السؤال الرابع

كيف نعرف أن أينشتاين كان على صواب؟

اكتشاف أينشتاين أن الكتلة والطاقة قابلتان للتحول فيما بينهما كان مُستمَدًّا من نظريته الخاصة للنسبية، التي نُشرت عام ١٩٠٥. وتُعَد النظرية «خاصة» بمعنى أنها حالة خاصة لأنها لا تتعامل إلا مع سلوك الأشياء التي تتحرك في خطوط مستقيمة بسرعة ثابتة (أي بسرعة متجهة ثابتة) بعضها بالنسبة إلى بعض. غير أن معادلة أينشتاين الشهيرة لا تظهر في تلك الورقة البحثية بالفعل، لأنه لم يُدرك هذا المعنى الضمني لنظريته إلا بعدما أرسل تلك الورقة لتُنشر. لذا ظهرت المعادلة أولًا، بصيغة مختلفة قليلًا، في ورقة بحثية أخرى نُشرت لاحقًا في العام نفسه، وهي بمثابة حاشية، أو خاتمة، للورقة الأولى. وقد وصف أينشتاين كيف خطرت الفكرة بباله في رسالة إلى صديقه كونراد هابيشت بتاريخ سبتمبر ١٩٠٥:

خطرت ببالي أيضًا نتيجة أخرى لورقة الديناميكا الكهربائية. وهي أن مبدأ النسبية، ومعادلات ماكسويل [المعنية بالظاهرة الكهرومغناطيسية]، يستلزمان أن تكون الكتلة مقياسًا مباشرًا للطاقة الكامنة في الجسم. فالضوء يحمل كتلة معه. وفي حالة الراديوم، يُفترض أن تشهد الكتلة انخفاضًا ملحوظًا. الفكرة مسلية ومغرية.

وعلى حد تعبيره في الورقة المنشورة، «كتلة الجسم مقياس للطاقة التي يحويها».

والعكس أيضًا صحيح. فالشمس تبقى ساخنة بتحويل الكتلة إلى أشكال أخرى من الطاقة، ولكن يُمكن تحويل أشكال أخرى من الطاقة إلى كتلة. فإذا ركلت كرة ما، فستجد أن معظم الطاقة الزائدة يُخصص لزيادة سرعة الكرة، ولكن ثمة قدرًا ضئيلًا يُخصص لزيادة كتلتها قليلًا. وفي حالة الأشياء التي تتحرك بوتيرة أبطأ بكثير من سرعة الضوء، تكون الزيادة في الكتلة أصغر بكثير من أن نلاحظها. ولكن إذا كان أينشتاين محقًّا، فسنجد أن ميزان توزيع الطاقة يتغير في حالة الأجسام التي تتحرك بسرعة مكافئة لجزء كبير من سرعة الضوء. ومن ثم، إذا ركلت جسمًا كهذا، فستجد أن كمية كبيرة من الطاقة الزائدة تُخصص لزيادة كتلته، بينما ستُخصص نسبةٌ أقل لزيادة سرعته؛ ولذا فلن يتسارع إلا بمقدار ضئيل. كل هذا نشأ من النظرية الخاصة.

