الفصل العاشر

فيما يلي المصطلحات المسردية التي «تساعد على فهم متلازمة القلب والوجه والجلد»، كما هو مذكور في موقع الويب الخاص بعلم الوراثة التابع للمكتبة القومية للطب بالولايات المتحدة الأمريكية:
موت الخلايا المبرمج، أذيني، جسدي، وراثة جسدية سائدة، سرطان، قلبي، اعتلال عضلة القلب، خلية، جلدي، تمايز، فشل في النمو، جين، صمام القلب، فرط تباعد، متضخم، نقص التوتر، مرض السماك، معدل حدوث، تقرن، كبر حجم الرأس، تشوه، تأخر عقلي، توتر العضلات، طفرة، طفرة جينية جديدة، نواة، فرط تباعد العينين، شق جفني، تكاثر، بروتين، تدلي الجفن، ضيق رئوي، وبروتينات RAS، نوبة، عيب حاجزي، قصر القامة، الإشارة، قامة، تضيق، عَرَض، متلازمة، نسيج.

لقد أسرتني اللغة التي توصف بها حالة ووكر الغريبة. ابتُكِرت كلمات جديدة لمخلوق جديد، مفعمة بالدقة الظاهرية للتسمية العلمية، كما لو أن كل المسميات تدل على شيء مفيد ونافع، وهي بالطبع تدل على ذلك نسبيًّا. أسرني ذلك التعقيد الضروري لوصف شخص أبله، إذا استخدمنا الكلمة القديمة التي كانت علمية في السابق لوصف مثل هذا الشخص. إن كل شيء متعلِّق بووكر معقَّد بسبب شيء آخَر، وكنتُ في كثير من الأحيان أقدِّر ذلك، حين كان يضيف له تميُّزًا أكبر، ويقدِّم لي المزيد للتفكير بشأنه. وأحيانًا كان هذا كل ما هو متاح للتفكير بشأنه.

***

كنت جالسًا في مكتبي في مقر «ذا جلوب آند ميل»، الجريدة اليومية الكبيرة التي أعمل فيها، في صباح اليوم الذي قرأتُ فيه البحث العلمي الذي يشير إلى أن عالمة الوراثة كيت روين اكتشفت طفرةً في ثلاثة جينات مرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. كان ذلك في يوم ثلاثاء من شهر أبريل عام ٢٠٠٧. يقع مكتبي في مكان مفتوح، وهو مكان لا يختلف في ملاءمته للكتابة عن المجازر في شيء. ولكن في ذلك الصباح كان عليَّ أن أنهض وأخرج لأتمشى، ولم يكن بإمكاني التقاط أنفاسي. هناك جين هو السبب في حدوث متلازمة القلب والوجه والجلد. بعد التعايش مع لغز ووكر لمدة ١١ عامًا، أجد الفكرة مثيرة، ولكنها مرعبة. فرغم كل شيء، كانت علاقتي بووكر شخصية وخاصة؛ كنَّا نعمل وفق معاييرنا الخاصة، وما كانت تسمح به الظروف بيننا. كنت «أتحدث» إليه و«يتحدَّث» إليَّ بنقر ألسنتنا ذهابًا وإيابًا حتى نُعرف بعضنا أننا ننتبه إلى بعض، وأن كلانا موجود يستمع للآخَر. الآن هناك جين، سبب علمي موضوعي، هو السبب في مرضه. كيف يمكن أن يؤثر فيَّ هذا؟ هل يمكن أن يغيِّر ممَّا أعتقده بشأن قدرات ابني الخفية؟ هل ما زلت أستطيع أن أجد راحة في لغة الطقطقة الخاصة بنا — على سبيل المثال لا الحصر — إذا قال الجين إنها لا فائدة منها، وأن هذا الاتصال يتجاوز قدراته؟ حتى الآن أنا مضطر فعلًا إلى اقتسام ابني مع دار الرعاية. هل عليَّ الآن أن أقتسمه مع المعمل؟

أنا لا أقول إنه لا يوجد أمل كبير في هذا الاكتشاف، فإذا علمت الخطأ الجيني المسبِّب لمتاعب ووكر، لاستطعت تحديد تلك المتاعب بدقة، وربما قد أجد لها علاجًا، فسيكون هناك سبب أكيد ومسلَّم به، شيء يُلقَى عليه باللائمة وشيء يمكن علاجه؛ حقيقة ملموسة صغيرة في بحر التخمينات والغموض الذي كان يشكِّل حياته، وحياتنا.

بعد أسبوعين سافرتُ بالطائرة إلى سان فرانسيسكو لمقابلة الدكتورة روين، وفي المطار استأجرت سيارة ذات وحدة خاصة بنظام تحديد المواقع العالمي، وكانت أول مرة أقوم فيها بذلك، فحتى ذلك الحين كنت دائمًا أستخدم الخرائط؛ فأنا أحب الخرائط، وأحب طريقة عرضها التي تتيح لك إلقاء نظرة عامة على مكان ما جديد وغير مألوف، بشكل تخطيطي، قبل أن يتحوَّل المكان لتفاصيل، ويصبح قريبًا جدًّا ولا سبيل لتجنُّبه.

باستخدام وحدة نظام تحديد المواقع العالمي، أستطيع بسهولة أن أنتقل إلى المكان الذي أريده في مدينة كبيرة ومعقدة ومربكة بعد حلول الظلام، أستأجر سيارة وأُدخِل عنوانَ المكان الذي من المفترض أن أتوجه إليه، فتوجهني الوحدة إلى الخروج من باحة الانتظار التي توجد بها السيارة التي استأجرتها، ثم ترشدني على الفور للقيادة عبر سلسلة من الطرق السريعة، من خلال شاشة تتحرك عليها نقطة ضوء بسرعة، تظل تتحرك لمدة طويلة حتى تتوقف في النهاية عندما أصل إلى باحة انتظار السيارات لأحد الفنادق. جعلتني هذه الوحدة أشعر بأني أذهب بسرعة إلى المكان الذي أختاره، وكان العيب فيها أنني لم أكن أدري قطُّ مكاني في الصورة الكلية. تأخذك هذه الوحدة إلى حيث تريد أن تذهب، وتختصر التنقلات الجانبية الأقل فاعليةً، وقد خطر لي أنها مثل الجين المسبِّب لمتلازمة القلب والوجه والجلد تمامًا.

***

كانت المعامل البحثية الوراثية في مركز السرطان الشامل في سان فرانسيسكو، حيث تعمل كيت روين، مضاءةً كإضاءة الثلاجة، ومكدسة فيها بطريقة غير منظمة المراجع الطبية والأنابيب والسدادات والمقاييس وماسحات المصفوفات الدقيقة. وتحمل الأبحاث العلمية التي يكتبها علماء الوراثة — يكتبها بعضهم لبعض بصفة عامة — عناوين غير مفهومة للشخص غير المتخصص، مثل «تقرن الجريبات الشعرِية/الحُمَامَى التَّنَدُّبِيَّةُ الحاجِبِيَّة، والحذف الجيني في كروموسوم ١٨: هل من الممكن أن يكون جين LAMA1 السبب؟» وكان يبدو على وجوه علماء الوراثة أنفسهم بعض الرَّوع مثل الجنود الخارجين للتوِّ من الأدغال المتشابكة، ليفاجئوا بأن الحرب التي كانوا يحاربون فيها انتهت منذ عشرين عامًا. وهم مُغرَمون بشاشات توقُّف خاصة بالكمبيوتر غريبة تعرض صورًا غير بشرية؛ على سبيل المثال: صورة قطة نائمة في بيت قطط عبارة عن كوخ صغير مصنوع من جذوع الأشجار. (ذات مرة ركبت مصعدًا مليئًا بعلماء وراثة شباب خارجين من العمل، كان ذلك في عشية عيد القديسين، وكانت اثنتان من عالمات الوراثة في المصعد ترتديان قرون شيطان على رأسيهما. قال أحد الشباب لهما: «هل ستخرجان الليلة؟» هزَّتَا رأسيهما تعبيرًا عن الرفض. لا يمكن أن أقول إنني اندهشت من هذا.)

