السؤال الثامن

لماذا الدم مالح كمذاق البحر؟

كان السؤال الذي طُرِح عليَّ في الحقيقة هو: «لماذا يُشبه مذاقُ البحر الدم؟» لكن الترتيب الصحيح معكوس هنا، لأن البحر وُجِد أولًا ثم تطور الدم لاحقًا. لذا فمن أجل إيجاد الإجابة، عليَّ أن أعكس الترتيب، وأبدأ بسؤال «لماذا البحر مالح؟» لذا احتفِظ بسؤال الدم على الهامش في ذهنك مؤقتًا.

تهيمن المحيطات على سطح الأرض. فمعظم كوكبنا مُغطًّى بطبقة رقيقة من مياه مالحة في الغالب تُشكل ٩٧ في المائة من إجمالي المياه الموجودة على سطح الكوكب. وتتيح هذه المحيطات موطنًا لمعظم أشكال الحياة على الأرض، وتحمل نحو ٥٠ مليون طن من الملح المذاب؛ الذي يتكون معظمه من الملح الشائع، أي كلوريد الصوديوم. وبذلك يُشكِّل الصوديوم والكلور نحو ٣٫٥ في المائة من وزن المحيطات، لذا يحتوي كل لتر من مياه البحر على نحو ٣٥ جرامًا من الملح. صحيح أن مياه البحر تحوي أملاحًا أخرى، أبرزها البوتاسيوم والكالسيوم، لكن الصوديوم والكلور معًا يشكلان نحو ٨٥ في المائة من كمية «المواد الصلبة» في المحيطات. وإذا أمكن استخراج كل هذا الملح ونشره بالتساوي على سطح الأرض، فسيكوِّن طبقة سُمكها أكبر من ١٦٠ مترًا.

لكن المحيطات صغيرة جدًّا مقارنة بطبقات الصخور التي تحدثتُ عنها في الإجابة السابقة. فقاع أعمق محيط يقع على بُعد نحو ١١ كيلومترًا فقط تحت سطح البحر، وإذا تكرَّمنا وقلنا إنَّ موطن الحياة يمتد إلى قمة أعلى جبل، على ارتفاع نحو تسعة كيلومترات فوق مستوى سطح البحر، فعندئذٍ سيكون النطاق الصالح للحياة كله محصورًا في طبقة لا يزيد سُمكها على ٢٠ كيلومترًا. وبالنسبة إلى قُطر الأرض، يعادل هذا السُّمك سُمك قشرة تفاحة بالنسبة إلى حجم التفاحة كلها. لذا يتأثر تركيب المحيطات تأثرًا شديدًا بالعمليات الجيولوجية التي تتضمنها حركة الصفائح التكتونية وتمدد قاع البحر، خصوصًا النشاط البركاني عند حيود وسط المحيطات. ولكن لم يكن أيٌّ من ذلك معروفًا في عام ١٧١٥، عندما توصل إدموند هالي إلى أول تفسير علمي لملوحة البحر.

طرح هالي تخمينًا معقولًا بالنسبة إلى الزمن الذي عاش فيه، إذ افترض أن الأنهار تلتقط شوائب من الصخور التي تتحرك فوقها وتُرسبها في البحر، فتتراكم الأملاح هناك ويزداد تركيزها. ويرجع تراكم الأملاح إلى أن المياه العذبة تتبخر تاركةً الأملاح كما هي، ثم يُعاد الماء إلى فوق اليابسة في صورة بخار، حيث يُمطر ويكمل الدورة. واقترح هالي إمكانية الاستعانة بذلك لتقدير عمر الأرض، بقياس كمية الملح الموجودة في الأنهار وحساب المدة الزمنية التي استغرقها البحر ليصل إلى ملوحته الحالية. لكنه لم يستطع تطبيق الفكرة لعدم توافر قياسات لكمية الملح الموجودة في كل أنهار العالم — علمًا بأن تركيز الملح في البحر أكبر نحو ٢٠٠ مرة من تركيز الملح في الأنهار — أو حجم المحيطات.

