السؤال الثاني

كم تبعد أقصى الأشياء التي نستطيع رؤيتها؟١

أعيدُ صياغة السؤال الذي طُرح عليَّ لأن نسخته الأصلية، التي قيل فيها «ما أبعد مدى نستطيع أن نبلغه ببصرنا؟»، ليس لها إجابة مباشرة، كما سأوضح. لا أقصد ما أبعد مدى نستطيع رؤيته بالعين المجردة، ولكن ما أبعد مدى يستطيع علماء الفلك «رؤيته» باستخدام أفضل أجهزة الكشف المتاحة؟ قبل أن أجيب عن هذا السؤال، أحتاج إلى تذكيرك ببعض التفاصيل عن الانفجار العظيم الذي وُلِد فيه الكون كما نعرفه، والتطرق بالأخص إلى مزيد من التفاصيل عن طبيعة ظاهرة الانزياح نحو الأحمر. وأحتاج أيضًا إلى تذكيرك بأن السنة الضوئية مقياس للمسافة — المسافة التي يقطعها الضوء في عام واحد — وليست مقياسًا للزمن. وعادةً ما يُفضل علماء الفلك قياس المسافات بدلالة وحدة تُسمى الفرسخ الفلكي؛ إذ يساوي الفرسخ الواحد نحو ٣٫٢٦ سنوات ضوئية. لكن هذا أيضًا قد يسبب التباسًا مع الأسف. ففي فيلم «حرب النجوم: أمل جديد» (ستار وورز: آنيو هوب)، يقول هان سولو إنَّ مكُّوكه «اجتاز مسار كيسيل رن في أقل من اثنَي عشرَ فرسخًا فلكيًّا!»، وهذا أضحك علماء الفلك بشدة لأن الفرسخ الفلكي، مثله مثل السنين الضوئية، مقياس للمسافة وليس الزمن. لكن لنعُد إلى موضوعنا.

نعرف أن الانفجار العظيم قد حدث بالفعل للأسباب الموضحة في الإجابة السابقة. وكما أوضحت، فإن الدليل الأكثر إقناعًا على الانفجار العظيم هو وجود الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي يصل إلى الأرض من كل الاتجاهات في السماء؛ أو ما يُعرَف بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي ينشأ من غاز ساخن عند درجة حرارة تكاد تساوي حرارة سطح الشمس حاليًّا، وانبعث بعد الانفجار العظيم بنحو ٣٠٠ ألف سنة. ونظرًا إلى أن الانفجار العظيم حدث قبل ١٣٫٨ مليار سنة، فإن هذا الإشعاع ينتقل عبر الفضاء إلينا منذ فترة تكاد تساوي ١٣٫٥ مليار سنة. ولأن الإشعاع الكهرومغناطيسي يتحرك بسرعة الضوء، فلا بد أن ذلك يعني أن تلك السحب الساخنة تبعد نحو ١٣٫٥ مليار سنة ضوئية، أليس كذلك؟ حسنًا، الوضع ليس كذلك في الحقيقة. فطَوال الوقت الذي كان فيه الإشعاع في طريقه إلينا، كان الكون يتمدد. لذا فتلك السحب الآن أبعد بكثير مما تشير إليه هذه العملية الحسابية الساذجة.

