الفصل الثالث

ابن فارس

لم تعين كتب التراجم السنة التي ولد فيها أحمد بن فارس، ولم يتفق مترجموه على المكان الذين ولد فيه، وقد نسبه ابن الأنباري إلى المكان الذي مات فيه وهو الري، فسماه أبا الحسين الرازي، والرازي نسبة شاذة إلى الري.١
ويقول ياقوت في معجم الأدباء:٢ «واختلفوا في وطنه؛ فقيل: كان من رستاق الزهراء من القرية المعروفة كرسف وجيانا باذ، وقد حضرت القريتين مرارًا ولا خلاف أنه قروي، حدثني والدي محمد بن أحمد — وكان من جملة حاضري مجالسه — أنه أتاه آت فسأله عن وطنه، فقال: كرسف. قال فتمثل الشيخ:
بلاد بها شدت عليَّ تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها

أما وفاته — رحمه الله — فكانت بالري في صفر سنة ٣٩٥ هجرية، وقد دفن بجوار قاضي القضاة علي بن عبد العزيز الجرجاني.»

ذكر السيوطي في بغية الوعاة٣ أن ابن فارس كان نحويًّا على طريقة الكوفيين، وأنه سمع أباه وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان. وذكر ابن الأنباري أنه أخذ عن أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، وعن أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم، وكان يقول عن أبي عبد الله هذا: «ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه.»٤

وكان ابن فارس حريصًا على تدوين ما يأخذه عن أبيه، وقد أثبت ابن الأنباري شاهدًا على ذلك الحرص نكتفي بالإشارة إليه. وذكر ياقوت أن ابن فارس حدث عن أبيه أنه قال: حججت فلقيت بمكة ناسًا من هذيل فجاريتهم ذكر شعرائهم فما عرفوا أحدًا منهم، ولكنني رأيت أمثل الجماعة رجلًا فصيحًا وأنشدني:

إذا لم تحظ في أرض فدعها
وحث اليعملات على وجاها٥
ولا يغررك حظ أخيك فيها
إذا ضفرت يمينك من جداها
ونفسك فز بها إن خفت ضيمًا
وخل الدار تحزن من بكاها
فإنك واجد أرضًا بأرض
ولست بواجد نفسًا سواها
كان لابن فارس عدد كثير من التلامذة أشهرهم الصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمذاني. أما حاله مع الصاحب فقد ابتدأت بوفاق، وانتهت بشقاق — نسجع على ذكرى الصاحب بن عباد — تمت بينهما الألفة في بداية الأمر حتى وضع ابن فارس كتابه «الصاحبي» نسبة إلى الصاحب، وحتى مدح الصاحب ابن فارس بقوله: «شيخنا أبو الحسين محمد رزق حسن التصنيف، وأمن فيه من التصحيف.»٦ ثم انحرف الصاحب ابن فارس لانتسابه إلى خدمة آل العميد وتعصبه لهم، فأنفذ إليه من همذان كتاب الحجر من تأليفه، فقال الصاحب: «رد الحجر من حيث جاءك.» ثم لم تطب نفسه بتركه، فنظر فيه وأمر له بصلة،٧ وكان الصاحب كما ذكر ياقوت في معجم الأدباء٨ يعرض أحيانًا بابن فارس، فيذكر أنه رأى «بعض الجهال يصحف ويقول».
وأما حاله مع بديع الزمان الهمذاني فكانت فيما يظهر غاية في صفاء الوداد، نعرف ذلك من كتاب بديع الزمان إلى أستاذه جوابًا على كتاب ورد إليه منه في ذم الزمان. ومن البر بالأدب والتاريخ أن نذكر هنا نص ذلك الكتاب لنرى كيف كان بديع الزمان يرتاب فيما تقدمه من نظام الحكومات الإسلامية، وكيف كان يحذر تقلب النفس الإنسانية التي سجل غدرها في قصائد الشعراء، وصحائف الأنبياء. ولننظر كيف يقول: «نعم — أطال الله بقاء الشيخ الإمام — إنه الحمأ المسنون،٩ وإن ظننت الظنون، والناس ينسبون لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وارتكبت الأضداد، واختلاط الميلاد. والشيخ الإمام يقول: «فسد فلان»، أفلا يقول: متى كان صالحًا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا أولها؟ أم المدة المروانية وفي أخبارها لا تكسع الشول بأغبارها؟١٠ أم السنين الحربية.١١
والرمح يركز في الكلى١٢
والسيف يغمد في الطُّلى١٣
ومبيت حجر في الفلا
والحارثان وكربلا