وربما يكون من حُسن حظ هالي أنه لم يستطع إجراء تلك الحسبة لأنها لم تكن لتنجح. فبادئ ذي بَدء، تقوم حسبته على افتراض أن المحيطات كانت مياهًا عذبة خالصة في بداية نشأتها، ولا يوجد دليل على ذلك (صحيح أنه لا يوجد دليل ينفي ذلك أيضًا، لكن هذا لا يجدي نفعًا كبيرًا). وثانيًا، يفترض هالي أن المحيط أشبه ببحيرة داخلية منغلقة على نفسها يظل حجمها ثابتًا، وأن كل الملح الذي يُلقى فيها يبقى هناك. لكننا صرنا نعلم أن المحيطات تتغير دائمًا على مرِّ فترات زمنية جيولوجية، إذ يرتفع قاع البحر أحيانًا بسبب النشاط التكتوني ويجف مكوِّنًا طبقاتٍ كبيرة من الملح، بينما يُدفَع إلى أسفل القشرة القارية عند أماكن أخرى، فيذوب ويُنشئ نشاطًا بركانيًّا يقذف خليطًا من المواد الكيميائية إلى الغلاف الجوي، ويكوِّن صخورًا جديدة تحتوي على معادن كثيرة من البحر، وبذلك يُتيح المواد الخام اللازمة لتجوية مستقبلية ستحدث بفعلِ أمطار وأنهار تُعيد تلك المعادن إلى البحر. وصحيح أن بعض الجيوفيزيائيين يُقدرون أن هذا النشاط حاليًّا يكاد يكون في حالة اتزان، بما يجعل ملوحة البحار شبه ثابتة. لكن الحال لم تكن هكذا دائمًا.

ولحساب التغيرات التي طرأت على ملوحة البحر على مر الزمان الجيولوجي، نحتاج أولًا إلى معرفة مصدر كل المياه أصلًا، وهذا لا يزال محل جدل بين الخبراء. صحيح أنهم متفقون، كما أوضحتُ سابقًا، على أن الأرض تكونت منذ نحو ٤٫٥ مليار سنة، من تراكم الحطام في المجموعة الشمسية عندما كانت وليدة؛ إذ تصادمت الصخور معًا وتراكمت لتكوِّن كوكبًا أوليًّا جَذَب مزيدًا من الحطام إليه بفعلِ الجاذبية وظل يجرف الحطام من المنطقة المحيطة به حتى أخلاها تمامًا. ثم أسفر تصادم تلك النيازك الصخرية عن تسخين الكوكب الوليد حتى حوَّله إلى كرة منصهرة ظلَّت تبرد تدريجيًّا على مرِّ بضع مئات من ملايين السنين، وكوَّنت قشرة صلبة حولها. لكنهم منقسمون حول نشأة المياه؛ إذ ترى مدرسةٌ فكرية أن الغازات التي انبعثت من باطن الأرض، وتدفقت إلى الخارج من البراكين، كوَّنت الغلاف الجوي حول الأرض وأنتجت بخار الماء الذي سقط في صورة أمطار ليكوِّن أولى المحيطات. فيما تقترح المدرسة الفكرية المنافسة، التي أراها تبدو أكثر منطقية، أن حطامًا جليديًّا أتى من مكانٍ أبعد عن الشمس بعدما تبقى من تكوين الكواكب، وكان يُشبه المذنبات في جوهره، حَمَل معه الماء إلى الكوكب الوليد في المراحل النهائية من تطوره. ولكن في كلتا الحالتَين، ثمة أدلة جيولوجية على أن المحيط الأول قد أنشئ قبل أقل من ٤ مليارات سنة بقليل، عندما كانت الأرض أنشط جيولوجيًّا بكثير مما هي عليه حاليًّا. ومن الممكن تمامًا بالطبع أن تكون كلتا العمليتَين قد أسهمت في تكوين ذلك المحيط.