ثم مرت ١٠ سنوات أخرى قبل أن يتوصل أينشتاين إلى نظرية أعم تتناول سلوك الأجسام المتسارعة، بما في ذلك التسارع الناشئ من الجاذبية١ الذي يُعد مهمًّا جدًّا للنظرية. ومن المنطقي جدًّا أن هذه صارت تُعرَف بالنظرية العامة للنسبية، وهي تشمل النظرية الخاصة بين طياتها؛ لذا فأي دليل على صحة النظرية العامة يُعَد كذلك دليلًا على صحة النظرية الخاصة. تجدر الإشارة إلى أن كلمة «الخاصة» أو «العامة» عائدة على النظرية نفسها، وليس النسبية؛ لذا لا يصح إطلاقًا أن نقول «نظرية النسبية الخاصة» أو «نظرية النسبية العامة».
قبل ظهور أينشتاين، كانت أفضل نظرية متاحة لدى الفيزيائيين عن الجاذبية هي تلك التي وضعها إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر. لكنهم كانوا يعرفون أن نظرية نيوتن ليست مثالية؛ لأنها كانت عاجزة عن تفسير تفصيلةٍ شاذة بخصوص مدار كوكب عطارد حول الشمس. فمدار المريخ مثلًا، كحال مدارات الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، يتخذ شكل قطعٍ ناقص توجد الشمس عند إحدى بؤرتيه. صحيح أنه يكاد يبدو دائريًّا تمامًا، ولكن إذا تخيلت أنك ضخَّمت شكله، فسيبدو كبتلة واحدة في رسمة مُبسطة لزهرة الأقحوان. ولكن كلما يدور عطارد حول الشمس، ينزاح مداره إلى الجانب قليلًا، كأنه ينزلق منتقلًا من إحدى بتلات زهرة أقحوان إلى البتلة المجاورة. يُسمَّى هذا الانزلاق بالانزياح في الحضيض الشمسي للمدار، ومع أنه ضئيل للغاية، لا يمكن تفسيره بنظرية نيوتن. وقد تكهَّن بعض علماء الفلك بأن هذا الانزياح قد يكون ناتجًا من وجود كوكب داخل مدار عطارد يؤثر فيه بقوى جذب، لكنهم لم يجدوا أي أثر لكوكب كهذا. غير أن النظرية التي وضعها أينشتاين في عام ١٩١٥ تنبأت بمقدار التأثير المَقيس بالضبط. قال في رسالة إلى أحد زملائه إنه شعَر «بحماسة مُبهجة بالغة» حين حسَب الحسبة، وقال لآخر إنَّ «نتائج حركة الحضيض الشمسي لعطارد تملؤني برضًا جامح».٢ لكن الإبهار الناتج من تفسير شيءٍ مُكتشف بالفعل لا يضاهي أبدًا الإبهار الناتج من التنبؤ بشيء لا يُكتشف إلَّا لاحقًا. وقد كان هذا هو الدليل التالي (والأشهر) على صحة النظرية العامة.
كان أينشتاين قد طَرَح تفسيره لانزياح الحضيض الشمسي لعطارد (علمًا بأنه كان مجرد تفسير وليس تنبؤًا حقيقيًّا) في محاضرة ألقاها في الأكاديمية البروسية للعلوم في نوفمبر عام ١٩١٥.٣ لكنه طرح تنبؤًا حقيقيًّا في المحاضرة نفسها(!). كانت نظرية نيوتن تتنبأ بأن الضوء الذي يمر قُرب الشمس سينحني بفعل جاذبية الشمس؛ وقد اتفقت معها معادلات أينشتاين في أن الضوء سينحني بالفعل، لكنه تنبأ بأن التأثير أكبر مرتين من ذلك الذي توقعَته نظرية نيوتن. وبذلك كانت هذه طريقة لإجراء مقارنة مباشرة بين تنبؤات النظريتَين، لو كان العلماء لديهم طريقة متاحة لقياس مقدار انحناء الضوء القادم من نجم بعيد عندما يمر بحافة الشمس. ومن حُسن الحظ، كانت لديهم طريقة كهذه بالفعل.

عادةً ما يستحيل رؤية الضوء القادم من نجم بعيد عند مروره قُرب حافة الشمس، أو تصويره، وذلك بسبب وهج الشمس نفسها. ولكن أثناء كسوف الشمس، أي عندما يحجب القمر ضوء الشمس، تصبح النجوم التي تبدو قريبةً من الشمس في السماء (لكنها بالطبع تكون بعيدة جدًّا عنها في الواقع) مرئيةً ويمكن تصويرها. ومن حسن الحظ الشديد، حدث كسوف شمسي في مايو ١٩١٩، ولم يَكُن لدى البريطانيين آنذاك بعد نهاية القتال أثناء الحرب العالمية الأولى سوى وقتٍ كافٍ بالكاد لينظموا بعثتَين لرصد الكسوف: إحداهما من البرازيل والأخرى من جزيرة برينسيبي، قبالة ساحل أفريقيا الغربي شمال خط الاستواء مباشرة. ثم أمكَن بعدئذٍ مقارنة الصور الفوتوغرافية لنمط النجوم حول موقع الشمس في السماء بصورٍ سابقة التُقطَت للنجوم في الرُّقعة نفسها من السماء في الموسم المعاكس (في شهر نوفمبر تقريبًا)، عندما كانت الشمس في الجانب المعاكس من الأرض؛ لذا كانت هذه النجوم في سماء الليل آنذاك. أظهرت المقارنة أن النجوم الأقرب إلى الشمس بدَت مُزاحةً قليلًا إلى الجانب وقت الكسوف؛ بسبب تأثير انحناء الضوء. وكان مقدار التأثير مشابهًا لِمَا توقعَته تنبؤات النظرية العامة، وليس تنبؤات نظرية نيوتن. أُعلنَت النتائج في اجتماع مشترك نُظِّم خصيصى بين الجمعية الملكية والجمعية الفلكية الملكية في لندن في نوفمبر ١٩١٩، وتصدرت العناوين الرئيسية في كل أنحاء العالم. ومن هنا بدأ أينشتاين يُعَد أشهر عالِم في العالَم.

