الفصل السابع

«أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» …

صعد إبراهيم إلى غرفة الاستقبال العائلية التي جلس فيها بعد الإفطار مع شوشو برهة، فألفى الأسرة مجتمعة فيها: محمد الصغير ابن نجية يبكي — أو على الأصح تبكي حنجرته دون عينيه — لسبب لا شك يدعو إلى بكاء مثله، وفي كفه مرآة صغيرة ينظر فيها ويظهر أن الغرض من ذلك أن يرى في صقالها كيف يبدو الوجه الإنساني حين يبكي حامله! وكان يكف عن النشيج كلما استوقفه المنظر العام أو لفته منه شىء خاص، ثم يستأنف الإعوال! وكانت زينب أخته — أو زوزو كما ألفوا أن يسموها على عادة هذه الأسرة — معتمدة بذراعيها على كرسي، ومنحنية عليه وناظرة إلى مقعده، ومشتغلة بتحركيه إلى الأمام وإلى الوراء، وأمها نجية تلتفت إليها من حين إلى حين وتزجرها عن هذه الحركة، خوفًا على الكرسي، بمثل هذه الأصوات: «تؤ.. تؤ.. تؤ..» ثم تعودٌ وتحول وجهها إلى الدكتور إلى جانبها ولا تنتظر نتيجة زجرها، أما شوشو فلم تكن في الغرفة ساعة دخلها إبراهيم.

ووقف الدكتور وتقدم خطوات، ومدّ يده إلى إبراهيم وتصافحا ورفع عمد عينه عن المرآة ونظر بمؤخرها إلى القادم في سكوت، ثم أكب عليها ومضى في عويله الذي يظهر أنه كان يجد فيه نوعًا من الإمتاع، ولكنه لأمر ما هبط بطبقة هذه النغمات إلى أدنى ما يستطيع. وتخلّت زوزو عن الكرسى وخفت إلى إبراهيم وتمسحت به وهو يسلم على الدكتور، كما تتمسح القطط بأصحابها. فاحتملها وجلس وأجلسها على ركبته، فأهوت على عنقه تطوقه وتقلبه في صمت تام وابتسام لم تكد تفوز بمثله من موضع عطفها وحبها حتى انقلب ضحكًا عاليًا.

ودخلت شوشو في إثر إبراهيم — كأنما كانت مختبئة تنتظره — فأثارها الدكتور بنظره وتعلقت عينه بمرونة حركتها إذ تبدو كأن أوصالها ساكنة وهي تنساب كالجدول الرقراق، وكان قوسا حاجبيها الدقيقين الحادين يختلجان، وعينها تومض فيها نظرة عجيبة جمع بين عدم الاكتراث والخبث والدلال والسذاجة، وكانت شفتاها الرقيقتان تقلدان حاجبيها وتختلجان مثلهما، وكذلك جانبا أنفها الجميل. وإذا قلنا أنفها الجميل فقد قلنا كثيرًا؛ فما أندر الأنوف الجميلة وإن كثرت العيون الفاتنة والشفاه المغرية. وإذا أضفت إلى هذا وذاك خصلًا متموجة من الشعر الأصفر، وثوبًا من الصوف داكن الحمرة منسجمًا على قوامها، أمكنك أن تكوِّن لنفسك فكرة ولو ضئيلة عن هذه الفتاة التي صارت في هذه الغرفة كالزهرة بين الخضر!

وتخلى لها الدكتور عن مقعده، ومضى إلى آخر الغرفة ليأتي بكرسي لنفسه، فابتسم إبراهيم الذي تظاهر بالتشاغل بمداعبة زوزو — إذ رآه يمشي وأحد كتفيه إلى الأمام ورأسه مائل إلى اليسار وذراعاه تضطربان في الهواء كأنما خّلَتَا من الأعصاب أو كأنهما كمّان فارغان.

وبعد تبادل التحيات وما هو منها بسبيل، قالت شوشو وهي تنظر عن عَرَضٍ إلى إبراهيم، وكان مطرقًا يهمس في أذن زوزو، وإن لم يفت عينه ولا أذنه شيء: ما قولك يا دكتور! اليوم الجمعة وهو يوم راحتك. فاقضه معنا فإن ابن خالتي يمل مجالستنا ويهرب منّا دائمًا إلى غرفته.

