الفصل الثامن

المبتذل والطريف في التعابير الأدبية

نكتب هذا الفصل ردًّا على الأستاذ ديمومبين الذي يرى أن التعابير الأدبية عند العرب أكثرها مبتذلات.١ ولْنُشِرْ أولًا إلى أنه يذكر كلمة «كليشيه» وقد بحثنا فيما يقابل هذه الكلمة في العربية فرأينا كلمة «مبتذل» تؤدي معناها أفصح أداء، وهي كلمة استعملها علماء البلاغة حين قسموا التشبيه باعتبار الوجه إلى مبتذل وغريب، وعرَّفوا المبتذل بأنه ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به من غير احتياج إلى شدة نظر لظهور وجهه، وعرَّفوا الغريب بأنه ما احتاج في الانتقال من المشبه إلى المشبه به إلى فكر ودقة نظر لخفاء وجهه. وفي هذا التفسير بعدٌ قليل بين كلمة مبتذل وكلمة كليشيه؛ لأن الكليشيه هو الصورة التي تقع لأول وضعها جميلة ثم تسخف بكثرة الاستعمال، فلنقرر إذن أن كلمة «مبتذل» كلمة اصطلاحية أردنا وضعها مقابل كلمة كليشيه؛ لأنها أصلح الألفاظ لأداء المعنى الذي نريده في وصف التعابير التي هجنها طول الاستعمال.

والحق أنه توجد في اللغة العربية — كسائر اللغات — مبتذلات، فقد يقع التعبير موقع القبول عند ظهوره ثم لا يزال الناس يلحون في استعماله حتى يسمج ويبوخ. من ذلك «شحط النوى» و«شط المزار» وهي كلمات كثر ورودها في قصائد الشعراء ورسائل الكتَّاب حتى ابتذلت، وكان من ذلك أن لا يهش لها الذوق في قول ابن زيدون:

شحطنا وما بالدار نأيٌ ولا شحط
وشط بمن نهوى المزار وما شطوا

وكلمة «عَبْل الشوى» يجدها القارئ في أكثر ما جاء في وصف الخيل بحيث تصح إضافتها إلى المبتذلات، وعبارة «أنشبت المنية أظفارها» استجادها الناس في قول الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظافرها
ألفيت كل تميمة لا تنفعُ

ثم عادت متبذلة بكثرة الاستعمال بحيث يتحاماها الشعراء والكتَّاب، ومثلها عبارة «استشعر الندم» وعبارة «حذوك النعل بالنعل» مع أن العبارة الثانية كانت مستجادة جدًّا في قول عمر بن أبي ربيعة:

فلما تلاقينا عرفت الذي بها
كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وقد وقعت مرة على لسان خطيب من خطباء الثورة المصرية فقابله السامعون بالسخرية والصفير،٢ وعبارة «بكرت تلومك» كثر ورودها في الشعر الجاهلي والأموي حتى ابتذلت وتناساها الشعراء، وكلمة «نؤوم الضحى» كانت من أجمل ما توصف به المرأة، وهي اليوم من سقط المتاع، وكان القدماء يستجيدون قول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شئن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك إسحل

والأساريع دوابٌ ظهورها ملساء تكون في الرمل أو في الحشيش وتشبه بها أنامل الحسان، وكان هذا التشبيه مستملَحًا لأول ظهوره ثم أخذ يثقل بكثرة الاستعمال حتى كاد يضاف إلى القبيح المرذول في قول أبي تمام:

بسطت إليك بنانة أسروعا
تصف الفراق ومقلة ينبوعا

ومن المبتذلات أيضًا قولهم: «نسج على منواله»، وقولهم: «لا يفرق بين الغث والسمين»، وهناك مبتذلات ماتت موتًا لا نشور بعده كقولهم: «كثير الرماد»، و«جبان الكلب»، و«مهزول الفصيل»، مع أنها كانت من أطيب الصفات في شعر من قال:

وما يك فيَّ من عيب فإني
جبانُ الكلبِ مهزولُ الفصيلِ

على أن بعض التعابير قد تستثقل لسبب آخر غير كثرة الاستعمال، وذلك حين ينحرف التعبير عما كان يراد به بعض الانحراف، فقد كان القدماء يستحسنون وصف المرأة بطيب الأنياب، كالذي يقول:

وما أنشد الرعيان إلا تعلةً
بواضحة الأنياب طيِّبة النشرِ

أو الذي يقول:

لئن كان يهدَى برد أنيابها العلا
لأفقر مني إنني لفقيرُ

ولو أن أحد الشعراء اليوم وصف فتاة ببرد الأنياب لعدَّ من السخفاء؛ لأن «الأنياب» أخذت معنى أخشن وأقرب إلى الوحشية. وكذلك لفظة «النسوان» كانت حلوة في قول بعض الشعراء:

فوالله ما أدري أزيدت ملاحةً
وحسنًا عن النسوان أم ليس لي عقلُ

ولكنها اليوم في مصر كلمة «هجاء» ولا تؤدي في الذوق ما تؤديه كلمة «نساء».

وكذلك وصف الدمع وتشبيه العين الباكية بالقربة المخروقة في قول ذي الرمة:

ما بال عينك منها الماء ينسكب
كأنه من كلى مفرية سرب٣

وقوله من كلمة ثانية:

وما شنتا خرقاء واهية الكلى
سقى بهما ساق ولما تبللا٤
بأضيع من عينيك للدمع كلما
تذكرت ربعًا أو توهمت منزلَا

ويلحق بهذا قولهم: «نزل المطر كأفواه القِرَب» فإنه ابتُذل لانصراف الأذهان عن تلك الصورة البدوية. وكان الشعراء في عصور كثيرة يشبهون مشية المرأة بانسياب الحية؛ كقول ابن أبي ربيعة:

خرجت تأطر٥ في الثياب كأنها
أيم يسيب على كثيب أهيلا

ولكن هذا الخيال عاد مما تنبو عنه الأذواق لبعد ما بين مشية المرأة وانسياب الحية، وإن كنت أعجب كيف سرى هذا التشبيه حتى نراه عند الفرنسيين في شعر بودلير، وأنا لا أعرف صلة بين المرأة والحية من جهة الحسن، إلا أن يكون اتفاقهما في البغي مما يقرِّب بينها في خيال الشعراء! والمرأة والحية هما اللتان أخرجتا أبانا آدم من فراديس الجنان!

ولنقيد هنا أن المبتذلات أو الكليشيهات تنتقل من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة ثم تزوي وتموت، ومن شواهدها في عصرنا ما كانت تختم به أكثر المقالات في الصحف المصرية قبل سنين مثل عبارة: «ولله في خلقه شئون.»

وقد تنوسيت هذه العبارة منذ مدة بعد أن أملَّت القراء والكتاب. ومن طريف هذه النوع ما كان الدكتور طه حسين يبدأ به محاضراته في الجامعة المصرية من مثل عبارة: «قلنا في المحاضرة الماضية»، وقد اتفق له أن علا المنصة وتأهب للكلام فسمع بعض الطلبة يقول في همس: «قلنا في المحاضرة الماضية»، فابتسم وقال: «سمعتم في الدرس الماضي.»

وهو تخلص لطيف!

وهناك تعابير تحيا على ألسنة أصحابها فقط؛ كقول المرحوم سعد باشا: «أخجلتم تواضعي»، وقوله: «في ميدان الضحايا متسع للجميع»، فإن الكتَّاب انصرفوا عن استغلال أمثال هذه التعابير لدلالتها على صاحبها دلالة عنيفة قوية بحيث يشعر القارئ أنها لا تقع في الكلام إلا نهبًا واختلاسًا، وكذلك قوله: «إن الوطن غفور رحيم»، وهو تعبير قرآني نقله سعد باشا من الصيغة الدينية إلى الصيغة الوطنية، فأخذ في كلامه صورة حية، ولكنه من التعابير التي تأبى الانقياد لكثير من الناس، إلا أن يتفق للمحاكين ما اتفق لسعد باشا من علو الكلمة ورهبة الجلال.

تنقسم المبتذلات إلى أقسام: قسم مفهوم هجنته كثرة الاستعمال، وقد ذكرنا له عدة أمثله، وقسم غير واضح لا يفهم إلا في غموض، ولا يزال الناس يستعملونه بدون أن يتبينوا تمامًا وضع صورته وإن أدركوا معناه؛ كقولهم: «جاءوا على بكرة أبيهم»، فإنهم يفهمون المراد من هذا التعبير وإن كانوا لا يدركون صورته الأولى، وقولهم: «رفع عقيرته وغنى»، وهي عبارة ماتت وحاول المنفلوطي إحياءها فتابعه بعض الكتاب، وإن كانوا لا يدركون الصورة الأصلية.