أم البيعة الهاشمية وعلي يقول: ليت العشرة منكم برأس من بني فراس؟ أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز، والعيون إلى الأعجاز؟ أم الأمارات العدوية وصاحبها يقول: وهل بعد البزول إلا النزول؟ أم الخلافة التيمية وصاحبها يقول:

طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكتي يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب

أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:

بلاد بها كنا وكنا نحبها
إذ الناس ناس والزمان زمان

أم قبل ذلك وقد روي عن آدم عليه السلام:

تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح

أم قبل ذلك وقد قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وما فسد الناس، وإنما اطرد القياس، وما أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويسمى المرء إلا عنصباح؟»

ثم انتقل بديع الزمان إلى الرفق بأستاذه والعطف عليه فقال:
ولعمري لئن كان كرم العهد كتابًا يرد، وجوابًا يصدر، إنه لقريب المنال، وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحل حريدًا عن أمره، ولا أقف بعيدًا عن قلبه، ما نسيته ولا أنساه، إن له — أيده الله — على كل نعمة خولنيها الله نارًا، وعلى كل كلمة علمنيها منارًا، ولو عرفت لكتابي موقعًا من قلبه لاغتنمت خدمته به ولردد إلي سؤر كاسه، وفضل أنفاسه، ولكني خشيت أن يقول هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَاَ وله — أيده الله — العتبى، والمودة في القربى، والمرباع، وما ناله الباع، وما ضمه الجلد، وضمنه المشط، وليست رضاي ولكنها جل ما أملك. إلى آخر ما قال.١٤
ولو وجدنا نص الكتاب الذي بدأ به ابن فارس لعرفنا شيئًا من صور نفسه، وألوان قلبه؛ فإن لأزمات القلب وفجعات النفس دلالة كبيرة على المناحي التي يجنح إليها الكتاب والشعراء والباحثون.١٥

كان ابن فارس وسطًا في شعره ونثره؛ فلم يكن يُسف حتى يصل إلى وصمة الإعياء، ولم يكن يعلو حتى يصل إلى جودة البيان، ونثره في جملته بين واضح مقبول، يعجبني منه قوله في تقريح رجال الفقه والحديث على اللحن وترك الإعراب: «وقد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نبَّها قالا: (ما ندري ما الإعراب وإنما نحن محدثون وفقهاء) فهما يسران بما يساء به اللبيب! ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس وما معناه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: (ليس عليَّ هذا، وإنما عليَّ إقامة الدليل على صحته).

فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو، ونعوذ بالله من سوء الاختيار!»

وللقارئ أن يتأمل هذه الجملة فسيراها جيدة المعنى نقية الأسلوب، وسيرى كيف وصل الكاتب إلى ما يرمي إليه من التهكم اللاذع بالفقهاء والمحدثين من غير أن يلجأ إلى غرابة المعاني وجلجلة الألفاظ، وفي هذه الجملة أيضًا دلالة على أن غفلة الفقهاء عن اللغة العربية قديمة العهد، وليست من سيئات العصر الحديث.

