السؤال السابع

ماذا في باطن الأرض؟١

يرتبط سؤال «ماذا يوجد تحت أقدامنا؟» بسؤال آخر؛ وهو «كيف نعرف ما يوجد تحت أقدامنا؟» حاليًّا تبدو إجابة السؤال الثاني واضحة: بدراسة الزلازل. لكن استخدام الزلازل لنعرف ما الذي يوجد بباطن الأرض ليس بسيطًا إطلاقًا. فقد أخبرني إدوارد بولارد، وهو جيوفيزيائي بارز في جامعة كامبريدج وصاحب أول مُطابَقةٍ حاسوبية بين القارات الواقعة على جانبَي المحيط الأطلسي، ذات مرة أن محاولة التوصل إلى البنية الداخلية للأرض عن طريق دراسة الاهتزازات الناتجة عن الزلازل (أو الموجات الزلزالية) أشبه بمحاولة التوصل إلى البنية الداخلية لبيانو كبير بالاستماع إلى الضوضاء التي يُحدثها عند دَفعه إلى أسفل دَرَج. لكن تلك العملية صارت أسهل قليلًا بفضل وجود أدلة إرشادية أخرى.

فالفيزيائيون يستطيعون حساب كتلة الأرض بقياس قوة مجال جاذبيتها، ويعرفون حجمها أيضًا؛ لذا يعرفون كثافتها الإجمالية. وهذه الكثافة أكبر من كثافة الصخور الموجودة على سطح كوكبنا؛ لذا فلا بد أن الأرض تحوي داخلها لُبًّا مكونًا من مواد أكبر كثافة لكي يكون المجموع مساويًا للكثافة الإجمالية. كان إميل فايخرت أول مَن أجرى هذه الحِسبة، وهو عالم جيوفيزيائي ألماني كان يُجري أبحاثه في تسعينيات القرن التاسع عشر. واستنتج أن الأرض لها لب حديدي ذو قطرٍ يساوي ٠٫٧٧٩ من قطر الكوكب الإجمالي وكثافة مقدارها ٨٫٢١ جرام لكل سنتيمتر مكعب، في حين أن كثافة الطبقة الخارجية للأرض، المعروفة بالوشاح، تبلغ ٣٫٢ جرامات فقط لكل سنتيمتر مكعب. وهذه الأرقام قريبة جدًّا من بعض التقديرات الحديثة.

واقترح فايخرت أيضًا أن صحة هذا التنبؤ يمكن اختبارها بدراسة كيفية انتقال الموجات الزلزالية عبر الأرض من موقع الزلزال إلى المواقع البعيدة التي تُكتشف عندها.٢ وفي العام نفسه الذي اقترح فيه ذلك، أي ١٨٩٧، شهدت الهند زلزالًا جعل الجيولوجي البريطاني ريتشارد أولدهام يفكر تفكيرًا مشابهًا لهذا.
كان أولدهام يعمل لدى هيئة المسح الجيولوجي في الهند، التي كانت تحت الحكم البريطاني آنذاك. وقع زلزال قوي في ولاية آسام وشعَر به الناس على نطاق يبلغ ربع مليون ميل مربع، فقارن أولدهام بين التوقيتات التي شُعر فيها بالزلزال في أماكن متباعدة منفصلة بمسافات طويلة بينها، وتوصَّل إلى حتمية وجود ثلاثة أنواع من الموجات الزلزالية تنتقل خلال الأرض بسرعات مختلفة. يُسمى أحدها موجات الضغط (أو موجات P)، ويُشبه الموجات الصوتية ويتحرك بحركةٍ دافعة ساحبة. وهذه الموجات تُشبه الموجات الدافعة الساحبة التي يمكنك إنشاؤها باستخدام لعبة «سلينكي» التي تشبه زنبركًا طويلًا. أمَّا نوع الموجات الآخر المهم لدراسة باطن الأرض، فيُسمى موجات القص (أو موجات S)، لأنها تتحرك يمينًا ويسارًا، كالثعبان، أو كالموجات التي يمكنك إنشاؤها بإرسال تموجات تسري بطول حبلٍ ما. ونظرًا إلى أن الموجات P تنتقل أسرع من الموجات S، فإنها تصل أولًا إلى أجهزة الكشف، التي تسمى أجهزة قياس الزلازل، أو مقاييس الزلازل، ولذا يُشار أحيانًا إلى الموجات P بمصطلح الموجات «الأولية». أمَّا موجات القص، فتصل ثانيًا؛ لذا يمكن وصفها بمصطلح الموجات «الثانوية» أيضًا.
figure
موجات ثانوية. (هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.)

