الفصل الأول

أبو الحسن الجرجاني

إن للرجل الذي نتحدث عنه في هذا الفصل فضلًا على علوم اللغة العربية يجب أن يعرفه طلاب الأدب والبيان.

ويكفي في تقدير فضله أن نشير إلى أنه أستاذ عبد القاهر الجرجاني١ صاحب «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز». وسيرى القارئ في درس هذه الشخصية ما لم يكن ينتظره من درس شخصيات الفقهاء.

فأبو الحسن هذا قاضٍ من كبار القضاة عند الشافعية، ولكنه بالرغم مما يحيط بوظيفة القضاء من قيود الرزانة وأغلال الوقار؛ رجل طليق العقل، حي الإحساس، حر الوجدان، يلقي إلى فطرته القياد فيما يعمل وما يقول. وأي خسارة كانت تُرزَأ بها الآداب العربية لو توقر هذا الرجل وترهب وألقى بنفسه في تيار الجمود! وأي خطر كان يحدق بالقضاء لو أصم هذا القاضي مشاعره وأمات ذوقه، ودفن إحساسه، وأغمض عينيه عما في هذا العالم من فنون السحر، وضروب الفتون!

أفتحسب القضاة بنجوة عمَّا تعرض له النفس الإنسانية من ظلمات الفتن وعواصف الأهواء؟ إن أول صفات القاضي — فيما أعتقد — أن يكون «إنسانًا» له في حياته ما يخضع له من مطامع العقل، وأماني النفس، وحاجات الفؤاد، وإلا فكيف يحكم بين الناس وهو لا يحس بما تدين له النفس الإنسانية من نزوات المشاعر، وهفوات العقول؟

ولد أبو الحسن علي بن عبد العزيز في مدينة جرجان سنة ٢٩٠ للهجرة، وجرجان هذه مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، كما ذكر ياقوت، وقد خرج منها عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء والمحدثين، وكانت لعهد من عُرفت بهم من كبار الباحثين مشهورة بالصناعة الفنية، والفواكه الكثيرة، فكان فيها الإبريسيم الجيد الذي لا يستحيل صبغه، والذي كان يُحمل إلى جميع الآفاق، وكان بها كثير من النخل والزيتون، والجوز والرمان، وكان بها ما شاء القناص من الأجادل والزرازير، والظباء واليعافير، وكانت فوق هذا كله مشهورة بالخمر، وفيها يقول ابن خريم، أو الأقيشر اليربوعي — تردد في ذلك صاحب معجم البلدان:

وصهباء جرجانية لم يطف بها
حنيف ولم ينغر بها ساعة قدر
ولم يشهد القس المهينم نارها
طروقًا ولم يحضر على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة
وقد لاحت الشعرى وقد جنح النسر
فقلت اصطبحها أو لغيري فاسقها
فما أنت بعد الشيب ويحك والخمر
تعففت عنها في العصور التي مضت
فكيف التصابي بعدما كلأ٢ العمر
إذا المرء وفَّى الأربعين ولم يكن
له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى
وإن جر أسباب الحياة له الدهر
قال ياقوت: وكان أهل الكوفة يقولون: من لم يرو هذه الأبيات فإنه ناقص المروءة.٣

ونرى أن لوفرة ما كان بجرجان من الفواكه ولشهرتها بالخمر تأثيرًا فيما كان لأهلها من رقة الحس، ودقة الذوق، وفي ظلال هذه المدينة المفتنة في تنسيق المزارع والمصانع نشأ أبو الحسن الذي برع من تقدمه من الكاتبين في أساليب البيان.

ولقد ظلت جرجان أثيرة لديه طول حياته، وكان الصاحب بن عباد فيما قال يقسم له بها من إقباله وإكرامه أكثر مما يتلقاه به في سائر البلاد.

قال: وقد استعفيته يومًا من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:

أكرم أخاك بأرض مولده
وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمسٌ
وأعزه ما نيل في الوطن

ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية؛ يريد قوله:

وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل
ألا ليت قومي يعلمون صنيعي

قال: والأصل فيه قوله تعالى: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. ورغبة الرجل في أن يكرم في وطنه وبين أهله من الأماني الإنسانية التي تحدث بها الشعراء في مختلف الأجيال.