وبغض النظر عن الكيفية التي تكوَّن بها المحيط الأول، فلا بد أنه اغتنى بالمعادن، بما فيها الملح الذي يهمنا، بفعلِ النشاط الجيولوجي العنيف تحت سطح الماء في بدايات عمر الأرض. إذ تُخبرنا الأدلة الجيولوجية بأن حيود المحيط كانت أطول امتدادًا وأشد نشاطًا آنذاك، كما هو متوقع عندما كان الكوكب لا يزال في مرحلة البرودة من حالته البُدائية، وأن الأجزاء الأولى من القشرة القارية كانت أصغر من القارات اليوم وكانت منتشرة في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. ثم ازداد سُمك القشرة القارية بمرور الزمن الجيولوجي بسبب النشاط البركاني، خصوصًا على طول الحواف التي يُدفَع عندها قاع البحر إلى أسفل القشرة القارية. ومن ثم، فأفضل طريقة يمكن للجيولوجيين الاستعانة بها لتقدير كمية الملح التي كانت موجودة في المحيط الأول هي إضافة كمية الملح المترسب في طبقات كبيرة في مختلف أنحاء العالم وحساب تأثير تلك الكمية على الملوحة إذا أذيبت كلها في البحر مجددًا.

تجدر الإشارة إلى أن طبقات الملح هذه ضخمة؛ إذ تُقاس كمية الملح التي تحويها بآلاف مليارات الأطنان. وتوجد رواسب هائلة في أماكن عديدة، بما فيها أستراليا وكندا وإيران وعمان وباكستان وبيرو والمملكة العربية السعودية. وقد ترسبت هذه الطبقات أثناء مراحل نادرة من النشاط التكتوني شهدت تفكك قاراتٍ عظمى مثل بانجيا وتكوين بحارٍ ضحلة شاسعة (كالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود حاليًّا) صارت منغلقة على نفسها وسط اليابسة وجفَّت بعدئذٍ، ثم دُفن الملح في أثناء مراحل لاحقة من النشاط التكتوني. تكرَّر ذلك أكثر من مرة خلال تاريخ الأرض، لكني سأسلط الضوء هنا على تفكُّك القارة التي خلَّفت قارة بانجيا، والتي تُسمى رودينيا (وتُعرَف أحيانًا باسم بانجيا الأولى)، في نهاية فترة زمنية جيولوجية تُسمَّى عصر ما قبل الكمبري، منذ نحو ٥٤٠ مليون سنة؛ لأن هذا الحدث بالأخص مهم لأشكال الكائنات الحية المشابهة لنا.

يُسمى عصر ما قبل الكمبري هكذا لأنه أتى قبل العصر الكمبري الذي شهِد تنوع الحياة وانتشارها عبر كوكب الأرض. صحيح أن عصر ما قبل الكمبري امتد عبر ٩٠ في المائة من تاريخ الأرض، لكن الحياة في محيطاته كانت مقتصرة على كائنات حية بسيطة، كالبكتيريا المعروفة باسم الطحالب الخضراء المزرقة. وكان من أسباب ذلك ارتفاع ملوحة المحيطات. أمَّا في بداية العصر الكمبري، فقد انخفضت الملوحة، وأدى ذلك إلى عدة تغيرات كيميائية اتضح أنها مفيدة للحياة، من بينها تسهيل إذابة الأكسجين في مياه البحر. إذ شجعت هذه التغيرات الكيميائية على حدوث الطفرة التي شهدت انتشار الحياة خارج المحيطات وعبر اليابسة. وهذه الطفرة، الظاهرة في السجل الأحفوري، هي السبب الذي جعل الجيولوجيين يطلقون على هذه الفترة بداية العصر الكمبري.١

لذا رُبطت طفرة انتشار الحياة على الأرض رَبطًا وثيقًا بالانخفاض الشديد في ملوحة المحيطات. صحيح أن مقدار الانخفاض الذي حدث آنذاك لا يزال محل جدل بين الجيولوجيين. ولكن ربما لا يكون هذا الجزء من الإجابة كامنًا في الجيولوجيا، بل في علم الأحياء. وهو ما يرتبط بالجزء المتعلق بالدم في السؤال الذي طُرح عليَّ.

figure
سهول الملح في بادووتر، ولاية كاليفورنيا، الولايات المتحدة. (ميكنتورتون، CC BY-SA 4.0، عبر موقع «ويكيميديا كومنز».)