ومنذ ذلك الحين، صارت ظاهرة انحناء الضوء أداة مهمة في علم الفلك لاستكشاف أبعد مدى للكون. وكلما كانت الكتلة أكبر، يمكن أن يشتد تأثير الانحناء؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض أكبر تركيزات الكتلة في الكون تكمن في عناقيد المجرات؛ فبجانب احتواء العنقود المجري على النجوم الساطعة التي نراها، يمتلئ ﺑ «المادة المظلمة» التي يتجلى وجودها في تأثيراتها القائمة على قُوى الجاذبية. تعملُ هذه العناقيد كأنها عدسات ضخمة تُكبِّر الضوء القادم من أجسام أبعد، كمجرات مفردة مثلًا، وتُغير شكله؛ ولولاها لما رأينا تلك الأجسام السحيقة لأنها أبعد وأشد خفوتًا من أن تُرى باستخدام التلسكوبات الأرضية. ومن الأمثلة اللافتة على ذلك أن جاذبية عنقود مجري يُسمى RCS2 032727-132623 (علمًا بأن هذه الأرقام هي إحداثيات موقعه في السماء) أدت إلى انحناء الضوء القادم من مجرة أبعد بكثير وتضخيمه. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، حلَّل فريق من جامعة شيكاغو الصور الناتجة من ذلك الحدث؛ وقد ذكرت العديد من التقارير الرائجة عن هذا الاكتشاف أن تلك المجرة البعيدة تبعد نحو ١٠ مليارات سنة ضوئية عن الأرض، لكنها تقصد أن الضوء الذي نرى المجرة به انطلق منها قبل ١٠ مليارات سنة. وكما أوضحتُ في الإجابة عن السؤال الثاني، فهذه المجرة الآن أبعد من ذلك بكثير. لكن ذلك ليس مهمًّا في هذه الحالة. المهم أننا، بفضل عدسة الجاذبية، نستطيع رؤية مجرةٍ بحالتها التي كانت عليها في بدايات عُمر الكون، بعد أقل من أربعة مليارات سنة من الانفجار العظيم. وقد دُرست المجرة باستخدام التلسكوب الكبير جدًّا (أجل، هذا هو اسمه بالفعل) في تشيلي، وصُوِّرت بتلسكوب هابل الفضائي.

أكد مايكل جلادرز، أحد أعضاء فريق شيكاغو، أن «ما يحدث هنا هو أحد تجليات النسبية العامة [قيلت هكذا]؛ فبدلًا من رؤية الصورة العادية الخافتة لهذا المصدر البعيد، ترى صورًا مشوهة جدًّا ومُكبرة جدًّا للمصدر، ومتعددة أحيانًا كما في هذه الحالة، بسبب الكتلة ذات الجاذبية المتداخلة بيننا وبينه».

figure
يُظهر هذا الرسم صورةً محاكية (في أسفل اليسار) تُعيد المجرة اللامعة إلى شكلها الأصلي بعدما تشوَّه بفعلِ جاذبية عنقود مجرِّي بعيد. ويُبين المستطيل الصغير الظاهر في الوسط موقعَ مجرة الخلفية في السماء لو لم يكن العنقود المجري المتداخل موجودًا. تُظهر الحدود المستديرة صورًا مشوهة ومميزة لمجرة الخلفية ناتجةً من تأثير العدسة الجاذبية بفعلِ الكتلة الموجودة في العنقود. وتُبين الصورة الظاهرة في أسفل اليسار الشكل الأصلي الذي كانت المجرة المشوهة ستظهر به لو لم يكن العنقود موجودًا، وذلك بناء على نموذجٍ لتوزيع كتلة العنقود مشتقٍّ من دراسة الصور المشوهة للمجرة. (وكالة ناسا، ووكالة الفضاء الأوروبية، وجيه ريجبي (من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا)، وكيه شارون (من معهد كافلي للفيزياء الكونية في جامعة شيكاغو) وإم جلادرز وإي فويتس (من جامعة شيكاغو).)