تنتقل الموجات الأولية في جسم الأرض بسرعات تتراوح بين نحو سبعة كيلومترات وأربعة عشر كيلومترًا في الثانية (أي أربعة أميال وثمانية أميال في الثانية)، بينما تنتقل الموجات الثانوية بسرعات تتراوح بين حوالَي أربعة كيلومترات وثمانية كيلومترات في الثانية (أي ٢٫٥ ميل في الثانية و٥ أميال في الثانية.) وبوجهٍ عام، فإن سرعة الموجات الثانوية في نوع معين من الصخور تساوي ٦٠ في المائة من سرعة الموجات الأولية فيه. هذا وتنتقل الموجات الأولية خلال كل من المواد السائلة والصلبة، لكن الموجات الثانوية لا تنتقل إلا خلال المواد السائلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اكتشاف إمكانية انتقال الموجات الأولية عبر مناطق معينة في باطن كوكبنا لا تستطيع الموجات الثانوية الانتقال خلالها هو الذي كشف عن اللب الخارجي المنصهر لكوكب الأرض.

figure
موجات أولية. (هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.)

وتوجد كذلك موجات سطحية، وكما يوحي اسمها، فهي تنتقل عبر سطح الأرض. صحيح أن هذه الموجات يمكن أن تكون قوية جدًّا وتُحدث ضررًا جسيمًا، لكنها لا تخبرنا بمعلومات كثيرة عن عمق باطن الأرض. بل تأتي هذه المعلومات من الموجات الأولية والثانوية، التي تُعرف معًا باسم الموجات الجسمية. استقر أولدهام في بريطانيا عام ١٩٠٣ ودرس بياناتٍ مستمدة من آلاف الزلازل في مختلف أنحاء العالم، فكشفت له مباشرة عن وجود اللب بالإضافة إلى معلومات أخرى.

وقد تمكَّن من ذلك لأن الموجات الزلزالية تنتقل عبر باطن الأرض بسرعات مختلفة اعتمادًا على نوع الصخور التي تنتقل خلالها. فالسرعة التي تتحرك بها الموجات تعتمد على عدة عوامل، من بينها درجة حرارة الصخور، وما إذا كانت تلك الصخور لينة أم صُلبة. وعندما تنتقل الموجات خلال أنواع مختلفة من الصخور، أو خلال نفس النوع من الصخور عند درجات حرارة مختلفة، يمكن أن يتغير الاتجاه الذي تتحرك فيه، مثلما يمكن أن يتغير اتجاه شعاع من الضوء عندما ينتقل من نوعٍ معين من المواد (كالهواء مثلًا) إلى نوع آخر من المواد (كالزجاج أو الماء). وهذا ما يُسمى الانكسار. وكذلك عندما تصل موجة زلزالية مُتحركة خلال نوع معين من الصخور إلى حدود صخرة من نوعٍ مختلف، يمكن أن تنعكس، كانعكاس الضوء من المرآة.

أشارت دراسة أولدهام ضمنيًّا إلى أن اللب سائلٌ حتمًا، ولكن في عام ١٩٣٦، اكتشفت الجيوفيزيائية الدنماركية إنجي ليمان أن الأرض لها لُب داخلي صلب، وهو ما يعكس الموجات الزلزالية. ولكن على غرار ما حدث في دراسة الانجراف القاري، لم نتوصل إلى تفاصيل بنية كوكبنا الداخلية إلا نتاجًا لسياسات الحرب الباردة.

