الفصل الثامن عشر

لقاء مع ناتاشا

اقتيد بيير إلى غرفة طعام كبيرة جيدة الإضاءة، ولم يلبث بعد بضع دقائق أن تناهى إليه وقع خطى، ودخلت الأميرة ماري إلى الحجرة مع ناتاشا، كانت ناتاشا هادئة وإن كان وجهها قد اتخذ طابعه الصارم الخالي من الابتسام. ولقد شعر ثلاثتهم، الأميرة ماري وناتاشا وبيير، بذلك الانزعاج الذي يعقب عادة حديثًا شخصيًّا جديًّا، إذ تتعذر العودة إلى الحديث السابق ويخجل المرء أن يتحدث عن التفاهات، كما أنه يحس بالانزعاج إذ يصمت لأن به حاجة إلى الكلام، ولأن الصمت المطبِق الذي يلزمه صمت ملزِم. جلسوا إلى المائدة صامتين، وأبعد الخدم الكراسي ليسمحوا لهم بالجلوس ثم عادوا فقربوها. ونشر بيير منشفته الباردة، ونظر إلى ناتاشا ثم إلى الأميرة ماري وبه رغبة في قطع حبل الصمت، كانتا دون ريب تحسان بمثل تلك الرغبة، لقد كانت عينا كليهما تشع بالرغبة في الحياة، وتبدوان شاهدة على أن هناك مكانًا للفرح رغم الحزن.

سألت الأميرة ماري: هل ترغب في شرب الفودكا يا كونت؟

فطردت هذه الكلمات فجأة أطياف الماضي. أضافت: حدثنا عنك، إنهم يروون عنك أشياء لا تُصدَّق.

أجاب بيير وعلى شفتيه تلك الابتسامة الطافحة بسخرية حلوة التي أصبحت مألوفة لديه: نعم، لقد رَوَوْا إليَّ شخصيًّا أشياء مدهشة حقًّا لم أرها بنفسي قط. لقد دعتني ماري إبراموفنا إلى منزلها وقصت عليَّ حكاية ما وقع لي أو بالأحرى ما وجب أن يقع لي، ثم إن ستيبان ستيبانيتش علمني هو الآخر ما يجب أن أرويه عن نفسي. لقد لاحظت بصورة عامة أن كون المرء شخصًا مهمًّا عمل يحوي كل عناصر الراحة، ولما كنت الآن أحد المهمين فإنهم يستدعونني ويسردون حكايتي.

ابتسمت ناتاشا وكادت أن تفتح فاها لتقول شيئًا غير أن الأميرة ماري قالت تستوقفها: لقد أكدوا لنا أنك تعرضتَ لخسارة مليونَي روبل في موسكو، هل هذا صحيح؟

فهتف بيير: لكنني الآن أغنى ثلاث مرات مما كنت قبلًا.

لقد ظل بيير يؤكد رغم ديون زوجته وضرورة إعادة البناء التي تبدل وجه أعماله أنه أغنى ثلاث مرات من ذي قبل.

أضاف بيير بصوت خطير: على أية حال فإن ما ربحته بشكل لا يتطرق إليه الجدل هو حريتي.

لكنه امتنع عن الاستمرار في الحديث واجدًا أن من الأنانية الاقتصار في الحديث على نفسه من جانبه.

– وتريد إعادة البناء؟

– نعم، إن سافيليتش يرغب في ذلك.

قالت الأميرة ماري: قل لي، ما كنت تعرف بموت الكونتيس بعد عندما كنت في موسكو، أليس كذلك؟

واحمرَّ وجهها إثر ذلك عندما شعرت بأنها طرحت عليه هذا السؤال فور إعلانه نبأ استرداده حريته، وأن ذلك يمكن أن يعطي لكلماته معنى قد لا يكون عناه بها.

أجاب بيير الذي لم يظهر عليه أنه يعتبر الطريقة التي فسرت فيها الأميرة توريته إلى حريته مربكة: كلا، لقد عرفت الأمر في أوريل، ولا يمكنك أن تتصوري الأثر الذي أحدثه ذلك في نفسي.