قال الثعالبي: «وكان في صباه خلف الخضر في طقع عرض الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علمًا، وفي الكمال عالمًا، ثم عرج على حضرة الصاحب وألقى بها عصا المسافر فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلًّا بعيدًا في رفعته … وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته بين الولاة والعطلة، وأفضى محله إلى ولاية القضاة بالري فلم يعزله عنه إلا موته رحمه الله.»٤
وكانت وفاته بالري يوم الثلاثاء لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة ٣٩٢، وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وحضر جنازته الوزير القاسم بن علي وأبو الفضل الغارض راجلين. فيما ذكر ياقوت.٥
ألف أبو الحسن الجرجاني في الفقه والأدب والتاريخ؛ أما تأليفه في الفقه فلم يصلنا منه شيء، وقد جاء في طبقات الشافعية أنه صنف كتابًا في الوكالة فيه أربعة آلاف مسألة، ولو وصل إلينا هذا الكتاب لعرفنا كيف استطاع هذا القاضي الأديب أن يخدم التشريع، وأما تأليفه في التاريخ فلم يعرف منه إلا كتاب تهذيب التاريخ وهو كتاب وصفه الثعالبي بأنه تاريخ في بلاغة الألفاظ وصحة الروايات وحسن التصرف في الانتقادات،٦ وقد ضاع هذا الكتاب، ولكن الثعالبي حفظ منه فصلين اثنين يمكن أن نعرف منهما منحى هذا الرجل في دراسة التاريخ؛ فهو يبين في الفصل الأول أن من غرضه أن يكشف عن مغازي رسول الله وحروبه، وعن سراياه وبعوثه، ومتى قارب ولاين، وفي أي وقت هاجر وكاشف.

ويبين في الفصل الثاني أنه يرمي بكتابه إلى غرض ديني وغرض دنيوي؛ فيبين من الوجهة الدينية كيف طمس الله معالم الشرك، وأوضح معارف الحق، ويترك من الوجهة الدنيوية أثرًا يذكر به عند الصاحب بن عباد … وهذا الاتجاه يدل على أن هذا الرجل كان يستخدم التاريخ في نشر الدعوة الإسلامية، واستخدام التاريخ في الأغراض الدينية والسياسية يحمل المؤرخ على مكاره كثيرة ينجو منها من يحاول أن يجعل التاريخ صورة صادقة للأمم والشعوب، وقد يكون للصاحب بن عباد مثلًا ميلٌ خاص إلى بعض الأحزاب الإسلامية، ولهذا أثره المحتوم في كتاب يوضع بنيته وإرشاده، وتلك خطة قد تكون نبيلة باعتبار ما ترمي إليه، فطالما اعتزت الأمم بما قد يصور به ماضيها من شتى التهاويل، ولكنها خطة خطرة على التاريخ.

أما تأليفه في الأدب فقد بقي لنا منه «كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه» وسنعود إليه. وأما آثاره الأدبية فلم يبق منها إلا طائفة من الشعر المختار هي عدتنا في تصوير نفس ذلك القاضي الأديب.

كانت نفس القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني نفسًا غالية؛ فقد ترك لنا في شعره صورة لنفسه الأبية العزيزة، التي حرمت عليه طيبات الحياة؛ إيثارًا للعزة والألفة والكرامة، وصونًا للعرض من الدنس، وإبعادًا للمروءة عن مواطن الابتذال. وسيرى القارئ حين تقدم له صورة تلك النفس الغالية، الغالية، ولو شئت لكررتها ثلاثًا، سيرى فيها عزاءً له إن كان من الذين وقفت نفوسهم الأبية في سبيل ما يشتهون من بسطة الرزق، وصولة الجاه. ومن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فينقل ما نكتب عن هذه النفس إلى من خلعوا نفوسهم عند أبواب المطامع، وأقبلوا على مصارع الفضل مهطعين؟

لقد عزت نفس قاضي القضاة وأسرفت في التصون، إن كان في التصون إسراف، وما زالت به تصده عن مواطن الشبهات ومظان الريب والظنون حتى زينت له العزلة والانفراد، وشعره في هذا المعنى مثال من الأمثلة العليا التي يعتز بمحاكاتها كبار النفوس. فليسمع أهل العلم كيف يصف نفسه ذلك العزيز الأنوف:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما
رأوا رجلًا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهمو هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما زلت منحازًا بعرضي جانبا
من الدم أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برق لاح لي يستفزني
ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
بدا مطمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما

وفي هذا المعنى يقول من كلمة ثانية:

على مهجتي تجني الحوادث والدهر
فأما اصطباري فهو ممتنعٌ وعر
كأني ألاقي كل يوم ينوبني
بذنب وما ذنبي سوى أنني حر
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي
أضيق به ذرعًا فعندي له الصبر
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى
وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرَّما
عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر عاينت دونه
مواقف خيرٌ من وقوفي بها العسر
إذا قدموا بالخير قدمت دونهم
بنفس فقير كل أخلاقه وفر

في هاتين الكلمتين صورة لتلك النفس المعذبة التي قضى عليها الفضل بالشقوة والحرمان، وأشرف ما وصف به ذلك القاضي حظه من العزة تصويره للطيبات تعرض عليه عرضًا فيأباها إيثاره للصون وحرصه على الجلال، يتمثل هذا في قوله:

إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما

وقوله:

إذا قيل هذا اليسر عاينت دونه
مواقف خيرٌ من وقوفي بها العسر

وقوله:

وبيني وبين المال بابان حرَّما
عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر

ويرحم الله من يعاني ثورة النفس، وقسوة الزمان!