وقولهم: «شالت نعامته» إذا مات، وقولهم: «إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم»، وهي عبارة لا تزال حية، وإن كان الجمهور لا يدرك صورتها الأولى على الإطلاق. وقولهم: «سبق السيف العذل»، وهي كلمة لا تزال تجري على ألسنتنا، وإن كان الناس لا يلتفتون إلى موردها الأول. وقولهم: «لأيًا عرفت الدار»، وهي عبارة جاهلية تنوسيت طويلًا ثم حاول المنفلوطي إحياءها فلم تنهض إلا قليلًا. وقولهم: «ينحتون أثلته ويصدعون مروته»، وهي جملة نستجيدها أحيانًا وإن كان الجمهور لا يتمثل صورتها إلا بجهد شديد.

وهناك قسم ثالث من الكليشيهات جهل أصله منذ زمن طويل فانصرف عنه الكتَّاب والشعراء؛ كقولهم: «يا عيد ما لك؟» و«يا هيء ما لك؟» و«يا شيء ما لك؟»٦ وقولهم في الإغراء: «كذبك كذا»، و«كذبك العسل»، و«وكذب عليك الحج»، و«كذبت عليكم أوعدوني».٧ وقولهم: «عنك في الأرض»، و«عنك شيئًا»، وقولهم: «أعمد من سيد قتله قومه؟» أي: هل زاد؟ وقول ابن ميادة:
وأعمدة من قوم كفاهم أخوهمو
صدام الأعادي حين فُلَّت نيوبها
وفسره الخليل فقال: «معناه هل زدنا على أن كفينا؟» وهذا لا يغني شيئًا في توضيح ذلك التعبير. ومثل هذا قولهم: «بعين ما أرينَّك» في موضع «عجل»،٨ وقولهم: «لعا» في الدعاء للعاثر، وهي جملة ماتت منذ أزمان وحاول شوقي إحياءها في رواية مجنون ليلى. وقولهم: «مخرنبق لينباع» وهي عبارة تحاماها المتكلمون منذ عصور طوال، وحاول بعض الكتَّاب أن يمدح صدقي باشا فوصفه بها فظنتها الناس هجاء، وما يدري أحد أأصابوا أم كانوا من المخطئين! وكان العرب يستنهضون العاثر بقولهم: «دعدع ولعلع»؛ فنهاهم النبي عن ذلك واستحب لهم أن يقولوا: «الله ارفع وانفع»، فما معنى دعدع ولعلع؟ كانت هاتان الكلمتان مفهومتين بالطبع حتى صح النهي عنهما ثم أدركهما الموت فاندثر ما كان لهما من معنى ومدلول. وكذلك قول الشاعر:
وما كان على الجيء
ولا الهيء امتداحيكا

فما هو الجيء والهيء؟ تلك مبتذلات أو كليشيهات ضاعت معانيها فسحب عليها الزمان أذيال العفاء.

وفي اللغة العربية تعابير تفيض قوة وحياة، ولكن الكتَّاب والشعراء ينصرفون عنها عامدين، ومن ذلك عبارة: «والذي نفسي بيده» وهو قسم ظريف انفرد به الرسول عليه السلام، وقد وقع منذ سنوات في خطاب أذاعه الأستاذ علي ماهر باشا وكان وزيرًا للمعارف فابتسم الناس، وقيل: إنها عبارة نمقها الأستاذ عبد العزيز البشري وكان الكاتب البرلماني لوزارة المعارف حينذاك.