ولتفادي أي سوء فهم، يجب أن أوضح أيَّ التباس بشأن الانزياح نحو الأحمر وظاهرة دوبلر. إنَّ أبرز صورة مألوفة لظاهرة دوبلر، التي سُميت باسم عالم الرياضيات النمساوي كريستيان أندرياس دوبلر، تتجلى لنا في الصوت. فدرجة الصوت الصادر من صافرة إنذار إحدى سيارات الإسعاف التي تقترب منَّا تبدو أعلى مقارنة بما يكون عليه الحال عند ابتعادها عنا؛ وذلك لأن الموجات الصوتية تنضغط معًا أثناء اقتراب السيارة وتتمدد متباعدةً أثناء ابتعاد السيارة. كذلك يحدث الشيء نفسه بالضبط للضوء، لكنه لا يُصبح ملحوظًا إلا عندما يكون مصدر الضوء متحركًا بسرعة تساوي جزءًا كبيرًا من سرعة الضوء التي تبلغ ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية. وهذا يحمل فائدة كبيرة في علم الفلك. يرجع أساس تسمية «الانزياح نحو الأحمر» بهذا الاسم إلى أن الضوء الأزرق له أطوال موجية أقصر من الأطوال الموجية للضوء الأحمر. فعندما يكون النجم قادمًا نحونا، ينضغط الضوء المنبعث منه فتنسحق موجاته وتتقارب معًا ويصبح الطول الموجي أقصر؛ لذا تتحرك السمات الملحوظة في طيف هذا الضوء نحو الطرف الأزرق للطيف؛ فيما يُسمى بالانزياح نحو الأزرق. ونعرف مقدار هذا الانزياح في الضوء المنبعث من أي نجم معين لأن السمات الطيفية ذاتها، التي تُسمى بالخيوط الطيفية، يُمكن دراستها في الضوء المنبعث من أجسام موجودة في مختبرات على كوكب الأرض، حيث لا يوجد انزياح. وبالمثل، إذا كان النجم يبتعد عنا، فإن الضوء يتمدَّد إلى أطوال موجية أطول وتتحرك سمات الطيف نحو الطرف الأحمر للطيف؛ فيما يُعرف بالانزياح نحو الأحمر. وإذا أردنا التعبير عن ذلك بمصطلحات انزياح دوبلر، فإن الأحمر يعني الابتعاد والأزرق يعني الاقتراب. تجدر الإشارة إلى أن علماء الفلك يستدلون من حجم هذه التأثيرات على مدى سرعة حركة النجوم، وهذا مفيد جدًّا بالأخص عندما يكون أحد النجوم دائرًا حول نجم آخر في نظام نجمي ثنائي، لأن معرفة سرعة حركة النجوم، إلى جانب بعض القوانين الأساسية للحركة المدارية، تُتيح حساب كتلها.

كذلك تتعرض المجرات للظاهرة ذاتها بالفعل. فأغلب المجرات توجد في شكل عناقيد، وتتحرك داخل عناقيد، كنحل يتحرك بسرعة داخل سرب، بسبب التأثير المتبادل فيما بينها بفعل قوى الجاذبية. وهذا يؤدي إلى حدوث انزياح دوبلر في الضوء المنبعث من المجرات. وعلى سبيل التوضيح بمثال قريب من كوكب الأرض، فإن الضوء القادم من مجرة أندروميدا التي توجد في نفس عنقود مجرتنا درب التبانة يتسم بانزياح نحو الأزرق، وهذا يشير إلى أنها تتحرك نحونا بسرعة ١١٠ كيلومترات في الثانية، وأن المجرتَين ستتفاعلان معًا سنة (لم أستخدم مصطلح «تتصادمان» لأنه أقوى من اللازم؛ فالنجوم لا يرتطم بعضها ببعض، بل تمر متجاورةً كسربَين من الطيور) في غضون نحو خمسة مليارات.٢ لكن هذه التأثيرات كلها ناتجة مِن تحرُّك أشياء عبر الفضاء. وقد قلت في الإجابة السابقة إن الانزياح الكوني نحو الأحمر ظاهرة مختلفة ناتجة من توسُّع الفضاء نفسه بينما يكون الضوء في طريقه إلينا. وكلما كان وقت رحلة الضوء أطول، كان توسُّع الفضاء في ذلك الوقت أكبر وكان تمدُّد الضوء أكبر. سيكون من المفيد هنا تشبيه المسألة بزنبرك مشدود بين جسمَين. إذا تباعد الجسمان، فسيُمَط الزنبرك وسنجد أن «الموجات» التي يُحدثها ستتمدد إلى شكل أكثر تسطحًا. لكن الزنبرك لم ينتقل ككلٍّ من الجسم الأول إلى الثاني. ويعتمد مقدار «التسطُّح» على مسافة التمدُّد؛ لذا فإن هذا يجعل الانزياح الكوني نحو الأحمر مقياسًا للمسافة وليس السرعة. ولكن ما المسافة التي يقيسها؟