في صباح اليوم الذي دخلتُ فيه إلى معمل روين، وجدتُ زميلتها، آن إستيب، تضع وسيطَ تغذية سائلًا في أطباق بتري. كانت أطباق بتري تحتوي على نسخ من تسع وعشرين طفرة مختلفة لجين واحد عزلته إستيب وروين من الحمض النووي لأفرادٍ مصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولم تكن روين قد حضرت إلى العمل في ذلك الوقت؛ لذا تولت إستيب — وهي امرأة جذَّابة ذات شعر أشقر، في الثلاثينيات من عمرها، صرحت علانيةً بحبها للعمل المعملي — تحدي شرح الجوانب الوراثية المعقدة لمتلازمة القلب والوجه والجلد لي.

كانت ترى العملية ككل من وجهة نظر علمية، بوصفها دليلًا على سمو بيولوجيا الإنسان. قالت: «هناك أشياء كثيرة جدًّا يمكن أن تحدث على نحو خاطئ أثناء الحمل؛ فغالبية حالات الحمل تُجهَض بشكل فوري أو في وقت مبكر جدًّا جدًّا من الحمل؛ فهذه طريقة الطبيعة للسماح للحمل الجيد فقط بالاستمرار حتى نهاية مدته. وعندما تُولَد، فأنت بالفعل نتاج إحدى حالات الحمل القليلة جدًّا التي احتاجت إلى أن تسير أشياء كثيرة جدًّا على ما يرام حتى تصل إلى نهاية مدتها.»

كانت هذه طريقة جديدة لفهم ووكر؛ فبدلًا من أن نعتبر أنه محطَّم تمامًا، فهو ببساطة كان به عيب بسيط إلى حدٍّ ما، مثل زوج الأحذية الذي يباع بخصمٍ في متجر بأحد المراكز التجارية الكبرى ولكنه صالح للبس تمامًا. فهو ما زال عبارة عن «تكوين جيني» على حدِّ تعبير إستيب، «يتلاءم مع الحياة، فهو كائن حي يتنفس؛ لذا هناك تنوُّع كبير، وجميع هؤلاء الأطفال لديهم ذراعان ورجلان، ومعظمهم له مجموعة من العواطف؛ فهم بشر.» قبل أن أقابلها بأسبوعين، كانت إستيب قد تعرَّفَتْ إلى إيميلي سانتا كروز؛ أول لقاء لها مع تجسيد حي لجينات متلازمة القلب والوجه والجلد التي تدرسها في طبقٍ في المعمل لمدة ثمانية أشهر، ووجدت اللقاء «مؤثرًا جدًّا»، بالرغم من أنها اندهشت — كما قالت لي في هدوء — «من حدة حالات التأخُّر التي كانت تعاني منها.» فحتى بالنسبة إلى عالمة متفانية مثل إستيب، هناك فجوة بين الحياة التي كانت تدرسها في المعمل، والحياة نفسها.

***

كانت كيت روين في أوائل الأربعينيات من عمرها، قصيرة، شقراء، نشيطة جدًّا. كان لها مكتب في مستشفى أطفال جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، إضافة إلى مكتب آخَر في مركز السرطان الشامل، وهي بارعة في توضيح العمليات الوراثية المعقَّدَة. قالت لي لاحقًا ذات مساء، بينما ترسم دوائر على ورقة لتوضِّح كيف تعمل الخلية: «هذا هو الكروموسوم الخاص بك، وفي هذا الكروموسوم يوجد الحمض النووي الخاص بك، وفي الحمض النووي هناك جينات يجاور بعضها بعضًا على نحوٍ ما. يصنع الجين منها الحمض النووي الريبي، والذي يُنتج بدوره بروتينًا، والبروتينات هي التي تتحرك في الخلية وتقوم بالعمل.» هناك تقريبًا ٢٥ ألف جين منتج للبروتينات في الجينوم البشري، و٣٥ ألف جين منظِّم. تلتف بعض البروتينات في أنماط معقدة (مرة أخرى، وفق تعليمات من الشفرة الوراثية) وتكوِّن خلايا، والتي بدورها تكوِّن النسيج البشري. في حين تعمل بروتينات أخرى بمنزلة مديري مجموعات، فتتحكم في الإنزيمات الأخرى. (البيروقراطية موجودة في كل مكان!) وعائلة بروتينات وإنزيمات RAS (RAS هو اختصار ﻟ rat sarcoma التي تعني «الورم اللحمي للفئران»، والذي يعكس الطريقة التي تمَّ بها اكتشافها) هم المديرون؛ على وجه التحديد، هي عبارة عن مفاتيح جزيئية لبدء أو إيقاف مجموعة من مسارات الإشارات التي تربط بين غشاء الخلية ونواتها، للتحكم في نمو الخلية. وضَّحَتْ روين ذلك قائلةً: «النواة هي العقل المدبِّر للخلية والطريقة الوحيدة التي تتلقَّى بها تعليمات تأتي من خارج الخلية. وتأتي التعليمات في شكل عملية نقل الإشارة، أو تحدُّث الجزيئات بعضها مع بعض، والتي تخبر الخلية بالفعل في نهاية المطاف بما تفعله.» وتسير العملية بأكملها مثل لعبة التليفون الخَرِب؛ إذ يقترب إنزيم أو بروتين من الجدار الخارجي للخلية، ويطلب منها فعل شيء ما؛ فيمرِّر إنزيم على الجانب الآخَر من جدار الخلية التعليمات إلى سلسلة أخرى من نظم الإنزيمات داخل الخلية، وهكذا عبر جسم الخلية حتى تصل الرسالة إلى النواة؛ التي تقوم بما تعتقد أنه طُلِب منها.
تُنشِّط بروتينات RAS بدورها نظمَ الإشارة الفرعية الأخرى، مثل كينازات البروتين المنشطة بالميتوجين التي تتحكَّم حتى في بعض الوظائف الأكثر تحديدًا للخلايا. وتُعَدُّ بروتينات RAS مسارًا سيئ السمعة بين الباحثين في مجال الطب؛ إذ تُظهر ٣٠ في المائة من الأورام السرطانية شكلًا ما من عدم الانتظام في هذه البروتينات، حيث يخرج نمو الخلية عن السيطرة أو تتوقَّف عملية موت الخلية، بسبب أمر خاطئ أو نقل إشارة خاطئة.

قالت لي روين: «أنا مجرد عالمة وراثة طبية عجوز بلهاء. أنا فقط أفحص المرضى وأحاول تشخيص حالتهم، وعندما أكون مع اختصاصيي الكيمياء الحيوية الأذكياء الذين درسوا عملية نقل الإشارة، أتذكر أنني نظرت إلى تلك المسارات وفكَّرت: يا إلهي! في يوم ما سيتم اكتشاف المتلازمات الوراثية المتضمنة في هذه المسارات الخاصة بنقل الإشارات، التي تمثل جزءًا من الكل المشوَّش.»

اكتُشِف بالفعل أن لأحد الجينات المرتبطة بمتلازمة نونان دورًا في مسار بروتينات RAS، وهكذا الحال بالنسبة إلى جين مرتبط بالأورام الليفية العصبية. تتشابه المظاهر الجسمية لكلتا المتلازمتين — مع اختلاف بعض التفاصيل بالزيادة أو النقصان — بصورة ملحوظة مع أعراض متلازمة كوستلو ومتلازمة القلب والوجه والجلد. وكان يبدو معقولًا أن الجينات المسئولة عن الطفرات الجينية لمتلازمة القلب والوجه والجلد قد يكون لها دور أيضًا في مسار RAS.
بالرغم من ذلك، فإن تمويل دراسة عن متلازمة قد تصيب ٣٠٠ شخص على مستوى العالم يُعَدُّ مسألة أخرى. من حسن الحظ — على الأقل بالنسبة إلى روين — أن لمسار RAS دورًا معروفًا في تكوين الأورام السرطانية، التي تنتج عن نمو الخلايا بلا توقف. وتؤدي متلازمات كوستلو ونونان والأورام الليفية العصبية كلها إلى تكون أورام، أما متلازمة القلب والوجه والجلد، فلا. بالنسبة إلى روين، بَدَتْ هذه الحقائق المعروفة فرصة بحثية؛ فثلاث متلازمات من أربع موجودة في نفس المسار الخلوي تؤدِّي إلى الإصابة بسرطان، أما الرابعة فلا. ما الذي جعلها مختلفة من الناحية الوراثية؟ وهل يمكن لهذه المعلومة أن توفِّر دلائل على سبب تكوُّن الأورام؟ للتبسيط، افترض أن ١٠٠ طفل يعيشون في نفس الشارع، ولكن أُصيب ٧٥ منهم بنفس نوع السرطان، بناءً عليه إذا استطعت تحديد الشيء المختلف في اﻟ ٢٥ الآخَرين الذين لم يُصَابوا بالسرطان، فقد يكون لديك مؤشِّر لتحديد سبب الإصابة بالسرطان والعلاج.

