ووكر من نفخات قلبية بسيطة.) وكان جلدهم يعاني غالبًا من حساسية اللمس، لدرجة الألم الشديد. ومثل كثير من الأطفال المصابين بتلك المتلازمة، كان ووكر لا يستطيع مضغَ الطعام أو بلعه بسهولة، ولا يستطيع التحدُّث، وكان بصره وسمعه ضعيفين (عصباه البصريان ضيقان، أحدهما أضيق من الآخر، وقنوات الأذن الضعيفة معرَّضة للعدوى بصفة مستمرة)، وكان نحيلًا وضعيف الجسم؛ أي كان لديه «نقص في توتر عضلاته»، إذا استخدمت المصطلحات الطبية.

مثل كلِّ الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد تقريبًا، لم يكن عنده أي حواجب، وكان لديه شعر مجعَّد متناثِر، وجبهة بارزة، وعينان متباعدتان الواحدة عن الأخرى، وأذنان منخفضتا الموضع، وشخصية متنوعة جذَّابة غالبًا. يزداد ظهور أعراض تلك المتلازمة، وتصبح أكثر «شذوذًا» كلما كَبِر في السن. افترضتُ أن ولدي الصغير مثال متوسط للحالة، وظَهَر أني كنت مخطئًا؛ فقد اتضح أنْ لا وجود للحالة المتوسطة في هذه المتلازمة.

كما لم تتغير هذه الأعراض؛ فاليوم وهو في سن الثالثة عشرة — يصيبني الرعب حتى وأنا أكتب هذه الكلمات — يتراوح عمره من الناحية العقلية والجسمية ما بين سنة وثلاث سنوات تقريبًا. من الناحية الجسدية، هو أفضل من كثيرٍ من الأطفال المصابين بتلك المتلازمة (لا تصيبه نوبات مرضية على نحوٍ متكرِّرٍ، وليسَتْ عنده قرحة في الأمعاء)؛ أما من الناحية المعرفية، فهو أقل من نظرائه. يمكن أن يعيش إلى فترة منتصف العمر. هل هذا حظ سعيد أم سيئ؟

ما عدا تفاصيل وراثية قليلة مكتشَفَة حديثًا، كان هذا — ولا يزال — مبلغ علم الطب بشأن متلازمة القلب والوجه والجلد؛ فهي لم تُدرَس على نطاق واسع مثل التوحُّد، ويعرف معظم آباء الأطفال المصابين بتلك المتلازمة عن هذا المرض أكثر مما يعرفه الأطباء الذين يعالجون أطفالهم. وليس مجتمع المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد كبيرًا ولا قويًّا سياسيًّا مثل مجتمع متلازمة داون، التي يعاني منها أكثر من ٣٥٠ ألف شخص في أمريكا الشمالية، وهي التي تصيب طفلًا واحدًا من بين كل ٨٠٠ مولود. أما متلازمة القلب والوجه والجلد فلا تظهر غالبًا في أكثر من حالةٍ بين كلِّ ٣٠٠ ألف مولود، بل ربما حالة واحدة في المليون. ووصف مكتب أبحاث الأمراض النادرة التابع للمعاهد القومية للصحة الأمريكية متلازمة القلب والوجه والجلد بأنها «نادرة للغاية»؛ مما يضعها على أقصى طرف الخط الإحصائي، جنبًا إلى جنب مع حالات الاضطراب الوراثي مثل متلازمة شدياق-هيجاشي، وهي عبارة عن اضطراب نزفي يسبِّبه خلل في الصفائح الدموية واختلالات في كرات الدم البيضاء. ولم تكن هناك سوى ٢٠٠ حالة معروفة من حالات متلازمة شدياق-هيجاشي، وهذا — جزئيًّا — يرجع إلى أن الذين يُولَدون بها نادرًا ما يبقون على قيد الحياة.

تُعَدُّ تربية ووكر مثل طرح علامة استفهام؛ فكثيرًا ما كنتُ أريد أن أخبر أحدَ الأشخاص بالقصة، وكيف كانَتِ المغامرةُ التي خضتها في هذا الشأن وماذا كانت تفاصيلها، وما لاحظته حين لم أكن أتحرَّك في الظلام. ولكن مَن يستطيع أن يتفهَّم مثل هذه الحالة الإنسانية الشاذة، هذا الجانب الغريب والنادر من الوجود الذي وجدنا أنفسنا فجأةً فيه؟ وقد مرَّ أحد عشر عامًا قبل أن أقابل شخصًا كهذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