وأردف بحمية وهو يختلس نظرة إلى ناتاشا ويلاحظ على وجهها الفضول الذي ارتسم عليه بانتظار أن يتحدث عن زوجته: لم نكن زوجَيْن مثاليَيْن لكن موتها هذا أحدث في نفسي أثرًا مريعًا. عندما يتخاصم شخصان يكون كلاهما على خطأ، والمرء يشعر بخطئه أوقع على نفسه حيال شخص لم يعد على قيد الحياة، ثم إن موتًا بهذا الشكل … دون أصدقاء ولا أعزاء.

وأعقب وهو يلاحظ مسحة من التأييد المرح على وجه ناتاشا: إنني أشفق عليها كل الإشفاق، كل الإشفاق!

فقالت الأميرة ماري ملاحِظة: وعلى هذا ها إنك عَزَب من جديد، وصالح للزواج.

فتضرج وجه بيير فجأة وبذل جهده كي لا ينظر ناحية ناتاشا لفترة طويلة، ولما قرر النظر إليها كانت قد اتخذت وجهًا جامدًا صارمًا بل ومحتقِرًا على ما بدا له.

سألت الأميرة ماري: إذن، هل صحيح أنك رأيت نابليون وتحدثت إليه كما قالوا لنا؟

فراح بيير يضحك: ولا مرة واحدة، أبدًا، يبدو للناس جميعًا أن الوقوع في الأسر معناه المكوث في ضيافة نابليون، إنني لم أره أبدًا فحسب، بل كذلك لم أسمع أحدًا يتحدث عنه. لقد كنت في صحبة أسوأ مما تظنين.

كادوا أن يفرغوا من الطعام، ووجد بيير نفسه مُسَاقًا إلى التحدث عن أسره، وهو الذي تحاشى بادئ الأمر الخوض في هذا الموضوع.

سألته ناتاشا وهي تبتسم ابتسامة خفيفة: هل صحيح أنك مكثت في موسكو لتقتل نابليون؟ لقد خمنت ذلك عندما التقينا قرب برج سوخارييف، هل تذكر؟

اعترف بيير بأن ذلك صحيح. واستسلم أخيرًا، تدفعه تدريجيًّا أسئلة الأميرة ماري وخصوصًا أسئلة ناتاشا، إلى رواية مغامراته بالتفصيل.

تحدث أولًا بتلك المسحة الساخرة اللطيفة التي باتت الآن ترافق أحكامه على الآخرين وعلى نفسه بصورة خاصة، لكنه عندما بلغ في حديثه إلى الأهوال والآلام التي شهدها احتد دون أن يشعر بذلك، وراح يعبر عن مشاعره بالانفعال الكامن الذي يعتلج في نفس إنسان عاش فترات أليمة مؤثرة.

كانت الأميرة ماري تنظر تارة إلى بيير وأخرى إلى ناتاشا وعلى شفتيها ابتسامة أنيسة، كانت ترى في كل ما تسمعه بيير وطيبته فحسب. أما ناتاشا فكانت متكئة بمرفقيها إلى المائدة تتبدل أمارات وجهها باستمرار، تتابع ما يقوله بيير دون أن تغادره بعينيها دقيقة واحدة وكأنها تحيا معه في كل ما يرويه، ولم تكن نظرتها وحدها تبرهن لبيير على أنها فاهمة كل ما يريد التنويه عنه، بل كذلك هتافات الدهشة التي كانت تطلقها والأسئلة المختصرة التي كانت تطرحها عليه. وكان يستنتج أنها لم تكن تستوعب القصة التي يرويها فحسب، بل كذلك ما لم تكن الكلمات قادرة على التعبير عنه. وفيما يلي الأسلوب الذي روى فيه بيير قصة المرأة والطفل اللذين أنقذهما واللذين كانا سبب توقيفه: كان مشهدًا مريعًا، أطفال مهجورون، وبعضهم في أحضان اللهب … ولقد أخرجوا واحدًا أمامي من النار … نساء كانوا يسلبونهن ما معهن وينتزعون الأقراط من آذانهن … وتضرج وجه بيير فجأة وتمتم: وحينئذ برزت دورية من العَسَس فاقتادت كل الرجال، كل الذين ما كانوا يسلبون، وأنا بينهم.