تخيل أنك تقف عند نقطةٍ ما في منتصف أحد المماشي المتحركة الطويلة التي توجد في المطارات مثلًا، لكن هذا الممشى كان غير مُشغَّل. ميِّز المكان الذي تقف فيه ببقعة طلاء. ولنفترض أنني أقف عند نهاية الممشى، وأنه بدأ يتحرك مُبعدًا إياك عني عند تشغيله. لكنك أنت نفسك تمشي مسرعًا نحوي، وتتغلب على سرعة الممشى، وعندما تصل إليَّ، يتوقف الممشى. بحلول ذلك الوقت، ستكون بقعة الطلاء أبعد بكثير عني ممَّا كانت وقت انطلاقك. هذه هي «المسافة الحقيقية» إلى بقعة الطلاء الآن، وليست المسافة التي كانت تفصلني عنها عندما بدأتَ المشي. ولحساب المسافة الحقيقية التي يبعُدها جسم معيَّن بقياس مقدار الانزياح نحو الأحمر في الضوء المنبعث منه، نحتاج إلى استخدام بعض المعادلات البسيطة جدًّا. غالبًا ما يُقال لِمَن يؤلفون كُتبًا كهذا الكتاب إنَّ إدراج ولو بضع معادلات حتى سيُخيف القرَّاء؛ لذا يُنصحون بعدم إدراجها؛ ولكن نظرًا إلى أن السؤال الذي أجيب عنه مطروحٌ من شخص لم يدرس رياضيات الثانوية العامة حتى الآن، ولا يجد المعادلات مخيفة، فسأتجاهل هذه النصيحة.

يستخدم علماء الكونيات الرمز z للإشارة إلى الانزياح نحو الأحمر، والرمز اليوناني لامدا ( ) للإشارة إلى الطول الموجي. وباستخدام اختصار واضح تمامًا، فإن هو الطول الموجي الذي نرصده (أي نقيسه) لخط طيفي معين في الضوء القادم من مجرة بعيدة، و هو الطول الموجي المقاس للخط الطيفي نفسه في الضوء المنبعث من جسم ساكن (وليس متحركًا) في المختبر. تُحدَّد قيمة z بدلالة مقدار الخطوط الطيفية التي انزاحت نحو الأحمر. وتكمن الفائدة الكبيرة لهذا العامل المحدد في أن المسافة التي تبعدها المجرة مرتبطة بانزياح ضوئها نحو الأحمر؛ لذا فمن خلال قياس الانزياح نحو الأحمر، يستطيع علماء الكونيات حساب بُعد المجرات؛ وكلما كان الانزياح نحو الأحمر أكبر، كانت المجرة أبعد. ويُعد قياسه سهلًا نسبيًّا. فالانزياح الكوني نحو الأحمر يساوي الطول الموجي المرصود لخط طيفي معين مطروحًا منه الطول الموجي للخط المكافئ في طيفِ جسم ساكنٍ في المختبر، مع قسمة الفرق على الطول الموجي «في حالة السكون». وبذلك تكون صيغته الرياضية الأساسية على النحو التالي:

وبإعادة ترتيب بسيطة، تُصبح الصيغة:

يتحد هذا الانزياح الكوني نحو الأحمر مع أي ظاهرة دوبلر في كل مجرة على حدة. لذا فحين ينظر علماء الفلك إلى عنقود من المجرات، سيرصدون متوسط الانزياح نحو الأحمر الذي ينتج من تمدُّد الكون ويُبعِد العنقود كله عنا، لكن الانزياح نحو الأحمر في بعض المجرَّات المفردة سيكون أصغر قليلًا من المتوسط، بسبب تصادفِ تحرُّكها نحونا في سرب المجرات ولأن ظاهرة دوبلر عندئذٍ تقلل من التأثير الكوني، بينما سيكون الانزياح نحو الأحمر أكبر قليلًا في مجرات أخرى لأنها تتحرك مبتعدة عنَّا في السرب ولأن ظاهرة دوبلر عندئذٍ تعزز التأثير الكوني. ولكن في حالة الأجسام البعيدة التي أهتم بها هنا، تكون تأثيرات دوبلر بالغة الضآلة مقارنةً بالانزياح الكوني نحو الأحمر.

