السؤال الخامس

ممَّ نشأ كل شيء؟

يجب أن أوضح المقصد المحدد من هذا السؤال. فمن السياق العام، كانت سائلته تقصد: «ممَّ نشأ كوكب الأرض وكل شيء فيه؟» لذا هذا هو السؤال الذي سأحاول إجابته من أجلها. وللإجابة، سأبدأ من الدليل الكوني الراسخ على أن الانفجار العظيم أنتج خليطًا مكونًا من الهيدروجين بنسبة ٧٥٪ والهيليوم بنسبة ٢٥٪ نشأت منه النجوم الأولى.١ لذا فالجزء الأول من الإجابة يتعلق بأصل كل العناصر الكيميائية الأخرى التي تتكون منها أشياء كالكواكب مثلًا.

كما أوضحت في الإجابة عن السؤال الثالث، فإن نجمًا كالشمس يبقى ساخنًا بتحويل الهيدروجين إلى هيليوم في لُبه. صحيح أن هذه عملية متعددة المراحل، لكنها في كل مرة تُسفر عن تحول أربعة بروتونات (أنوية هيدروجينية) إلى نواة هيليوم واحدة تتكون من بروتونَين ونيوترونَين. ولأسباب واضحة، تُسمى هذه النواة «الهيليوم-٤». تتشابه النيوترونات مع البروتونات في الكتلة، لكنها لا تحمل شحنة كهربائية. أمَّا البروتونات، فهي موجبة الشحنة؛ وفي عملية تكوين الهيليوم، يُتخلص من الشحنة الزائدة في شكل بوزيترونات، التي تُعَد إلكترونات موجبة الشحنة. وإجمالًا، عندما تتحد أربع أنوية هيدروجينية لتكوين نواة هيليوم واحدة، يخرج ما يزيد قليلًا على ٠٫٧٪ من كتلة البروتونات الأربعة الأصلية في شكل طاقة.

تتسم نواة الهيليوم تحديدًا باستقرار شديد وتُعرَف أيضًا باسم جُسيم ألفا. وبذلك فإن هذا يُمثِّل نهاية الشمس والنجوم الأخرى التي تكاد تضاهي كتلة الشمس. فعند تحويل كل الهيدروجين المتاح إلى هيليوم، يبرُد النجم إلى جمرة نجمية مطفأة تُعرف باسم القزم الأبيض. ولكن في النجوم التي تزيد كتلتها على الشمس بضع مرات، يتقلص النجم قليلًا عند استهلاك الهيدروجين، ويزداد سخونة بفضل تأثير كلفن-هيلمهولتز، وعندئذٍ يُسفر الضغط الداخلي عن تفاعلات أخرى قائمة على تكوُّن مزيد من العناصر باندماج جُسيمات ألفا بعضها مع بعض ومع أنوية تتزايد تعقيدًا. وكل خطوة من هذه العملية تُطلق طاقة وتحافظ على سخونة النجم؛ إلى حد ما.

يُفترَض أن النواة الأولى التي يُمكن أن تتكون من اندماج جسيمين من جُسيمات ألفا معًا هي البريليوم-٨، لكن هذه النواة غير مستقرة ولا تتراكم فترة طويلة داخل النجوم. ولكن من حُسن حظنا أن نواة البريليوم-٨ تستطيع خلال عمرها القصير أن تندمج مع جُسيم ألفا ثالث لتكوِّن نواة الكربون-١٢ المستقرة؛ لذا تُنتج النجوم كمية وفيرة من الكربون. ومن تلك اللحظة فصاعدًا، تُنتج عملية إضافة جُسيمات ألفا أنوية الأكسجين-١٦ والنيون-٢٠ والماغنسيوم-٢٤ والسيليكون-٢٨، إلى آخره. تجدر الإشارة هنا إلى أن أثقل العناصر التي يمكن إنتاجها بهذه الطريقة هي الحديد والنيكل، وإجبار الأنوية على الاندماج لتكوين عناصر أثقل من ذلك يستلزم كمية مُدخلة من الطاقة، كما سأوضح. وتُنتَج عناصر متوسطة الوزن بكمياتٍ أقل عندما تمتص هذه الأنوية الرئيسية جسيمات مفردة، كالبروتونات أو الإلكترونات، أو تُطلقها. لكن أحد هذه العناصر المتوسطة يُنتَج بوفرة نسبية. إذ تؤدي سلسلةٌ من تفاعلات الجسيمات تبدأ بالكربون إلى تحويل بعض أنوية الكربون إلى النيتروجين-١٥ المستقر.