ومن هذا الباب الأقسام القرآنية التي تقرن بحرف «لا» مثل: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وفَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وهي أيمان لو عاد إليها المتأدبون لكانت ظريفة، ولكن القرآن انفرد بها وقصر جمالها على آياته البينات، بحيث لو وقعت في كلام غيره لشعر القارئ بغربتها عن مواطنها، وبذلك قضي عليها أن تظل رهينة المصحف لا يعرفها الناس إلا في الصلوات، وقد يكون من أسباب هجرها وتناسيها أنها كانت تشير إلى معانٍ أو حوادث كانت معروفة لعرب الجاهلية فكانوا يجدون في تذوقها ما لا نجد بعد أن تطورت العقائد والأهواء والأذواق والميول، فلسنا ندرك اليوم ما كان يدركه العرب من جلال هذا اليمين: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، ولا نسمي هذه مبتذلات ولا كليشيهات؛ لأن الناس انصرفوا عن استعمالها كل الانصراف، وإنما نسميها الطوابع القرآنية؛ لأنها تجمل فيه وحده ولا تنقاد لكلام سواه بعد أن حفظت فيه ما كانت ترمي إليه من دقائق الأغراض.

لنترك المبتذلات التي ماتت، والتي يحاول بعض المعاصرين إحياءها في غير نفع، من مثل «يحرقون الأُرَّم» وما أشبه ذلك من التعابير البالية، ولنأخذ في ذكر نوع من الصور لا يبلي ولا يموت؛ لأن الضرورات اللغوية تفرض حياته على اختلاف الأزمان. والضرورات اللغوية هذه مشكلة إنسانية؛ لأن الناس لا يستطيعون في سبيل الفن أن يخلقوا في كل جيل ألفاظًا جديدة يتميزون بها عمن سبقهم في تلوين الخيال، ومن أجل ذلك نرى الشعراء والكتَّاب في جميع العصور يتلاقون عند تشبيه الخد بالورد، والعين بالنبل، والثغر بالأقحوان، والسن بالبرد، واللفظ بالسحر، والنفَس بالريحان، والقد بالغصن، والطرَّة بالغسق، والغرة بالفلق، والخال بالمسك، والشفة بالعقيق، والريق بالرحيق، وتشبيه العذار بطراز العنبر، والعنق بإبريق اللجين، والسرة بمدهن العاج، والوجه بالصبح، والشعر بالليل، ووصف العيون بالدعَج، والمباسم بالفلَج.

ونراهم كذلك يتلاقون عند الكلمات الواضحة الدلالة والتي أقرها العرف والذوق، مثل: أشر الصبا، وسكر الحداثة، وشرخ الشبيبة، وريعان العمر، وعنفوان الشباب، وكبد السماء، وقرارة الماء، ومطلع الفلق، ومجمع الغسق، واضطراب النفس، واضطرام الصدر، وصروف الدهر، وغدرات الزمان.

ونجدهم يتوافقون أيضًا عند الصفات الغالبة؛ كالعقاب الكاسر، والبرج الشاهق، والنجم الثاقب، والشعرى العَبور، والأسد الهصور، والجبل المنيع، والحصن الحصين، والصبح الشامس، والليل الدامس، والقلب الخافق، والماء الدافق، والهواء العليل، والنسيم البليل، والطرف الكحيل، والخد الأسيل، والخصر النحيل، والقوام الأهيف، والطرف الأحور، والوعد الخلَّب، والزمن القلَّب، والرسم الدارس، والطلل الطامس، والغيم الجهام، والسيف الكهام، والبأس الشديد، والعذاب الأليم، والروض الضاحك، والسراب الخادع، والغصن الرطيب، والوادي الخصيب، والصخرة الصماء، والدرة العصماء، والحية الرقطاء، والداء العضال، والموت الزؤام، والروضة الغناء، والجنة الفيحاء.

ولو شئنا لمضينا في سرد ما تداوله الشعراء والكتَّاب من الأوصاف والتشبيهات، بدون أن يجرؤ ناقد على أخذهم بإعادة ما سبق إليه الأدباء الأقدمون؛ لأنهم في الواقع يلجئون إلى صفات وتشبيهات لا يُستغنى عنها إلا بخلقٍ من اللغة جديد، واللغات لا تخلق في أعوام معدودة، وإنما تنمو وتتطور في أجيال طوال، فليس من المعقول إذن أن نرفض تشبيه الخد بالورد مثلًا بحجة أن هذا الكلام معاد درجت عليه القرون. ولو نظرنا لرأينا النقاد في أكثر اللغات يحاكون الكتاب والشعراء إلى المصطلح عليه من الألفاظ والتعابير، ويظهر ذلك واضحًا عند نقادنا في القديم والحديث، حين نراهم يقولون: «العرب لا تقول ذلك» أو«لا تعرف العرب ذلك»، وثلاثة أرباع ما كتب الباحثون في النقد والبيان يرجع في جملته إلى المقابلة بين القوالب الجديدة والقوالب القديمة في الألفاظ والمعاني والتعابير والأساليب، ومتى راعينا ذلك سهل علينا أن ندرك أن لا وجه لاتهام الأدب العربي بأنه ركام من المبتذلات كما يظن المسيو ديمومبين.