أما شعر ابن فارس فهو على قلته يكاد يقف عند شكوى الزمان، من ذلك قوله وقد قل ماله، وكثر دَيْنه، ولم يغنه علمه:

سقى همذان الغيث لست بقائل
سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرَّم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة
أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني
مدين وما في جوف بيتي درهم١٦

وقوله في كثرة همومه وتعزيه بالهرة والكتاب والمصباح إذا أوى إلى بيته المقفر الجديب:

وقالوا كيف خالك قلت خير
تقضى حاجة وتفوت حاج
نديمي هرتي وأنيس نفسي
دفاتر لي ومعشوقي السراج١٧

وقد يستظرف دفاعه عن البخل والحرص؛ إذ يذكر أن المال المضنون به يخسر الحمقى لخدمة صاحبه، فقد يكرم الرجل لغناه قبل أن يكرم لفضله، وفي هذا المعنى يقول:

يا ليت لي ألف دينار موجهة
وأن حظي منها فلس إفلاس
قالوا فما لك منها قلت تخدمني
لها ومن أجلها الحمقى من الناس١٨

وقد يستجاد قوله في التعاضي عن هفوات الصديق:

عتبت عليه حين ساء صنيعه
وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجرب
ولم أر خيرًا منه عدت إليه١٩

ومن طريف الإشارة إلى ضعف حجج النحاة قوله في فتور الجفون:

مرت بنا هيفاء مقدودة
تركية تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن
أضعف من حجة نحوي٢٠

لابن فارس مؤلفات كثيرة لم يبق منها إلا القليل، والذي يعنينا هو «الصاحبي» الذي قدمه إلى الصاحب بن عباد، وهو كتاب متوسط الحجم يقع في ٢٣٢ صفحة بالقطع الكبير، طبعته المطبعة السلفية في سنة ١٩١٠ طبعًا جيدًا، نقلًا عن نسخة صحيحة بخط المرحوم الشيخ الشنقيطي من مكتبته بدار الكتب المصرية، وقد نقلها — رحمه الله — عن نسخة في إحدى مكاتب القسطنطينية قرئت على المؤلف في سنة ٣٨٢ﻫ، وعلى ظهرها بخطه ما يفيد إجازة القراءة والنسخ. قال المرحوم الشنقيطي: «وكانت مقابلتي إياه صفحة صفحة: لا أبتدئ الصفحة إلا بعد مقابلة الصفحة التي كتبتها قبلها، فتمت كتابته في آن واحد ولله الحمد.»

أما قيمة الكتاب من الوجهة العلمية فستظهر حين نناقش ما فيه من مختلف الأبحاث.

يحار الباحث في تحديد حياة ابن فارس العقلية، ومرجع هذه الحيرة هو ظهور هذا الرجل بلونين مختلفين كل الاختلاف، أما سبب هذه الحيرة فهو إغفال المتقدمين تاريخ آثار هذا اللغوي الأديب، فقد نعرف أنه راجع كتاب الصاحبي في سنة ٣٨٢، ولكنا لا نعرف في أى سنة من سني حياته العلمية وضع رسالته في الرد على محمد بن سعيد الكاتب، والفرق بعيد جدًّا بين رسالته هذه وكتابه ذاك، فهو في «الصاحبي» رجل حذر هيوب يحسب مسايرة العقل جريمة، ويعد التفكير من جملة الذنوب، ولكنه في رسالته إلى ابن سعيد باحث مملوء بالغيرة والحمية لكل حق ولكل جديد.

نظرات ابن فارس في كتاب «الصاحبي» كلها جمود وكلها ذهول، وقد يصحو أحيانًا فيرمي بالقول السديد، وحسب القارئ في الدلالة على إغراق كتاب «الصاحبي» في «الرجعية» أن يعرف أن ابن فارس يفضل العروض على الفلسفة، ويقول في وصفه: «علم العروض الذي يربى بحسنه ودقته واستقامته على كل ما يتبجح به الناسبون أنفسهم إلى التي يقال لها الفلسفة.»٢١

ومن هذه العبارة أخذ الشيخ بخيت — فيما نظن — قوله في رينان: «ذلك الرجل الذي يدعي أنه فيلسوف.»

وحقًّا إن الفلسفة لا تزيد عن أنها «التي يقال لها الفلسفة»، ورينان لا يزيد على أنه «الرجل الذي يدعي أنه فيلسوف»، وسبحان من أغنانا عما ترك المبدعون في العلوم والفنون!