يعتمد تحويل قياس الانزياح نحو الأحمر إلى قياس المسافة على معايرة ما يُسمى «العلاقة بين الانزياح نحو الأحمر والمسافة»، وذلك باستخدام قياسات المسافات الفاصلة بيننا وبين المجرات القليلة التي يمكن قياس مسافاتها بطرق أخرى. وأهم هذه المؤشرات التي تشير إلى المسافة هي النجوم المتفجرة، التي تُسمى المستعرات العظمى (ستجد المزيد عن المستعرات العظمى في إجابة السؤال الخامس). ويوجد نوع من المستعرات العظمى يُسمى «إس إن ١ إيه» وتتسم كل مستعراته بالسطوع نفسه. ولأسباب واضحة، يُشار إلى تلك المستعرات بمصطلح «الشموع القياسية». وإذا وجدنا أحد هذه المستعرات في مجرة بعيدة، نستطيع معرفة بُعد هذه المجرة بقياس درجة السطوع (أو الخفوت) التي يظهر بها ذلك المستعر الأعظم. يشبه هذا وجود شارع طويل مضاء بسلسلة من أعمدة الإنارة تتسم كلها بالسطوع الذاتي نفسه، وتُعَد بمثابة مجموعة أخرى من الشموع القياسية. إذا عرفتَ درجة سطوع أضواء الأعمدة، يمكنك إن شئت أن تحسب المسافة التي يبعدها عنك كل عمود دون أن تترك مكانك الذي تقف فيه عند نهاية الشارع، وذلك بقياس سطوع الضوء الذي يحمله. غير أن الحسابات هنا معقدة بعض الشيء بسبب الحاجة إلى استخدام معادلات النظرية العامة للنسبية (وهي أكثر تقدمًا بقليل من رياضيات الثانوية العامة؛ لذا لن أدرجها هنا) لحساب التغيرات التي طرأت على معدل تمدُّد الكون على مر الزمن الكوني. فهذا يستلزم حسابات أشد تعقيدًا للانزياح نحو الأحمر في الضوء المنبعث من الأجسام التي يمكن استنتاج مسافاتها باستخدام طرق أخرى، بما فيها دراسات المستعرات العظمى. خلاصة القول أن لدينا دليلًا قويًّا على أن تمدُّد الكون كان يتباطأ حتى وقت قريب، بمقاييس الزمن الكوني، ولكن يبدو الآن أنه يتسارع. وعند التعويض بالأرقام المناسبة في المعادلات الكونية، نجد أن الجسيمات الموجودة في الغاز الساخن الذي أطلق إشعاع الخلفية الكونية تبعد الآن نحو ٤٥٫٧ مليار سنة ضوئية؛ وهذه هي مسافتها الحقيقية (وتُسمى أيضًا بالمسافة الشعاعية المسايرة). هذا هو أبعد مدى يستطيع علماء الفلك «رؤيته» حاليًّا. وقد تمدَّدت الأطوال الموجية للإشعاع المنبعث منذ ذلك الوقت من نطاق أطوال الضوء المرئي إلى نطاق أطوال الموجات الراديوية الميكروية، بما يكافئ انزياحًا نحو الأحمر قيمته أكبر قليلًا من الألف.

وإذا استطعنا رؤية الانفجار العظيم نفسه (بافتراض أن هذا قد يُصبح ممكنًا يومًا ما باستخدام إشعاع الجاذبية الذي يتحرك هو الآخر بسرعة الضوء) فسنكون عندئذٍ ناظرين إلى شيء أقدم من إشعاع الخلفية ببضع مئات الآلاف من السنين فقط، وأبعد منه بمسافة قصيرة تكافئ قِصَر الفارق الزمني؛ إذ سيكون واقعًا على بعد ٤٦٫٦ مليار سنة ضوئية. قد يختلف الرقم النهائي اختلافات طفيفة بناءً على مجموعة المعادلات الكونية التي تحبذها (أو النموذج الكوني المفضَّل)، ولكن بالأرقام التقريبية، يخبرنا ذلك بأن المسافة الفاصلة بيننا وبين حافة الكون المرئي تبلغ ٤٦ مليار سنة ضوئية. يُمثل هذا تعريف الأفق الكوني (الذي يُسمى أيضًا بالأفق المُساير أو أفق الجسيمات). وذلك هو أبعد مدى نستطيع رؤيته في أي اتجاه، بمعنى أنه نصف قطر فقاعة الفضاء التي نستطيع ملاحظتها، وبذلك يبلغ قطر الفقاعة نحو ٩٢ مليار سنة ضوئية.

figure
المستعر الأعظم. (أفيشاي جال يام، معهد وايزمان للعلوم.)