على أن الكليشيه بمعناه المفهوم عند النقاد الفرنسيين لا يوجد عند شعرائنا وكتابنا إلا قليلًا، ذلك بأن التعبير لا يسمى كليشيه عند الفرنسيين إلا حين يبتذل ويفقد الحياة، مثل قولهم في المستثقل من الأشياء أو الأشخاص: Embétant comme la pluie.

ونحن إذا رجعنا إلى الصور الأدبية عند كبار الكتَّاب والشعراء من العرب وجدناها تتوثب من فيض القوة والحياة، ونستطيع أن نقدم نماذج من الشعر والنثر ليس فيها تعبير مبتكر، ولا يوجد فيها من الصفات والتشبيهات إلا ما ألفه الناس وتطاولت عليه السنون، ومع ذلك تبدو طريفة أخاذة وكأنها عذراء لم يمسها كاتب ولا شاعر ولا خطيب، وإنما كانت كذلك؛ لأنها صدرت عن نفس حية مفعمة بالشعور والإحساس، ومن ذا الذي ينكر أن الكلمة الواحدة قد ينطق بها رجلان فتقابل من أحدهما بالتبلد والجمود، وتقابل من ثانيهما بالتأثر والقبول، وكذلك الأغنية الواحدة يغنيها اثنان على أصولها الفنية بحيث لا تسقط منها نبرة ولا يشذ فيها صوت، ومع ذلك يكون الفرق بين المغنيين بعيدًا؛ لأن أحدهما ينقل الصوت نقل المحاكاة، على حين يشعر ثانيهما بمعنى ما يغنيه ويساير صاحب الصوت فيما يعبر عنه من ألوان المشاعر والأحاسيس، فلو كانت المعاني تبتذل بمجرد التكرار لوجب أن ننصرف عن أشياء كثيرة عرفها الأولون، فإن كلمات الحب والعبادة والتقديس قد تكررت وتكررت في مئات الأجيال، ومع ذلك يقول المحب لحبيبته: «أحبك وأعبدك وأقدسك»، فتظهر هذه الجمل على طول العهد بها حارة قوية كأنها موجهة من أوَّل آدم إلى أوَّل حواء، وهذه الجمل بعينها قد يوجهها رجل إلى امرأة فتتلقاها في خمود، لا لأنها جمل مبتذلة أضيفت إلى الكليشيهات، ولكن لأنها صدرت عن قلب خامد ولسان كذوب!

فالمعول عليه إذن في التعابير الأدبية هو حياتها في أنفس قائليها، ولا عبرة بالقدم والحدوث في هذا الباب، وإن كان الأدباء يتفاضلون بما يبتكرون من الصور والأخيلة، كما يتفاضلون في المعاني والأساليب.

وإلى القارئ قطعة من شعر ابن هانئ الأندلسي في وصف زهرة رمان قطفت قبل عقدها:

وبنتِ أيكٍ كالشباب النضر
كأنها بين الغصون الخضر
جنان باز أو جنان صقر
قد خلفته لقوة٩ بوكر
كأنما سحت دمًا من نحر
أو نبتت في تربة من جمر
أو سقيت بجدول من خمر
لو كف عنها الدهر صرف الدهر
جاءت كمثل النهد فوق الصدر
تفتر عن مثل اللثات الحمر
في مثل طعم الوصل بعد الهجر

فالتشبيهات والصفات في هذه القطعة قديمة تداولها الكتَّاب والشعراء، ولكن من الذي ينكر أن هذه القطعة من نوادر الشعر البليغ؟ فإن سألت ما سر الحياة في هذه القطعة، فإني أجيبك بأن سر حياتها هو الحياة في روح من نظم الوصف وهو متأثر بجمال الموصوف.

