التصدير

هذا كتابٌ يقدَّم إلى قرَّاء العربية ممَّا تيسَّر لي جمعه من مصطلحات علم النفس التحليلي analytical psychology التي يعرفها المتخصصون في علم النفس، ويحيط دارسو الأدب والنقد بعددٍ كبيرٍ منها، بل ويستخدمون بعضها في الدراسة الأدبية، من دون تمييزٍ لمصدرها المذكور عن المصدر الآخر المشهور؛ وهو التحليل النفسي psychoanalysis الذي يُنسب الفضل فيه للعالم الذي أكسبه منهجًا علميًّا لا مراء فيه، وهو سيجموند فرويد Sigmund Freud. والحقُّ أن هذا وذاك ينتميان لما يسمَّى علم النفس العميق depth psychology؛ لأنهما يغوصان في أعماق النفس؛ أي فيما يسمَّى اللاوعي، وإن اختلف تصوُّر فرويد للَّاوعي المرتكز على الفرد وعلله النفسية التي يرجع أغلبها إلى مشاكل جنسيةٍ — عن تصوُّر كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung — موضوع هذا الكتاب — والذي وضع أُسس البحث فيما يسميه اللاوعي الجمعي collective unconscious الذي قد يتفق وقد يختلف عن اللاوعي الشخصيِّ؛ لأنه اللاوعي القائم في نفوس البشر جميعًا، كما دفعني إلى هذا العمل ما لاحظته من الاستخدام الفضفاض أو غير الدقيق لمصطلحات علم النفس الذي اشتدَّ ساعده في القرن العشرين، وكثرت فروعه وتعمَّق فيه العلماء في عالمنا المعاصر، كما لمست أثناء مقامي في إنجلترا — (١٩٦٥–١٩٧٥م) دارسًا وقارئًا، وفي عالمنا العربي، وخصوصًا في جامعاتنا التي تفخر بإنجازاتها في فروع هذا العلم الذي أصبح كالبحر الذي لا ساحل له. أقول: إن مصطلحات علم النفس الشائعة على الألسنة؛ حتى في الغرب، تخلط بين مفاهيم فروع علم النفس الكثيرة ومفاهيم التحليل النفسي، وقد نجد بعض دارسي النقد الأدبي الغربي في الوطن العربي الذين لا يكترثون لدقة المصطلح أو لمصدره، فيخلطون بين مصطلحٍ للفرنسي لاكان Lacan ومصطلحٍ للعالم السويسريِّ يونج، أو للعالم النمسويِّ فرويد، وكثيرًا ما تجد في رسائلهم التي يكتبونها بلغاتٍ أجنبيةٍ للحصول على الماجستير أو الدكتوراه مصطلحاتٍ لم يُقصد بها التعبير عمَّا يريدونه، وهذا طبيعيٌّ ما داموا لم يبذلوا الجهد اللازم للتيقُّن من معنى كلِّ مصطلحٍ، والأرجح أنهم يحاكون بعض الأجانب الذين يستخدمون تلك المصطلحات؛ إما عن علمٍ حقيقيٍّ، وإما عن محاكاةٍ لمن يستخدمونها، وقد يكون ذلك من باب التعالم لا أكثر.
وعندما جمعت المصطلحات الخاصَّة بالعلَّامة يونج، وجدت أن إدراجها في معجمٍ موجزٍ؛ مثل المعاجم اللُّغوية الشائعة، سواءً كانت وحيدة أو ثنائية اللُّغة، على شبه تعذُّر ذلك — لن يفيد القارئ العربيَّ غير المتخصص؛ لأن التعاريف التي أضعها — استنادًا إلى أقوال العلماء وأقوال يونج نفسه — لن تلقي الضوء الكافي على الدلالة الدقيقة للمصطلح اشتقاقًا واستعمالًا؛ فقد يختلف المعنى الاشتقاقيُّ لمصطلحٍ ما عن معناه عند العلماء الذين يستخدمونه؛ ومن ثمَّ قررتُ التقديم للمعجم المعتزم وضعه بدراسةٍ موجزةٍ لثمار علم النفس التحليليِّ التي أتى بها يونج؛ أرصد فيها بإيجازٍ حياةَ يونج، وكيف اهتدى إلى مصطلحاته التي شاعت مثل الأنماط الفطرية، والتمييز بين الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية، ومثل اللاوعي الجمعيِّ، ومثل التَّفرُّد، ومثل الأنيما والأنيموس، ومثل إيمانه الشديد بالروح، وتعريفاته لها وتمييزه إيَّاها عن النفس، وإلحاحه على وجود هذه وتلك بعد أن أشاع أرباب ما بعد البنيوية (وما بعد الحداثية) أنها وهمٌ؛ مستندين إلى فلاسفة التحليل اللُّغويِّ والسلوكيين؛ إذ إن يونج يختلف في هذا اختلافًا بيِّنًا عن فرويد، وعن هؤلاء؛ فهو يلقي الضوء على هذا الجانب الذي كان يبدو غريبًا أو غير مألوفٍ في بلدان الغرب التي هزَّتها قلاقل الحروب والصراعات الفكرية؛ فاستراحت لإنكار الروح والنفس جميعًا. ويكفي أنه حين بنى منزله القريب من البحيرة — والذي انتقل إليه مع زوجته عام ١٩٠٨م — أمر بأن تُنقش على الباب الأماميِّ عبارةٌ لاتينيةٌ تقول Vocatus atque non vocatus, Deus aderit (ادعُ اللهَ أو لا تدْعُه؛ فهو الباقي).
المدخل لُغويٌّ إذن، والتركيز في كلِّ فصلٍ على المصطلحات ومعانيها العامَّة أو المعجمية، ومعانيها الخاصَّة عند يونج، وقد حصلتُ على عدة معاجم لمصطلحاته أشير إليها في المعجم، واجتهدت في تصنيفها ومقارنتها؛ مستندًا إلى عددٍ كبيرٍ من مؤلفات يونج نفسه، خصوصًا المؤلفات التي يعتبرها جوزيف كامبل Campbell مؤلفاتٍ رئيسيةً، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الكتب عنه، وعن علم النفس التحليليِّ بصفةٍ خاصَّةٍ، وبعض المراجع المتاحة في الإنترنت، حتى دارَ العامُ دورته واطمأن قلبي إلى أن العدد كافٍ لكتابة كتابٍ يتيح لغير المتخصصين، ولدارسي الأدب (والشعر) والنقد بصفةٍ خاصَّةٍ — لأن يعرفوا ما قد يحبون أن يعرفوا عن هذا العالم.