فلو كان لديك مقياسُ زلازل واحد فقط لتدرس به الاهتزازات الزلزالية، فلن تستطيع في الحقيقة أن تفهم شيئًا من تلك الاهتزازات أكثر ممَّا سيفهمه أي شخص من الضوضاء التي تصدر من بيانو يُدفع نحو أسفل دَرَجٍ ما. ولكن بعد حظر تجارب القنابل النووية في الغلاف الجوي في أوائل ستينيات القرن العشرين، أرادت المؤسسة العسكرية وحكومات القوى العظمى مراقبة الموجات الزلزالية الناتجة من التجارب التي يجريها خصومها تحت الأرض. وقد دفع هذا الحكومة الأمريكية إلى إنشاء الشبكة الموحَّدة العالمية للرصد الزلزالي التي تجمع بيانات من محطات الرصد الزلزالي في كل أنحاء العالم لتحليلها في مختبر مركزي في الولايات المتحدة. صحيح أن هذه لا تزال أهم شبكة من نوعها، لكن توجد الآن مئات من المقاييس الزلزالية الحساسة المترابطة معًا ضِمن شبكات منتشرة على جزء كبير من سطح الأرض، وكل يوم يشهد وقوع العديد من الزلازل الخفيفة في أماكن مختلفة، فتُحدِث اهتزازات ترصدها تلك الأجهزة وتحللها.

تجدر الإشارة إلى الشبكات العالمية المنتشرة على نطاق واسع مفيدة في إتاحة صورة عامة عن بنية الأرض، لا سيما تقسيمها إلى طبقات مختلفة. ولكن توجد أيضًا شبكات تضم العديد من مقاييس الزلازل المتقاربة ضِمن نطاق أضيق للحصول على صورة أكثر تفصيلًا لما يحدث في منطقة معينة من الكرة الأرضية. وهذه الشبكات تستطيع «رؤية» أدق التفاصيل حتى كيلومترات قليلة. وهكذا فتلك الطرق مجتمعةً تتيح للجيوفيزيائيين صورة لما يحدث في أعماق الأرض من تحت أقدامنا.

اتضح من ذلك أن الغِلاف الخارجي الصُّلب للأرض — أو ما يعرف بالغلاف الصخري — منقسم إلى سبع صفائح كبيرة وعدة صفائح أصغر. وأن بعض الصفائح مكونة بالكامل من قشرة محيطية، لكن البعض الآخر مكون من قشرة محيطية وقشرة قارية معًا. ولا يمكن لأي صفيحة أن تتحرك بمعزل عن غيرها لأن كل ما يصدر منها يؤثر في الصفائح المجاورة، وكل ما يصدر من الصفائح المجاورة يؤثر في الصفائح المجاورة لها، وهكذا دواليك.

أمَّا تحت القشرة الأرضية، التي تشبه قشرة البيضة نوعًا ما، فيقع باطن الأرض الذي يشبه باطن البيضة نفسها؛ إذ يحتوي على لُب (على غرار صفار البيضة) محاط بطبقة عميقة من المواد (على غرار بياض البيضة). ولكن على عكس صفار البيضة وبياضها، فإنَّ كلتا هاتين الطبقتين الرئيسيتين من باطن الأرض منقسمة إلى منطقة داخلية وأخرى خارجية تعرَّف عليهما الباحثون من دراسات زلزالية.

إذا بدأنا من السطح واتجهنا إلى الأسفل تدريجيًّا نحو مركز الأرض، نجد أن متوسط سمك القشرة يبلغ نحو سبعة كيلومترات (أي أربعة أميال) تحت المحيطات ونحو ٣٥ كيلومترًا (أي ٢٠ ميلًا) في القارات. وهي تشكل ٠٫٦ في المائة فقط من حجم الأرض و٠٫٤ في المائة من كتلتها. يتميز الجزء السفلي من القشرة بحدٍّ يُسمى انقطاع موهوروفيتشيتش (أو موهو) على اسم العالم الكرواتي الذي اكتشفه. ثم تأتي الطبقة الرئيسية الواقعة تحت القشرة، وتسمى الوشاح وتنقسم إلى جزأين: الوشاح العلوي والوشاح السفلي.