وباستخدام برنامج كمبيوتر «ألغى» التشوهات الناتجة من تأثير عدسة الجاذبية — ويقوم على فهم نظرية أينشتاين — أنشأ الفريق صورة للمجرة تُظهرها كيفما كانت ستبدو لو كان لدينا تلسكوب قوي بما يكفي لنراها مباشرة. وقد كشف ذلك عن مناطق تشهد (أو كانت تشهد) ولادة نجوم جديدة، إذ ظهرت في شكل نقاط ضوئية ساطعة. وتتجلى هذه المناطق بسطوعٍ أشد من أيٍّ من مناطق تكوُّن النجوم في مجرتنا درب التبانة، ما يُحسِّن فهم علماء الفيزياء الفلكية لكيفية تكوُّن النجوم والمجرات. غير أن عدسة الجاذبية لا تقدم دليلًا على صحة نظرية أينشتاين فقط؛ بل صارت أداة معتادة لدى علماء الفلك الموقنين تمامًا بصحة معادلات أينشتاين بقدر يقين المرء من أن الشمس ستشرق كل يوم.

لذا فإنَّ أينشتاين أو (نظرية أينشتاين) على صواب بلا ريب. ولكن يوجد دليل أخير جميل يؤكد صحة أشهر معادلة في العلوم تأكيدًا مباشرًا. فالفيزيائيون يستطيعون بالفعل قياس مقدار الكتلة المكافئ لكمية معينة من الطاقة.

وقد اكتسبوا هذه القدرة من آلات ابتُكرت في ثلاثينيات القرن العشرين لفحص بنية المادة؛ وهي «مُسرِّعات الجسيمات» النموذجية الأصلية. فالنظرية (الخاصة أو العامة) للنسبية تصف سلوك الأشياء التي يتحرك بعضها بالنسبة إلى بعض؛ ومن هنا جاءت تسميتها. وفي المثال الذي أريد استخدامه هنا، يعني هذا أننا يحق لنا أن نعتبر أنفسنا ثابتين (أي «في إطار مرجعي ثابت» أو «في حالة سكون»، بمصطلحات الفيزيائيين) ونستخدم معادلات أينشتاين لوصف سلوك جسيمات سريعة الحركة في المختبرات هنا على كوكب الأرض. ومن أمثلة هذه الجسيمات السريعة الحركة الإلكتروناتُ والبروتونات، التي تحمل شحنة كهربائية؛ لذا يُمكن التلاعب بها باستخدام مجالات كهربائية ومغناطيسية، ومن أمثلة هذه المختبرات مختبر فيرمي لاب في شيكاغو، والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) في جنيف.

كانت أولى مُسرعات الجسيمات عبارة عن أنابيب مستقيمة تحوي داخلها فراغًا، حيث كانت الجسيمات تُسرَّع بطولِ هذا الفراغ. وكانت الجسيمات السريعة الحركة توجَّه آنذاك نحو أهداف مصنوعة من مواد مختلفة، فتُطلِق تفاعلات تكشف عن تفاصيل بنية النوى الذرية. وكلما كان الجسم أسرع كان ذلك أفضل في هذه الحالة، لأن الجسيمات الأسرع تحمل طاقة أكبر وتُحدث تأثيرًا أكبر في الأهداف التي تصطدم بها. لكن هذه المسرعات الطولية كانت مشوبة بعيبٍ قاتل لأن سرعة الجسيمات كانت محدودة بطول الأنبوب الذي كانت تُدفَع بطوله بفعلِ مجالاتٍ كهرومغناطيسية. وللتغلب على هذه المشكلة، اخترع إرنست لورانس، الذي كان يعمل في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في بداية ثلاثينيات القرن الماضي نوعًا جديدًا من مسرعات الجسيمات صار يُعرف باسم السيكلوترون (أو المسرع الدوراني). وكما يوحي الاسم، يُسرع السيكلوترون الجسيمات المشحونة حول مسار منحنٍ؛ ليس دائريًّا بالضبط، لكنه خارجٌ من مركز غرفة فراغ أسطوانية مسطحة، فتتبع الجسيمات مسارًا حلزونيًّا إلى أن تخرج في شكل حزمةٍ قوية من نقطةٍ قُرب الحافة الخارجية للغرفة. تبقى الجسيمات في هذا المسار الحلزوني بفعل مجال مغناطيسي ثابت، وتُسرع بمجال كهربائي متغير يُضبَط ليمنحها دفعة واحدة كلما أكملت لفة. وهذا يُتيح تسريع الجسيمات إلى طاقات أعلى ممَّا يُحققها المسرع الطولي لأنها تلف عدة مرات.