وإلى القارئ قطعة أخرى من شعر ابن المعتز في ضاحية كانت ملعب صباه ثم غيرها الزمان:

لا مثل منزلة الدويرة١٠ منزلٌ
يا دار جادك وابلٌ وسقاكِ
بؤسًا لدهر غيرتك صروفه
لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل للعينين بعدك منظر
ذمَّ المنازل كلهن سواك
أي المعاهد منك أندب طيبه
ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى
أم أرضك الميثاء أو رياك
وكأنما سعطت مجامر عنبر
أو فُتَّ فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهر
وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأن درعًا مفرغًا من فضه
ماء الغدير جرت عليه صباك

فأي جديد من التشبيهات والصفات في هذه القطعة؟ لا شيء! ومع ذلك لا ينكر أحد أنها من الشعر المرقص المطرب الذي يندر أن تجود بمثله قرائح الشعراء، فما هو السر في هذه العذوبة التي تسكر أرواحنا كلما اصطحبنا أو اغتبقنا بهذه القطعة الرائعة؟

السر هو أن الشاعر ينطق عن نفسه في قوة وحياة؛ بحيث تبدو تلك التعابير على لسانه وكأنها من فيض روحه ومن صنع بيانه، وكأن لم يسبقه إليها أحد من صاغة الكلام.

ولنقدم الكلمة الآتية من نثر بديع الزمان:

أنا وإن لم ألق تطاول الإخوان إلا بالتطول، وتحامل الأحرار إلا بالتحمل، أحاسب الشيخ — أيده الله — على أخلاقه ضنًا بما عقدت يدي عليه من الظن به، والتقدير في مذهبه، لولا ذلك لقلت في الأرض مجالٌ إن ضاقت ظلالك، وفي الناس واصلٌ إن رثت حبالك، فإن أعارني أذنًا واعية، ونفسًا مراعية، ونزوعًا عن هذا الباب الذي يقرعه، ونزولًا عن الصعود الذي يفرعه، فرشت لمودته خوان صدري، وعقدت عليه جوامع خصري، ومجامع عمري، وإن ركب من التعالي غير مركبه، وذهب من التغالي في غير مذهبه، أقطعته خطة أخلاقه، وأوليته جانب إعراضه، فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطري الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيت وفدي الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر، وضربت أبطي العسر واليسر، وبلوت طعمي الحلو والمر، ورضعت ضرعي العرف والنكر، فما تكاد الأيام تريني من أفعالها غريبًا، وتسمعني من أحوالها عجيبًا، ولقيت الأفراد، وطرحت الآحاد، فما رأيت أحدًا إلا ملأت حافتي سمعه وبصره، وشغلت حيزي فكره ونظره، فمالي صغرت هذا الصغر في عينه، وما الذي أزرى بي عنده حتى احتجب وقد قصدته، ولزم أرضه وقد حضرته؟ أنا أحاشيه أن يجهل قدر الفضل، أو يجحد فضل العلم، ويمتطي ظهر التيه، على أهليه، وأسأله أن يختصني من بينهم بفضل إعظام إن زلت بي مرة قدم في قصده، وكأني به غضب لهذه المخاطبة المجحفة، والرتبة المتحيفة، وهو في جنب جفائه يسير.

وقد تخيرنا هذه القطعة لكثرة ما ورد فيها من الصور والتعابير القديمة لندل القارئ على أن ذلك لم يمنع من ظهور شخصية بديع الزمان؛ إذ كان يعاتب وهو مضطرم الصدر مهتاج الفؤاد. ولنقدم كلمة أخرى من نثر أبي الفضل بن العميد:

وصل كتابك فصادفني قريب العهد بانطلاق، من عنت الفراق، ووافقني مستريح الأعضاء والجوانح من جوى الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف في تبديل الأشكال، وأعتقني من مخالتك عتقًا لا تستحق به ولاء، وأبرأني من عهدك براءة لا تستوجب معها دركًا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك، بيدي جفائك، ورش على ما كان يضطرم في ضميري من نيران الشوق بالسلو، وشن علي ما كان يلتهب في صدري من الوجد ماء اليأس، ومسح أعشار قلبي فلاءم قطوري بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعرض عن النزاع إليك نزوعًا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعًا دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سد له الشك دون نظري، حتى حدر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجوه خليقتك، فلم أجد إلا منكرًا، ولم ألق إلا مستكبرًا، فوليت منها فرارًا، وملئت رعبًا، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذمم عهدك.