كانت الحياة طَوال معظم تاريخها على كوكب الأرض مكونةً من كائنات وحيدة الخلية طافية في البحر. وقد وصفتُ آلية عمل الخلايا في كتابي «ثمانية احتمالات مستبعدة»، لكن كل المهم هنا أن ما يحدث داخل الخلايا يعتمد على كيمياء الحمض النووي وكيفية تفاعله مع جزيئات أخرى لتشغيل آليات عمل الخلية. وكل هذا محاط بجدار خلوي يسمح بإنفاذ بعض الأشياء (التي ربما نصفها عمومًا بالمواد المغذية) من الداخل إلى الخارج ويسمح بخروج أشياء أخرى (وهي النفايات الناتجة). كانت البيئة الخارجية المحيطة بالخلايا في الأصل هي البحر المالح بالطبع. ويعد الدم بمثابة صورة مصغرة من البحر. إذ يتكون من سائل مائي يُسمى البلازما تطفو فيه أنواع مختلفة من الخلايا، منها الخلايا الحمراء التي تُكسبه لونه. ويحتوي هذا الجزء المائي من الدم على ملح ومواد أخرى بتركيزٍ يُشبه تركيزها في مياه البحر إلى حدٍّ لافت. وتبلغ نسبة البلازما في الدم نحو ٥٥ في المائة؛ لذا تُشكل الخلايا أقل من نصف إجمالي كمية الدم. أي أن خلايا الدم تطفو في محيط خاص بها.

كان أول مَن لفت الانتباه إلى المدلولات التطورية الضمنية لهذا هو عالِم الكيمياء الحيوية الكندي آرتشيبولد ماكالوم، في بحث علمي نُشِر في عام ١٩٢٦. إذ أدرك أن هذا التشابه يعني ضمنيًّا أن أسلافنا تطوروا في البحر، وأن دمنا يحمل أثرًا متبقيًا من الظروف التي تطوروا فيها. ربما تتساءل لماذا مضى كل هذا الوقت الطويل قبل أن يشير أحدٌ إلى شيء يبدو واضحًا لك على الأرجح، لكن كتاب تشارلز داروين «عن أصل الأنواع» لم يُنشَر إلا في عام ١٨٥٩؛ أي بعد عام واحد من ولادة ماكالوم. والفترة الممتدة من عام ١٨٥٩ إلى عام ١٩٢٦ كانت ٥٧ عامًا فقط، أي تكاد تساوي نصف الفترة الممتدة من عام ١٩٢٦ إلى وقت كتابة هذه الكلمات؛ لذا فالمدلولات الضمنية لنظرية التطور آنذاك لم تكن مفهومة بالكامل بعد.

وبعد ذلك بعشر سنوات، نشر آرثر بيرس الذي كان أستاذًا لعلم الحيوان في جامعة ديوك آنذاك، كتابًا بعنوان «هجرات الحيوانات من البحر إلى اليابسة» قال فيه إنَّ «التشابه العام بين دماء الحيوانات ومياه البحر فُسِّر على أنه يُبين أن الحيوانات كلها نشأت في البحر» وأشار إلى «الاعتقاد السائد» الذي يؤمن بأن الدم صورة معدلة من ماء البحر. فيما كتبت راشيل كارسون إحدى رواد علم البيئة في كتابها الأكثر مبيعًا «البحر من حولنا» تقول: «الأسماك والبرمائيات والزواحف، والطيور والثدييات ذوات الدم الحار؛ بل وكل منَّا يحمل في عروقه سائلًا جاريًا مالحًا يحوي مزيجًا من عناصر الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم بالنِّسب ذاتها التي توجد بها في ماء البحر تقريبًا.»

وفي عام ١٩٥٧، عُقدت الندوة الدولية الأولى عن أصل الحياة على كوكب الأرض في موسكو. فاستغلت رايسا بيرج أستاذة علم الأحياء التطوري تلك المناسبة لتوضح لهذا الجمهور المتخصص أن أول حُجة في «أهم الحجج المؤيدة للفرضية القائلة بأن الحياة بدأت في المحيط فقط هي التشابه بين تركيب الملح في سوائل الجسم لدى حيوانات البر وملح مياه المحيطات» والثانية أن «التشابه بين تركيب ملح مياه المحيطات وملح سوائل أجسام حيوانات البر» لا يمكن تفسيره إلا بالاستناد إلى عملية التطور.