صحيح أن الأفق المساير هو أبعد مسافة نستطيع أن نتلقى منها معلومات في الوقت الحاضر. لكن هذا لا يعني أننا في مركز الكون، مثلما أن وجود أفق مرئي لركاب سفينةٍ ما في المحيط الهادئ لا يعني أن السفينة موجودة في وسط المحيط. وعلى غرار البحَّارة في المحيط الهادئ، فإن أي راصد موجود بالقرب من حافة فقاعتنا سيستطيع أن يرانا عند أبعد مسافة مرئية له إذا نظر في اتجاهنا، وإذا نظر في الاتجاه المعاكس، فسيبلغ ببصره المسافةَ نفسها بعد حدود أفقنا. ولكن إذا افترضنا وجود أي راصدين بالقرب من حافة أفُقنا ينظرون نحونا، فإنهم لن يرَوا مجرة درب التبانة بحالتها الحالية، ولكن بحالتها التي كانت عليها منذ نحو ١٣٫٨ مليار سنة؛ أي إنهم سيرَون إشعاع الخلفية الكونية المنبعث من سُحُب الغاز الساخن الذي تكوَّنت منه المجرات والنجوم والكواكب وحياتنا نفسها في النهاية. وعلى عكس الأفق الذي نراه من سفينة في المحيط الهادئ، فإن الأفق الكوني يواصل الابتعاد عنَّا مع تمدد الكون؛ أي إن «الممشى المتحرك» لا يتوقف عن الحركة في هذه الحالة.

ولكن يوجد أفق مرئي آخر لن يتجاوزه أحد إطلاقًا حتى الحضارات المستقبلية التي ستصل إلى أفضل تقدُّم تكنولوجي ممكن. وهذا هو أفق الحدث الكوني؛ الذي يُعرف بأنه أبعد مسافة حالية عنَّا لن يصل إلينا من بعدها أيُّ ضوء ممَّا ينبعث حاليًّا على الإطلاق (وأحيانًا ما يُسمى «حد الرؤية المستقبلية»). يبلغ بُعده نحو ٦١ مليار سنة ضوئية. وأي شيء يقع أبعد منه سينجرف بعيدًا، بفعلِ تمدُّد الكون، بسرعةٍ تتجاوز سرعة الضوء؛ لذا لن تصل إلينا أيُّ معلومات من تلك المنطقة أبدًا، مثلما لا يمكن لأي معلومات، أو ضوء، الهروب من ثقب أسود. تجدر الإشارة إلى أن الأفق الكوني الحالي يقع على بُعد نحو ثلاثة أرباع هذه المسافة. وبغض النظر عن أي مشكلات عملية تشوب عملية الرصد، هذا معناه أن العدد الإجمالي لكل المجرات التي ستتسنى رؤيتها من كوكب الأرض لا يتجاوز نحو ضِعف العدد المرصود بالفعل حتى الآن.

لكن حتى هذه ليست نهاية القصة. فلو صحَّ بالفعل أن تمدد الكون يتسارع حاليًّا، كما تشير الأرصاد، واستمر هذا التسارع إلى الأبد، فستتلاشى حتى المجرات التي نراها اليوم مع تزايد انزياح ضوئها نحو الأحمر؛ إذ إنَّ موجات الضوء ستُمَط إلى شكل أكثر تسطحًا. وهكذا فكل جسم تتراوح قيمة انزياح ضوئه نحو الأحمر حاليًّا بين ٥ و١٠ سيصبح غير مرئي في غضون فترة تتراوح بين ٤ و٦ مليارات سنة؛ أي تقريبًا بحلول الوقت الذي ستتضخم فيه الشمس وتُصبح عملاقًا أحمر قُرب نهاية حياتها. ومن ثم، لو افترضنا أن حياةً تبدأ الآن للتو على كوكبٍ كالأرض يدور حول نجم كالشمس، وأن التطور هناك يحدث بنفسِ وتيرة حدوثه على كوكب الأرض، فبحلول الوقت الذي ستوجد فيه على ذلك الكوكب حضارةٌ قادرة على دراسة الكون ككل، ستكون الأشياء المتاحة أمامهم لدراستها أقل بكثير من المتاح لدينا، مهما كانت جودة تلسكوباتهم. وذلك لأن سماءهم الليلية ستكون أشد ظلمة من سمائنا.