وأغرب من هذا أن يستنكر ابن فارس أن يكون للفلاسفة مؤلفات في النحو والإعراب، وأن يستبعد أن يكون لهم شعر جميل، ويقول في ذلك: «وزعم ناس يتوقف عن قبول أخبارهم أن الذين يسمون الفلاسفة قد كان لهم إعراب ومؤلفات نحو.»٢٢ ثم يقول: «وهذا كلام لا يعرج على مثله، وإنما تَشَبَّهَ القوم آنفًا بأهل الإسلام فأخذوا من كتب علمائنا، وغيروا بعض ألفاظها ونسبوا ذلك إلى قوم ذوي أسماء منكرة بتراجم بشعة لا يكاد لسان ذي دين ينطق بها، وادعوا مع ذلك أن للقوم شعرًا، وقد قرأناه فوجدناه قليل الماء، نزر الحلاوة، غير مستقيم الوزن.»
ثم يقول في وصف العروض: «ومن عرف دقائقه وأسراره وخفاياه علم أنه يُرْبى على جميع ما يتبجح به هؤلاء الذين ينتحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط التي لا أعرف لها فائدة، غير أنها مع قلة فائدتها ترق الدين وتنتج كل ما نعوذ بالله منه.»٢٣

وكذلك كان يرتاب أكثر المتقدمين في العلوم العقلية، ويرونها خطرًا على العقائد، كما يفعل المتأخرون اليوم، وهذا كله هرب من البحث وإخلاد إلى الخمول، وإلا فكيف يبعد الناس عن دينهم كلما توغلوا في درس حقائق الأشياء؟

نترك هذه الناحية من عقلية ابن فارس التي تمثل لنا رأيه ورأي أمثاله في فهم ما توحي به العقول، وننتقل إلى الجانب المشرق من حياته العقلية فنراه يمثل بنا انقسام أهل ذلك العصر إلى طائفتين تقتتلان؛ تدعو إحداهما إلى الاكتفاء بما ترك المتقدمون من الآثار الأدبية، وتدعو أخراهما إلى الإبداع والتجديد في عالم الآداب. ويكفي أن يعرف الباحث أن من رجال ذلك العصر من أنكر اختيار الشعر اكتفاء بديوان الحماسة ليرى أن «الرجعية» كانت تفتك بأحلام أولئك الناس، وأن الصراع بين القديم والجديد يكاد يتصل بالحياة الفكرية في جميع الأجيال.

وفي رسالة ابن فارس إلى محمد بن سعيد صورة لهذه الخصومة العقلية التي شهدها رجال القرن الرابع، فلنتركه يتكلم ولننظر كيف يدافع عن شعراء عصره المبدعين؛ إذ يقول في خطابه إلى ابن سعيد: «ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف! وسبب دعائي هذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة، وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه لاستدرك من جيد الشعر ونقيه، ومختاره ورخيه، كثيرًا مما فات الأُوَل. فلماذا الإنكار ولِمَ الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولم تأخذ بقول من قال: «ما ترك الأول للآخر شيئًا»، وتدع قول الآخر: «كم ترك الأول للآخر»، وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمن منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم ووقفها على وقت محدود؟ ولِمَ ينظر الآخر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟

وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوازل الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟

أوما علمت أن لكل قلب خاطرًا ولكل خاطر نتيجة؟ ولم جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولم حجرت واسعًا وحظرت مباحًا وحرمت حلالًا وسددت طريقًا مسلوكًا؟ وهل «حبيب» إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه؟ أمر لا يدرك ولا يدرى قدره!!

ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولكلت ألسن لسنة، ولما توشى أحد لخطابة ولا سلك شعبًا من شعاب البلاغة ولمجت الأسمع كل مرد مكرر، وللفظت القلوب كل مرجع ممضغ. وحتام لا يسأم (لو كنت من مازن لم تستبح إبلي) وإلى متى «صفحنا عن بني ذهل»، إلى أن قال: «وهلا حثثت على إثارة ما غيبته الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر وأفكار هذا العصر؟ على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم يحط عن درجة من قبله من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاج يلهيك.»٢٤