أكملت روين كلامها، مختتمة رحلتها المنطقية بقولها: «كان هذا هو ما جعل أحد معاهد الصحة القومية تعطيني منحة.» فلم تَعُدْ روين تفحص طفرة تصيب فقط ٣٠٠ طفل تعيس، بل أصبحت تفحص سببًا محتملًا للسرطان، من خلال المؤشرات الجينية المفيدة الخاصة بهم. وقالت لي: «سوف نتعلم الكثير من هؤلاء الأطفال، وسنتعلم كيف نعالجهم بصورة أفضل بناءً على معرفة جيناتهم … وسنتعلم الكثير عن علاج السرطان من هؤلاء الأطفال؛ مما يجعل هذا اكتشافًا كبيرًا على مستويات متعددة.»

على أي حال كان هذا الجانب النظري. أما الجانب العملي، فهو مسألة أخرى؛ فقد كانت روين تعمل في وقت واحد على متلازمتَيْ كوستلو والقلب والوجه والجلد، ساعيةً لاكتشاف الجينات المسئولة عنهما، وكانت بحاجةٍ إلى ثلاثين شخصًا مصابين بكلِّ متلازمة منهما، والحصول على موافقتهم وعينة من الحمض النووي لكلٍّ منهم؛ فاستغرق تجميع ثلاثين شخصًا مصابًا بمتلازمة كوستلو خمس سنوات. وفي الوقت الذي أصبح فيه البحث على وشك الانتهاء — وكان جين كوستلو في المكان الذي توقَّعَتْه، في مسار RAS — سبقها بشهرٍ إلى نفس النتيجة فريقٌ من الباحثين اليابانيين بقيادة يوكو أوكي من جامعة توهوكو في سينداي، في اليابان.

كان حظُّها أوفر مع متلازمة القلب والوجه والجلد، بفضل عينات الدم التي جمعتها بريندا كونجر ومولي سانتا كروز في مؤتمرات متلازمة القلب والوجه والجلد الخاصة بهما منذ عام ٢٠٠٠، وما استغرق الحصول عليه خمس سنوات في تجارب كوستلو استغرق فقط مجرد أسابيع بالنسبة إلى متلازمة القلب والوجه والجلد. «تلقَّيْتُ مجموعة أتراب من الأفراد المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد في أيام، أجل في «أيام»، وحصلت على عينات الحمض النووي خلال هذا الأسبوع. كان أمرًا مذهلًا!»

في شهر يناير عام ٢٠٠٦، بعد ثلاثة عقود من الإعلان عن متلازمة القلب والوجه والجلد لأول مرة، نشرت كيت نتائجها التي توصَّلَتْ إليها، ومنها أن الطفرات المرتبطة بالمتلازمة تحدث على الأقل في ثلاثة جينات، هي: BRAF وMEK1 وMEK2. وقد أضاف البحث المستقل في اليابان جينًا آخَر. وقد أظهرت متلازمة كوستلو طفرات في جين HRAS، بينما أظهرت متلازمة نونان طفرات في جين PTPN11، وكلها موجودة في مسار RAS، وكلها تؤثِّر في نمو الخلايا وموتها.

بَدَتْ لي الجينات واختصاراتها المعقَّدَة (يتعلَّق معظمها بتركيبها الكيميائي) مثل كواكب مُكتشَفَة حديثًا، محيِّرة وغريبة مثل علم الوراثة ذاته، ولكن لم تواجهني أي مشكلة في فهم روين حين أوضحت ما تعتقده فيما يتعلَّق بالمشكلة التي توجد في ووكر. كانت ساعة العشاء تقترب، وكان لون الغروب الرائع خارج نوافذ مكتبها يغطي سان فرانسيسكو.

يبلغ طول تتابع أربعة أزواج من النيوكليوتيدات التي عند اتحادها وإعادة اتحادها تكوِّن جينات الإنسان؛ ثلاثة مليارات من أزواج القواعد، ويمثِّل كل نيوكليوتيد حرفًا. قالت روين مشيرةً إلى ما يسبِّب متلازمة القلب والوجه والجلد: «إن تلك الطفرة هي تغيُّر في حرف واحد في الجين كله. نعم، حرف واحد في الجين كله، والذي يغيِّر حمضًا أمينيًّا واحدًا! حمض أميني واحد، مكون صغير من البروتين كله. هذا ما يسبب متلازمة القلب والوجه والجلد.» وهذا بدوره سبب المشكلات الكبيرة التي كان يعاني منها ووكر في حياته.

سألتها: «هل يعرف أي أحد لماذا يتغيَّر الحرف؟»

ردَّت: «يحدث تناسُخ للحمض النووي. واضح؟ يحدث هذا التناسخ، ولكن ليس بدقة عالية جدًّا، فإذا حدث التناسخ دون أي خطأ، فسنبدو كلنا بنفس الطريقة. واضح؟ والشيء السار وغير السار في نفس الوقت هو أنه إذا حدث خطأ، فإن هذا يتم مرة كل مليون مرة. واحد من كل مليون زوج قاعدة يحدث فيه خطأ. والآن، تحاول كل أنواع البروتينات والإنزيمات والمواد الأخرى إيجاد هذا الخطأ وإصلاحه؛ لذا هناك كثير من الأخطاء التي لا تعرفها، ولكن أحيانًا لا يتم تصحيح الخطأ، وحين لا يُصحَّح الخطأ، فإنه يسبِّب تغيُّرًا في البروتين؛ وقد يجعل سلوك البروتين هذا النظامَ المناعي أفضل، وقد يقوِّي عضلاتنا، وقد تكون له آثار مفيدة تُسمَّى التطور. كما تعلم، البقاء للأصلح. ولكن قد يحدث لك أيضًا تغيُّرًا في الجينات يؤدِّي إلى تأثير ضار، حيث يمكن أن يسبِّب ثقبًا في القلب، يُضعِف جهازك المناعي. قد يكون له تأثير نافع، وقد يكون له تأثير ضار.»

شكرت كيت روين بعد ذلك بوقت قصير وغادرت مكتبها، وعبرت الشارع خارج المبنى، وجلست على مقعد أفكِّر فيما قالت. التعريف العلمي للنجاح التطوري، للطفرة العشوائية الناجحة، هو ما يسمح للكائن أن يعيش ويتكاثر. الطبيعة وحدها ما كانت لتسمح لابني بالبقاء على قيد الحياة.

بناءً على تقدير عالمة الوراثة، يُعتبَر ووكر نتاج «التأثير الضار» للطبيعة.

لكن ابني ليس نتاج الطبيعة وحدها؛ فقد ظلَّ على قيد الحياة، وكان بقاؤه أيضًا نتاج التكنولوجيا الطبية والاهتمام البشري؛ نتيجة للتغذية عن طريق الأنابيب والأدوية والاهتمام المستمر لفِرَق من البشر اقتنعوا بأن تفاعُلهم معه يستحق جهده وجهودهم، حتى لو كانت نتائج هذا الأمر يصعب قياسها. ولم يكن ووكر مدعاة كبيرة للتفاخر، من الناحية العقلية أو البدنية، ولكن مثل كثير من الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فقد غَيَّر حياة بشر آخَرين، غيَّر حياتي أكثر من أي أحد آخَر؛ فقد عمَّقها ووسعها، وجعلني أكثر تسامحًا وتحمُّلًا، وائتمانًا من الناحية الأخلاقية، ومنحني نظرة أشمل للحياة. بَدَا هذا كأنه شكل من أشكال التطور أيضًا، تطور أخلاقي إيجابي، بالرغم من أنه ليس من النوعية التي يمكن أن يقيسها علم الجينوم الحديث.