المقصد أن الكائنات الحية الأولى التي عزلت نفسها عن البحر ظلت محتاجة إلى سائل داخلي يحمل المواد في كل أجزاء أجسامها، ليوصل العناصر المغذية إلى الخلايا ويحمل النفايات الناتجة بعيدًا عنها، وقد كان هذا السائل في الأساس مياهًا بحرية معدَّلة من المياه التي كانت تحيط بتلك الكائنات وقتما اتخذت هذه الخطوة التطورية في الزمن الجيولوجي. ومنذ ذلك الحين، تغيرت ملوحة المحيطات، لكن العمليات الكيميائية الجارية داخل الحيوانات المتطورة حافظت على تركيز دمائها كما هو.

إذن فما مدى التشابه بين الدم (أو بالأحرى البلازما) ومياه البحر، وما الذي يخبرنا به ذلك عن التطور؟ تذكَّر أن متوسط نسبة ملوحة مياه البحر في محيطات العالم تبلغ نحو ٣٫٥ في المائة. فيما تبلغ نسبة ملوحة دم الإنسان ٠٫٩ في المائة؛ أي إنَّ ملوحة مياه البحر تعادل ملوحة الدم نحو ٣٫٥ مرات. وليس دم الإنسان فقط. فكل الحيوانات الفقارية (أي الحيوانات ذات الأعمدة الفقرية، التي تعني كل الأسماك والطيور والثدييات والبرمائيات والزواحف) لديها نفس هذا التركيز الفريد من الملح في دمائها.٢ ويعد هذا واحدًا من أدلة عديدة تُظهر أن هذه الحيوانات كلها منحدرة من سلف مشترك.

وإذا صغنا هذه المعلومة بالعكس، فسنقول إنَّ ملوحة دم الفقاريات كلها، وليس دمك فقط، تكاد تساوي ربع ملوحة مياه البحر فقط. صحيح أن هاتين النسبتَين متقاربتان بما يكفي لإقناعنا بأن الدم مياه بحرية معدَّلة (لأن الدم في النهاية يمكن أن يصبح أشد ملوحة من مياه البحر بمائة مرة أو أقل ملوحة منها بمائة مرة ما دام منفصلًا عنها)، ولكن قد يبدو هنا للوهلة الأولى أن هذا لغز مثير للفضول يجب على خبراء علم الأحياء التطوري تفسيره. فإذا كانت مياه البحر تصير أقل ملوحة بمرور الزمن الجيولوجي، فكيف لدمائنا أن «تظل محتفظة» بملوحة أقل من الملوحة الحالية؟ ولكن يمكن تفسير ذلك بطريقة واضحة. إذ تُظهر أدلة حفرية وأدلة أخرى أن الفقاريات الأولى تطورت منذ نحو ٥٠٠ مليون سنة، وإذا كان خبراء علم الأحياء التطوري على صواب، فإنَّ ذلك التطور قد حدث في مياه ذات ملوحة تعدل رُبع متوسط ملوحة البحار الحالية فقط. يكمن مفتاح اللغز في كلمة «متوسط» هذه.