ونتيجة لكل ذلك، وبغض النظر عن الهيليوم الذي لا يدخل في التفاعلات الكيميائية (على عكس التفاعلات النووية) فإن العناصر الأربعة الأكثر شيوعًا في المواد النجمية هي الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأكسجين. وهذه أيضًا هي العناصر الأربعة الأكثر شيوعًا في الكائنات الحية؛ وهي مهمة جدًّا لعلم الأحياء لدرجة أنها يُشار إليها إجمالًا بالاختصار CHON (الأحرف الأولى من العناصر الأربعة المذكورة).٢ وهكذا فمن الواضح أن الحياة تقوم على العناصر التي تتكون داخل النجوم؛ أي إننا غبار نجمي، على حد تعبير الأغنية. ولكن كيف تخرج هذه المواد النجمية من النجوم لتكوِّن الكواكب والناس؟

رغم وجود مراحل سابقة في دورات حياة النجوم تتضمن تلميحات إلى ما سيحدث لاحقًا، فإنَّ القصة في الحقيقة تبدأ عند اللحظة التي يتوقف فيها إطلاق الطاقة من الاندماج النووي. غير أن المراحل المتقدمة في سلسلة الاندماج الذي يتضمن جسيمات ألفا لا تحدث إلا داخل النجوم التي تُعَد كتلتها أكبر من كتلة الشمس نحو ثماني مرات؛ ولذا توجد كميات هائلة من الكربون والأكسجين والنيتروجين في غبار النجوم. تمر النجوم التي تحمل كتلةً أكبر بضع مرات من كتلة الشمس بطورٍ يشهد تضخمًا هائلًا في سطحها الخارجي بفعلِ الحرارة المنبعثة من باطنها، وبذلك تتحول إلى ما يُعرَف باسم النجوم العملاقة الحمراء. وفي هذه المرحلة من حياة العملاق الأحمر، تُجرَف المادة من أعماقه الداخلية إلى سطحه. وعادة ما يُصبح قطره أكبر من قطر الشمس مئات المرات، وعند سطح نجمٍ كهذا، تصير قوى شد الجاذبية ضعيفة للغاية؛ لذا تهرب كمية كبيرة من مادته في شكل «رياح نجمية»، علمًا بأن هذه الرياح لا تحمل ذرات مفردة فقط، لكنها أيضًا تحمل جزيئات كأول أكسيد الكربون ومركبات أكثر تعقيدًا يتعرَّفها علماء الفلك باستخدام التحليل الطيفي. وبهذه الطريقة يمكن أن يفقد النجمُ من مادته كميةً تكافئ عُشر كتلته الشمسية كل ١٠٠٠ سنة؛ أي ما يعادل كتلة كوكب الأرض ٣٣ ألف مرة. لكن هذا مقدار ضئيل جدًّا بالنسبة إلى ما تنثره النجوم التي تبدأ حياتها بكتلة أكبر من كتلة الشمس بنحو ثماني مرات.

أمَّا ما يحدث بعدئذٍ، فيعتمد على مقدار الكتلة التي تتبقى عند استنفاد كل «الوقود» النووي. فالأقزام البيضاء المستقرة يجب أن تكون كتلتها أقل من كتلة الشمس بنحو ١٫٤ مرة لتحظى بشيخوخة مستقرة؛ وإذا كانت كتلتها أكبر من ذلك، فستنهار تحت ثقل وزنها، مُطلقةً كمية هائلة من طاقة الجاذبية. أمَّا إذا بدأ الجسم الأبيض بكتلة أقل قليلًا من هذا الحد الحرج، فإنه يمتص مزيدًا من المادة بقوة الشد القائمة على جاذبيته، خصوصًا إذا كان معه نجم مصاحب في مرحلة العملاق الأحمر، وعندئذٍ تزداد كتلته. وحالما تصل الكتلة إلى هذا الحد، ينهار النجم، وتُرسل الطاقة المنبعثة موجة اندماج تجتاح النجم أثناء انفجاره، فتُنتج كل العناصر وصولًا إلى الحديد (أو بالأحرى نظير الحديد-٥٦) وتنشرها في الفضاء الكامن بين النجوم. لا يتخلَّف شيء عن تلك العملية. ويُعرَف هذا الحَدَث باسم مستعر أعظم من النوع الأول. لكن حتى هذا يُعد متواضعًا بالنسبة إلى مصير نجمٍ ذي كتلة أكبر من كتلة الشمس نحو ١٥ مرة.

