المقدمة

(١) لماذا ندرس الأدب؟

عندما التحقت بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها في منتصف الخمسينيات كنت كمن تفتحت عيناه على «عالم جديد جميل»، كل ما فيه غريب (انظر «واحات العمر»، ج١)؛ فالشِّعر الذي درسناه في المجلد الصغير «الكنز الذهبي» يتضمن قطوفًا من أزاهير فاتنةٍ، أحببناها حبًّا جمًّا، وحفظنا الكثير منها، وردَّدنا مختاراتٍ منها في مسابقات الإلقاء في عامنا الأول، وأمَّا الروايات والمسرحيات فكانت مكتوبةً بلغةٍ رأيناها عسيرة المطلع، ولكنَّ محاضرات أساتذتنا وشروحهم — ألقت عليها الأضواء وشجعتنا على مواصلة المسير، ثم فاجأنا الدكتور رشاد رشدي بمحاضراته عن النقد الأدبي، بعد أن عاد من إجازة دراسية في الولايات المتحدة درس فيها «النقد الجديد»، وتحمس له، وكان أن أقنعنا بأن وظيفة الناقد تنحصر في تبيان محاسن العمل الأدبي ومساوئه، مركِّزًا على النَّصِّ باعتبار أن الأدب نشاطٌ إنسانيٌّ قائمٌ برأسه، وأنه يمثِّل ما كان طه حسين يصفه في أحاديثه في الصحف والإذاعة بأنه فنٌّ جميلٌ يتوسل باللغة، وأنه مثل سائر فنون الجنس البشريِّ؛ يصوِّر الإنسان ويدرسه بطرائق خاصَّةٍ به، لا تختلف إلا باختلاف الفنون الأدبية من قصةٍ وشعرٍ ومسرحٍ وتأملٍ. واستوعبنا الدرس ولم يكن استيعابه عسيرًا؛ إذ كان رشاد رشدي يردد أفكار ف. ر. ليفيز F. R. Leavis الذي بذل جهودًا جبارةً في إنجلترا على امتداد العقود السابقة كي يحظى بالاعتراف بأن دراسة الأدب مبحثٌ علميٌّ مستقلٌّ، جديرٌ بالدراسة في الجامعة، وأنه أشرف المباحث الإنسانية وأعلاها شأنًا؛ لأنه يقدِّم الحياة الإنسانية بشتى صورها وطرائق الإحساس بها، ويقترب من العلم الإنساني الكامل، أو ما عرفت فيما بعد أنه يمثل «وحدة المعرفة».
وكان نجاح ليفيز في إنشاء قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة كيمبريدج، ونجاح أقرانه من بعده في إنشاء قسمٍ مماثلٍ في جامعة أوكسفورد (انظر كتاب المباحث العلمية البينية، لمؤلفه جو موران، ط٢، ٢٠١٠م) نقطة تحوُّلٍ في النظرة إلى الأدب باعتباره ظاهرةً إنسانيةً جديرةً بالدرس ووضع المناهج العلمية الخاصة به ما دام مجالًا معرفيًّا لا غنى للإنسان عنه. وأما الخلاف كما صوَّره مؤرخو تطوُّر هذه المناهج في القرن العشرين؛ فكان يدور أساسًا حول ما يسمَّى الاستقلال autonomy؛ أي كون الأدب نشاطًا فنيًّا وفكريًّا متميزًا يتطلب مناهج دراسيةً تتفق وطبيعته الخاصَّة، أو قل مناهج تجمع بين ظواهر النصوص الأدبية (من خصائص الصياغة والسمات الجمالية) وبين المادة الفكرية التي يحيا بها الأدب ويُحييها. فأما الظواهر فهي التي يقول ياكوبسون Jakobson إنها تمثل «أدبيَّته» Literariness أو طابعه الذي يميزه عما هو غير أدبٍ، وأما المادَّة فهي التي تتسع لشتَّى أشكال حياة الإنسان وفكره، وكان معارضو ليفيز يقولون إن الأدب لا يحتاج إلى دراسةٍ علميةٍ خاصَّةٍ؛ فهو شائع والناس تقرؤه للمتعة وحسب، وإن أقرَّ بعضهم بفائدته غير المباشرة القائمة على تعميق وعي قارئ الأدب بالحياة؛ لأن الصور التي يقدمها الأدباء تحمل وجهات نظرٍ متفاوتةً تزيد من إحساس المرء بنفسه وبما حوله.
وكانت نقطة التحول المذكورة قد تزامنت مع نقطة تحولٍ أهمَّ في الوطن العربيِّ، ألا وهي التحول «الطبيعي» في مسار الأدب العربيِّ ونقده نحو الجمع بين النظرتين السابقتين؛ إذ صرَّح دارسو الأدب العربيِّ بما كانوا يعرفونه دون تصريحٍ من ضرورة ذلك الجمع، بعد أن أحسَّ الأدباء والنقاد العرب في القرن العشرين أن جماليات الظواهر الأدبية لن تعني الكثير إن لم تكن مقرونةً بالرؤى الأصيلة لحياة الإنسان بشتَّى فروعها وظواهرها، والمقصود بطبيعة الحال ما تطوَّر من علومٍ إنسانيةٍ لدينا؛ اهتداءً بما يجري في العالم من حولنا، فاتجهت دراسة الأدب إلى الأخذ بالنظرات الاجتماعية والفلسفية والنفسية والتاريخية، وهلم جرًّا، وكان هذا التطور يدين إلى إنتاجنا الأدبي بقوة دفعه، مثلما يدين للنظرات النقدية الحديثة في العالم من حولنا بطرائقه ومناهج بحثه. وبدأت تتردَّد على ألسنة النقاد في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية — كلماتٌ مثل «الالتزام»؛ المستعارة من جان بول سارتر، ومثل «الرسالة»؛ أي الغاية الإنسانية العليا التي يسعى إليها الأديب. وتضاربت الآراء ما بين مقولةٍ لا معنى لها مثل «الفن من أجل الفن» والمستعارة من مدرسة «الجماليين» aesthetes في إنجلترا في أواخر القرن التَّاسع عشر، ومثل نقيضها «الفن للحياة» وإن كانت قد اتخذت صورةً خاصَّةً عندنا هي «الفن من أجل المجتمع» واتخذها بعض الكتَّاب والنقاد سبيلًا إلى جعل الأدب يدعو إلى بعض المُثل العليا الإنسانية، وإن كانت تقتصر في نظر هؤلاء على مُثلٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ محددةٍ؛ مثل المساواة والعدل والحرية، أو الثورة على التقاليد البالية، أو الإصلاح، ثم تحوَّلت بعد فترةٍ إلى الاشتراكية ذات المفهوم الخلافي التي وصلت إلى ذروتها في ستينيات القرن العشرين.
وكان من خصائص نقطة التحول المذكورة إنشاء طه حسين، عميد كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًّا) قسم اللغات الحية، بعد إنشائه قسم اللغات الكلاسيكية؛ اليونانية واللاتينية. وكانت اللافتة التي تحمل عنوان «قسم اللغات الحية» مكتوبةً بالفرنسية على باب قسم اللغة الإنجليزية طوال دراستي في القسم الإنجليزي حتى عام ١٩٦٤م، عندما عقد مؤتمر دول عدم الانحياز في الجامعة، واتخذ مديروه مبنى القسم المذكور مكانًا للاتصالات الخارجية فأزالوا اللوحة. والواقع أن إنشاء قسم اللغة العربية وآدابها — كان يناظر إنشاء ليفيز F. R. Leavis لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها في كيمبريدج، بل لن أبالغ إن قلت إن فكرة الجمع بين المناهج التقليدية، في دراسة الأدب، والمناهج الحديثة — كانت تسير بخطًى متوازيةٍ عندنا وعندهم، فكان الاتجاه المحافظ عندهم، الذي يركِّز على اللغات الكلاسيكية والإنجليزية القديمة (الأنجلوسكسونية) — يسير جنبًا إلى جنبٍ مع دراسة الأدب الحديث بمناهج «بينية» وفكريةٍ في آنٍ واحدٍ، وكانت الخمسينيات تحديدًا هي العقد الذي شهد التداخل والتمازج بين القديم والجديد، فلم يكن من المقبول ولا المعقول أن يتناول ناقدٌ روايةً لنجيب محفوظ أو ليوسف إدريس بمنهجٍ قديمٍ من مناهج النقد البلاغي فقط؛ مثلًا، على نحو ما صوره أستاذنا العظيم محمد مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، بل كان من الطبيعي أن يجري التفاعل بين أقسام اللغة العربية واللغات الحية واللغات الكلاسيكية، وكان بعث حركة الترجمة من خلال لجنة التأليف والترجمة والنشر في العقود السابقة مؤشِّرًا على زيادة التفاعل بينها بإنشاء مشروع الألف كتابٍ عام ١٩٥٤م، على يد العظيم حسين مؤنس، وفي الوقت نفسه، اشتداد ساعد المسرح المصريِّ على أيدي كتَّابٍ يكتبون الحوار بالعامِّيَّة، ويؤمنون بالفن الذي تطوَّر في المسرح القومي من المترجمات بالفصحى برئاسة الشاعر خليل مطران، إلى الكتَّاب الذين أثبتوا وجودهم آنذاك مثل نعمان عاشور أولًا، ثم رشاد رشدي وسعد الدين وهبة ولطفي الخولي ومحمود دياب، حتى ازدهر المسرح المصري في الستينيات، وكنت وزملائي من الشهود عليه والعاملين فيه.