فلم يبد على الدكتور كأن هذا يضايقه جدًا وقال: ولكن..

– قل إنك موافق … أسرع.

قالتها بلهجة لم يسع الدكتور معها أن يظل لسانه معترضًا على ما يوافق عليه قلبه فقال: إذ كان الأستاذ (فرفع لإبراهيم وجهه ونظر إليه نظرة بلهاء جوفاء) لا يرى في وجودي ما يزيد من ميله إلى الهرب فإني على أتم استعداد ….

– معذرة يا سيدي الدكتور إذا قاطعتك. يظهر أنك لا تعرف أساليب شوشو المحرجة (ضحك مكتوم من شوشو) أؤكد لك أنها لا تعني ما تقول … أنا أعْرَفُ بها منك.

– بل أعرف كل حرف.

– نعم، تعنين أنك تطلبين إلى الدكتور أن يقضي اليوم معنا — أعني هنا — ولكن الباقي الذي يخصنى ليس سوى عبث منك بي وحدي.

– سله يا دكتور بذمته أليس في عزمه أن يطير إلى الإسكندرية حالًا لو أنه يستطيع؟

فمالت نجية إلى الأمام وحملقت في وجهه ثم في وجوههم وقالت: يسافر؟ كيف؟ وهل أقام شيئًا حتى يفكر في السفر؟

– سليه يا أختى (بخبث).

فقالت نجية بلهجة من كاد يهتدي إلى السر: «أتراك رأيت …».

ولكن شوشو قاطعتها ضاحكة: لا، لا: إنك لا تنسين عفاريتك قط! أنا أعرف السبب!

ورمت إلى إبراهيم نظرة.

فقال إبراهيم بصوت اليائس: «ربما» واضطجع في كرسيه وأطبق شفتيه إطباق من لا ينوي أن يفتحهما مرة ثانية.

وفتر الحديث لأن الدكتور لم يسعه أن يشترك في هذه المناقشة العائلية، ولمح أن إبراهيم لا يحب أن يتوسع فيها. ورأت شوشو أن إشارتها إلى ما سمعته عفوًا من إبراهيم وهو يحدث نفسه في غرفته قد أعادت إليه الاكتئاب، فندمت وصار الكلام متكلفًا متقطعًا.

وكان الأفق قد غام وانتشرت سحابة كثيفة واحدة في مجاليه، وبدأت تهمي وترسل صفحات متموجة من المطر ترق حينًا وتكثف حينًا آخر. وجعلت الأشجار المغروسة وراء البيت تتوجع كالبؤساء من الرياح التي تعصف بها وتصفر بيها، ثم طغت الرياح حتى صارت الجذوع الوطيدة تهتز وتروع الناظر إليها بهذه الحركة التي لم تعهد منها، كما يروعك الرجل القوى حين يبكي، وراحت الغصون المتدلية تتصعد وتتصوب، والفروع العالية المستقيمة تتلوى وتترنح وتبدو كأنها توشك أن تتقصف، واضطربت مهابُّ الرياح وتعددت تياراتها وتعارضت، حتى صارت الأغصان المتقاربة في الشجرة الواحدة من هذه الأشجار تميل كل مميل وتتضارب وقد تشتبك، وجعلت الأوراق — ما بين خضراء وصفراء تتطاير عن أعوادها وتتفاذف ثم تسقط فروع الزروع. وأظلمت الدنيا وصار وقع الماء على زجاج النافذة كنقر العصي، وكانت روعة هذه الثورة قد تركت القوم صامتين برهة، ثم قالت شوشو وفي وجهها أمارات الفوز وفي صوتها نبرات السرور: والاَن يا دكتور لم يبق لك مفر من البقاء!

ونظرت إلى إبراهيم تبتغي تأييده. ولم ينتظر الدكتور هذا التأييد، فأرسلها ضحكة عالية لم يفهم إبراهيم لها معنى، ولم يعرف لها داعيًا! وبدا له أن من سوء التقدير أن يضحك المرء وهو محبوس من جراء هذا الجو العاصف، فأخذ يراقب الدكتور ويحصى عليه حركاته وأنفاسه، فخيل له — ولعله غير مخطئ — أن الدكتور يتغفله ويلاحظ شوشو باسمًا حتى وهو يكلم غيرها، ولم يزل حتى أقنع نفسه بذلك، ثم صارت المسألة التي تتطلب الجواب: هل وجه شوشو يزداد احمرارًا أو يشحب أو يثبت ولا يتغير على كثرة هذا اللحظان وتكرره؟ وهل هي ترامقه أيضًا، أم هذه الاختلاجات التي يراها في جفونها عفوا لا عمد فيه؟ وعلى كثرة ما فكر في ذلك وطول ما شغل به نفسه لم يستطع أن يطمئن إلى جواب يسكن به إليه.