ولما كانت كتابة كتابٍ علميٍّ عن يونج — بحيث يحيط إحاطةً شبه كاملةٍ بمصطلحاته وبالإيجاز المطلوب — مهمةً شبه مستحيلةٍ؛ وهو ما يقول به عددٌ من دارسيه الألمان والإنجليز، فقد فضَّلت أن أجعل البداية سرديةً وذاتيةً، عاملًا بالحكمة البلاغية العربية التي تسمَّى «سهولة المطلع»، وأن أنحو — في المقدمة خصوصًا — منحًى قصصيًّا معاصرًا، قبل الدخول في نظريات يونج وأفكاره التي كان يعدِّلها — أو قل يهذِّبها ويشذِّبها — على امتداد حياته؛ لا بتنقيح ما كتب بل بالإضافة إليه؛ ولذلك بلغت أعماله الكاملة عشرين مجلدًا، وظلَّت تصدر تباعًا حتى عهدٍ قريبٍ (انظر الملحق). ومن الطبيعيِّ إذن أن أتابع كلَّ تغييرٍ، مستندًا إلى كتابات يونج نفسه، ومن حسن الحظِّ أنه كان يراجع ترجماته الإنجليزية، وكثيرًا ما كان يكتب كتاباتٍ مستقلَّةً بالإنجليزية. ولذلك لم أكن أشعر بالغربة حين أصادف مصطلحاتٍ ألمانية؛ إذ أجده حاضرًا للتعليق على دلالاتها بالإنجليزية.