لكن الانتقال من القشرة إلى الوشاح لا يحدث عبر خطٍّ فاصل حاد. بل يندمج الجزء العلوي من الوشاح مع القشرة مكوِّنًا منطقةً صخرية صلبة تسمى الغلاف الصخري، وتمتد إلى عمق نحو ٢٥٠ كيلومترًا (١٥٠ ميلًا) تحت القارات، لكنها أرقُّ بكثير تحت المحيطات وأكبر سُمكًا بقليل من القشرة نفسها عند حيود وسط المحيط. وتحت الغلاف الصخري مباشرة، توجد منطقة شبه سائلة يزيد سمكها قليلًا على ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا)، لكنها لا تزال تمثل جزءًا من الوشاح من حيث التركيب الكيميائي؛ وهذه ما تُعرَف بالغلاف الموري. يعد هذا الجزء من الوشاح هو العامل الأساسي للحركة التكتونية للصفائح. فنظرًا إلى أن الغلاف الموري شبه سائل، فإنَّ الغلاف الصخري الصلب الواقع أعلاه، بما فيه القشرة، يمكن أن ينزلق عليه، فيسمح بتحرك الصفائح وتمدد قاع البحر وانجراف القارات. ولا تتكون الصفائح التي تقوم عليها الحركة التكتونية من قشرة فقط، لكنها عبارة عن ألواح صخرية تتضمن القشرة والجزء العلوي من الوشاح العلوي. يحتوي الوشاح العلوي على الغلاف الصخري والغلاف الموري، ويمتد إلى عمق يبلغ نحو ٦٧٠ كيلومترًا (٤١٥ ميلًا) من السطح، فيما يمتد الوشاح السفلي إلى عمق يبلغ نحو ٢٩٠٠ كيلومتر (١٨٠٠ ميل). ويُشكِّل هذا ٨٢ في المائة من حجم الأرض و٦٧ في المائة من كتلتها. وتنتقل الموجات الأولية بسرعة تبلغ نحو ثمانية كيلومترات في الثانية في الجزء العلوي من الوشاح، وبسرعة مقدارها ١٤ كيلومترًا (٨٫٥ ميلًا) في الثانية في الجزء السفلي منه.

ومقارنة بالانتقال التدريجي من القشرة إلى الوشاح، يحدثُ عند هذا العمق انتقالٌ مفاجئ إلى منطقة من المواد السائلة لا تستطيع الموجات الثانوية المرور خلالها، وتسمى اللب الخارجي. وعند الجزء السفلي من اللب الخارجي، أي على عمق نحو ٥١٠٠ كيلومتر، أو ٣١٠٠ ميل، من سطح الأرض، نصل إلى قمة اللب الداخلي، وهو عبارة عن كتلة صلبة من المواد قطرها نحو ٢٤٠٠ كيلومتر، أو ١٥٠٠ ميل، أي نحو ثلثي قطر القمر. ومن السمات العجيبة للُّب الداخلي الصلب أنه يدور بوتيرة أسرع قليلًا من بقية الأرض، وأن معدل دورانه ازداد بمقدار عُشر لفة على مر الأعوام الثلاثين الماضية، أي بمعدل سنويٍ يزيد قليلًا على درجة واحدة، أو ١ / ٣٦٠ من الدائرة. يساوي حجم اللب كله حجم كوكب المريخ نفسه تقريبًا. لكن بعض دراسات الموجات الزلزالية كشفت أن جزأَي اللب كليهما أكبر كثافة بكثير من الوشاح الواقع أعلاه. صحيح أن نصف قطر اللب أقل بقليل من نصف قطر الأرض، لكن حجمه أقل من خُمس حجمها، لأن الحجم يعتمد على مكعب نصف القطر (فمكعب الرقم ٢ مثلًا يساوي ٨، ومن ثم إذا كان لدينا كرة ذات نصف قطر يساوي نصف نصف قطر كرة أخرى، فسيكون حجم الأولى مساويًا لثُمن حجم الثانية فقط). وإجمالًا، تبلغ المسافة من سطح الأرض إلى مركزها ٦٣٧١ كيلومترًا، أو ٣٩٥٩ ميلًا.