ثم نظرت إلى أعلى واكتشفت أني أجلس أمام عمل نحتي في الشارع، يُسمَّى «بغضِّ النظر عن التاريخ» نحته نحَّات إنجليزي اسمه بيل وودرو. كان نحتًا مصنوعًا من البرونز يبلغ ارتفاعه سبع أقدام، وهو عبارة عن شجرة رفيعة، تالفة وبلا أوراق، وغير مكتملة النمو، وتنمو من صخرة! ولكنها تنمو.

***

ركبت الطائرة عائدًا إلى تورونتو. أصبح الصيف خريفًا، وبدأت من جديد محاولتنا للبحث عن فهم أفضل لحالة ووكر.

في صباح يوم أربعاء من شهر أكتوبر، قابلت تينا كاساباكس، مديرة دار الرعاية التي يعيش فيها ووكر، في عيادة الوراثة لمستشفى الأطفال المرضى بتورونتو، وكان ووكر هناك أيضًا. تشغل عيادة الوراثة ركنًا في الدور الخامس لمبنى في وسط تورونتو. ومن الواجهة، كان المبنى يبدو مثل إصبع أحمر شفاه كبير، وكان في السابق المقر الرئيسي لبنك سويسري. أومأ إليَّ برأسه موظف الأمن الجالس إلى مكتب في المدخل وكأنه يحييني بتحية الصباح. لا بد أنه رأى الكثير من أمثالي. ثم ركبت المصعد حتى الدور الخامس ومشيت في الردهة إلى عيادة الوراثة وجلست في نفس غرفة الانتظار النظيفة تمامًا التي اضطررت للانتظار فيها منذ ما يقرب من ١٢ عامًا، حين شُخِّصت حالة ووكر بإصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وصلتُ مبكرًا، قبل تينا وووكر، وكان عليَّ الانتظار، كما فعلتُ حينها، حتى يصل شخص ما إلى المكتب الأمامي، ولم يكن لديَّ مانع في ذلك؛ فأنا كنت أحب الهدوء المريح للعيادة قبل الساعة التاسعة صباحًا. تنهَّدتُ وتنفستُ مرة أخرى، الهواء الساكن بلا رائحة للممرات الخاوية، في ظل الوهم العابر المعتاد بأننا الوحيدون الذين أتينا إلى هنا، كسلالة نادرة ضلَّتْ طريقَها في عالَم نقي، أو عالَم لا توجد به طفرات. (في عيادة الوراثة يوجد فاصل زمني معقول بين المواعيد لضمان الحد الأدنى من التفاعُل مع الحالات الصعبة.)

بعد أن عاش ووكر لمدة ١١ عامًا بتشخيص إكلينيكي بأنه مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، سيُجرى له الآن اختبار وراثة. ووفق النظام الكندي للعلاج على نفقة الدولة، فاختبار الوراثة لمتلازمة القلب والوجه والجلد يتطلَّب الانتظار ستة أشهر: ثلاثة أشهر لبيروقراطية الرعاية الصحية في المقاطعة للموافقة على تكلفة الاختبار، وثلاثة أشهر أخرى للترتيب لأخذ عينة من الحمض النووي لووكر، وملء الأوراق اللازمة، وإرسال العينة إلى معمل الاختبار، ثم اختبارها وإرسال النتائج.

بدأ الروتين المعتاد في مثل هذه الحالات. فبينما كان ووكر يبعثر الألعاب في أنحاء غرفة اللعب، ويأتي إلى حجري ثم يتركه، قرأ عليَّ بسرعة استشاري وراثة (وأحيانًا يحضر اثنان) النقاط المعيارية الخاصة بإخلاء المسئولية؛ فليس هناك ضمان أنهم سيجدون انحرافًا في جيناته، ولكن لا يعني هذا أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وإذا كانت نتائج اختبارات الجينات الثلاثة سلبية، فسيتم التطرُّق لما هو أبعد من ذلك، للبحث في جينات أكثر ندرةً (والتي تكلفة اختباراتها أعلى). وبالرغم من ذلك، فالتشخيص ليس علاجًا. صحيح أن مجال الأبحاث الوراثية كان يتطوَّر سريعًا، لكن التكنولوجيا كانت أكثر تقدُّمًا من أي فهم علمي لما تُظهِره تلك التكنولوجيا من نتائج. فقد يؤكِّد أو لا يؤكِّد التشخيص الوراثي إصابةَ ووكر بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولكن حتى إذا لم يفعل ذلك، فهو ما زال ووكر، الولد نفسه. هل لدينا أي أسئلة؟ كنت على وشك سرد كل هذا الحديث من الذاكرة، مثل مناجاة للنفس من إحدى مسرحيات شكسبير: أُجرِي الاختبارَ أم لا أُجرِي الاختبار؟ تلك هي المسألة. أيريح البال تجاهل خبراء وأحلام أبحاث الوراثة، أم فحص كل جين فُكت شفرته للإنسان؟ هل الحل في إجراء الاختبار؟ أن تُجرِي اختبارًا ثم تُجرِي مزيدًا من الاختبارات، وتدَّعِي أن هذا سينُهي الألم والصدمات الطبيعية العديدة المعرَّض لها جسمه الضعيف؛ فإنها مرحلة كمال نتمنَّى من قلوبنا أن تتحقَّق!

ثم يأتي الجزء الصعب: جمع المادة الوراثية. تمَّ أخذ عينة من الحمض النووي لووكر وأُعِدَّ لاختبار الكروموسومات حين كان طفلًا صغيرًا (ومن المدهش أن الاختبار لم يُظهِر أي شذوذ)، وما زالَتْ نتائج هذا الاختبار في ملفه الطبي، ولكن في هذا الصباح سيأخذ الأطباء عينةً جديدةً، للاحتياط فقط. كنت أعرف دوري. حتى الأطباء كانوا يخشون من رد فعل ووكر، ولا يمكنهم التفرقة بين ما يؤذيه وما يضايقه؛ فقط لأن هذا ليس من الروتين المعتاد له. احتضنته بقوة، ويدي اليسرى على صدره للتحكُّم في رأسه، وجَعْله موجَّهًا في نفس الاتجاه وجَعْل فمه مفتوحًا، بينما الطبيب كان يقف في الخلف مثل صياد رحلات السفاري المحنك، بانتظار أخذ العينة. كنت أعرف كيف أمسكه بقوة، وتلك السيطرة كانت هي السبيل، ولكن سيطرتي الكاملة أدهشت معظم الأطباء الذين رأيناهم، بقدر ما أعجبتهم، وجعلني هذا أشعر بأني مفيد، وأقرب إلى ابني، حارسه الموثوق به، رجل قوي لا يمكن أن يؤذيه أبدًا. ثم تأتي عملية الفتح — «الآن!» — فمسح الطبيب داخل فمه بما يشبه ماسحة قطن طويلة جدًّا، ثم أدخل الماسحة في أنبوب بلاستيكي، وانتهى الأمر.

حل الشتاء، وكان الجو باردًا مع تساقُط كثيف للثلوج. نشأت عند ووكر عادة الدندنة معي حين كنتُ أوصله إلى دار الرعاية وأرجعه منها بالسيارة إلى راي تشارلز وهو يغني «أي نوع من الرجال أنت؟» و«لديَّ حلم»، وأحيانًا كان يتكثف الهواء الرطب الموجود في السيارة على النوافذ من الداخل؛ فكنت أستطيع سماع صرير أصابع ووكر وهي تتحرك على الزجاج أثناء مسحه الضباب، ونحن نسير بالسيارة شمالًا وشرقًا، نغني أغاني البلوز، وتضحك أولجا مع ووكر في المقعد الخلفي. وفي بعض الأيام، ولكي نعطي أولجا راحة، كنت أعود به بنفسي، ولكن الأمر كان صعبًا؛ فقد كان يستغل فرصة جلوسه في المقعد الأمامي، ويُنزِل زجاج النوافذ فتطير خرائطي في هواء الطريق السريع المندفع. لكن الأمر اختلف الآن؛ فقد أصبح كرة من البهجة الملتوية تجلس في المقعد الأمامي، ولكنه كان يحب الدردشة — أدردش أنا معه بالأحرى — ونحن نسير بسرعة على الطريق السريع الواسع الجميل. يا ربي، كم يحزنني التفكير في كيف كنت أعشقه في هذه الجولات المرحة! أب وابنه يسيران بالسيارة؛ هل هناك شيء أفضل من ذلك؟ ولكنها كانت أيضًا جولات من غير رفيق؛ لأنني كثيرًا ما كنت أتضايق، بلا وعي إلى حدٍّ ما حين لا تكون جوانا معنا، ولكننا كنَّا نقوم بالأمر كما ينبغي، فكنَّا نتبادل الأدوار في توصيله بالسيارة؛ لأنه لا معنى لقضاء شخصين ساعتين في السيارة بلا أي شيء يقومان به سوى توصيله.