والمعروف أن يونج ذو نظراتٍ نقديةٍ في الأدب، وخصوصًا في الشِّعر، ولكنَّ مقتطفاته الشِّعرية كلَّها تقريبًا من الأدب الألمانيِّ، ومن جيته تحديدًا، ومسرحية «فاوست» على وجه الخصوص، ويقول بعض الخبثاء إنه كان بذلك يُعرِب عن تأييده للشائعة التي اتخذت شكل الفولكلور؛ كما يقول لويس عوض في «أوراق العمر»؛ أي إنه كان من أحفاد الشاعر جيته. والواقع أنه لم ينكر الشائعة ولم يثبتها، وأمَّا ما أستشهد به فوجدته حاضرًا في شعر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وشيكسبير وكولريدج ووردزورث، وشلي ود. ﻫ. لورنس وشعر مصر القديمة وشعر «الطاوية» الهندية، ولم يكن من الممكن أن أترجم شيئًا من عملٍ كبيرٍ مثل «بروميثيوس وإبيميثيوس» للشاعر شبيتلر Spitteler؛ وهي ملحمةٌ أسطوريةٌ كتبها عام ١٨٨١م [وأما العمل الذي نال عليه جائزة نوبل في الآداب فهو الربيع الأوليمبي Der Olympische Fruhling (١٩٠٠–١٩١٠م)]؛ رغم كلِّ ما يقوله يونج عنها في فصلٍ طويلٍ ممتعٍ. والصعوبات معروفة: أوَّلها الحصول على الترجمة، وثانيها كيف أترجم عن ترجمةٍ؟!

وأتصوَّر أن وجود الشعر في الكتاب يسهم في تلطيف الجوِّ العلميِّ الجافِّ، ولولا أنني خشيت أن ترجح كفَّة الشِّعر كفَّة المادَّة العلمية لأكثرت من النماذج التي تساعد على إيضاح المفاهيم التي قد تستغلق على غير المتخصص، أو غير من اعتاد قراءة أمثال هذه الدراسات. وكان خوفي من مثل هذا الاستغلاق هو الذي كان يدفعني إلى شرح الألفاظ التي استُخدمت في سياقاتٍ غير مألوفةٍ؛ فمدخلي كما ذكرت آنفًا لغويٌّ في المقام الأوَّل.

ولا أملك إلا أن أتقدم بالشكر إلى الدكتورة سارة عناني (ابنتي) الأستاذ المساعد في قسم اللغة الإنجليزية، التي وافتني في العام الماضي بكتب يونج الرئيسة، وبعض الكتب الجديدة عن يونج التي استكملت بها «مكتبة علم النفس» المنزلية التي كنت أتيت بها من إنجلترا، وأن أعرب كذلك عن عميق امتناني للدكتورة سحر صبحي عبد الحكيم، الأستاذة في قسمنا، والتي أمدَّتني بمجموعةٍ رائعةٍ من كتب يونج في طبعاتها الأولى؛ أي خارج المجموعة المنشورة حديثًا لأعمال يونج الكاملة، وهو ما يفسر إحالتي ما أقتطفه منها إلى رقم الصفحة لا إلى رقم الفقرة؛ (وفقًا للطبعة الحديثة)، كما أشكر الدكتورة هدى شكري عيَّاد، الأستاذة في قسمنا، على قراءتها المخطوط وإبداء ما أبدته من ملحوظاتٍ من وجهة نظر النقد الأدبي، ولا يسعني إلا أن أشكر دائمًا صديقي العلَّامة ماهر شفيق فريد على اهتمامه بالعمل ومناقشتي فيه، ومتابعته جهودي، وأن أعرب عن امتناني للكتب التي أهداني إياها، فكانت عونًا لي على مجالدة هذا البحر الطامي من كتابات يونج التي لا تبدو لها نهايةٌ. وأنا أدعو له بدوام الصحة ووصْل حبل الصداقة الذي لا ينقطع على بعد الشُّقَّة.

وبعدُ، فأرجو أن يجد القارئ العربيُّ في هذا الكتاب شيئًا جديرًا بالقراءة.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠١٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