فهذه النجوم تمر بمراحل متتالية من الاحتراق النووي إلى أن تنتهيَ حياتها بلُبٍّ من الحديد (ذي حجم مكافئ لحجم الأرض ولكن بكتلة ككتلة الشمس) محاط بأغلفة كقشور البصل، ومحتوٍ على عناصر كالسيليكون والكربون والأكسجين والهيليوم، وسط غِلاف جوي من الهيدروجين. وعند نفاد وقودها، ينهار اللب انهيارًا أقوى من انهيار القزم الأبيض، مكوِّنًا إما نجمًا نيوترونيًّا (ذا كتلة مكافئة لكتلة الشمس وحجمِ كرة قطرها نحو ١٠ كيلومترات) أو ثقبًا أسود. ومن ثم، يُرسل هذا دفقة من الطاقة نحو الخارج عبر الطبقات الخارجية. وتلك الطاقة تُكوِّن كل العناصر الأثقل من الحديد وتنشر مزيج العناصر خارجًا في الفضاء.٣ وهذا الحدث يُعرَف بمستعر أعظم من النوع الثاني.

كل هذه العمليات تنشر عناصر أثقل من الهيليوم في الفضاء، فتنثر بذلك سُحُب الغاز (التي يبقى معظمها مكونًا من الهيدروجين والهيليوم) بين النجوم، وتتيح المادة الخام التي تتكون منها نجوم جديدة. لكن هذه عملية بطيئة جدًّا، بمعايير البشر. إذ يُقدر بعض علماء الفلك، بناءً على مجموعة متنوعة من الأدلة، أن مجرتنا درب التبانة تشهدُ تكثُّفَ مواد بكميةٍ تكافئ نحو عشر كتل شمسية لتكوِّن نجومًا جديدة في كل عام، وتحل محلها مواد مُعاد تدويرها من أجيال سابقة من النجوم. ولأن معظم النجوم أصغر حجمًا من الشمس بقليل، فهذا يعني أن من بين مئات مليارات النجوم في درب التبانة، يَبزُغ ما يتراوح بين ١٠ و٢٠ نجمًا جديدًا بالفعل في كل عام. لكن المجرة موجودة منذ ما لا يقل عن ١٠ مليارات سنة، وعلى مر تلك الفترة، تكوَّن أكثر من مائة مليار نجم بهذه الطريقة؛ أي حوالي ثُلث عدد النجوم الإجمالي في مجرتنا حاليًّا. أمَّا البقية، فتكونت فيما يُعرَف باسم نشاط «الانفجار النجمي» حين كانت المجرة صغيرة العمر؛ وقد تعرَّف بعض علماء الفلك مجراتٍ ذات انفجارات نجمية كهذه، كانت نشطة منذ فترة طويلة، عند مستويات عالية من الانزياح نحو الأحمر، وذلك برصدِ الضوء الذي انطلق منها بعد الانفجار العظيم ببضعة مليارات من السنين، كما ذكرتُ في الفصل السابق.

كل هذا يفسر المكان الذي نشأت فيه العناصر الكيميائية التي تتكون منها الأرض ونحن أنفسنا، وكيف انتشرت بين النجوم. ولكن كيف تلاقت بعض هذه المواد معًا لتُكوِّن مجموعتنا الشمسية؟