جاء الربيع، وبدأت تنمو زهور التريليوم التي زرعتها في الحديقة الأمامية. اتصلت بي تليفونيًّا استشارية وراثة شابة اسمها جيسيكا هارتلي لتبلغني بأخبار غريبة، وهي أنْ ليست هناك طفرة في أيٍّ من الجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد — BRAF وMEK1 وMEK2 — في الحمض النووي لووكر.

أخذتُ موعدًا آخَر، وذهبنا ثانيةً أنا وووكر وتينا إلى المبنى الذي كان يشبه إصبع أحمر الشفاه؛ إذ كان الاختبار الوراثي فكرتي؛ لذا كان من واجبي أن أقوم بذلك وليس جوانا.

بدت هارتلي صغيرة جدًّا في السن بحيث لا يمكن أن تكون على درجة كبيرة من الخبرة. كان شعرها أسود، وأسلوب لبسها وتبرجها يشبه القوطيين على نحو ما. وانضمت إلى موعدنا بطلبٍ من أحد رؤسائها، وهو عالم نحيف في منتصف العمر يُدعى ديفيد تشيتايا، وهو عالم وراثة كبير في مستشفى الأطفال المرضى. ولم تكن تعني الكثير بالنسبة إليَّ حقيقةُ أن الجينات الثلاثة المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد لدى ووكر لم تظهر بها أية طفرات، وقد حرص الاستشاريون على التأكيد على ذلك. قالت هارتلي بنبرة دفاعية: «إذا لم نجد شيئًا، فلا يعني هذا بالضرورة أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وإذا كانت الاختبارات كلها سلبية، فيمكننا إعادتها؛ فتلك المتلازمة هي بالتأكيد الاحتمال الأقرب بالنسبة إليه.» ونصحت بإعادة الاختبار، وهذه المرة سنبحث أيضًا عن طفرات أخرى، ولا سيما تلك الخاصة بمتلازمتَيْ نونان وكوستلو.

بينما كان يتطوَّر فهمهم لمتلازمة القلب والوجه والجلد والمتلازمات القريبة منها، كان عدد متزايد من الباحثين يرون ثانيةً متلازمات القلب والوجه والجلد، ونونان وكوستلو باعتبارها متلازمات مرتبط بعضها ببعض؛ هي «اضطرابات في مسار RAS» أو «اضطرابات في طيف نونان.» وقد أخذ الجينوم يبوح بأسراره الغامضة ببطء، وبدأ العلماء عَزْو مجموعة أكبر من اضطرابات التأخُّر العقلي — ولا سيما إذا كانت مصحوبة بتشوُّه في الوجه وأمراض بالقلب — إلى مشكلات في مسارات الإشارات داخل الخلايا. ولا يبدو أن أجسام هؤلاء الأطفال كانت تدرك متى تبني الخلايا، ومتى تتوقف عن ذلك.
كان تشيتايا عالم وراثة يحظى باحترام كبير ويتمتع بتاريخ طويل في هذا المجال. قال: إن الطفرة من المفترض أنها حدثت في الأسبوعين الأولين من حياة ووكر في رحم أمه، ومن المفترض أن كل جين من الجينات المختلفة المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد يقوم بوظيفته في فتح الإشارة وإغلاقها في مرحلة مختلفة من «تتالي» الاتصال الذي يحدث داخل الخلية: بدأ جين BRAF الذي حدثت به طفرة في التأثير (أو حدثت فسفرة له) مبكرًا، ومن ثَمَّ أفسد عملية إرسال الرسائل للخلية عند مستوًى أكثر أهميةً مما فعلَتْ جينات MEK. ولكن المسارات قامت بتقديم تغذية راجعة لأنفسها أيضًا؛ مما أدَّى إلى النتيجة (المحتملة) بأن الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد جرَّاء طفرة في جين MEK لديهم أجسام أضعف، ولكن مشكلاتهم المعرفية أقل. كانت تلك إحدى النظريات، على أي حال، ولم يتم التحقق من «كل جوانبها» بشكل عمليٍّ. لقد كشف علماء الوراثة جوانب كثيرة في علم وظائف الأعضاء البشري، ولكن يبدو في الغالب أنه كلما ازداد كشفهم لطبيعة الأمر، قلَّتْ قدرتهم على فهم كيفية ربط التفاصيل بعضها ببعض.

صحيح أن جيسيكا هارتلي وديفيد تشيتايا وكيت روين كانوا يعملون في مجالات علمية دقيقة، وأسَّسوا افتراضاتهم على تفاعلات كيميائية حيوية معروفة وقابلة للاختبار، لكن هناك أوقات لم تبدُ فيها استنتاجاتهم بالنسبة إليَّ مختلفة كثيرًا عن طقوس التطهير الطبية في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كانت القهوة وسخام المدخنة يُوصَفان بكل ثقة لعلاج الجنون، وكان يمكن علاج السوداء بسحب مقدارٍ قليلٍ من دم الشخص واستبدال دم عجل به. على أي حال، أضاف تشيتايا: «أهم شيء بالنسبة إلينا هو أن نحدِّد تشخيصًا لحالته، ولكن تشخيص تلك الحالة ليس يسيرًا.»

بعد ساعة من الحديث، أصبحَتِ الخطوات التالية واضحة؛ إذ كان علينا إعادة اختبار متلازمة القلب والوجه والجلد، للتأكُّد أننا لم نحصل على نتيجة كاذبة، وإجراء اختبارٍ لتحديد ما إذا حدثت طفرات في الجينات المرتبطة بمتلازمتَيْ نونان وكوستلو، إضافةً إلى العديد من المتلازمات الأخرى الشبيهة المتسبِّب فيها وجود اضطرابات في مسار RAS. إذا كانت نتائج هذه الاختبارات سلبية أيضًا، فسنقوم بمسح مصفوفة دقيقة من الحمض النووي الكروموسومي لووكر. ويُعَدُّ مسح المصفوفات الدقيقة للكروموسومات أكثر دقةً على نحوٍ كبيرٍ من اختبار الكروموسومات الذي أُجرِيَ لووكر حين كان طفلًا صغيرًا. ويوضح تشيتايا الأمر قائلًا: «تسعى المصفوفة الدقيقة إلى البحث عن الأجزاء الناقصة أو الزائدة في الكروموسومات — أي الكلمات الناقصة في الجملة الوراثية لحياته — في حين يسعى الاختبار الجيني إلى البحث عن الأخطاء الهجائية أيضًا.» وإذا كان ووكر قد حدثت له طفرة في جين لم يُكتشَف بعدُ وأدَّى إلى اضطراب في الكروموسومات، فقد تُظهِر المصفوفة الدقيقة أين وقع هذا الاضطراب في الجينوم. الأمر يشبه قولك أنك ركنت سيارتك في أونتاريو، ولكنك لا تتذكر في أي مدينة فيها!

يمكن إجراء بعض الاختبارات الجديدة (على سبيل المثال المصفوفة الدقيقة) في كندا، ولكن يمكن إجراء الباقي فقط في بعض المعامل المعتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى تؤكِّد الاختبارات تشخيص حالة ووكر بأنها متلازمة القلب والوجه والجلد، وحتى يمكن استخدام عينة الحمض النووي الخاصة به في الدراسات العلمية، كان يجب أن تأتي نتيجة التشخيص من معمل معتمد، ويتكلف كل اختبار من تلك الاختبارات من ١٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ دولار؛ وتحتاج جميعها إلى موافقة المقاطعة إذا كانت ستُجرَى على حساب نظام التأمين الصحي الخاص بها. تتكلف الاختبارات في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر، وتتطلب مراجعةً وموافقةً أكثر صرامةً إذا كان نظام التأمين الصحي الخاص بالمقاطعة سيدفع قيمتها. وقد قدَّم الأطباء دوافع منطقية لإجراء الاختبارات، مبنية على الحاجة إلى تحديد تشخيص جيني لحالة ووكر؛ وهو طلب معقول جدًّا؛ إذ إن التشخيص الدقيق قد يؤدي إلى فهم أفضل لاحتياجاته، وتوفير علاجات أفضل له. توقعنا هذه المرة أن نحصل على نتائج في غضون من سبعة إلى تسعة أشهر.