غير أن هذه المسافات كلها متوسطات. أمَّا في الحقيقة، فتختلف أعماق حدود طبقات الأرض المتنوعة اختلافًا طفيفًا باختلاف المكان، وقد تتغير بمرور الزمن. وعلى وجه الخصوص، يُعتقد أن اللب الداخلي الصلب ينمو ببطء مع تبلور جزء من اللب الخارجي السائل فوقه. وهذا هو أحد مصادر الطاقة التي تحافظ على سخونة باطن كوكبنا (جنبًا إلى جنب مع الطاقة المشعة)، لأن السوائل عندما تتصلب، تُطلق طاقة تسمى الطاقة الكامنة. وحتى الآن، تبلور نحو ٤ في المائة من اللب، وسيستغرق تصلُّب الجزء الباقي نحو ٤ مليارات سنة أخرى. يشغل اللب كله ١٧٫٤ في المائة فقط من حجم الأرض، لكنه يحوي ٣٢٫٦ في المائة من كتلتها، ما يشير إلى أن كثافته كبيرة جدًّا مقارنةً بكثافة بقية كوكبنا؛ إذ تبلغ نحو ١٢ جرامًا لكل سنتيمتر مكعب (٠٫٤ رطل لكل بوصة مكعبة)، أي تساوي كثافة الماء ١٢ مرة، وتُعد أكبر قليلًا من كثافة الرصاص في أيٍّ من أشكاله التي قد يوجد بها على سطح الأرض.

تجدر الإشارة هنا إلى أن حركة الصفائح التكتونية مدفوعةٌ بالحمل الحراري في الوشاح؛ أو الوشاحَين. يبدو هذا جنونيًّا؛ أفليس الوشاح طبقةً صخرية صلبة تستطيع الموجات الثانوية الانتقال خلالها؟ في الحقيقة، إذا اهتز الوشاح فجأة بفعل زلزال ما، تنتقل خلاله الاهتزازات، كالموجات الصوتية التي تنتقل خلال جرسٍ يَرِن. ولكن إذا ظل يُدفع باستمرار فترةً طويلة، فسيتدفق تدريجيًّا كسائل شديد اللزوجة. وفي الواقع، لدينا شيء نستخدمه في الحياة اليومية يُظهِر سلوكًا كهذا؛ وهو الزجاج. فإذا ضربت قطعة زجاجية بمطرقة، فستتحطم كالمواد الصلبة. ولكن إذا أمعنت النظر إلى الزجاج الملون في نوافذ الكاتدرائيات القديمة، فسترى أن الجزء السفلي منه أكبر سُمكًا من أعلاه. وهذا لأن الزجاج ظَلَّ، على مر القرون منذ تركيبه، يتدفق إلى أسفل كدِبسٍ شديد اللزوجة تحت تأثير الجاذبية. وهكذا فالوشاح كالزجاج، لكنه حتى أكثر لزوجة منه.