قالت ناتاشا: إنك لا تذكر كل شيء، لا بد وأنك عملت شيئًا.

ثم أردفت بعد توقف: شيئًا ما جميلًا.

تابع بيير حديثه، ولما بلغ مرحلة إعدام مشعلي النار أراد أن يكتم تفاصيل مريعة جدًّا، لكن ناتاشا أرغمته على عدم إسقاط شيء.

وكان بيير، الذي نهض عن المائدة وشرع يذرع الحجرة وعينا ناتاشا شاخصتان إليه، يريد أن يتحدث عن كاراتاييف، لكنه توقف.

– كلا، لا يمكنكما أن تفهما كل ما علمنيه ذلك الأمي، البسيط الفكر.

فقالت ناتاشا: ولكن بلى، ولكن بلى، استمر. ماذا وقع له؟

– لقد قتلوه تحت بصري تقريبًا.

وروى بيير أيام تقهقرهم الأخيرة مع الجيش الفرنسي، ومرض كاراتاييف وموته وصوته دائم التهدج.

كان يروي مغامراته وكأنه لم يستعرضها قط في ذاكرته من قبل، لقد اتخذ كل ما قاساه معنًى جديدًا الآن في نظره. وبينما هو يتحدث إلى ناتاشا كان يتذوق تلك المتعة النادرة التي تسبغها على الرجال النساء اللاتي يصغين إليهم، ليس النساء الحاذقات اللاتي يبذلن جهدهن وهن يصغين إلى استيعاب ما يُقال لهن لإغناء فكرتهن، ولكي يعِدن الرواية عند حلول المناسبة مرتبة وَفْق هواهن، ويروجنها بوضعها إنتاجًا أُعِد في مطبخهن الفكري الصغير؛ بل إن المتعة التي كان يشعر بها كانت تلك التي تسبغها النساء الحقيقيات، أولئك اللاتي يعرفن كيف ينتقين أفضل ما يُقال لهن ولا يشبهنه إلا بالأفضل. كانت ناتاشا دون أن تدري كلها آذان صاغية، ما كانت تضيع كلمة ولا نبرة صوتية ولا نظرة ولا حركة من حركات بيير ولا ارتعاشة عضلة من عضلات وجهه، كانت تلتقط الكلمة قبل أن يكاد يفوه بها وتنقلها مباشرة إلى قلبها وهو على أتم استعداد لتلقيها، ولقد خمنت المعنى المستتر لكل ما يعتلج في نفس بيير.

وكانت الأميرة ماري تفهم القصة وتساهم فيها، لكنها كانت ترى بنفس الوقت شيئًا آخر احتكر كل انتباهها، كانت ترى إمكانية قيام حب وسعادة بين ناتاشا وبيير، ولقد ملأتها هذه الفكرة التي واتتها للمرة الأولى بالفرح.

بلغت الساعة الثالثة صباحًا، وجاء الخدم بوجوههم الصارمة يبدلون الشموع ولكن لم يلقِ إليهم أحد بالًا.

أنهى بيير حديثه وظلت ناتاشا تتأمله شاخصة الأبصار وعيناها تلتمعان بحيوية، وكأنها ترغب في أن تعرف ما تبقى له أن يقول مما يمكن أن يكون قد أخفاه، وراح هو يختلس النظر إليها مضطربًا سعيدًا، ويتساءل عن الموضوع الذي يجب أن يثيره لإذكاء الحديث، بينما كانت الأميرة ماري صامتة، ولم يكن أحد من الثلاثة يشعر بأن الساعة الثالثة وأن وقت النوم قد أزف.