في هذه الأثناء، ما كان علينا إلا الانتظار، وبَدَا الأمر كما لو أن جزءًا صغيرًا من جسم ووكر أُرسِلَ إلى العالم، ويحاول أن يعود مرة أخرى. لم نكن في عجلة من أمرنا؛ فأيًّا كان تشخيص حالته، فهو لن يغيِّر من حالة ووكر.

***

في النهاية وصلت النتائج في خريف عام ٢٠٠٨. ذهبت ثانيةً إلى عيادة الوراثة التي توجد في المبنى الذي كان على شكل إصبع أحمر الشفاه، وكانت جيسيكا هناك مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت هناك الدكتورة جريس يون، وهي متخصصة في الوراثة العصبية، وقد أدَّت أبحاثها حول الآثار العصبية لمتلازمة القلب والوجه والجلد إلى عملها مع الفريق البحثي لكيت روين. وهي امرأة جميلة في الثلاثينيات من عمرها، متزوجة حديثًا، وكانت تتمتع بطريقة دقيقة وحريصة في الحديث.

للأسف، عمَّقت أحدث جولة من جولات الاختبارات الوراثية من لغز حالة ووكر، فما زالت نتائج الاختبارات الخاصة بطفرات جينات BRAF وMEK1 وMEK2 سلبية، وهي الجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وهكذا الحال بالنسبة إلى جين KRAS، وهو جين متلازمة كوستلو، أو متلازمة نونان. ولم يظهر في جين PTPN11، المرتبط بتكون الأورام الليفية العصبية، أية طفرات، وهكذا الحال بالنسبة إلى الجينين SOS1 وBRAF1، وهما جينان اكتُشِفَا حديثًا يُعتقَد أنهما مرتبطان بمتلازمة القلب والوجه والجلد.

أوضحت الأمرَ الدكتورةُ يون في إحدى غرف الاستشارة الصغيرة في العيادة قائلةً: «لا يعني هذا أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد؛ فهناك جينات لا نعلمها حتى الآن. لا شك لديَّ في كونه مصابًا باضطراب جيني، ولكن حتى هذه اللحظة لا أعرفه. لقد شخَّصَ الأطباء من قبلُ حالتَه باعتبارها متلازمة القلب والوجه والجلد، وفي رأيي هذا أفضل استنتاج.» على سبيل المثال تُظهِر الاختبارات في ٦٥ في المائة فقط من المصابين بمتلازمة نونان وجود طفرة في الجين «الصحيح» المرتبط بالمتلازمة.

أضافت يون أنه في الآونة الأخيرة وجد الباحثون في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان ارتباطًا بين الجين SPRED1 والأورام الليفية العصبية، وأقرت يون قائلةً: «للأمانة، إن حالة المرضى المصابين بهذا النوع من الاضطراب الوراثي أفضل بكثير.» وكرَّرت قولها بأن متلازمة القلب والوجه والجلد «هي الاستنتاج الأقرب والأكثر معقولية.» قد يكون لدى ووكر مظاهر أكثر حدةً، وبالتالي فهو شكل طفري نادر من متلازمة القلب والوجه والجلد، ولكنها أرادت التشاور مع زملائها. التقطت بعض الصور الفوتوغرافية لوجهه وقدمَيْه ويديه، وفحصته فحصًا بدنيًّا، وقاست المسافة بين عينيه (والتي كانت أكبر مقارنةً بمعظم الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد)، ولاحظت مظاهرَه الحادَّة إضافةً إلى الثنيات الجفنية الأنفية المألوفة أكثر، والجلد السميك حول أذنيه؛ تلك هي مجموعة الأعراض المألوفة. قالت إنها سترسل الصور والبيانات بالبريد الإلكتروني إلى فريقها الدولي، لاستطلاع رأيهم.

في هذه الأثناء كان علينا الانتظار لمزيد من الوقت، وشعرتُ بنفس الشعور الذي أشعر به حين أستيقظ من حلم ولا أتذكر شيئًا في البداية مما حلمت به: حدث شيء ما، بَيْدَ أن كل ما أستطيع تذكُّره هو جزء من الحلم مزعج إلى حدٍّ ما.

قالت يون، شاعرة بحيرتي: «معرفتنا متأخرة عن القدرات الخاصة بتكنولوجيا اختبارات الوراثة.» كان مجال خبرتها يتمثَّل في تأثيرات الطفرة الوراثية على القدرات المعرفية؛ ومن ثم فقد كانت تستكشف أقصى حدود البحث الطبي، ليس في جانب واحد بل في جانبين، هما الجينات المعروفة بالكاد والجوانب المعرفية التي ما زالت غير معروفة. وفي المجال الذي كانت تعمل فيه، كلما اكتشف الباحثون أكثر، زاد عدم فهمهم للأمور. قالت يون في نهاية اللقاء: «لا يوجد سوى ثلاثة أشياء في الطب أحدثت فرقًا حقيقيًّا في نوعية الحياة البشرية، وهي الماء النظيف واللقاحات والمضادات الحيوية.» ولم تُدرَج الجينات حتى الآن في تلك القائمة.

***

كانت ذكريات مواعيدي الكثيرة في عيادة الوراثة النظيفة جدًّا تسري بداخلي مثل الفيروس المتوسط. لم أكن أكره علماء الوراثة: فهم كانوا أول مَن اعترفوا بقلة ما يعرفونه، وفي الوقت نفسه كانوا بلا شك أملَ المستقبل. وقد أسهم حقًّا عزل كيت روين للجينات الطافرة الرئيسية لمتلازمة القلب والوجه والجلد في زيادة رعاية الأطفال المصابين بالمتلازمة على نحو كبير من خلال تيسير تشخيص حالتهم؛ وبذا يسمح التشخيص المبكر للحالات بالتسجيل المبكر للحصول على العلاجات المتاحة لتقليل آثار المتلازمة. واكتشاف مسار RAS بوصفه المتهم الرئيسي المسئول عن مجموعة كبيرة من التأخُّر في النمو، إضافةً إلى عائلة كاملة من حالات التأخُّر العقلي، يُعَدُّ اكتشافًا مهمًّا.

رفع كثير من الأبحاث الواعدة معنوياتي؛ على الأقل حتى تبين أنها لم تصل إلى شيء، وحينها كانت معنوياتي تنخفض مرة أخرى. على سبيل المثال، بعد عامين من نشر روين لنتائجها، اكتشف الباحثون في روتردام أنه يمكن لدواء السيمفاستاتين — وهو دواء شائع لخفض نسبة الكوليسترول — أن يعالج المشكلات المعرفية التي تسبِّبها الأورام الليفية العصبية في الفئران، ولا سيما مشكلات التعلُّم المكاني واضطرابات الانتباه. (علمتُ بالدراسة حين اتصل بي فجأةً الدكتور بول وانج، طبيب الأطفال المتخصِّص في النمو الذي قيَّمَ حالة ووكر وهو في سن الثانية في فيلادلفيا؛ وهو الطبيب الذي أخبرني أنه فيما يتعلَّق بمعرفتنا بوجودنا في العالم، يسبقنا ووكر بمسافة كبيرة.) ولسوء الحظ، لم تثبت نفس النتائج المذهلة التي ثبتت في الفئران على البشر. كان تعثُّرُ تقدُّمِ أبحاث الوراثة حقيقةً، لكنه لم يكن قطُّ سببًا يدعو إلى تثبيط العزيمة. ما كان مثبطًا للعزيمة حقًّا بالنسبة إلى عالِم وراثة معملي يدرس متلازمة القلب والوجه والجلد بوصفها اضطرابًا وراثيًّا، هو أنه كان يرى المتلازمة فقط كذلك: اضطرابًا، خطأ هجائيًّا لا يمكن تصحيحه في قواعد لغة الإنسانية. كنتُ أدرك هذا الوضع، ولكني كرهته كذلك؛ فاعتبار حالة ووكر اضطرابًا وراثيًّا فقط طريقة أكيدة بالنسبة إليَّ لتذكُّر أن هناك شيئًا اسمه «انتظام» وراثي، بمعنى أنه في مقابل كل شخص مثل ووكر، هناك ملايين من الأطفال الأصحاء وراثيًّا. وفي أي معمل وراثة، سيُعَدُّ ووكر على الدوام نتاجًا للتأثير الضار للطبيعة والتطور، ولا شيء أكثر من هذا.