ولكن الصراع بين الطرفين، أو النظرتين اللتين كانتا تجتمعان أو تفترقان بسبب تفاوت تفسيرهما، لم يقدَّر له الوصول إلى «تسوية» من نوعٍ ما بنهاية الخمسينيات؛ إذ وجد رشاد رشدي في الخلاف مع عملاقٍ مثل محمد مندور فرصةً لذيوع الصيت، فكان يعلن عداءه لليساريين عمومًا، ولرواد حركة التحرر «حدتو»، متهمًا إياهم بالشيوعية، وهي التي كان النظام يناصبها العداء صراحةً، فقام بتكوين جمعيةٍ أدبيةٍ تختلف تمامًا عن الجمعية الأدبية «العربية» التي كان من أعضائها عزُّ الدين إسماعيل وفاروق خورشيد وحسين نصار وغيرهم من دعاة المذاهب العلمية في دراسة الأدب، وأطلق رشدي على جمعيته اسم «جماعة النقاد»، وضمَّ إليها بعض كتَّاب المسرح وكتَّاب القصة القصيرة، وكان يعقد اجتماعاتها إما في المسرح القومي، وإما في مقر مجلة «بناء الوطن» التي أنشأها أمين شاكر، أحد مديري مكتب الرئيس عبد الناصر مع فرعٍ إنجليزي هو The Arab Review من خلال جمعية أشهرها في وزارة الشئون الاجتماعية باسم «جمعية الوعي القومي» — وجعل من بين مشروعاتها نشر كتبٍ مترجمةٍ، جعل الإشراف عليها للمترجم النابه عثمان نويَّة [تصغير نواة] وقدِّر لي أن أصدر أوَّل كتابٍ مترجمٍ يحمل اسمي من خلالها عام ١٩٦١م. وكان رشاد رشدي يحب القرب من السلطة، منذ أن كان أخوه محمد علي رشدي وزيرًا للعدل، وكان يحب أن يصف نفسه بالبورجوازيِّ، وما زلت أذكر اجتماعًا موسعًا لجماعة النقاد دعا إليه بعض رجال الجامعة ونسائها، وكان بعضهم من خصومه، لمناقشة إحدى روايات نجيب محفوظ، وأهمُّ ما راعني في هذا الاجتماع براعة رشدي في الحوار بحيث أقنع بعض المدعوين ممن كنت أراهم من خصومه بأن النقد الجديد هو ما يدعو مندور إليه في كتابه في الميزان الجديد، وأذكر أن هؤلاء لم يجدوا ما يردون به عليه إلا التمييز بين نقد الشعر ونقد الرواية، وهو ما استدعى فكاهةً أطلقها عبد المنعم سليم باعتباره قصاصًا قائلًا: «أما نقد القصة فليس من عمل «الجماعة»!» فضحك الجميع وانفضَّ الاجتماع بما يوحي بالوئام، ظاهريًّا على الأقل.
وعاد رشاد رشدي إلى تدريس النقد لنا في السنة الختامية في الجامعة، فتوسع في عرض «النقد الجديد»، وأصدر كتابًا يضمُّ دراساتٍ مختارةً من نقد رانسوم، وتيت وبروكس وهيوم، مفتتحًا إياه بدراسة اقتطفها من أحد كتب ماثيو أرنولد Matthew Arnold بعنوان «وظيفة النقد اليوم»، وذيَّله بمقالاتٍ مهمة للشاعر ت. س. إليوت T. S. Eliot، وكان يدرِّس لنا شعره أيضًا. وكنت في العام السابق قد تعرَّفت إلى لويس عوض من طريق مجدي وهبة الذي كان يعلمنا عدَّة موادَّ؛ من بينها الشِّعر، وكنت أعددت ترجماتٍ لبعض القصائد التي ندرسها وأبدى مجدي وهبة إعجابه بها وقدمني إلى لويس عوض تمهيدًا لنشرها على نحو ما ذكرت في «واحات العمر» (١٩٩٨م)، فكنت أزوره في منزله يوم الأحد كلَّ أسبوعٍ، ثم بدأ يعقد بعدها ما يشبه الندوة المفتوحة، وكان زواره من تلاميذه السابقين، إلى جانب بعض الأدباء والشعراء، وكان من أبرزهم أحمد عبد المعطي حجازي، ثم توقفت الندوات بعد اعتقاله عام ١٩٥٨م، وكان ذلك عامي الدراسيَّ الأخير، وكان الزملاء قد نضجوا بعض الشيء، فأصبح حديث رشدي عن «النقد الجديد» يقابَل بتساؤلاتٍ ومناقشاتٍ، وكان من أهمها «ما فائدة الأدب؟» أو بتحديدٍ أدقَّ «ما نفع دراسة الأدب؟» — كأنما كان الجدل تكرارًا للجدل بين ليفيز وخصومه — وعلى رأسهم (ف. ل. لوكاس F. L. Lucas)، أستاذ اليونانية واللاتينية في كيمبريدج — وكان الموضوع مشتركًا إلى حدٍّ كبيرٍ مع زملائنا في قسم اللغة العربية، وكنت ممن يلحُّون في الجدل ومتابعة ما كان قد أصبح «قضيةً» طالما ناقشتها مع أستاذي شكري عيَّاد الذي كان يعلمنا الأدب العربي والترجمة، بروح الباحث الذي يطلب العلم بتواضع العلماء، وكثيرًا ما كنا نخرج معًا من الجامعة عائدَين إلى المنزل؛ إذ كان يقيم بالقرب من منزلنا، وكان يقرأ ما أكتب ويبدي من الصبر وسعة الصدر ما أصبح نادرًا هذه الأيام.
وذات يومٍ أصرَّ الطلاب على أن يقدم رشاد رشدي لهم إجابةً مقنعةً عن فائدة الأدب، ولماذا يزعم أن قارئ الشعر ومتذوقه أفضل ممن لا يلقي إليه بالًا، فإذا به يجيئنا بإجابةٍ لم نكن نتوقعها؛ إذ قال إن للأدب وظيفةً نفسيةً، حسبما حددها (أ. أ. ريتشاردز I. A. Richards) ألا وهي تنظيم النوازع النفسية؛ أي systematization of impulses وأسهب رشدي في عرض رأي ذلك الناقد الذي كان قد تخصص في علم النفس، قبل أن يتحوَّل إلى دراسة الأدب، وعلى الفور بدا أن الإجابة مرَضيةٌ بما يكفي طلاب السنة الرابعة، وبدا أن بعضنا استهوته الفكرة، فحصل على كتابٍ صغيرٍ له بعنوان: «فلسفة البلاغة» (١٩٣٦م)، وحصل آخر على كتابه: «النقد التطبيقي» (١٩٢٩م)، وكان كلاهما في مكتبة الجامعة، وتبادل الطلاب ما يقوله ذلك الناقد الذي أسهم مع غيره في تأسيس «النقد الجديد»، ولكنَّ العلاقات مع إنجلترا لم تكن مواتيةً لطلب المزيد من كتبه، خصوصًا كتابه: «معنى المعنى» (١٩٢٣م) الذي كتبه مع أوجدن Ogden، وبدا أن النصر قد كُتب لرأي رشدي، على الرغم من أننا لم نستطع أن نعثر على مصدر مقولته عن وظيفة الأدب في كتابات ريتشاردز، وإن كنا قد عثرنا على ما يوحي بها في كتاب إليوت: «نفع الشعر ونفع النقد» الذي كان يتضمن محاضراته عام ١٩٣٢–١٩٣٣م.
وتصادف أثناء دراستنا في عام التخرُّج أن اشتريت كتابًا صغيرًا عنوانه: «دليلٌ إلى الفكر الحديث»؛ كتبه فيلسوفٌ بريطانيٌّ هو سي. إ. م. جود Joad عام ١٩٣٣م، وعرفت أنه توفِّي عام ١٩٥٣م، ويتضمن فصلًا مهما؛ عنوانه: «علم النفس يغزو الأدب»، ويقدم فيه تحليلًا للاتجاهات الحديثة في كتابة الرواية تحديدًا، ويلقي فيه الضوء على «مكتشفات» علم النفس التي أثرت في الرواية، وخصوصًا في الاتجاهات المعاصرة لكتابتها ونقدها، ولم يكن ما أعرفه عن علم النفس آنذاك يزيد على ما تعلمته من النقاد الذين كانوا يركزون إما على ما يسمَّى «تيار الوعي»، اهتداءً بهنري برجسون Bergson، الفيلسوف الفرنسي، وكيف يتجلى التيار المذكور في بناء الشخصيات في الرواية، وإمَّا على ما كان يسمَّى «عقدة أوديب»، وكان تعبير «العقدة» يمثل الصورة «الشعبية» لمصطلح «المركَّب» الذي وضعه يونج، وإن كنا لم نسمع به من قراءة يونج أو ما كُتب عنه، بل ممَّا كتب عن فرويد الذي وصف ذلك المركَّب بالتفصيل. وكان يعني به التعلُّق المرَضيَّ للغلام بوالدته، وذكره لنا المرحوم الدكتور محمد ياسين العيوطي في تحليله لرواية: «أبناء وعشاق» التي كتبها د. ﻫ. لورنس D. H. Lawrence، كما أشار إليه في تحليله لمسرحية: «هاملت» لشيكسبير؛ إذ كان يعلمنا الرواية والدراما معًا؛ ومن ثمَّ كان ذكر علم النفس يرتبط في أذهاننا بالتحليل النفسي الذي وضعه فرويد. وكان الخلط بينهما شائعًا آنذاك، مثلما يشيع اليوم عند بعض المبتدئين، ولكن هذا وذاك تضافرا في التأثير فينا وإقناعنا بأن التفسير النفسي الذي قدمه رشاد رشدي له ما يبرره، وكان مما عزز اعتقادي بضرورة دراسة علم النفس العام إن كنت أطمع في المزيد من فهم الأدب الحديث، ما قرأته آنذاك من كتاباتٍ أو تأملاتٍ للكاتب أولدوس هكسلي Aldous Huxley عن التفسير النفسي لأدب القدماء، وخصوصًا حديثه عن الرمزية النفسية في مجموعة دراساتٍ نشرت في كتابٍ عنوانه: «موسيقى بالليل» الذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٣١م، وكنت اشتريته مع كتاب جود بدراهم معدودةٍ من سور الأزبكية، وكان من أهمِّ ما فيه قوله إن الإنسان يستخدم الرموز للتعبير عما لا يستطيع التعبير عنه باللغة الصريحة، قائلًا: إن أرباب اليونان القدماء رموزٌ لملكاتٍ في النفس؛ بعضها سافرٌ وبعضها خفيٌّ، وإن بعض الأساطير رموزٌ شعريةٌ، أو قل صورٌ شعريةٌ لنوازع أو أفكارٍ أصيلةٍ درجنا على اعتبارها «غوامض» واكتفينا بطابعها «الخرافيِّ» الجذاب. ولم أكن أدري بطبيعة الحال أن هكسلي كان يستقي بعض مادته من نظريات فرويد ذات الصِّيت الداوي. ومن يونج الذي لم يكن قد جاءنا حتى تخرَّجنا في الجامعة!