ولما أعياه جواب هذه الأسئلة وأمثالها نفض يده من معالجتها كالسأمان واعتاض منها سؤالًا آخر عنَّى به نفسه برهة أخرى في خلال هذه الجلسة التي طالت بفعل الجو الفاسد: ما له يتعب نفسه بالتفكير في ذلك؟ ليترامقا ما شاءا! وهل يعنيه من أمرهما شيء؟ وكان الجواب الذي لم يسترح إليه أنه حب الاستطلاع المركوز في طبيعته، وأنه مفطور على دقة الملاحظة، وليس يسعه إلا ذلك ولا حيلة له فيه، وليس من الضروري دائمًا أن يكون وراء هذا سبب آخر. أو علة خفية. وأي شيء هناك يمكن أن يكون خفيًا؟ لا شىء على التحقيق! فهز كتفيه ومطّ شفتيه واعتدل فوق كرسيه ووطّن نفسه على الضرب في زحمة الحديث. وإذا به يرى شوشو تكاد تسقط عن كرسيها من شدة الضحك، والدكتور يبتسم — ابتسامًا هو أقرب إلى الضحك المكتوم فيما يرى — ويسألها ما لها؟ ونجية مرتجّة الأنحاء مما أصابها من عدوى الضحك، وكفها على ذلك الجانب من فمها الذي يواجه إبراهيم. فلم يفهم، وهمً — تنفيذًا لعزمه — أن يضحك مثلهم، ولكنه أطبق شفتيه بعد أن فتحهما لما لمح من حركات شوشو ونظراتها وإشاراتها أن شيئًا فيه هو الذي يضحكها، فأسرع فأدار عينيه في ثيابه، فلم تأخذ شيئًا غريبًا، فعاد فرفعهما إليها وهزّ رأسه هزّة خفيفة كالمستفسر فلم يلقَ جوابًا سوى هذا الضحك، فشعر بالدم يصعد إلى رأسه ويتجمع فيما وراء عينيه ولكنه ضبط نفسه وردها بجهد، ونجية تضحك قليلًا ثم تسألها: «مالك»؟ والدكتور يتلفت متظاهرًا بالاستغراب، يضرب كفًا بكف، ومحمد وزوِزو يقهقهان وينحنيان وتخذلهما أرجلهما فيقعان على البساط، وأخيرًا خرجت شوشو تعدو منحنية وكفها على شفتيها يقول «بف بف»!

ومضت دقائق خيلت أطول مما هي، ولم تعد شوشو فنهض الدكتور، وكان أظهر الجميع قلقًا وتلفتًا، ومشى إلى النافذة حيث وقف هنيهة يتأمل السماء المربدة والمطر ينهمر ولا يكاد يرى شيئًا، ثم عاد ويسراه في جيبه ويمناه تعبث بسلسلة الساعة الذهبية وقال: «سأنظر أين ذهبت شوشو» وخرج فألفاها أخيرًا واقفة على رأس السلم مستظلة من المطر بدورته المؤدية إلى السطوح، ومتكئة على حاجزة، وسمعها وهو يدنو مها تغني بصوت خفيض فاقترب منها على أطراف أصابعه ووقف على مسافة قريبة منها معلقًا أنفاسه، مخافة أن تنتبه إلى وجوده فتحرمه المنظر والمسمع جميعًا: والقارئ لابد يعلم أن الرجل إذا وقعت من نفسه امرأة فهو يحضرها إلى ذهنه في صورة هي أحب إليه مما عداها. لأن هذه الصورة تكون أعلق بذاكرته وتكون هي المظهر الذي تبدو فيه لخياله حين يتمثلها. وقد اختارت صورة شوشو هذه الهيئة التي رآها الدكتور عليها في ذلك المكان، وصارت تزوره فيها في كلا نومه ويقظته. والمنظر عبارة عن فتاة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، في ثوب من الصوف قرمزي لاصق بالبدن بحيث لا يفلت شيء بينما هي منحنية بجنبها الأيمن على حاجز السلم، ومعتمدة بخدها الأيمن على كفها، وبكوعها على هذا الحاجز. أما راحتها اليسرى فمطبقة في خصرها الذي يبرز من تحته ردفاها مرتفعين مائلين إلى اليسار قليلًا، وجيدها الأتلع النضير قد انثنى عليه القرط تحت شعرها الذهى المقصوص. وهذا ما كان باديًا منها لعين الدكتور حيث وقف يرجو أن تظل كما هي لا تشعر به ولا تتحرك ولا تكف عن الغناء.