إحدى المسائل التي لا أزال أجد صعوبة في فَهْمها، وإن كنت أعرفُ بالاستدلال المنطقي أنها صحيحة حتمًا، هي أننا عندما نقول إنَّ الفقاريات كلها منحدرة من سلف مشترك، فإننا نقصد ذلك حرفيًّا. أي إنَّ فردًا واحدًا فقط حدثت فيه التغيرات الجينية (طفرات في الحمض النووي) التي بدأت سلسلةً من الخطوات على طول مسار مؤدٍّ إلى تطور العمود الفقري. ولا بد أن هذا الفرد كان لديه صلات قرابة بالطبع. أي أفرادٌ آخرون من نفس نوعه استطاع أن يتزاوج معهم آنذاك. لكن نَسل هذا الفرد هُم فقط الذين تطوروا على طول السلالات المتفرعة المختلفة التي أدت إلى نشأة كل الأسماك والطيور والثدييات والبرمائيات والزواحف. وليس بالضرورة أن ذلك الفرد المتفرد كان يعيش في أعماق المحيط. إذ تخبرنا الأدلة الكيميائية الحيوية بأنه كان يعيش في جزء مخفف نسبيًّا من المحيط، كمصبٍّ ضحل كانت مياه الأنهار العذبة تختلط عنده بمياه البحر المالحة. بل وتوجد أسباب وجيهة تُرجِّح أن مثل هذه البيئة كانت صالحة للحياة قبل ٥٠٠ مليون سنة. فمن المفترض أن المياه الضحلة سمحت بتغلغل أشعة الشمس، فأتاحت بذلك الطاقةَ التي تعتمد عليها كل أشكال الحياة على سطح الأرض. ومن المرجح أن انخفاض ملوحة هذه المياه سمح بإذابة مزيد من الأكسجين فيها، فشجَّع تكاثر الكائنات الحية وبذلك شجَّع التطور.

ومن ثم، فهذه هي إجابة سؤال «لماذا الدم مالح؟» لأن سَلَف كل الفقاريات كان يعيش، منذ نحو ٥٠٠ مليون سنة، في مصب دافئ ضحل وسط مياه تبلغ ملوحتها نحو ٠٫٩ في المائة، أي إنها كانت تحمل نحو تسعة جرامات من الملح مذابة في كل لتر من الماء. ولكن قبل الانتقال إلى مناقشة سؤال تطوري آخر مثير للاهتمام، يجدر أن نتوسع في هذه المسألة قليلًا بإمعان النظر في كيفية تأقلم إحدى سلالات الفقاريات، وهي الأسماك، مع العيش في مياه ذات درجات ملوحة مختلفة.

وتعد الأسماك بالأخص مثيرة للاهتمام هنا لأن موضوع حفاظ حيوانات اليابسة على ملوحة دمائها ممل؛ لأن ملوحتها بقيت ثابتة كما هي فور خروجها من الماء. فالثدييات أمثالنا والطيور والزواحف تمتص أملاحًا ومياهًا عذبة في طعامها وشرابها، وتستخدم ما تحتاج إليه للحفاظ على تركيز الأملاح المعتاد في دمها (أي التركيز الذي تطورت به حتى تأقلمت على استهلاكه قبل خروجها من البحر) وتُفرز ما يكفي للحفاظ على ثبات التوازن نفسه؛ ليس فقط في حيوان معين طَوال حياته، بل في كل الأجيال منذ خروج أسلافنا من البحر. ولا يتأثر ذلك بالبيئة الخارجية ما دام يوجد لدى تلك الكائنات طعام لتأكله ومياه لتشربها.

أمَّا الأسماك، فتُجابه مشكلات مختلفة. فهي تُضطر مثلنا إلى امتصاص الماء الذي تحتاج إليه من البيئة المحيطة بها ثم تعالجه ليصل إلى الملوحة اللازمة لدمائها. لكن ملوحة الماء الذي تمتصه تعتمد على المكان الذي تعيش فيه. ومع ذلك، فدماء الأسماك — كل دماء الأسماك الفقارية — تحمل نفس ملوحة دمائنا.

لا تواجه الأسماك التي تعيش في مياه قليلة الملوحة، كمصبات الأنهار الضحلة التي يبدو مُرجحًا أنها شهدت ظهورَ أول الكائنات الفقارية، مشكلة كبيرة في ذلك؛ لأن ملوحة المياه المحيطة بها لا تختلف كثيرًا عن ملوحة دمائها. لكن الأسماك التي تعيش في المحيطات المفتوحة محاطة بمياه أشد ملوحة بكثير من تركيز الأملاح اللازم لدمائها. لذا فمع انتقال أسلافها إلى هذه البيئة على مرِّ أجيال عديدة، تطورَت لديها آلية كيميائية حيوية للتعامل مع ذلك. صحيح أنها تُضطر إلى شرب ماء يحتوي على ملح أكثر بكثير مما تحتاج إليه، لكنها تُرشح هذا الماء وتفصل عنه الملح الزائد في كليتَيها، ثم تُفرز كميات صغيرة من البول العالي التركيز تتخلص فيها من الملح الزائد. وكذلك تستعين بآلية أخرى لضخ الصوديوم إلى الخارج من خياشيمها، باستخدام كمية من الطاقة هنا أيضًا.