(٢) وجاء يونج

تخرَّجت في قسم اللغة الإنجليزية عام ١٩٥٩م، وبدأت الاستعداد لدراسة الماجستير، لكنَّ العلاقات مع بريطانيا لم تكن قد تحسنت رغم اتفاقية الجلاء ورحيل آخر جنديٍّ بريطانيٍّ من قناة السويس آخر عام ١٩٥٦م، فكان الحصول على الكتب، كما قلت، صعبًا، فلجأنا إلى مكتبة الجامعة الزاخرة بالنفائس، طلبًا للمراجع التي نحتاجها في الدراسات العليا، وكان من الطبيعي أن أختار دراسة الصور الشعرية عند أحد الرومانسيين الذين أحببتهم، وهو وليم وردزورث Wordsworth، فدراسة الصور الشعرية من المسائل التي يوليها «النقد الجديد» اهتمامًا بالغًا، ولم ألبث أن اكتشفت كتابًا كانت أستاذتنا هدى حبيشة قد ذكرته عرضًا في إحدى محاضراتها، وعنوانه: «أنساق الأنماط الفطرية في الشعر» للباحثة مود بودكين Maud Bodkin، وكان يحمل عنوانًا فرعيًّا جذابًا هو: «دراسات نفسية للخيال»، ويحمل تاريخ صدوره عام ١٩٣٤م، والمعروف أن الأنماط الفطرية archetypes اسمٌ يطلقه عالم النفس السويسريُّ كارل جوستاف يونج Jung على أشكالٍ أو مواقف أو ميولٍ فطريةٍ innate؛ أي تولد مع المرء inborn ولا تُكتسب من الخبرة، وتظلُّ كامنةً في اللاوعي الجمعيِّ collective unconscious حتى يحدث ما يؤدي إلى انتقالها إلى الوعي، أو كما يقول يونج تخطيها عتبة the threshold اللاوعي عند الفرد، أو تظلُّ كامنةً حتى يدركها فردٌ آخر، وهي تظهر في الشعر بصورٍ متفاوتةٍ، ويوحي يونج في كتاباته الكثيرة عنها بأنها ليست في جميع الأحوال أشياء ملموسةٌ بل قد تكون «مسارات» وحسب أو قل حركةٌ process أو خطواتٌ تنبئ عن ميولٍ إنسانيةٍ أزليةٍ primordial؛ أي «لا زمنية» timeless ومن ثمَّ فهي توصف بالقِدم بمعنى عدم وجودها في الزمن، كما سوف أشرح في الفصل الأول، وهي عامَّةٌ وعالميةٌ ولا تختلف إلا ظاهريًّا؛ أي في الشكل من فردٍ إلى فردٍ، أو من حالة إلى حالة بغضِّ النظر عن اختلاف الجنسين أو الاختلاف العرقيِّ أو الثقافيِّ وهلم جرًّا. ومن هذه الأنماط الفطرية نمط الرحلة، والنمط type هو النوع، وأمَّا النَّسق pattern فهو النظام الذي يتخذه النمط الفطريُّ عند انتقاله من اللاوعي إلى الوعي، وخصوصًا عند اجتماع عدَّة أنماطٍ معًا، فالرحلة البحرية التي نجدها في قصيدة «الملاح الهرم» للشاعر كولريدج Coleridge تجمع بين نمط الرحلة ونمط البحر الفطريين، وقد شملتهما القصيدة الطويلة، وهي قصيدةٌ يجتمع فيها عددٌ من الأنماط الفطرية في عدة أنساقٍ، منها الخطيئة وطلب التوبة، ثم المغفرة، ومنها التكفير عن الذنب بقوة الحبِّ الذي يربط بين الكائنات الحية جميعًا، كبيرها وصغيرها، وسوف أناقش بعضها في القسم التالي أثناء عرض كتاب مود بودكين المشار إليه، وأكتفي الآن بأن أبين أن ما نسميه موتيفات motifs [انظر تعريفها ص٣٦] قد تكون أفكارًا أو صورًا كامنةً في اللاوعي الجمعيِّ، وقد يعتبر بعضها مادةً لنمطٍ فطريٍّ، والمثال الحاضر هو ما ذكرته عن الإحساس بالخطيئة والتكفير عن الذنب ونشدان المغفرة؛ فهذه في ذاتها «موتيفات» قد يُرجعها الدارسون إلى عوامل «خارجية» كقول بعض الفلاسفة وعلماء النفس المحدثين إن الإحساس بالذنب أمرٌ اجتماعيٌّ محضٌ، أو راجعٌ إلى التراث الدينيِّ أو التقاليد أو الأعراف السائدة، وهو ما لا نستطيع أن ننكره، ولكن تحقيق التكفير عن الذنب؛ أي الإحساس بأن المرء قد برئ من الإثم — إحساس فطريٌّ ينسبه يونج إلى ما يسميه «الميلاد الجديد» rebirth وهو يناقشه تفصيلًا في الفصل الثالث من كتابه «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي»، والذي صدرت طبعته الإنجليزية في ١٩٥٩م، وإن كانت مادته قائمة على محاضرةٍ ألقاها عام ١٩٣٩م؛ أي إنها صدرت في صورتيها الألمانية (١٩٤٠م) والإنجليزية (١٩٥٩م) بعد كتاب بودكين، ومع ذلك فإن المؤلفة تشير إلى ذلك النمط الفطري مستندةً إلى بعض كتاباته المبكرة. ومن الطريف أن يونج يقول إنه أضاف إلى المحاضرة تحليلًا رمزيًّا لما يسميه «لغز الميلاد الجديد» في القرآن الكريم؛ مركِّزًا على سورة «الكهف»، وأصحاب الكهف، وعلى قصة ذي القرنين. ويقسِّم يونج نمط الميلاد الجديد إلى خمسة أنماطٍ فرعيةٍ، أوجزها فيما يلي: (١) تناسخ الأرواح metempsychosis ويعني عودة الروح إلى الأرض وفق تقاليد البوذية المعروفة، وهو ما يرمز لتعدد صور الوجود على الأرض، و(٢) العودة للدنيا reincarnation ويعني عودة وجود الروح عمومًا في جسدٍ بشريٍّ، و(٣) البعث resurrection ويعني عودة الوجود البشريِّ بعد الموت، وهو ما تنصُّ عليه الأديان السماوية، و(٤) الميلاد الجديد rebirth/renovato بالمعنى الحقيقي؛ أي أن يولد المرء من جديدٍ أثناء حياته وهو ما يعني التجديد renovation بتعبيرٍ أدقَّ، و(٥) المشاركة في عملية التحوُّل participation in the process of transformation ويعرِّفه بأنه نوعٌ من الميلاد الجديد غير المباشر بمعنى تحوُّل نفس الإنسان من خلال شعائر العبادة التي تختلف باختلاف الأديان.