***

عندما وصلت نتائج اختبار ووكر من المعمل في خريف عام ٢٠٠٨، كانت صناعة الاختبارات الوراثية تستعدُّ لحدوث طفرة كبيرة فيها. ففي ديسمبر، أعلنت شركة سيكونوم، وهي شركة تكنولوجيا حيوية في سان دييجو، عن اختبار وراثي قبل الولادة لا يستلزم إجراءً جراحيًّا، بدأ يباع على الإنترنت بدايةً من شهر يونيو عام ٢٠٠٩. وقد رخص الاختبار الإجراءات الطبية التي تم تطويرها في جامعتي أكسفورد وستانفورد.

قبل ظهور اختبار سيكونوم، كان هناك خيار طبي واحد متوافر للمرأة الحامل التي لديها من الأسباب ما يجعل القلق يعتريها بشأن احتمال ولادة طفل يعاني من عيب أو متلازمة؛ إذ كان يمكنها أن تخضع لاختبار فحص مصل الدم القياسي. هذا الاختبار كان (ولا يزال) لا يمكن الاعتماد على نتائجه، وكثيرًا ما يعطي نتائج إيجابية زائفة؛ ففي إحدى الدراسات، ظهرت نتيجةُ اختبارِ ١٣٦ امرأة من بين ١٩٩ إيجابيةً لمتلازمة داون، ولكن أنجبت ست نساء فقط منهن طفلًا مصابًا بمتلازمة داون. إن ٢ في المائة تقريبًا من النساء اللاتي كانت نتيجة اختبارهن إيجابية في تلك المرحلة أجهضن الجنين، في حين لجأ الباقي إلى فحص السائل الأمنيوسي، وهو إجراء أدق بكثير، ولكنه يتطلَّب تدخُّلًا جراحيًّا؛ لأنه يسحب بعضًا من السائل الموجود في الكيس الأمنيوسي، مع احتمال حدوث بعض المضاعفات من آنٍ لآخَر.

يقيس الاختبار الجديد لسيكونوم خلايا الجنين في دم الأم؛ وهو اختبار دم لا يتطلب تدخُّلًا جراحيًّا، وهو بمثل دقة فحص السائل الأمنيوسي، ويمكن إجراؤه بعد عشرة أسابيع فقط من الحمل. وحتى الآن يمكن لهذا الاختبار أن يحدِّد نوع الجنين ويحدِّد مدى إصابة الجنين بمتلازمة داون وحالتين أخريين، هما: تثلُّث الكروموسوم ١٣ (مادة زائدة في الكروموسوم الثالث عشر، مرتبطة بمتلازمة باتو، يمكن أن ينتج عنها «أحداث» مثل: الحنك المشقوق، وزيادة عدد أصابع اليد، والتأخُّر العقلي الحاد، وعيوب بالقلب، وعدم نزول الخصيتين)، وتثلُّث الكروموسوم ١٨ (تراكب أصابع اليدين، وعيوب بالقلب، وكذلك قلة الوزن عند الولادة، والتأخُّر العقلي، وعدم نزول الخصيتين، وقِصَر عظم الصدر، وتشوُّهات العضلات في جدار البطن).١ وتنوي الشركة زيادة قدرات الاختبار ليشمل اضطرابات أخرى مثل التليُّف الكيسي وفقر الدم المِنْجَلِيِّ ومرض تاي-ساكس. إن كل هذا يساعد على تقليل الشعور بالقلق للمرأة الحامل، ولا سيما الأكبر سنًّا منهن (أو النساء اللاتي أزواجهن كبار في السن) اللائي يزيد بشكل كبير خطرُ تعرُّض أطفالهن قبل الولادة للإصابة باضطرابات وراثية.

لا يُعتبَر هذا الاختبار شاملًا أو دقيقًا تمامًا؛ فهو لا يكشف عن الحالات الأكثر ندرةً مثل حالة ووكر، الذي حالته أسوأ بكثير من غالبية الأطفال المصابين بمتلازمة داون، والذين يعيش كثيرٌ منهم حياةً طبيعية، ومنتجة بصورة معقولة. وهو لا يقيس حدة المتلازمة. على سبيل المثال، حتى داخل نطاق الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، هناك فروق شاسعة في القدرة؛ فووكر لا يستطيع الكلام أو التواصُل، ولكن كليفي كونجر يمكنه ذلك، ومن المرجح أن يحيا حياة شبه طبيعية. لكن إذا طوَّرَتْ شركة سيكونوم اختبارًا لمتلازمة القلب والوجه والجلد، فسنجد أن كليفي هو مَن ستظهر عنده الطفرة وستُكتشَف حالته في هذا الاختبار؛ وليس ووكر. كليفي، الطفل الأعلى في القدرات، والذي يمكنه الاعتماد على ذاته، هو الذي يمكن أن يكون مرشَّحًا للإجهاض، وهذا الجانب من الاختبار لا تركِّز عليه الشركاتُ التي تقدِّم الاختبارات الوراثية في موادها الدعائية.

على الرغم من ذلك، فالقرار بتجنُّب قدوم طفلٍ كهذا للحياة يمكن اتخاذه في المقام الأول في الأسابيع العشرة الأولى للحمل.٢ في واقع الأمر، في الولايات المتحدة الأمريكية، يجهض ما بين ٨٠ إلى ٩٥ في المائة من النساء — اللاتي تظهر إصابة جنينهن بمتلازمة داون — حملهن، وبلا شك سيزيد اختبار الدم الأدق الجديد تلك النسبة. ما نتيجة ذلك؟ المصابون بمتلازمة داون في طريقهم للاختفاء. وفي هذه الأثناء هناك ٧٠ ألف شخص في العالم مصابون بالتليُّف الكيسي، وبعض الأشخاص المصابين بفقر الدم المِنْجَلِيِّ — ثلث ساكني الدول الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى مصابون بالجين — يمكنهم أن يعيشوا إلى سن الخمسين تقريبًا. وتضع شركة سيكونوم كلا المرضين على قائمة الانتظار بالنسبة إلى الأمراض التي يمكن إدخالها في اختبارها الوراثي. وتُعَدُّ الاختبارات الوراثية وسيلةً للتخلُّص من الشذوذ، وكلِّ الآلام والمعاناة المصاحبة لهذا الشذوذ. حين كان ووكر طفلًا صغيرًا، قبل أن يسكن في قلبي وعقلي وذاكرتي، قضيتُ جزءًا من حياتي اليومية أتمنَّى بشدة أن لو كان لدينا إمكانية إجراء اختبار، وكنت آمل أن يكون لدينا اختيار في مسألة وجوده؛ من أجله ومن أجلنا كذلك. والآن بعد أن تعلَّقت بووكر، أشعر بالراحة أنه لم يكن يوجد مثل هذا الاختبار، وأني لستُ مضطرًّا إلى مواجهة المعضلة الأخلاقية التي قد تظهر سريعًا لي؛ لأن ووكر في أيامه السعيدة يكون دليلًا على ما يمكن أن يقدِّمه الشيء الشاذ والضعيف؛ تذكرة بأن هناك طرقًا عديدة لكي تكون إنسانًا، وأن تحاول أن تكون سعيدًا قدر الإمكان، وأن تستغل كل ذرة عابرة في الحياة حتى لا تمر دون أن تشعر بها.

يتجنَّب الاختبارُ كلَّ ذلك، سواء الأشياء الجيدة أو السيئة منه.