وللقارئ أن يتأمل هذه القطعة فسيرى صورها جميعًا منتهبة من غرر الشعر القديم؛ بحيث لا يبقى لابن العميد معنى واحد خلا من لباس معروف، ومع هذا فمن ينكر أنها من طرائف النثر الجميل؟ إن الكاتب أفاض عليها روحه كما تفيض الحسناء من سحر الملاحة على ما تحمل من دمالج وأساور وعقود.

ونستطيع أن نضرب المثل ببعض ما ظهر من أطايب الأدب الحديث، فهناك كتاب «صهاريج اللؤلؤ» للسيد توفيق البكري، وهو كتاب نفيس لا يختلف في استجادته اثنان، ولا أقول لا ينتطح فيه عنزان، فرارًا من الكليشيه! وهذا الكتاب مع جودته قلما يقع فيه تشبيه إلا وهو مسروق من القدماء، وخاصة رجال القرن الرابع، وما نظرت فيه إلا تذكرت ما قاله أحد النقاد المتقدمين في سعيد بن حميد:

لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك. لما بقي معه شيء!

ولكن هذا لا يمنع من أننا نقرأ نثر السيد توفيق البكري مأخوذين بإبداعه وافتتانه، حتى لنحسب أنه صاحب ما يطالعنا به من الصور والتشابيه، ولننظر كيف يقول في شواطئ الآستانة:

فإذا رأيت ثَمَّ حين دلوك الشمس، وقد شعشع نورها كل بناء وغرس، وقد عكس في الماء صور ما يحيط به من الأشياء؛ أبصرت في الماء قبابًا من ذهب، وأهلَّة من لهب، وكثبانًا من زمرد، ووديانًا من زبرجد، وجبالًا وأيفاعًا، وحصونًا وقلاعًا، وثقوفًا من جوهر، وعمدًا من مرمر، وصرحًا من قوارير، وتماثيل وتصاوير، ودورًا وحورًا، ونارًا ونورًا، وحللًا تطوى وتنشر، وسيوفًا تغمد وتشهر، وأقمارًا تصاغ وتكسر، فكأنما تقرأ في البر قصيدة من شعر، وتنظر في البحر فانوسًا من سحر.

أفيعد هذا من المبتذلات؟ هيهات هيهات!

لقد آن أن نفهم أن الدأب على إحياء الصور القديمة يزيد اللغة قوة ورسوخًا، ويحببها إلى أذواقنا وقلوبنا، ألسنا نشعر أحيانًا بالرغبة في وضع بعض الصور الفصيحة في صور عامية؟ بلى! وإن ذلك ليقع في كل يوم. فما هو سر ذلك؟ لا شيء أكثر من أن التعابير العامية صقلتها الألسنة فاستطابتها الأذواق.

وقد تناقل الناس أن أبا العلاء المعري وضع كتابًا في معارضة القرآن، فقيل له: إن كتابك لجيد، ولكن تنقصه حلاوة القرآن! فأجاب: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون!

وليس المهم هنا أن نعرض لهذا الرأي برفض أو قبول، ولكن المهم أن نسجل أثر الترديد والتقليب في حياة البلاغات، فإن البلاغة كالموسيقا تبقى صورها في النفس وفقًا لما يقدر لها من الذيوع، والقلب أكثر ميلًا للصوت الذي يداعب أذنيه في الصباح والمساء، وكذلك كانت الموسيقا القومية ألصق بالقلوب، وأعلق بالنفوس، وإن كانت في تأليفها وسطًا لا تسمو إلى اللحاق بكثير من مستجاد الأصوات.

وهذا هو أيضًا السر فيما يعرف من استعصاء الشعر على الترجمة في كثير من الأحيان؛ لأن المعنى قد يتصل بألفاظه اتصال الروح بما في الجسم الذي يلابسه من أعصاب وحواس، فالألفة لها أهمية عظيمة في استجادة ما نقرأ وما نسمع، وإليها يرجع الفضل في استحسان ما ترصع به البلاغات من الحكم والأشعار والأمثال، ولو دققنا النظر في الصلات النفسية لوجدنا لتداعي المعاني دخلًا في هذه المشكلة البيانية؛ لأن الصور المختلفة الألوان تهيئ الذهن والذوق تهيئة خاصة لاستقبال ما يتقدم به الشعراء والكتَّاب والخطباء من فنون البيان.