وبسبب انقسام الوشاح إلى منطقتَين علوية وسفلية منفصلتَين بحدٍّ ضيق كما اتضح من دراسات المسح الزلزالي، فلا أحد متيقن تمامًا من آلية عمل هذا الحمل الحراري. يفترض أحد الاحتمالات أن كلا جزأَي الوشاح له نظامُ حملٍ حراري خاص به، كأنهما غلايتان إحداهما فوق الأخرى. فيما يفترض احتمالٌ آخر معاكس تمامًا أن الوشاح كله يتحرك بفعلِ الحمل الحراري كوحدةٍ واحدة، وهذا الاحتمال يكاد يتجاهل الحد الفاصل بين الوشاحَين العلوي والسفلي. لكن يبدو أن التفسير الأفضل يتضمن مزيجًا بين هاتَين الفكرتَين. فألواح قاع البحر التي دُفعَت إلى الأسفل بفعل الاندساس يمكن تتبعها بعمليات المسح الزلزالي وصولًا إلى الحد الفاصل بين الوشاحَين العلوي والسفلي على عمق نحو ٦٥٠ كيلومترًا (٤٠٠ ميل). وحالما تصل الألواح إلى هناك، يبدو أنها تنتشر مكوِّنة طبقةً تتجمع على مرِّ فترة ربما تبلغ مئات الملايين من السنين، ثم تتراكم بكميةٍ هائلة لدرجة أنها تخترق الحد وتواصل النزول داخل الوشاح السفلي، كأنها انهيار جليدي، حتى تكاد تصل إلى الجزء العلوي من اللب الخارجي. هذا وتتضمن بعض دراسات المسح الزلزالي أدلةً على أن ألواحًا صُلبة من المواد تتراكم عند قاعدة الوشاح، حيث تبقى زمنًا طويلًا ربما يصل إلى مليار سنة لكي تُسخنها الحرارة المنبعثة من اللب تسخينًا كافيًا ليجعل المواد تبدأ الصعود مرة أخرى نحو السطح. ثم تصبح المواد المعاد تسخينها جزءًا من عمود صاعد يخترق الحد مُقتحمًا الوشاح العلوي ويُكوِّن نقطة ساخنة. وهكذا توجد نقطة ساخنة تحت هاواي، وأخرى تحت صدع شرق أفريقيا تقسم قارة أفريقيا إلى جزأين وتفصل معظم أفريقيا عن آسيا. وإذا استمرت هذه العملية، فستُنتج محيطًا جديدًا بحيدٍ خاص به عند وسطه.

تجدر الإشارة إلى أن الحرارة التي تدفع هذه الأعمدة إلى أعلى وتُعد السبب الرئيسي لتمدد قاع البحر تأتي قاطعةً كل هذه المسافة من قاع الوشاح، وترفع عمودًا يصل إلى ارتفاع مقداره نحو ٣ آلاف كيلومتر (١٨٠٠ ميل). والسبب الوحيد الذي يجعل كل ذلك ممكنًا أن باطن الأرض أشد سخونة من سطحها. ونحن نعرف درجة سخونة اللب بالضبط لأننا نعرف ماهية مكوناته بالضبط.

تَعرَّف علماء الفلك ماهية النيازك — التي تُعد قطعًا صخرية سقطت من الفضاء إلى الأرض — باعتبارها قطعًا متبقية من حلقة المواد التي كانت تدور حول الشمس وتكوَّنت منها الكواكب. وتغتني هذه الصخور بأربعة عناصر على وجه الخصوص: وهي الحديد والأكسجين والماغنسيوم والسيليكون، بالإضافة إلى سبيكة من الحديد والنيكل. ومن ثم، فإذا كانت الأرض مكونة من ذلك الخليط ذاته من المواد، وبالنِّسب ذاتها، فستكون كثافتها مساوية بالضبط لكثافة كوكبنا الإجمالية المَقيسة، التي تبلغ ٥٥٢٠ كيلوجرامًا لكل متر مكعب، أو ٠٫٢ رطل لكل بوصة مكعبة. ولكن إذا أزلت الحديد والنيكل من خليطٍ من المواد النيزكية بحجم الأرض، فسيتبقى لك حجمٌ مماثل لحجم وشاح الأرض، وتركيبٌ كيميائي شبه مطابق لتركيب المواد الموجودة هناك بالفعل. وعندئذٍ ستكون كمية الحديد «المطروحة» من الخليط مساوية بالضبط للكمية اللازمة لصنع لُب الأرض. وهكذا تخبرنا هذه الحسبة البسيطة جدًّا بأن لب الأرض لا بد أن يكون مكونًا من الحديد في الغالب، مع بعض النيكل أيضًا. أي إنَّ كوكبنا مكون من مواد النيازك ذاتها، لكن الحديد والنيكل استقرَّا في وسطه، وتركا المواد الأخف وزنًا في الطبقات الخارجية على حالها.