ولكنها تحركت! إما لأنها أحست به وإما لأن الوقفة أتعبتها أو أملتها. فرأته فصبغ الدم وجهها وارتدت، ولكنها لم تتجهم له وقالتْ وفي عينها نظرة عتب ورضى في آن: آه! ألك هنا كثير؟

فدنا منها خطوة: «لا! مع الأسف»!

فلم ترده عن الدنو ولم تحاول أن تتحول عن مكانها لتحفظ المسافة الأولى بينها وبينه، وقالت وكلتا يديها وراءها على الحاجز وصدرها بثدييه المستديرين بارز: أكنت تسمع؟

فقال برقة، ومدّ رجله لخطوة أخرى لم يخطها: ربما كنت أشد التفاتًا إلى مصدر الصوت.

فقالت بلهجة من يستزيده مما يحرم عليه: لا تقل هذا يا دكتور!

– ولماذا؟ إنك تعرفين إعجابى بك.

فلم يبدُ عليها ما يدل على الارتياح إلى إعرابه عن هذا «الإعجاب» وودت لو أنه استخدم في وصف شعوره لفظًا أقوى من «الإعجاب» وقالت بلهجة أقسى مما كان ينتظر إذا اعتبرنا ما مرّ إلى الآن: كلا! هذا لا يليق. وأنت تعلم أنى محقة!

فدهش — وهل كان ياترى من حقه أن يدهش؟ ولم يدر ماذا أغضبها فجأة وقال: ولكن يا عزيزتي..

فقاطعته بلهجة أشد قسوة: لست عزيزة أحد من فضلك!

وكأنما آلمها أن تكون عزيزة أحد، وإن كانت هي التي حرمت نفسها هذه المزية، فحل الاكتئاب محل الغضب في أسارير وجهها الذي بدا كأنه طال فجأة، واحمرت عيناها أيضًا حتى ليظن من يراها أنها حديثة عهد بالبكاء، أو أنها مشفية عليه. فلم يسعه إلا أن ينقل رجله الأخرى ويخطو الخطوة التي كان همّ بها وصدّه عنها ما لا نعلم، وتقدم منها وكاد يلصق بها فنحت عنه وجهها ومنحته كتفًا، فتناول يسراها بين راحتيه فلم تسحبها وقال وفي صوته نبرات الأسف والألم الصادقين: ولكني لا افهم! بأي شيء أسأت إليك يا عزيزتي؟

– قلت لك لست عزيزة.. عزيزتك!

فلم يفهم أيضًا! وأنى له أن يطلّع على ما تطوي عليه أضلاعها وهو لم يرزقه الله تلك الفطرة التي تهديه إلى اللفظ الذي يكون أوقع في نفس المرأة وأعذب في سمعها موافقة لهواها؟ وأراد أن يصلح ما فسد فزاد الطين بلة: حسن! لن تسمعي مني هذه الكلمة التي تكرهينها، فلا داعي للفتور. ولكن قولي لي كيف أدعوك؟

فسحبت يدها التى كانت قد تركتها له وقالت: ادعنى باسمى! لماذا تدعوني بغيره؟

– اتفقنا إذًا ….

وابتسم، وأبى له سوء الحظ وعماه في هذه اللحظة الدقيقة التي كان يمكن أن تنعكس فيها الآية، إلا أن يزيد «يا شوشو».

فرفعت عينها في وجهه ساخطة زارية وخرجت دون أن تجيبه.

وتخلف هو برهة ثم لحق بها وهو يقول: ما أعجب أطوار النساء!

ولو أنه كان تبعها حين خرجت لسمعها تقول لنفسها: ما أشد غباوته!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