ولكن إذا كان هناك نظام أكفأ لتقديم الرعاية للمعاقين، وإذا أصبحنا أقل خوفًا منهم، وإذا كانت رعاية الطفل المعاق لا تعمل على تدمير حياة مَن يقومون بالرعاية؛ إذا كان لدينا مثل هذه البدائل، فهل نحتاج أصلًا إلى اختبار كهذا؟

***

انتهيتُ من قراءة الخبر حول الاختبار الجديد في الصحيفة وذهبتُ لكي أغسل الأطباق. كانت جوانا تُعِدُّ سلاطة كوب، فقلتُ لها: «ما رأيك في مثل هذا الاختبار؟»

استغرقَتْ وقتًا طويلًا في الإجابة، ثم قالت: «لو كان هناك اختبار حين كنتُ حاملًا يمكن أن يشخِّص ما ستكون عليه حالة ووكر، لكنتُ اخترت الإجهاض.»

لم أَقُلْ شيئًا. كنت قد أعددتُ كيكة شوكولاتة في وقت مبكر من هذا الصباح، وأحاول الآن كشط الشوكولاتة الصلبة من المضارب التي استعملتها.

واصلَتْ حديثها قائلةً: «كنَّا صغارًا، وحملتُ على الفور بعد زواجنا، وكان أمامنا فرص كثيرة ليكون لدينا طفل آخَر، طفل طبيعي.» أخ طبيعي لهايلي، حليف لابنتنا حين تحتاجه لمواجهتنا.

قلتُ: «ولكن في ذلك الوقت كنتِ سترغبين في عدم إنجاب ووكر.»

بدأت جوانا في التحرُّك حول المطبخ على نحوٍ أسرع. كانت تتهرب، وبَدَا هذا واضحًا عليها، وفي النهاية قالت: «لا يمكنك القول، بعدما عرفت ووكر، أكان يمكن أن أفعل شيئًا للتخلُّص منه؟ فمن ناحيةٍ أنت تجهض جنينًا مجهولًا لك، ومن ناحيةٍ أخرى أنت تقتل ووكر. والجنين ما كان ليكون ووكر.»

«ما شكل العالم برأيك من دون أناس من أمثال ووكر؛ من دون أطفال مثله، أقصد الأطفال الذين لديهم إعاقات؟» وهذا ليس احتمالًا مستحيلًا، بناءً على التقدُّم الحادث في مجال اختبارات ما قبل الولادة.

«عالَم لا يوجد به سوى حكَّام الكون سيكون مثل إسبرطة، ولن يكون عالَمًا متسامِحًا، بل سيكون مكانًا قاسيًا.»

«إذن فقد علَّمَكَ شيئًا.»

«جعلني أدرك أننا محظوظون لتمتُّعنا بصحة جيدة، أغلبنا في معظم الوقت؛ كيف أننا ندرك أن لدينا مشكلات، بَيْدَ أننا في الواقع ليس لدينا مشكلات، مقارَنةً بحاله.»

كثير من الفرك والتقطيع، ثم قالت: «لكني لست الشخص الذي يجب أن يُسأَل عن هذا. أنا لا أرى أني شخص صالح.»

«ماذا تقصدين؟ أنتِ إنسانة رائعة جدًّا.»

«لم أستطع التكيُّف على نحو كامل مع فكرة وجوده معنا، وما زالَتْ لديَّ مشاعر مختلطة بشأن كل شيء فعلته، وكل شيء لم أفعله.»

رغم كل شيء، فهي أمه، ولكنها لم تنقذه. وهي ليست من الأمهات اللائي وهبن أنفسهن لرعاية أطفالهن المعاقين طوال الوقت، ولم يتوقَّفن عن البحث عن سُبُلٍ لتحسين حالاتهم والدفاع عنهم حتى يحصلوا على حقوقهم. هل كان التزامها بالمكوث في البيت مع طفل متأخِّر أكبر من أم أخرى مكثت في البيت ولديها التزام بالعمل وأن تكون جزءًا من المجتمع «الطبيعي»؟ لا أرى ذلك. كانت جوانا أمًّا رائعة، وقامت بما ينبغي عليها فعله، وقامت به على أحسن وجه، ولكنها كانت مقتنعةً أن هذا لم يكن كافيًا. صحيح أن العالم تجاهَلَ محنتها، ولكنه لم يجعلها ترى نفسها بريئة تمامًا أيضًا. تشعر كثير من الأمهات المصاب أبناؤهن بمتلازمة القلب والوجه والجلد بنفس الشعور. على سبيل المثال، شعرت إيمي هيس ومولي سانتا كروز بنفس الشعور، وقد بقين في البيت لإدارة عجلة الحياة، وأصبحن أروعَ أمهاتٍ لأطفالٍ معاقين وأنشطَهن وفقَ معرفتي، ولكن لا مفر من الشعور بالذنب؛ فهو يعيش بداخلهن، عميقًا. كانت جوانا أم ووكر، الإنسان الذي خرج منه الجسم المعيب والمتألم هذا. لم تكن تستطيع أن تفكِّر في إصابته الشديدة، وتسبب هذا في حزن شديد داخلها، ولا تستطيع تجاهله أيضًا. وأفضل ما كان يمكن أن تفعله هو أن تظل هادئة، وتشغل نفسها وتتحرك، وتتولى رعايته دون أن تسأل نفسها أسئلةً أكثر من المعتاد. هذه حيلة دقيقة، تشبه محاولة السير بكعب عالٍ فوق شبكة حديدية على الرصيف، فيما عدا أن تلك الشبكة تمر فوق جهنم والعذاب الأبدي.

حين تحدَّثَتْ مرةً أخرى، قالت: «لا أدري ما قيمة ووكر للعالم، ولست متأكدة أني أتفق أن قيمته الأبدية أن يرهف من إحساس الناس، وأن على حياته كلها أن تكون مثل غاندي، يجعل الناس يشعرون بقيمة أنفسهم بشكل أفضل، ولا أرى أن حياته ينبغي أن تكمن أهميتها فقط في جعل الآخَرين أكثر رضًا بحياتهم. في رأيي يجب أن تكون حياته لها قيمة في حد ذاتها.»

قلتُ: «لا، أنا لا أعني هذا أيضًا. هو قد يجعل الناس تفكر بهذه الطريقة، ولكن حياته لها قيمة في حد ذاتها، بغض النظر عن ذلك.»

قالت جوانا، وهي تتحدث بطريقة أسرع: «ليست لديَّ مشكلة فيما يخص دور الرعاية أو عيشه بالطريقة التي يعيش بها الآن، إنما المشكلة الوحيدة لي مع حياته تظهر عندما يحل به الألم؛ لا أتحمل هذا، ولا أطيقه. ألم لا يطاق، يمنعه من النوم.»

رددتُ عليها قائلًا: «كما تعرفين، ليست أمامنا وسيلة للتعامُل مع الأمر بمفردنا.»

«من الناحية العاطفية، ما زلتُ أرى أنني لو كنتُ أمًّا حقيقية له، لكان في البيت الآن.» توقفتْ عن الكلام، ثم حدثت حالة الانهيار، التي كنت أعرف أنها ستحدث. «لم أَعُدْ أشعر أني أمه، فلم أَعُدِ الشخص الذي يلجأ إليه الآن.» كانت تبكي، كنتُ أعرف ذلك من غير أن أنظر إليها. أشعر بها تبدأ في الانهيار، كما لو أن أرضية المنزل تُخسف بنا.

«هو يلجأ الآن إلى آخَرين.» كان هذا هو كل ما كنتُ أستطيع فعله.

نعم، نعم، كانت تومئ، هذا هو الأمر. «ما دام هناك مَن يرعاه كل يوم، فلا يعنيني مَن يكون هذا الشخص.» بدأت الآن في النشيج، في إحدى نوبات النشيج السريعة والشديدة.

كان يمثِّل فجوة، ثقبًا في حياتنا لم يكن ليختفي قطُّ. لقد كان معنا هنا من قبلُ، والآن هو ليس معنا هنا، فهل مواجهة الجرح كل يوم تجعلنا أفضل؟ لا. وهل لنا أي خيار آخَر؟ لا. وهل يجعلنا هذا نتذكر الجرح؟ نعم. وهل يغيِّر هذا أي شيء؟ لا أدري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