يُعرَف المعدل الذي يلف به الجسيم (دائرًا في مجال مغناطيسي عمودي عليه)، ويتلقى به كل دَفعة، باسم تردُّد السيكلوترون؛ وهو يعتمد على شحنة الجسيم وكتلته وقوة المجال المغناطيسي. ومن المدهش نوعًا ما أن تردُّد دوران كتلةٍ معينة من الجسيمات يبقى ثابتًا أثناء دورانها في مدار حلزوني ممتد إلى الخارج، لأن الجسيمات تتحرك بسرعة أكبر لمسافة أطول حول دائرة أوسع. لذا فإن تردد الدَّفعة التي يمنحها المجال الكهربائي يبقى ثابتًا ويستمر الشعاع في التسارع. لكن هذا يحدُّ من السرعة التي يمكن أن تصل إليها الجسيمات. فحالما تتحرك بسرعة تكافئ جزءًا كبيرًا من سرعة الضوء، فإنَّ الطاقة الزائدة التي تتلقاها من كل دَفعة من المجال الكهربائي لا تُستهلك في زيادة سرعتها هكذا ببساطة، بل تُضخم كتلتها. لكن تردد السيكلوترون يعتمد على الكتلة؛ لذا تُصبح الجسيمات غير متماشية مع المجال الكهربائي المتغير. وهذا مؤسف لأن السرعة عندئذٍ تصير غيرَ قابلة للزيادة، لكن الكتلة الزائدة مقياس لمقدار الطاقة الإضافية التي تحملها الجسيمات؛ لذا فحتى لو لم تزدَد السرعة كثيرًا، تُحدث الجسيمات تأثيرًا أقوى عند اصطدامها بالهدف، وهذا هو ما يريده المُجرِّبون. أو بالأحرى ستُحدث تأثيرًا أقوى، بشرط أن توجد طريقة لمواصلة تسريعها مع ازدياد كتلتها. وقد كانت هذه هي الحيلة التالية التي توصل إليها المُجرِّبون.

فبحلول أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، كانت السيكلوترونات قد بدأت تصل إلى أقصى حدٍّ من الطاقة تستطيع أن تضيفه إلى حزم الجسيمات. فحين وصلت الجسيمات إلى سرعات نسبية مقاربة لسرعة الضوء وزادت كتلتها الفعلية، كان لا بد من تغيير تردد السيكلوترون ليواصل دَفع الجسيمات ما دام يستخدم المجال الكهربائي نفسه. كانت إحدى طرق حل هذه المشكلة تقليل التردد الذي يدفع به المجالُ الجسيماتِ حول الحلقة تزامنًا مع تحرُّكها في المسار الحلزوني نحو الخارج وازدياد كتلتها، وذلك لإبقائه متزامنًا مع التردد المداري المتغير للجسيمات في الحلقة. قامت على هذا المبدأ آلاتٌ جديدة كان أولها السنكروسيكلروترون (أو المُسرع الدوراني التزامني) الذي ابتكره فريق لورانس في عام ١٩٤٦. وكانت هذه أقوى مُسرعات إبان خمسينيات القرن العشرين. صحيح أن تصميمات أخرى حلت محلها منذ ذلك الحين، لكن المهم هنا أن التعديلات اللازم إجراؤها على تردُّد المجال الكهربائي ليبقى متزامنًا مع الجسيمات مع ازدياد كتلتها تتماشى تمامًا مع ازدياد الكتلة الذي تنبأت به معادلات أينشتاين. لذا فلا شك إطلاقًا في أن أينشتاين كان محقًّا، وأن E تساوي mc2 بالفعل؛ وهذا عامل رئيسي في الإجابة عن السؤال التالي.
١  يمكن أن يعني التسارع تغييرًا في السرعة أو تغييرًا في الاتجاه أو كليهما. لذا فالقمر الصناعي الموجود في مدار حول الأرض مثلًا يتسارع بفعل الجاذبية لأنه يغير اتجاهه باستمرار، حتى وإن لم تتغير سرعته.
٢  نقلًا عن كتاب «أينشتاين: حياته وكونه»، تأليف والتر إيزاكسون، عن دار نشر سايمون وشوستر، في عام ٢٠٠٧. كان هذا دليلًا باهرًا على صحة كلام أينشتاين (أو بالأحرى صحة نظرية أينشتاين العامة.
٣  التفاصيل واردة في كتابي المعنوَن باسم «رائعة أينشتاين: ١٩١٥ والنظرية العامة للنسبية»، والصادر عن دار نشر آيكون في عام ٢٠١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