تُخبرنا الأدلة المستمدة من النشاط الإشعاعي بأن المجموعة الشمسية تكونت منذ أكثر بقليل من ٤٫٥ مليار سنة، عندما كان عمر مجرة درب التبانة لا يقل عن خمسة مليارات سنة، بناء على أدلة فلكية أخرى. لذا فبحلول ذلك الوقت، كانت توجد كمية وفيرة من «الغبار النجمي»، انتشرت بفعل الأجيال السابقة من النجوم العملاقة الحمراء والمستعرات العظمى، في سُحُب الغاز بين النجوم التي تكونت منها أنظمة جديدة. ولا تزال مثل هذه السُّحُب موجودة، ولا تزال تُكون نجومًا في الوقت الحاضر؛ لذا استطاع علماء الفلك دراسة تلك العملية بشيء من التفصيل، وذلك بالجمع بين عمليات الرصد التي رصدوا فيها أجسامًا مثل سديم الجبار، الذي يمثل إحدى مناطق تكوُّن النجوم في كوكبة الجبار، وفهمهم لقوانين الفيزياء. تبدأ العملية عندما تنضغط سحابة عرضها نحو ٢٠ فرسخًا فلكيًّا (أي ٦٥ سنة ضوئية تقريبًا) وتحوي مادة ذات كتلة تكافئ ثلث مليون كتلة شمسية، بفعلِ التفاعلات مع الأجسام المجاورة لها، التي ربما تتضمن انفجار مستعر أعظم قريبًا منها، فتبدأ الانهيار.

figure
منطقة تكوُّن النجوم في كوكبة الجبار. (المرصد الأوروبي الجنوبي، مارك جيه ماكوركرن.)
وبحلول الوقت الذي انهارت فيه السحابة التي تكوَّنت فيها مجموعتنا الشمسية، كان معظمها لا يزال مكونًا من هيدروجين (بنسبة ٧٠٪) وهيليوم (بنسبة ٢٧٪)، مع أكسجين بنسبة ٠٫١٪ وكربون بنسبة ٠٫٣٪ ونيتروجين بنسبة ٠٫١٪ ومجرد نسبة ضئيلة جدًّا من عناصر أخرى. لكن كميةً كبيرة من المواد الأهم لم تكن موجودة في صورة غازية، بل كانت محبوسة في حُبيبات من الغبار والجليد، حاويةً داخلها جزيئات معقدة جدًّا.٤ وأثناء انهيار السحابة العملاقة من الجزيئات، تفتَّتت وانقسمت إلى بقع تكونت داخلها نجوم مفردة، تمامًا كما نرى في كوكبة الجبار حاليًّا. ومن المرجَّح أن البقعة التي تكونت منها مجموعتنا الشمسية بدأت بكتلةٍ من المواد تضاهي كتلة الشمس مرتين تقريبًا. ومن المؤكد حتمًا أن بقعًا مفردة كهذه تدور، ومع انكماش بقعتنا، تسارعت وتيرة دورانها، كمتزلج على الجليد يدور ضامًّا ذراعيه إلى جسده. ثم بحلول الوقت الذي أصبح فيه مركز البقعة الذي تتزايد كتلته صغيرًا وساخنًا بما يكفي ليلمع بفعلِ تأثير كلفن-هيلمهولتز، كان محاطًا بقرص دوار من الغبار والغاز (ككعكة دونات)، بينما ظل النجم الأولي الواقع عند المركز يتنامى مع جذبه لمزيدٍ من المادة؛ وفي الوقت نفسه، كان الغاز البعيد عن النجم الوليد يُقذف إلى الفضاء بفعل سخونته المتزايدة. رُصدت أقراص كهذه حول العديد من النجوم الوليدة. ولكن بحلول الوقت الذي نما فيه النجم المركزي حتى وصل إلى حجم الشمس الحالي، كان كل الغاز الزائد قد تطاير بعيدًا، وكانت تفاعلات الاندماج النووي قد بدأت في باطنه، وكانت النسبة الضئيلة من المادة الغبارية المتبقية بعد زوال الغاز قد استقرت في شكل قرصٍ أقل سُمكًا، كحلقات زحل. وقد اعتمد مصير الأشياء الموجودة في ذلك القرص على المسافة التي كانت المادة تبعدها عن الشمس.
بالابتعاد تدريجيًّا عن الشمس، نجد أن لدينا أربعة كواكب صخرية صغيرة (عطارد والزهرة والأرض والمريخ)، ثم حزامًا من الحطام الصخري، وبعده أربعة كواكب غازية عملاقة (المشتري وزحل وأورانوس ونبتون)، ثم حزام من الحطام الجليدي، يضم داخله بلوتو، الذي كان يُصنَّف سابقًا على أنه كوكب، لكنه حتى ليس أضخم هذه الكتل الجليدية. ومن السهل شرح هذا الانفصال بين المادة الصخرية في الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية والمادة الجليدية في الجزء الخارجي منها. فلو افتُرض وجود مادة جليدية بالقرب من الشمس حين كانت وليدة ساخنة، فمن المفترض أن تكون تلك المادة (التي لم تكن مقتصرة على جليد الماء، بل تضمنت مواد أخرى كالأمونيا المجمدة) قد تبخرت وأن الجزيئات قد قُذفت إلى مسافة أبعد عن النجم المركزي. ولكن بعد نقطة معينة، يُفترض أن درجة الحرارة صارت منخفضة بما يكفي لتظل كتل الجليد كما هي وتتراكم مكوِّنةً كواكب عملاقة. وهذه المنطقة الحرجة، التي يبدأ فيها انخفاض الحرارة بما يكفي ليبقى الجليد مستقرًّا، تقع بين مدارَي المريخ والمشتري ويسميها علماء الفلك خط الثلج. صحيح أن ما يحدث بعد خط الثلج باهرٌ بحد ذاته،٥ لكنه ليس مهمًّا في سياق الحديث عن منشأ الأرض، باستثناء شيء واحد ربما كان يشغل بالك. إذا كان كل الجليد الموجود داخل خط الثلج قد تبخر وقُذف بعيدًا، فكيف تغطي المياه سطح الأرض في الوقت الحاضر؟ هذا لأن المذنبات، أي الأجسام الجليدية التي تزورنا من المناطق الخارجية في المجموعة الشمسية، حملت معها مياهًا ومواد متطايرة أخرى إلى الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية بعد تكوُّن الكواكب، وقد ضربت بعض هذه المذنبات كوكب الأرض في بدايات عمره، فرسَّبت، ليس ماء فقط، بل مواد متطايرة أخرى وبعض الجزيئات المعقدة التي تعرَّف الباحثون وجودها في سُحُب الجزيئات على الكوكب الوليد (بما فيها سلائف الحياة).