وبناء على معرفة تركيب لب كوكب الأرض، يمكن حساب درجة حرارته. فلأن اللب الداخلي صلب واللب الخارجي سائل، لا بد أن تكون درجة حرارة الحد الفاصل بين اللب الداخلي واللب الخارجي مساويةً لنقطة انصهار خليط الحديد والنيكل عند الضغط المقابل لعمق ٥١٠٠ كيلومتر (٣١٠٠ ميل) تحت سطح الأرض، حيث ينضغط الحديد وصولًا إلى كثافةٍ تساوي كثافة الماء ١٢ مرة. وتُظهر تجارب مختبرية أن درجة الحرارة هذه تقارب ٥ آلاف درجة مئوية (أي ١٠ آلاف درجة فهرنهايت)، وبالمصادفة البحتة، تكاد هذه الدرجة تساوي درجة الحرارة على سطح الشمس. ونظرًا إلى أن اللب الداخلي عبارة عن كتلة صلبة من الحديد والنيكل وأنه بذلك يُعَد موصلًا جيدًا جدًّا للحرارة، يمكن أن نجزم بأن هذه الدرجة ثابتة إلى حدٍّ كبير عبر كل أجزاء اللب الداخلي. لذا فدرجة الحرارة عند مركز الأرض أيضًا تبلغ نحو ٥ آلاف درجة مئوية.

وبفضل انقسام بنية اللب المكون من الحديد والنيكل إلى لب داخلي صلب محاط بلُب خارجي سائل، فإن تلك البنية مسئولة عن واحدة من أبرز سمات الكوكب اللافتة؛ وهي مجاله المغناطيسي، الذي يقدم لنا عدة فوائد منها أنه يحمينا من إشعاع كوني ضار. لا أحد يعرف كيفية تولُّد المجال المغناطيسي بالضبط، ولكن لا بد أنه ناتج من تيارات مادية تدور حاملةً المادة في اللب الخارجي الموصِّل للكهرباء وتولِّد المجال المغناطيسي في أثناء ذلك كأنها دينامو. وتُظهِر حسابات وتجارب أن مثل هذه الآلية لن تكون ممكنة إذا كان اللب كله سائلًا، لأن المائع عندئذٍ سيدور في خطوط أكثر استواءً ولن يولِّد مجالًا مغناطيسيًّا. لذا فأفضل تفسير لتولُّد المجال المغناطيسي للأرض أن اللب الصلب محاط بأسطوانات من مواد تدور دورانات دوامية في اللب الخارجي، ككرة تنس محاطة بحلقة من أقلام تحديد سميكة واقفة حولها في وضعية رأسية. إذ يمتزج الحمل الحراري بالقوى المُسببة للالتواء الناتجة من دوران الأرض (أو تأثير كوريوليس) فيولِّدا في كلِّ «قلمِ تحديد» مجالًا مغناطيسيًّا يُسهِم في المجال المغناطيسي الكلي. ولكن في غضون ٤ مليارات سنة من الآن، عندما يتصلب اللب كله، ستفقد الأرض مجالها المغناطيسي القوي. وهذا خبر سيئ لأي شكل من أشكال الحياة سيكون موجودًا حينئذٍ، ولكن ليس فيه ما يُقلقنا نحن.

هذا هو كل ما نعرفه عن عمق باطن الأرض. غير أن السؤال التالي يعيدنا إلى السطح والعلاقة بين الكوكب وبيننا.

١  هذه الإجابة منقولة بتصرف من كتابنا «كوكب الأرض: دليل إرشادي للمبتدئين»، الصادر في عام ٢٠١١ عن دار نشر وان وورلد؛ لأنني لم أستطع سردها بطريقة أفضل ممَّا وردت بها هناك.
٢  وهو ما يثير مسألة تزعجني بشدة. فالمركز السطحي للزلزال هو الموضع الموجود عند سطح الأرض مباشرةً فوق الزلزال الذي يحدث تحت الأرض؛ هذا كله كلام سليم ومضبوط. لكن ما يزعجني أن المصطلح تعرض للسطو من أشخاص يستخدمونه قاصدين به «المركز» فقط. انتهت شكواي الغاضبة، شكرًا لحسن استماعك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