كل هذا يعيدني إلى النقطة التي بدأت منها هذه القصة، وإلى شيء يضايقني بشدة. حين يحدد علماء الفلك المسافة إلى الأجسام السحيقة، غالبًا ما يُخطئ الكثيرون منهم في عرض المعلومات. فعلى سبيل المثال، يوجد جسم اسمه «جي آر بي ٠٩٤٢٣» نتج من دَفقةٍ من أشعة جاما في انفجار كوني رُصِد في عام ٢٠٠٩ في مجرة تبلغ قيمة انزياح ضوئها نحو الأحمر ٨٫١. ويُعَد هذا الجسم واحدًا من أجسام عديدة لن تتسنى رؤيتها عندما تتحول الشمس إلى عملاق أحمر. صحيح أن الانزياح نحو الأحمر عادةً ما يُستخدَم لقياس المسافة، ولكن عندما تكون قيمته كبيرة هكذا، فمن الأفضل تفسيره على أنه مقياس لمدى اقتراب الحدث المعني من الانفجار العظيم. يشير الانزياح نحو الأحمر للضوء المنبعث من دفقة أشعة جاما إلى أنها حدثت منذ نحو ١٣٫٢ مليار سنة. لذا فسَّرت وسائل الإعلام الشعبية (وبعض علماء الفلك المتخصصين المشاغبين) ذلك بأنه يعني أن الدفقة تقع على بعد ١٣٫٢ مليار سنة ضوئية. وفي الحقيقة يبعد الجسم الآن نحو ٣٢ مليار سنة ضوئية (وهو أبعد بقليل جدًّا مما كان عليه في عام ٢٠٠٩).٣

وهكذا بعدما نفَّستُ عن مكنون صدري، أستطيع القول إن إجابة السؤال الثاني سهلة ومباشرة. وإذا أردتُ التعبير عنها بكلمات الأغنية الشهيرة، فسأقول: «حين يكون الجو صافيًا، سترى بلا حدود» (أون أكلير داي، يو كان سي فوريفر). صحيح أن الواقع ليس شاعريًّا هكذا، لكنه مثير للاهتمام. تبين لنا الآن أن إشعاع الخلفية الذي نستطيع «رؤيته» يبعُد ٤٦ مليار سنة ضوئية، وكان ساخنًا كالشمس عند نشأته. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي. أو بالأحرى إلى سؤالين: كم عمر الشمس، وكيف تظل الشمس بهذا السطوع الشديد إلى الآن، بعد ١٣٫٨ مليار سنة من الانفجار العظيم؟ دمجتُ إجابتَي هذَين السؤالَين معًا في الفصل التالي.

١  هذه الإجابة نسخةٌ مستفيضة من مقالة كتبتُها لمجلة «بوبيولار أسترونومي».
٢  هذه كلها مسألة نسبية بالطبع. فلو وُجِد راصد على مجرة أندروميدا، لقال إننا نحن مَن نتحرك نحوها بسرعة ١١٠ كيلومترات في الثانية. أي إن مجرتنا ليست مميزة من المنظور الكوني.
٣  ليس لدي أمل في إقناع الناس كلهم بتغيير عاداتهم المرتبطة بهذه المسألة، لكني واثق في أنك الآن ستكون حذرًا من الوقوع في هذا الفخ. ولكن إذا أردت تصحيح مثل هذه الأخطاء بنفسك حين ترى إعلانات مضللة تدعي اكتشاف مستويات قياسية من الانزياح نحو الأحمر في منشورات أقل موثوقية، فطالِع هذا الأداة الرائعة التي ابتكرها نِد رايت تحت اسم «حاسبة المسافة الحقيقية»، والمتاحة على الإنترنت عبر الرابط www.astro.ucla.edu/~wright/ACC.html. فهذه تتيح لك إدخال كل العوامل ذات الصلة؛ ثم اترك كل الأرقام الأخرى كما تظهر لك، واكتفِ بتغيير قيمة z للجسم المعني، وانقر على كلمة General لتعرف عمره بعد الانفجار العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