(يونج: الأنماط الفطرية واللَّاوعي الجمعي، ط١٩٩٠م، ١١١–١١٥)
وسوف أمهِّد لعرض كتاب مود بودكين المشار إليه بعرضٍ موجزٍ لحديث يونج عن علاقة علم النفس بالأدب، مستندًا إلى دراستين سبقتا كتاب بودكين: الأولى بعنوان: «حول علاقة علم النفس التحليلي بفن الشعر»، كتبها عام ١٩٢٥م (وهي واردة في كتاب: «المنتخب من أعمال يونج»، في الصفحات ٣٠١–٣١٢، المنشور عام ١٩٧٦م)، وتكاد تنحصر أهميتها في التمييز الذي يضعه يونج، وتتبَّعه بودكين بين النمط والنسق، قائلةً إن النسق لا يتحقق إلا من خلال فعلٍ يخرج النمط الفطريَّ من اللاوعي إلى الوعي حتى يشتبك مع أنماطٍ فطريةٍ أخرى في نسقٍ معينٍ، أو ما أصبح النقاد يسمونه «عنقود الصور» a cluster of images وهو ما سوف أعود إليه بعد عرض كتاب بودكين. وأمَّا الدراسة الثانية فقد كتبها يونج عام ١٩٣٣م بعنوان «علم النفس والأدب»، وهي منشورةٌ في كتابٍ عنوانه: «الإنسان الحديث باحثًا عن روح» من ترجمة و. س. ديل Dell وكاري ف. بينز Baynes وهي التي أبدأ بعرضها فيما يلي.

(٣) علم النفس والأدب

يقول يونج في الفصل الذي يحمل هذا العنوان من الكتاب المشار إليه أخيرًا (وليتني أجد المساحة اللازمة في الكتاب لتقديمه كاملًا): إن مدخل عالم النفس إلى العمل الأدبي يختلف اختلافًا كاملًا عن مدخل الناقد الأدبي؛ فقد يتضمن العمل أشياء تتمتع بأهميةٍ حاسمة وقيمةٍ قاطعةٍ للناقد من دون أن تهمَّ عالم النفس، قائلًا: إن ما يسمَّى بالرواية السيكلوجية لا تتمتع بأية أهمية لعالم النفس؛ لأنها تشرح نفسها، ولا تحتاج إلى إعمال الذهن أو الدرس العميق، وأمَّا العمل الفنيُّ الذي قد نشكو من غموضه على الرغم من إعجابنا الشديد به والمتعة الغامرة التي نجدها في قراءته وتأمله، بل والعودة إليه المرة بعد المرة؛ فهو الذي يتطلب اجتهاد عالم النفس في محاولة تحليله التحليل الصحيح. وهو يضرب مثالًا للفرق بين النوعين الأدبيين، نثرًا أو شعرًا، بالفرق بين الجزء الأول من مسرحية فاوست للشاعر جيته، والجزء الثاني منها. فعالم النفس لا يستطيع إضافة شيءٍ إلى مأساة الحب عند البطلة جريتشين Gretchen في الجزء الأول؛ فمأساتها تشرح ذاتها. «وأما الجزء الثاني فيحتاج إلى الشرح» (ص١٥٥)؛ إذ إن الثراء العبقريَّ للمادة المتخيَّلة قد أجهد الطاقة التشكيلية للشاعر، بحيث يضيف كلُّ بيتٍ من الشعر إلى حاجة القارئ إلى التفسير، ويضيف يونج أنه من أجل توكيد هذا الفرق، يطلق على النوع الأدبي الأول اسم الإبداع السيكلوجي، وعلى الثاني إبداع الرؤية أو الرؤيا visionary وحسْب.
ويعرِّف يونج الإبداع السيكلوجي أنه الإبداع الذي يستوعب الشاعر فيه المادة النفسية، ثم يرفعها من مستوى التعبير المألوف إلى مستوى الخبرة الشعرية، وهو يمنحها صوغًا يرغم القارئ على الإبصار بوضوحٍ أكبر، والإدراك ببصيرةٍ أعمق لتلك المادة، وذلك بوضعها كاملةً أمام وعيه، بعد أن كان يتجاهلها في العادة أو لا يكاد يشعر بها. أي إن عمل الشاعر يتمثل في إيضاح محتويات الوعي والخبرات المحتومة للحياة الإنسانية وما يتكرر فيها من أفراح وأتراح على مرِّ الزمن. وأما إبداع الرؤى فيقدم عكس أحوال الإبداع السيكلوجي: «فالخبرة» التي تشكِّل مادة التعبير الفنيِّ، ليست مألوفةً. إنها شيءٌ غريبٌ يستمد وجوده من المنطقة الخلفية الخفية من النفس [hinterland؛ أي ما وراء الساحل] وهي التي توحي بالهوَّة الزمنية الهائلة التي تفصلنا عن عصور ما قبل الإنسان pre-human ages، أو توحي بعالمٍ إنسانيٍّ فائقٍ، تتضادُّ فيه الظلمة والنور. إنها خبرةٌ أزليةٌ تتجاوز فهم الإنسان؛ ومن ثمَّ فهو يواجه دائمًا خطر الخضوع لها (يونج، «الإنسان الحديث باحثًا عن روح»، ص١٥٦–١٥٧).
ويشرح يونج بعد ذلك كيف يعبِّر الإنسان عمَّا يشعر به أو يتصور أن له وجودًا غامضًا داخل نفسه في أعمالٍ فنيةٍ منقوشةٍ أو منحوتةٍ أو في أساطير تتناقلها الأجيال، وقد يتعلق بعضها بالأديان البدائية الموغلة في القدم، وقد يتمثل في طقوسٍ وشعائر سريةٍ، قائلًا: إن الشاعر يستمدُّ إبداعه من خبرةٍ أزليةٍ، وهي خبرةٌ لا يسبر لها غورٌ، ولا بدَّ لها من صورٍ أسطوريةٍ تكتسب منها شكلها. وهو يضرب أمثلةً من دانتي وتصويره للجنة والنار، ومن غيره من شعراء اليونان ومن وليم بليك Blake، ثم يقول بعد تعديد الصور الغريبة التي تزخر بها الأعمال الفنية القائمة على الرؤى:

لا يستطيع علم النفس أن يقدم ما يوضح لنا هذه الصور المختلفة إلا بتجميع الموادِّ لإجراء المقارنات ما بينها، ووضع مصطلحاتٍ تساعدنا على مناقشتها. وتقول هذه المصطلحات إن ما يظهر في الرؤية أو الرؤيا هو اللاوعي الجمعي. ومعنى اللاوعي الجمعيِّ هو توجُّهٌ نفسيٌّ معينٌ شكَّلته قوى الوراثة، بحيث يخرج الوعي منه ويتطور. فنحن نجد في البناء الماديِّ للجسد آثارًا للمراحل المبكرة للنشوء والارتقاء، ولنا أن نتوقع أن تطيع النفس البشرية في تشكيلها قانون تطوُّر السلالة كذلك. (يونج، المرجع نفسه، ص١٦٥)

وينتقل يونج بعد الحديث عن الأساطير وضرورة الاستعانة بها للتعبير عمَّا لا يمكن التعبير عنه بلغة العقل والمنطق، أو لغة الحياة «السوية»، إلى القول بأن الذي يكتسب أهميةً خاصَّةً لدراسة الأدب في تجليات اللاوعي الجمعيِّ المذكورة «كونها معادلة تعويضيةً compensatory للموقف الواعي، ومعنى هذا أنها تستطيع أن تُحدث توازنًا بصورةٍ واضحة الغرض مع حالة وعيٍ متحيزٍ أو غير سويٍّ أو خطرٍ. ونحن نرى في الأحلام هذا التعويض بوضوحٍ شديدٍ في حالته الإيجابية. وعملية التعويض في حالات الجنون كثيرًا ما تكون شديدة الوضوح أيضًا، ولكنها ذات شكلٍ سلبي» (يونج، المرجع نفسه، ص١٦٥).
ويذكِّرنا حديث يونج بعد ذلك عن «روح العصر» بما قاله أرنولد من قبله في القرن التاسع عشر، في كتابٍ عنوانه: «حول ترجمة هوميروس» عام ١٨٦١م، والذي يضمُّ مجموعة محاضراته عن الشعر في جامعة أوكسفورد في عام ١٨٦٠م، وكان يسميها «روح الزمن» Time-Spirit كما يبين الدكتور شبل الكومي في رسالته للدكتوراه عام ١٩٧٨م، وإن لم يختلف المعنى عن «روح العصر» عند هازليت Spirit of the Age (١٨٢٥م) المقابلة للألمانية Zeitgeist؛ إذ يقول يونج:

«يستمد الشعر العظيم قوته من حياة البشر، وسوف يضيع معناه عنا تمامًا إذا حاولنا أن نستمدَّه من عوامل شخصيةٍ. فكلما أصبح اللاوعي الجمعي خبرةً معيشةً، وأصبح يؤثر في النظرة الواعية لعصرٍ من العصور — صار هذا الحدث عملًا خلَّاقًا، وأصبح مهمًّا لكل من يعيش في ذلك العصر … الحقبة الزمنية تشبه الإنسان الفرد، فنظرتها الواعية تتسم بأوجه قصورٍ؛ ومن ثمَّ فهي تحتاج إلى التكيُّف التعويضيِّ. وهذا ما يقوم به اللاوعي الجمعي، ما دام الشاعر أو النبيُّ، أو القائد يسمح لنفسه بأن يهتدي بالرغبة غير المعبَّر عنها في زمانه، ويرسم الطريق بالقول أو بالفعل الكفيل بتحقيق ما يسعى إليه كل فردٍ، ويطمح إليه كلُّ فردٍ طموحًا أعمى؛ سواءً أدَّى هذا التحقيق إلى الخير أو إلى الشر؛ أي إلى شفاء الحقبة أو هلاكها.» (يونج المرجع نفسه، ص١٦٦)

وعندما يتعرض يونج في الجزء الثاني من هذا الفصل إلى الشاعر؛ فإنه يؤكد ما دعا إليه النقد الجديد من الفصل بين الشاعر وشعره؛ معترضًا على مذهب فرويد الذي يرمي إلى تفسير الشعر على ضوء شخصية الشاعر، واصفًا إياه بالمعاناة من العصاب، قائلًا:

يقول فرويد إن العصاب بديل عن الوسيلة المباشرة للحصول على الرضى والإشباع؛ ومن ثمَّ فهو يعتبره شيئًا غير لائقٍ، أو خطأً أو مراوغةً أو ذريعةً أو عمًى طوعيًّا … ولما كان العصاب، وفق شتى مظاهره، اضطرابًا مزعجًا؛ ويزيد من إزعاجه كونه بلا معنى ولا دلالةٍ، فلن تجد أحدًا تقريبًا يذكره بالخير. وإذا حللنا العمل الفنيَّ باعتباره تعبيرًا عن حالات الكبت في نفس الشاعر؛ كنا نقول إنه يقترب من العصاب، وهو أمرٌ مشكوكٌ في صحته. ففي ضوء ذلك نجد أن الفن ينضمُّ إلى الفلسفة وإلى الدين في علم النفس الفرويديِّ. ولن نعترض إذا كان المقصود الإشارة إلى أن هذا المدخل يقتصر على تبيان العوامل الشخصية التي تؤثر في العمل الفني حتمًا، أما إذا قيل بأن مثل هذا التحليل قادر على تفسير العمل الفني نفسه، فإننا ننكر ذلك إنكارًا قطعيًّا … ربما يصح قول أتباع فرويد إن الفنانين بلا استثناء نرجسيون، وهو ما يعني أنهم أشخاص لم يكتمل نموهم، ولديهم نزعاتٌ طفوليةٌ وولعٌ شديدٌ بالذات. ولكن هذه المقولة لا تصح إلا عن الفنان باعتباره شخصًا ولا علاقة لها بالشخص باعتباره فنانًا. فالفنان لا يوصف بالولع بذاته ولا بغيره ولا بالولع أصلًا؛ فهو موضوعيٌّ و«لا شخصي» impersonal — بل وغير بشريٍّ inhuman — فهو باعتباره فنانًا مرادف لعمله. إنه هو عمله لا مجرد فرد من أبناء البشر. (يونج، المرجع نفسه، ص١٦٧–١٦٨)
وينتهي يونج إلى أن يقول: إن الفنان باعتباره إنسانًا يتمتع بالإرادة وله حالاته النفسية المتغيرة، بل وأهدافه الشخصية، ولكنه باعتباره فنانًا فهو «كائنٌ» يمثل الإنسانية بأعلى معنى؛ أي إنه «الإنسان الجمعي»؛ أي إنه يتولى حمل الحياة الروحية اللاواعية للبشرية وتشكيلها. وقد يقتضي أداؤه لهذه المهمة العسيرة التضحية بسعادته، بل بكل ما يجعل الحياة جديرة بأن يحياها الإنسان المعتاد (ص١٦٩). وأختتم هذا التلخيص لكلام يونج بفقرةٍ أخيرةٍ تدل على تأثره بتيار الفكر الوجوديِّ الذي كان سائدًا في عصره؛ إذ إنه يقول: إن الفن في حقيقته حلمٌ، وإن بعض الأعمال الفنية والأدبية بل والفكرية العظمى تنشأ من نمطٍ فطريٍّ، وقد يختص هذا النمط الفطريُّ بحياة أمةٍ من الأمم؛ أي إننا قد لا نجده في أمم أخرى، وهذه مسألةٌ بالغة الأهمية؛ لأنها ترتبط بحديثه في كتابٍ آخر عن أنماط الشخصية؛ فهو يقول: إن «فاوست» Faust لجيته Goethe، و«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه Nietzsche عملان ينبضان «بما يدفُّ بين جوانح كل ألماني» — وهي «صورة أزلية» — كما أطلق عليها ياكوب بيركهارت Burckhardt [المؤرخ السويسري، ت ١٨٩٧م] ذات يوم، أي صورة الطبيب أو المعلم للبشرية. ويضيف يونج قائلًا: «إن الصورة التي يرسمها النمط الفطري للحكيم؛ أي للمخلِّص أو المنقذ، تظل دفينة وكامنة في اللاوعي الإنساني منذ فجر الثقافة. وهي تصحو كلما انفرط عقد الزمان وتعرض المجتمع البشري لخطأ جسيم» (يونج المرجع نفسه، ص١٧١)

ويختتم يونج هذا الفصل قائلًا:

يكمن سرُّ الإبداع الفني وفعالية الفن في العودة إلى حالة الإحساس بمشاركة التماهي الروحي participation mystique؛ أي الصعود إلى مستوى الخبرة بالبشر الأحياء لا إلى مستوى خبرة الفرد؛ فالأول هو المستوى الذي تنتفي عنده السرَّاء والضرَّاء للإنسان الفرد، ويحل محلهما هناء البشر وشفاؤهم جميعًا؛ أي ما في الوجود الإنساني من خير وشرٍّ. ولهذا فإن كلَّ عملٍ فنيٍّ عظيمٍ موضوعيٌّ و«لا شخصي»، ورغم ذلك فهو يؤثر فينا جميعًا تأثيرًا عميقًا، وفي كل فرد على حدةٍ. ولهذا أيضًا لا يمكننا أن نعتبر الحياة الشخصية للشاعر ذات أهميةٍ أساسيةٍ لفنه، فأقصى دورٍ تنهض به هو إعانة مهمته الخلاقة أو إعاقتها. قد يكون شخصًا معتادًا، أو مواطنًا صالحًا، أو مصابًا بالعصاب، أو أحمق أو حتى مجرمًا. وقد تكون الإحاطة بحياته العملية محتومةً وطريفةً، ولكنَّها لا تفسر لنا شعر الشاعر. (يونج المرجع نفسه، ص١٧٢)
وأظن أن عرض هذا الفصل الذي كتبه يونج عام ١٩٣٣م يدلنا على مسار تفكيره بعد انفصاله عن فرويد، وهو ما يتجلى في نظرته إلى الفنان أو الشاعر باعتباره ممثلًا للإنسان بصورة عامة، ما دامت الأنماط الفطرية الشخصية تشترك على أعمق مستوى مع الأنماط الفطرية الجمعية؛ بمعنى أن اللاوعي الفردي يمثل اللاوعي الجماعي، مهما تكن الاختلافات الراجعة إلى أنماط الشخصية واختلافاتها وفق أحوالها الاجتماعية. ويؤدي ذلك إلى نتيجة احتفل بها رواد مدرسة النقد الجديد، وبشر بها يونج، وهي انفصال الفنان شخصيًّا عن فنه، وما يتبع هذا من كون العمل الفنيِّ مستقلًّا، مهما بدا من ظواهره التي تربطه بمكان إبداعه وزمانه. وهذه الفرضية تتيح لنا أن نتذوق شعر الماضي والحاضر بمعايير نفسيةٍ واحدةٍ، على الرغم من الاختلاف في الشكل أو اللغة أو الصياغة الأدبية. وهو ما ذكره بروكس Brooks مستشهدًا بقول أستاذ هو بوتل Pottle سبق أن أشرت إليه في كتابي الصغير النقد التحليلي (١٩٦٣م). وأما تأثير التراث الأدبي في أشكال الأعمال الأدبية فقد ناقشه إليوت مناقشةً رائعةً سابقةً للنقد الجديد، ولكن السؤال الذي طرحته آنفًا يظل قائمًا وهو: إلى أي حدٍّ يمكن لنظرية الأنماط الفطرية القائمة على اللاوعي (الفردي والجماعي) أن تساعد القارئ على تذوق الأعمال الفنية، وأن توفر للناقد معايير للتمييز بين الغث والسمين؟ وهو سؤال شغل كثيرًا من النقاد وما زال يشغلهم. وهنا يبرز كتاب مود بودكين المشار إليه باعتباره من أوائل (إن لم يكن أوَّل) الجهود التي بُذلت لتطبيق نظرية يونج على عددٍ من الأعمال الأدبية العالمية. وربما كانت تلك النظرية تمثل ارتيادًا لمجال جديد في النقد الأدبي، وربما كانت نظرية «علمية» حقيقية، على الرغم من اعتمادها على الحدس والبصائر الفردية الثاقبة؛ أي على الرغم من عدم خضوعها لمناهج العلوم الطبيعية القائمة على التجربة والاستقراء والقياس والاستناد إلى معطيات الحواس وحدها (منذ ديكارت).

لا شك أن جيلنا فرحٌ بما أتى به يونج، واحتفاء العالم حتى اليوم بمنجزاته دليلٌ على أننا لم نكن على ضلال. والحقُّ أن استعمال معطيات علم النفس التحليلي — وهو علم حديث — في شرح الظواهر الفنية والأدبية قد لقي أنصارًا أكثر مما لقي من الأعداء؛ إذ إننا رأينا أولًا في نظريات يونج استكمالًا لنظريات فرويد التي كانت ولا تزال سائدة، واتجه عدد كبير من النقاد إلى الجمع بين أفكار العالمين، ولا أظن أن كفَّة الميزان رجحت لصالح أحدهما إلى الآن؛ إذ اتبعت أعدادٌ كبيرة من الباحثين مذهب كلٍّ منهما، خصوصًا بعد نشأة المدرسة الحديثة التي تسمَّى النظرية وحسب، أو النظرية الفرنسية، وهي التي تعتمد على المذهب الفلسفي والديكارتي أكثر مما تعتمد على مذهب الحدس والاستبطان الذي وضعه يونج ورسخ أركانه.