وليس من التحامل في شيء أن نحكم بأن المستشرقين أقل منا إدراكًا لما في التعابير الأدبية من قوى الحياة؛ لأنهم يرون من التعابير شياتها وأعراضها ولا يدركون ما توحي إلى النفوس إلا بجهد شديد، فإذا وقع لأحدهم فعل «عجم» مثلًا في عدة مواطن ظن تنقله من هنا إلى هناك سمة من سمات الفقر اللغوي، ونسي الصورة الأولى التي أُخذت عن عجم العود قبل أن تصنع منه الرماح، فصعب عليه تبعًا لذلك أن يدرك سر البلاغة في مثل قول ابن المعتز:

وكم عاجم عودي تكسر نابه
إذا لان عيدان اللئام وخاروا

بقيت نقطة أخيرة في هذا الموضوع، وهي تتصل بما نراه من أن حياة التعبير هي التي تمنع من إضافته إلى المبتذلات، ذلك أن كتَّاب اللغة العربية — وخاصة رجال القرن الرابع — كان من همهم دائمًا أن يرتفعوا عن الجماهير بما يبدعون من المعاني والأساليب، وكانت وسيلتهم إلى ذلك أن يظهروا بالغنى في ثقافتهم الأدبية؛ بحيث لا يتذوق أدبهم إلا خواص الخواص، من أجل ذلك كثرت عندهم الإشارات إلى الحوادث السياسية والاجتماعية، وبالغوا في تضمين الآيات والأحاديث والأسجاع والأمثال، لينقلوا قراءهم إلى جواء بعيدة لا يتنفس فيها إلا المثقفون، وذلك كله يفرض إدراكهم الحي لما يشيرون إليه من حوادث التاريخ، وتأثرهم بما يعرضون له من إثارة ما اندفن من قديم الصور في مختلف الأغراض.

وهذا التسامي في خلق بيئة أدبية عالية كان ولا يزال من هموم الأدباء العظام، فإن الأدب في ذاته نوع من الترف العقلي، وهو يفرض وجود أريستقراطية فكرية يتفيأ ظلالها الكتَّاب والشعراء، وكذلك كان رجال الأدب العربي في عصور كثيرة من أصحاب المطامع الكبار، ومن رجال السياسة والملك، ومن أقطاب المجتمع الفكري والعقلي؛ بحيث لا يفهم عنهم إلا من يدرك ما كانت ترمي إليه هممهم في مطارح الحقائق، أو مدارج الظنون.

هوامش

(١) أرسلت إلى المسيو ديمومبين — وكنت في باريس وكان هو في هوتو Hautot — فصولًا من رسالتي، فأرسل إليَّ كتابًا قيمًا في ثلاث صفحات عن ملاحظاته، وجاء فيه قوله عن التعابير في اللغة العربية:
La litérature arabe est par essence une litérature de jolis clichè.
وقد رددت عليه في الأصل الفرنسي، وعدت إلى الموضوع في هذه الطبعة بهذا التفصيل.
(٢) كان ذلك في خطبة ألقاها الدكتور محجوب ثابت على قبر شهيد الوطنية محمد بك فريد.
(٣) الكلى: جمع كلية بضم الكاف وسكون اللام، وهي من المزادة رقعة مستديرة تحرز عليها تحت العروة، والمفرية: المشقوقة.
(٤) الشن والشنة: القربة.
(٥) تأطرت الحسناء: تثنت وتمايلت.
(٦) ذكره ابن فارس فيما لم يستطع تفسيره العلماء. انظر: الصاحبي ص٣٥.
(٧) من قول الشاعر:
كذبت عليكم أوعدوني وعللوا
بيَ الأرض والأقوام قردان موظبا
(٨) ارجع إلى الصاحبي ص٣٤–٣٧.
(٩) اللقوة بالفتح: هي العقاب بضم العين.
(١٠) الدويرة: محلة كانت ببغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