أمَّا الأسماك التي انتقل أسلافها في الاتجاه الآخر؛ أي من مياه قليلة الملوحة إلى مياه عذبة خالصة، فاكتسبت آلية معاكسة تمامًا. إذ تحتاج تقريبًا إلى كل الملح الذي تستطيع استخلاصه من طعامها للحفاظ على تركيز الأملاح في دمها، وتحتفظ به بإخراج كميات كبيرة من البول المخفف جدًّا (تصل إلى ثلث وزن جسمها يوميًّا)؛ وكما خمنتَ، لديها آلية في خياشيمها لامتصاص مزيد من الأملاح.

وعمومًا، يعني ذلك أن أسماك المحيط لا تستطيع العيش في المياه العذبة، وأن أسماك البحيرات والأنهار ذات المياه العذبة لا تستطيع العيش في البحر. ولكن كما نرى في الكثير من القواعد، فاستثناءات هذه القاعدة مثيرة جدًّا للاهتمام. إذ تقضي بعض الأسماك كالسلمون والأنقليس جزءًا من حياتها في المياه العذبة وجزءًا من حياتها في البحر. فحمضها النووي يحمل الشفرة الكيميائية الحيوية التي تخص كل نوعٍ من أنواع السلوك، وتتعرض لتبديل حيوي يقلب السمات الكيميائية الحيوية للفرد من نمطٍ إلى آخر في الوقت المناسب. ولكن أين يحدث التبديل؟ عادة ما يطرأ التغيير لدى تلك الأسماك، التي يتعيَّن عليها تبديل آلية توازن الملح عندها من نظام إلى آخر، في مصبات المياه قليلة الملوحة في الطريق بين موائل المياه المالحة وموائل المياه العذبة، حيث تكون ملوحة الماء متطابقة مع ملوحة دمائها.

كل هذا يُبرز سمة رئيسية من سمات التطور. وهي أنك يجب أن تبنيَ على ما حدث سابقًا. فإذا افترضنا أنك تصمم سمكةً معينة لمحيطٍ مالح مثلًا، فسيكون من الأسهل بالطبع أن تمنحها دمًا مطابقًا لملوحة الماء. فالعمليات الكيميائية الحيوية التي تعدل ملوحة الدم وتُقللها تُعد أكثر تعقيدًا، وتستهلك موارد كيميائية وتتطلب مزيدًا من الطاقة، وكل هذا يمنح الأسماك المصممة بذكاء أفضليةً عليها. لكن التطور لا يمكنه التخلص من الآلية التي كانت تعمل في المياه القليلة الملوحة والبدء من جديد؛ بل لا بد أن يبنيَ على الموجود بالفعل. وكذلك ففي العديد من الأنواع الحية اليوم، غالبًا ما توجد آثار متبقية من نمط حياة أسلافها، أيْ سماتٌ لم تعد مهمة ولكن لم يُتخلَّص منها. حتى أجسادنا نفسها تحمل بقايا تطورية واضحة من هذا النوع، كما توضح الإجابة التالية.

١  يمكن اعتبار اسم «الكمبري» مجرد تسمية عادية، كالمصطلحات الجيولوجية الأخرى. فهو في الحقيقة مستمد من كلمة «كمري» التي تُعد اسمًا آخر لويلز، حيث وجد الجيولوجيون الروَّاد صخورًا مهمة من ذلك العصر نفسه.
٢  من المفترض أن الأمر نفسه ينطبق على أنواع الفقاريات التي انقرضت، كالديناصورات؛ لذا فمن المرجح أن دمك مشابه جدًّا لدم الديناصورات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