أمَّا داخل خط الثلج، فتصادمت حبيبات الغبار في القرص وتلاصقت معًا، وأسفرت بذلك تدريجيًّا عن تكوين كتل كبيرة بما يكفي لتجذب كتلًا أخرى بفعل الجاذبية. وربما كانت تلك الحبيبيات بالأخص لزجة جدًّا لأن الحرارة الناتجة من النشاط الإشعاعي قد أذابت بعضها. وقد تبين أن بعض العينات المأخوذة من النيازك، وهي صخور متبقية من عملية بناء الكواكب، تحوي عناصر متولدة من عناصر شديدة النشاط الإشعاعي كانت هي نفسها قصيرة العمر، ولا بد أنها نتجت في انفجار مستعر أعظم قريب قبل تكوُّن الكواكب مباشرة. وبغض النظر عن تفاصيل الآلية، فإن سلائف الكواكب نَمَت بسرعة. وباستخدام محاكاة حاسوبية لهذه العملية، يقدر علماء الفلك أنه في غضون مليون سنة من وقت بزوغ ضوء الشمس، ربما كان يوجد ما يصل إلى ٣٠ كتلة صخرية كبيرة تدور حول الشمس في المنطقة الممتدة إلى مدار المريخ الحالي. وقد كان بعضها صغيرًا بحجم القمر (الذي يبلغ قطره ٢٧ في المائة من قطر الأرض) والبعض الآخر كبيرًا بحجم المريخ (الذي يبلغ قطره ٥٣ في المائة من قطر الأرض). كانت هذه الأجسام الكبيرة محاطة بسرب من الأجسام الصغيرة لكنها جرفتها في سلسلة من التصادمات وتصادمت معًا، فاندمجت حتى بقيت خمسة أجسام كوكبية كبيرة فقط.