كان الذي أثار جيلنا أكثر من غيره إمكان إلقاء الضوء على الإبداع الفني والأدبي بفضل إسهامات علماء النفس، والقدرة على التحليل اهتداءً بالرموز العامة والخاصة للبشرية، وأساليب الفصل والوصل المتبعة في العلوم الإنسانية التي بدأ تطبيقها في علم النفس، حتى التجارب المعملية التي كان الباحثون يجرونها بدقةٍ متزايدةٍ، على الحيوان وعلى الإنسان، إلى آخر ما شهده هذا العلم الوليد من تطوره. وتساءل بعضنا: هل تزداد قدرتنا على الحكم علميًّا على الأعمال الأدبية والفنية بفضل علم النفس التحليلي الذي أتى به يونج؟ وأما علم النفس الذي تخصص دارسوه في الإبداع فقد تطور على مرِّ الزمن من مصطفى سويف إلى شاكر عبد الحميد وأضرابه (وأذكر منهم من كان يدرس في إنجلترا أثناء دراستي ١٩٦٥–١٩٧٥م) ونشأ بطبيعة الحال من بين فلاسفة الوضعية والمادية من ينكر وجود النفس أصلًا، كبعض أصحاب ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية، ومنهم من يسخر حتى اليوم من فكرة الإلهام والوعي وكلِّ ما جاء به أصحاب علم النفس العميق depth psychology ولكننا وجدنا عند يونج، وعند أتباعه، ما برَّر لنا الحاجة إلى ما جاءوا به، ولأبدأ بالنظر فيما قالته مود بودكين في كتابها المذكور؛ فهو على الرغم من صدوره أثناء عمل يونج (١٩٣٤م) — قد أثبت كثيرًا مما جاء به قبل كتابها وبعده، والطبعة التي عندي صدرت عام ١٩٦٨م، بعد طبعاتٍ أخرى عام ١٩٦٣م، و١٩٦٥م، ثم أخيرًا ١٩٩٢م، بعد أن أصبح إنكار وجود النفس من ذكريات القرن العشرين.

(٤) أنساق الأنماط الفطريَّة في الشِّعر

تقول المؤلفة في مستهلِّ كتابها إن يونج كتب مقالًا عن علاقة علم النفس التحليلي بفن الشعر، [في كتاب عنوانه: «مساهمات في علم النفس التحليلي»، ترجمة ﻫ. ج. وس. ف. بينز Baynes والمنشور عام ١٩٢٨م] يفترض فيه الأهمية السيكلوجية للشعر. فأما الأهمية العاطفية الخاصة لبعض القصائد — أي الأهمية التي تتجاوز أيَّ معنًى محددٍ تقدمه القصائد — فينسبها إلى الإثارة في نفس القارئ لقوى لا واعيةٍ في داخل استجابته الواعية أو تحتها، وهي التي يسميها «الصور الأزلية» أو الأنماط الفطرية. وهو يصف هذه الأنماط الفطرية قائلًا إنها «رواسب نفسية من خبراتٍ لا تحصى، تنتمي لنمطٍ واحد»، وإن هذه الخبرات لم تحدث للفرد بل لأسلافه، وإن نتائجها موروثةٌ في بناء المخِّ، وتعتبر عوامل سابقة الوجود a priori تتحكم في الخبرة الفردية (بودكين، ص١).
وتقول المؤلفة إن هدفها فحص هذه الفرضية بأمثلة شعرية وآراء الباحثين فيها من وجهات نظرٍ مختلفةٍ، وتبدأ بعرض مقال للناقد جيلبرت مري Murray [عنوانه: «هاملت وأوريستيز» Orestes في كتاب عنوانه: «التقاليد الكلاسيكية في الشعر»، ١٩٢٧م]؛ لأنه، كما تقول، يصف تأثير الدراما الشعرية العظيمة بلغةٍ تشبه لغة يونج إلى حدٍّ ما، قائلًا: إن الموضوع في العملين يثبت قدرته على «البقاء الأبدي تقريبًا». وتستشهد بقول مري إن أمثال هذه القصص والمواقف «ذات جذورٍ ثابتةٍ عميقةٍ في ذاكرة الجنس البشري، أو قل إنها مطبوعةٌ في كيان وجودنا الماديِّ الحيِّ». وهو يضيف قائلًا إننا نعتبر هذه القصص غريبة، و«لكن شيئًا ما في داخلنا يتواثب عند مرآها، ونسمع في دمنا صوتًا يقول: إننا كنا دائمًا على علم بها». وتقتطف بودكين مزيدًا من أقوال مري عن «الذبذبة الغريبة الغامضة تحت السطح، أو التيار الباطن من الرغبات والمخاوف والمشاعر الجيَّاشة، وهي التي طال نومها، وإن كنا نعرفها على امتداد الزمن، والتي ظلَّت آلاف السنين كامنةً بالقرب من جذور أعمق مشاعرنا وألصقها بنا، والتي تشتبك في أنسجة أشدِّ أحلامنا سحرًا» (ص٢).
وتضيف المؤلفة إشارة تكاد تسبق بها عصرها حين تدعو إلى ما أصبحنا نسميه «البينية»؛ أي المشاركة ما بين التخصصات العلمية interdisciplinarity وهو عنوان الكتاب الذي أشرت إليه في ص (١٥) من هذه المقدمة؛ إذ تقول ما يلي:
قد يستفيد الطالب الساعي إلى استكشاف استجابة نفوس أبناء اليوم ومخيلاتهم، لموضوعات الشعر العظمى، من الجهود التي بذلها الأطباء النفسانيون، ثم لا يقتصر على ذلك بل يدرس ما أتى به علماء الأنثروبولوجيا الذين حاولوا إجراء دراسة علمية لردود أفعال ذوي النفوس البدائية. إذ استفاد هؤلاء العلماء في دراستهم لتقبُّل شعبٍ ما لعناصر ثقافيةٍ جديدةٍ من مصطلحٍ يدعى «النسق الثقافي» cultural pattern الذي يشير إلى التشكيل السابق الوجود، أو إلى النظام أو الترتيب، للميول التي تحدد طابع الاستجابة لأفراد جماعةٍ ما للعنصر الجديد. وعندما ناقش جولدنوايزر Goldenweiser قيمة «استكشافاتنا النظرية» «لمفهوم النسق الثقافي» [في كتاب العلوم الاجتماعية وتداخلها، ١٩٢٨م] أشار إلى العلاقة بين مفهوم الشكل والنظام في الفنون والمباحث الثقافية، كما وضع أ. أ. ريتشاردز في الكتاب نفسه تصنيفًا للبيئات المختلفة، وتمييزًا للبيئة النفسية الاجتماعية التي تتضمن بعض نظم الرموز المحفوظة في الكتب، وهي التي يقول إن فيها «عملياتٍ نفسيةً تصل إلى أعلى نمط من أنماط نموها المجسَّد». ويمكن لهذا المحتوى الرمزي المختزن أن يكتسب في أية لحظة فاعلية تجعله قادرًا على أن يبعث الحياة في الأنساق المناظرة له في نفوس أفراد الجماعة؛ فهي التي تعتبر رموزًا لإنتاجها الجمعي وما تملكه على مستوى الجماعة. (بودكين، ص٣–٤)
وانطلاقًا من هذا «العرض» تقول المؤلفة إنها ترسم صورة البحث الذي تقدمه في الكتاب المذكور في إطار «المجال العام للأنثروبولوجيا أو علم النفس الاجتماعي» (ص٤). ثم تقول إن معنى «أنساق الأنماط الفطرية» يتفق مع ما يقول جلبرت مري إنه الشيء الذي يتواثب داخلنا عند مرآه؛ أي تقديم موضوعٍ فطريٍّ أو أزليٍّ في شعر حديث (أو قديم). وتناقش بودكين بعد ذلك القضايا الفلسفية المرتبطة بالنقد الأدبي والمداخل المتاحة آنذاك (في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين) لنقاد الأدب، عارضةً آراء المطالبين بتحليل النصوص فنيًّا (أي تقنيًّا) ومن يعارضون ذلك مطالبين بالتركيز على الشعور العام general feeling، أو ما نسميه «الانطباع» impression الذي ينقله الشاعر إلينا وحسب، أو التركيز على المعنى أو ما يسميه بعض النقاد «الدلالة النثرية» prose sense للقصيدة مثلًا، حتى تصل إلى غايتها وهي القراءة النفسية؛ أي القراءة التي تنتقل من المستوى الفردي إلى المستوى الجمعيِّ، بحيث يمكن أن تطلعنا على خبايا لم نكن ندري بوجودها، وربما لم يكن الشاعر نفسه يدري بها؛ فهي تنتمي إلى «اللاوعي الجمعي»، وفق تعريف يونج له، بمعنى أنه مستودع repository الخبرات الفطرية إلى جانب صورها المعدلة المكتسبة؛ فأما صورتها الفطرية فتعبر عنها الأنماط الفطرية، وأما صورها المعدَّلة فهي صورها في القصيدة بعد أن انتقلت من اللاوعي إلى الوعي فأصبحت تخاطب حواسنا الواعية؛ أي النفس الواعية أولًا، وإن كانت لأصولها الفطرية في اللاوعي قوةٌ قادرةٌ على «إحياء» نظائر كامنةٍ أو غافيةٍ في نفوس القراء.
وسأتجاوز في هذا العرض الموجز قضية هاملت والشهرة التي تحققت لتفسيرها الفرويدي؛ لأنني سوف أعود إليها بسبب رفض يونج لمفهوم مركَّب أوديب (الذي اشتهر باسم عقدة أوديب بالعربية) وإن كنت لا بدَّ أن أشير إلى قضيةٍ لم تتناولها المؤلفة ما دامت تنتهج المنهج النفسي لا الأدبيَّ، ألا وهي: هل يوحي مذهبها بأن الأدب الذي يتوسل بالأنماط الفطرية أقدر على التأثير في القارئ من سواه؟ أي — بلغة النقد الحديث — كيف تصبح الأنماط الفطرية من معايير الحكم على امتياز العمل الشعري؟ إن نورثروب فري Frye مثلًا يخصص فصلًا في كتابه: «تشريح النقد» (١٩٥٧م) لما يسميه النقد وفق الأنماط الفطرية، ثم لا يبتُّ في القضية، ويسهب بأسلوبه المعروف في الحديث عنها من دون ربطها بالقيم الجمالية، أو التي أشرت إليها باسم «التقنية». وتستشهد بودكين بأبياتٍ من شعر شيكسبير في هاملت كان ماثيو أرنولد Arnold يدعو إلى اعتبارها نماذج للامتياز في الصوغ، ويوصي الدارس أن يتخذها معايير للحكم على درجة امتياز الشاعر؛ مثل قول هاملت عندما حضره الموت لصديقه هوراشيو:
إنْ كُنْتُ حَلَلْتُ بِقَلْبِكَ يَوْمًا في مَوْضِعِ إعْزَازْ
فَانْسَ نَعِيمَ المَوْتِ قَلِيلًا واقْبَلْ أَلَمَ العَيْشِ وكَابِدْ أَنْفَاسَهْ
حَتَّى تحكيَ لِلنَّاسِ القِصَّةَ في هذِي الدُّنْيا القَاسِيَةِ
(الترجمة العربية، ٢٠٠٤م، ٥ / ٢ / ٣٥٢–٣٥٤)