تلك هي الناحية المشرقة من حياة ابن فارس العقلية، وهي كما يرى القارئ تختلف عن سابقتها أشد الاختلاف. وقد ذكر صاحب اليتيمة جزءًا كبيرًا من هذه الرسالة فليرجع إليها من يطلب المزيد، ولكنا نرى من البر بالأدب أن نذكر نماذج من الشعر المحدث لعهد ابن فارس، وكانت تضيق به نفوس الرجعيين إذ ذاك، وهو يستجيد قول يوسف بن حمويه المعروف بالمنادي، وكان من أهل قزوين:

حج مثلي زيارة الخمار
واقتنائي العقار شرب العقار
ووقاري إذا توقر ذو الشيـ
ـبة وسط الندى ترك الوقار
ما أبالي إذا المدامة دامت
عذل ناهٍ ولا شناعة جار
رب ليل كأنه فرع ليلى
ما به كوكب يلوح لساري
قد طويناه فوق خشف كحيل
أحور الطرف فاتن سحار٢٥

ويستجيد قول أحمد بن بندار:

زارني في الدجى فنم عليه
طيب أردانه لدى الرقباء
والثريا كأنها كف خود
أبرزت من غلالة زرقاء

ويستجيد قول بعض رجال الموصل:

فديتك ما شبت عن كبرة
وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هجرت فحل المشيب
ولو قد وصلت لعاد الشباب

إلى هنا وقف القارئ على شيء من حياة ابن فارس يقربة إليه بعض التقريب إن لم يمثله كل التمثيل، فلنأخذ في نقد آرائه في فقه اللغة العربية والكشف عما فيها من مظان الخطأ ومواقع الصواب.

هوامش

(١) طبقات النحاة ص٣٩٢.
(٢) (٢ / ١٢).
(٣) ص١٥٣.
(٤) طبقات النحاة ص٣٩٢.
(٥) اليعملات: الجمال.
(٦) طبقات الأدباء ص٣٩٤.
(٧) ياقوت (٢ / ٩).
(٨) (٢ / ٣٩٢).
(٩) الحمأ المسنون: الطين المتغير.
(١٠) الشول: جمع شائلة عل غير قياس. والأغبار: جمع غبر وهو بقية اللبن. والكسع: هو ترك بقية من اللبن في أخلاف الناقة. المعني: لا تغزر لبن إبلك واحلبها لأضيافك فإنك (لا تدري من الناتج) كما في بقية البيت.
(١١) نسبة إلى حرب بن أمية، والمراد خلافة معاوية وابنه يزيد.
(١٢) الكُلى: جمع كلية وكلوة بالضم.
(١٣) الطلى، بالضم: الأعناق، جمع طلية أو طلاوة.
(١٤) راجع: ص٤١٤، ٤١٩ من رسائل البديع.
(١٥) الذي في رسائل بديع الزمان أن هذه الرسالة جاءت جوابًا عن كتاب ورد إليه من ابن فارس في ذم الزمان. وفي نهاية الأرب (٧ / ٢٦٢) أن بديع الزمان ذكر في مجلس ابن فارس فقال ما معناه: إن البديع قد نسي حق تعليمنا إياه، وعقنا وشمخ بأنفه عنا، فالحمد لله على فساد الزمان وتغير نوع الإنسان! فبلغ ذلك البديع فكتب إلى ابن فارس ذلك الكتاب.
(١٦) اليتيمة (٣  /  ٢١٨).
(١٧) (٢  /  ٢١٩).
(١٨) (٢  /  ٢١٩).
(١٩) ص٢٢٠.
(٢٠) ص٢٦٩.
(٢١) ص٣٧.
(٢٢) ص٤٢.
(٢٣) ص٤٣.
(٢٤) يتيمة (٣  /  ٢١٥، ٢١٦).
(٢٥) وردت هذه الأبيات في ديوان أبي نواس مع اختلاف قليل، وربما كانت مما أضيف إلى شعر أبي نواس لاتصالها بفنه المعروف في الغزل والشراب، وهي في الديوان طويلة تصل إلى خمسة عشر بيتًا آخرها هذا البيت الحكيم:
فمتى يفلح الفتى وهو إن را
ح يسكر وإن غدا في خمار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