هتف بيير: إنهم يتحدثون عن الشقاء والألم، لكنهم لو قالوا لي الآن في هذه الدقيقة: هل تفضل أن تعود إلى ما كنت عليه قبل الأسر، أم أن تحيا من جديد كل هذه المغامرة من بدايتها؟ لأجبتهم: بحق الله، أعيدوا إليَّ الأسر ولحم الحصان! إن المرء يعتقد بأنه ضائع منذ أن يُلْقَى خارج الطريق المألوف، في حين أن هنا يبدأ شيء جديد طيب، إن السعادة موجودة ما وُجِدت الحياة، ولدينا أمامنا سعادة، كثير من السعادة.

وأضاف مخاطبًا ناتاشا: إنني أوجه هذا القول إليكِ بصورة خاصة.

فأجابت وأفكارها نائية: نعم، نعم، أما أنا فإنني لا أرغب في أكثر من أن أحيا الحياة التي عشتها من قبل.

تأملها بيير بانتباه فقالت مؤيدة: نعم، ولا شيء أكثر!

صاح بيير: هذا خطأ، كل الخطأ! إنني لست مسئولًا أن أعيش وأن أرغب في العيش، ولا أنت كذلك.

وفجأة أسقطت ناتاشا رأسها بين يديها وانخرطت في البكاء. سألت الأميرة ماري: ناتاشا، ما بك؟!

– لا شيء، لا شيء، (وابتسمت لبيير خلال دموعها) إلى اللقاء، لقد حان وقت النوم.

فنهض بيير واستأذن منصرفًا.

تقابلت الأميرة ماري وناتاشا كعادتها في غرفة نومها، وتحدثتا عما رواه بيير. لكن الأميرة ماري لم تقل رأيها في بيير، وكذلك ناتاشا فإنها لم تتحدث عنه.

قالت ناتاشا: هيا، عِمي مساءً يا ماري، إنني غالبًا ما أخاف كما تعلمين من كثرة عدم تحدثنا عنه (عن الأمير آندريه)، وكأننا نخشى أن ندنس عاطفتنا فننساه.

زفرت الأميرة ماري زفرة عميقة، وكان معنى تلك الزفرة أنها تجد أن ناتاشا قد صدقت القول، لكنها مع ذلك لم تعرب لها عن تأييدها، قالت: وهل يمكن النسيان؟

فقالت ناتاشا: لقد أفادني جدًّا أن تحدثنا على هذا الشكل اليوم، كان ذلك أليمًا صعبًا لكنه أفادني، إنني واثقة من أنه كان يحبه حقًّا، ولهذا السبب قصصت عليه …

وفجأة سألت وقد تضرج وجهها: هل كنت مخطئة؟

فهتفت الأميرة ماري: بتحدثك إلى بيير؟ أوه! كلا، إنه شديد الطيبة.

استأنفت ناتاشا فجأة وعلى شفتيها الابتسامة الكيسة، التي لم تعد الأميرة ماري تراها على وجهها منذ أمد طويل: هل تعلمين أنه أضحى شديد النظافة، شديد الوضوح، منتعشًا جدًّا وكأنه خارج لتوه من الحمام، هل تفهميني؟ حمام معنوي أليس كذلك صحيحًا؟

فردت الأميرة ماري: نعم، لقد كسب كسبًا كبيرًا.

– ومعطفه الرسمي القصير، وشعره المُعْنَى به، نعم، تمامًا مثل الخارج من الحمام … مثل أبي سابقًا …

قالت الأميرة ماري: أفهم «أنه» (الأمير آندريه) لم يحبب قط إنسًا بقدر ما أَحبه.

– نعم، مع أنه ليس بينهما شيء مشترك، يزعمون أن الصداقات بين الرجال تقوم بين أفراد مختلفين كل الاختلاف، ويجب الاعتقاد بصحة ذلك إذ هل يشبهه في شيء حقًّا؟

– على أية حال إنه فتى رائع!

ردت ناتاشا: هيا، عِمِي مساءً.

وظلت الابتسامة الكيسة على وجهها فترة طويلة وكأنها نُسِيَت عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