خمسة؟ ربما تظن أنني أخطأت، لكنني لم أخطئ. فإلى جانب كوكب عطارد الأولي وكوكب الزهرة الأولي والأرض الأولي والمريخ الأولي، لا بد أن المجموعة كانت تضم جسمًا آخر بحجم كوكب المريخ تقريبًا. وبفضل هذا الجسم الآخر أصبحنا موجودين الآن لنطرح أسئلة مثل «من أين أتينا؟»

إذا كنتَ قرأت كتابي «ثمانية احتمالات مستبعدة»، فستعرف إلامَ سيُفضي هذا الكلام. ولكن لِمَن لم يقرأه، فهاك ملخص موجز: كوكبنا مُتفرِّد في المجموعة الشمسية بأن لديه قمرًا ذا حجم يساوي ربع حجم الكوكب تقريبًا (من حيث القطر). لذا فلو نظر راصد غير متحيز من كوكب آخر إلى النظام الجامع بين الأرض والقمر، فسيبدو له نظامًا ثنائيًّا من كوكبَين وليس كوكبًا مُضافًا إليه قمر. لكن ذلك القمر الفائق الضخامة لم يصل إلى هناك لمجرد أن الأرض جذبته إليه في بدايات عمرها. تُقدِّم دراسات تركيب المادة القمرية، وبعض عمليات محاكاة ديناميكيات المجموعة الشمسية حين كانت في بدايات عمرها، صورةً مُقنِعة للكيفية التي تكوَّن بها القمر.

عندما تكوَّن كوكب الأرض نفسه، كان سينصهر، ولكن سرعان ما برد السطح ليكوِّن قشرةً صخرية سميكة، فيما استقرت حصته من المعادن الثقيلة، كالحديد، في مركزه. ولو كان كوكب الأرض قد بقي على حاله آنذاك دون أن يحدث له أي شيء آخر، لبدا أشبه بكوكب الزهرة حاليًّا. ولكن في غضون بضعة ملايين من السنين (لا تزيد على ١٠) من تكوُّن الأرض نفسها، تلقت صدمة جانبية طفيفة من الكوكب الأولي المارق الذي كان بحجم المريخ؛ وعلماء الفلك متيقنون جدًّا من وجود هذا الكوكب لدرجة أنهم أطلقوا عليه اسم ثيا، تيمنًا باسم والدة إلهة القمر، سيلين. ومن المفترض أن هذا الاصطدام أعاد صهر كلٍّ من الأرض وثيا، فيما تناثرت المواد الخفيفة الكامنة في قشرة كلتيهما في الفضاء، بينما اندمج لُبَّاهما الغنيان بالحديد واستقرا في مركز الأرض. ثم شكلت المادة القشرية الزائدة حلقةً حول الأرض تكوَّن منها القمر بالطريقة نفسها التي تكونت بها الكواكب حول الشمس. وعندما بردت الأرض، انهال عليها الماء ومواد متطايرة أخرى بفعل المذنبات فتكوَّن المحيط والغِلاف الجوي، مع الجزيئات المعقدة التي ربما تكون قد بدأت الحياة. ومن ثم فإن هذا هو منشأ كل شيء، لكن هذه ليست نهاية قصة الأرض.

فأسفل ذلك الغلاف الجوي والمحيط، تُرك الكوكب بُلبٍّ كبير من الحديد المنصهر (مسئولٍ، من بين عوامل أخرى، عن المجال المغناطيسي للكوكب) وقشرة صلبة رفيعة جدًّا انقسمت إلى قطع تسمى الصفائح، علمًا بأن هذه الصفائح دُفعت في مختلف أنحاء السطح بفعل تحرك الموائع تحت تأثير الحمل الحراري أسفل السطح. وهو ما يقودني إلى سؤالنا التالي.

١  طالِع كتاب إيان موريسون «مقدمة في علم الفلك وعلم الكونيات» لمعرفة التفاصيل الأساسية.
٢  ينبغي ألا تفترض وجود أي دلالة باطنية خفية في ذلك. كل ما هنالك أن الحياة استخدمت أكثر المواد المتاحة شيوعًا، ليس أكثر.
٣  تجدر الإشارة إلى أن بعض العناصر الثقيلة جدًّا تنبثق من أحداث أشد غرابة تتضمن تصادم ثقوب سوداء، ولكن لا داعي هنا إلى الاهتمام بالتفاصيل.
٤  أوضحتُ هذه السمات الكيميائية للفضاء الواقع بين النجوم في كتاب «سبعة أعمدة للعلم».
٥  كما أوضحت في كتاب «السبب: معجزة الحياة على الأرض».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