وما أحب أن أترك هذه الناحية من أبي الحسن الجرجاني قبل أن أقف القارئ على لون آخر من ألوان تلك النفس، فقد رأى كيف يثور على زينة الحياة الدنيا سخطًا على ما يصحبها من مواقف الهوان، فلينظر كيف يعتذر من انقباضه عن أخويه، وكيف يلمح برفق ولطف إلى ما طوي عنه إباؤه من أسباب النعيم، وكيف أنس بالوحدة والوحشة هربًا من مواقع الظنون، وكيف جعل نفوره من العالم سجية فطر عليها منذ قضى الله أن يلقي به في ظلمات هذا الوجود، وذلك حيث يقول:

أيا معهد الأحباب ذكِّرهمُ عهدي
ودم لي وإن دام البعاد على الود
ولي خلقٌ لا أستطيع فراقه
يفوتني حظي ويمنعني رشدي
نفور عن الإخوان من غير ريبة
يعد جفاءً والوفاء له وكدي
غذيت به طفلًا فإن رمت هجره
تأبى وأغرتني به ألفة المهد
كما ألفت كفاكما البذل والندى
فأعياكما أن تمنعا كف مستجدي
على أنني أقضي الحقوق بنيتي
وأبلغ أقصى غايه القرب في بعدي
ويخدمهم قلبي وودي ومنطقي
وأبلغ في رعي الذمام لهم جهدي
فإن أنتما لم تقبلا لي عذرة
وألزمتماني فيه أكثر من وجدي
فقولا لطبعي أن يزول فإنه
يرى لكما حق الموالي على العبد

كان القاضي أبو الحسن الجرجاني من المغرمين بالتغريد على أفنان الجمال، وشعره في وصف الملاحة ذو أفانين وشجون، فقد نراه يترنم بمظاهر الحسن، ويتغنى بما فضح الشباب من أسرار الصباحة؛ كقوله في الخد المورد والطرف الكحيل:

انثر على خدي من وردك
أو دع فمي يقطفه من خدك
ارحم قضيب البان وارفق به
قد خفت أن ينقد من قدك
وقل لعينيك بنفسي هما
يخففان السقم عن عبدك

وقوله في مغازلة النديم:

أفدي الذي قال وفي كفه
مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي
قلت فمي باللثم يجنيه

وقوله في فتنة الألحاظ:

من ذا الغزال الفاتن الطرف
الكامل البهجة والظرف
ما بال عينيه وألحاظه
دائبة تعمل في حتفي
واهًا لذاك الورد في خده
لو لم يكن ممتنع القطف
أشكو إلى قلبك يا سيدي
ما يشتكي قلبي من طرفي

وقوله في اختلاس التقبيل:

وغنج عينيك وما أودعت
أجفانها قلب شجٍ وامقٍ
ما خلق الرحمن تفاحتي
خديك إلا لفم العاشق
ولكنني أمنع منها فما
حظي إلا خلسة السارق

وقوله في القسم بجنود الجمال:

لا وجفون يغضها العذل
عن وجنات تذيبها القبل
ومهجة للهوى معرضة
تعبث فيها القدود والمقل
ما غاب من غاب عن ذراك وإن
أخر ميقات يومه الأجل

وهذه القطع التي اخترناها من شعره في الأوصاف الحسية تمثله شره الحواس، وله في هذه المعاني أشعار طريفة يقضي العرف الاجتماعي بأن لا تنشر في مثل هذا الكتاب، فلنطوها عن القارئ طاعة للتقاليد، وإحساس هذا القاضي بالجمال جعله يختلق الأسباب ليفصح عما يعنِّي نفسه من أعلال الوجد الدفين، ولننظر كيف يتحدث عن سحر العيون وهو يشكو الزمان إذ يقول:

من عاذري من زمن ظالم
ليس بمستحي ولا راحم
تفعل بالأحرار أحداثه
فعل الهوى بالدنف الهائم
كأنما أصبح يرميهمو
عن جفن مولاي أبي القاسم

وفي تصيد أسباب الغزل وموجبات التشبيب يقول في تفدية حبيب نال من دمه مبضع الطبيب:

يا ليت عيني تحملت ألمك
بل ليت نفسي تقسمت سقمك
وليت كف الطبيب إذ فصدت
عرقك أجرت من ناظري دمك
أعرته صبغ وجنتيك كما
تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حد مبضعه
فالحظ به العرق وارتجز ألمك

وقد يلهو هذا القاضي الأديب عما في الجمال من نعيم الحواس، ويعود إلى بكاء ما ذهب من أنسه في أيامه السوالف، ولياليه الخوالي، فيذكرنا بلوعة الشريف الرضي الذي كاد ينفرد برقة الحنين، ولننظر كيف يذوب روحه وهو يناجي النسيم:

يا نسيم الجنوب بالله بلغ
ما يقول المتيم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد
ليس يسلو ومقلة لا تنام

وكيف يقول في خطاب الديار، ديار الأنس المفقود:

يا ديار السرور لا زال يبكي
بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك غض
وجفون الخطوب عنا نيام
في ليال كأنهنَّ أمانٍ
من زمان كأنه أحلام
وكأن الأوقات فيها كئوس
دائرات وأنسهن مدام
زمن مسعد وإلف وصول
ومنى تستلذها الأوهام
كل أنس ولذة وسرور
قبل لقياكمو عليَّ حرام

وقد أطلق الشاعر خياله في هذه الأبيات فأضحت معانيه كأنها خيال في خيال. أليس يذكر أن عيشه الغض كان:

في ليال كأنهن أمانٍ
من زمان كأنه أحلام

ولكن من ذا الذي ينكر جمال هذا الخيال؟ أو من ذا الذي لا يروقه نوم جفون الخطوب؟

ومن جيد الشعر قوله في الحنين إلى ليالي بغداد:

أراجعةٌ تلك الليالي كعهدها
إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها
وصحبة أقوام لبست لفقدهم
ثياب حداد يستجد خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق
تجافت جنوبي واستُطير هجوعها
وإن أخلفتها الغاديات رعودها
تكلف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كل غمامة
يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان إنس تحالفت
لواحظها أن لا يُداوى صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدى
بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنما
تشاد بحبات القلوب ربوعها
فكل ليالي عيشها زمن الصبا
وكل فصول الدهر فيها ربيعها
وما زلت طوع الحادثات تقودني
على حكمها مستكرهًا فأطيعها

راجع هذا الشعر أيها القارئ وقلب النظر في ثنايا ذلك الروح الحزين، فسترى تلك اللوعة الدفينة وذلك الوجد الدخيل يرجعان إلى الكلف بمظاهر الحسن، والظمأ إلى معاهد تلك الظباء التي تحالفت لحاظها أن لا يداوى لها صريع، أو يبرأ منها جريح، أو يُبكَى في ظلالها قتيل، وما أضيع الدمع المسفوح فوق أفنان الجمال!

وما أحب أن يغفل القارئ عن رقة الشوق في هذين البيتين يصف بهما الشاعر معاهد تلك الظباء:

بها تسكن النفس النفور ويغتدى
بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنما
تشاد بحبات القلوب ربوعها٧

والعجيب في هذا الشعر أن تصور نفس المحب في غربته ونواه وهى تأنس بديار الأحباب فوق ما يأنس المقيم! أهذا حق؟ أهذا مما يشهد به الوجدان؟ قد يكون ذلك. وغيري عنده الخبر اليقين!

ولكن أين أنس الظاعن من نعيم المقيم؟ وأين روح الذكرى من نشوة الاصطباح بوجوه الملاح؟ ومن يدري لعل من أنس بهم هذا الغريب أعانتهم غربة على نسيان العهود!

رويدكمُ لا تسبقوا بقطيعتي
صروف الليالي إن في الدهر كافيا
أفي الحق أني قد قضيت ديونكم
وأن ديوني باقياتٌ كما هيا
فوا أسفي حتام أرعى مضيعا
وآمن خوَّانًا وأذكر ناسيا
وما زال أحبابي يسيئون عشرتي
ويجفونني حتى عذرت الأعاديا

هوامش

(١) هكذا يقول ياقوت في معجم الأدباء (٥ / ٢٤٩)، ولكنه يقول في (٧ / ٣): إن عبد القاهر ليس له أستاذ سوى محمد بن الحسين ابن أخت أبي علي الفارسي، وكذلك قال في بغية الوعاة ص٣١٠.
(٢) كلأ العمر: انتهى إلى آخره وأقصاه.
(٣) ورد حديث هذه الأبيات قبل ياقوت في الأمالي. انظر: (١ / ٨٥) طبع بولاق.
(٤) يتيمة (٣ / ٢٣٨).
(٥) (٥ / ٢٤٩).
(٦) يتمية (٣ / ٢٤٢).
(٧) ما نقلناه من شعر الجرجاني يجده القارئ في أخباره باليتيمة ج٣، ومعجم الأدباء ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