وبينما يُحتضر هاملت، يقول هوراشيو بصوتٍ تقطعه العَبرات:

… أَمِيرِيَ الحَبيبَ طَابَتْ لَيْلَتُكْ!
ولْتُصَاحِبْكَ المَلَائِكْ، بالتَّرَانِيمِ الجَمِيلَةْ، لِلنَّعِيمِ الأَبَدِي!
(النص نفسه ٥ / ٢ / ٣٦٤–٣٦٥)
ولا تتعرض بودكين لما قد يوجد في هذه السطور من موتيفات [والموتيف Motif فكرةٌ أو صورةٌ رئيسية أو متكررة، وقد تُكتب بالإنجليزية بإحدى صورتيها الألمانيتين، إما leitmotif وإما leitmotiv وتحتفظ في جميع الصور بالنطق الألماني] فإن هذه الموتيفات قد تمثل أنماطًا فطريةً أو تبني نسقًا من الأنساق التي تقصدها، ولكنَّها تنتقل حالما تنتهي من تحليلها الفرويدي إلى قصيدة «الملاح الهرم» المشار إليها آنفًا، وتخصِّص لها ولصورها الأزلية فصلًا طويلًا، وعنوان الفصل: «دراسةٌ لقصيدة الملاح الهرم والنمط الفطري للميلاد من جديد» (بأحد معانيه المبينة آنفًا) وسوف أورد فيما يلي منهج المؤلفة في التحليل النصيِّ على ضوء مفهوم الأنماط الفطرية؛ فهو منهج لا يزال الدارسون يطبقونه مع اختلافاتٍ طفيفةٍ ترجع إلى اختلاف الأعمال الشعرية والاختلافات الفردية ما بين النقاد بطبيعة الحال.
تبدأ بودكين القسم الأول من هذا الفصل بالحديث عمَّا تسميه «المعنى العاطفي» emotional meaning لهذه القصيدة التي تمثل الرومانسية خير تمثيلٍ، بما تسميه «اختبارًا» أو منهجًا يقوم على الاستجابة الحرة والاستبطان introspection، وتقارنه بالتقنية التي طبقها أ. أ. ريتشاردز في كتابه النقد التطبيقي (١٩٢٩م)، ثم تقدم «الاختبار» المشار إليه بأن تطلب من القارئ أن يجيب عن السؤال التالي: «ما دلالة سكون السفينة وسط البحر ثم عودتها للإبحار؟ وما دلالة سكون الريح ثم العودة للهبوب، في إطار الخبرة التي تقدمها الملاح الهرم إلى القارئ؟» (ص٣٠) وهي تطلب من القارئ الملمِّ بالقصيدة كلِّها أن يتأمل الفقرتين التاليتين من الجزء الثاني:
سَكَنَتْ كُلُّ رِيَاحٍ والَأشْرِعَةُ كذلِكَ سَكَنَتْ
بَلَغَتْ أَحْزَانُ النَّفْسِ هُنَالِكَ أَقْصَى ما بَلَغَتْ
لمْ يَفْتَحْ أيٌّ مِنَّا الثَّغْر
إلَّا كيْ يَخْرِقَ صَمْتَ البَحْر
… … …
ويَمُرُّ نَهَارٌ مِنْ بَعْدِ نَهَارٍ مِنْ بَعْدِ نَهَارْ
والمَرْكَبُ في مَوْقِفِهِ قَارّْ
مُلْتَصِقٌ في البَحْرِ بِمَوْقِعِهِ
مِنْ دُونِ ريَاحٍ تَدْفَعُهُ
لا عَمَلَ لَهُ مِثْلُ السُّفِنِ المَرْسُومَةْ
(١٠٨–١١٠، ١١٥–١١٩)

وهذه السطور من القسم السادس:

لكنَّني سَرْعَانَ ما أَحْسَسْتُ رِيحًا تَتَنَّفسْ
ما اهْتَزَّ شيءٌ أو سَمِعْتُ أيَّ حسّْ
فَلَمْ تكُنْ تِلْكَ الرِّياحُ فَوْقَ مَاءِ البَحْرِ تَجْرِي
لِتُحْدِثَ الأَمْوَاجَ أو ظِلَالَ غَمْرِ

•••

كانَتْ تَرْفَعُ شَعْرِي وتُصَافِحُ خَدِّي
مِثْلَ نَسِيمٍ في الأَحْرَاشِ رَبِيعِيِّ الشِّدَّةْ
ما أَغْرَبَ ما اخْتَلَطَتْ بِدَوَافِعِ خوفي
لكنِّي أَحْسَسْتُ بأنَّ العَاصِفَ يُبْدِي وُدَّهْ

•••

وازْدَادَ إسْرَاعُ السَّفِينَةِ التي تَخُبُّ وهْيَ تَجْرِي
لكنَّها كانَتْ تَسِيرُ في عُذُوبَةٍ إليَّ تَسْرِي
وهَبَّتِ النَّسَائِمُ اللَّطِيفَةُ العِذَابْ
عَلَيَّ وَحْدِي قَائِمًا وَسْطَ العُبَابْ

•••

أَوَّاهُ يا فَرْحًا كَحُلْمٍ سَارّْ!
هَلْ مَا أَرَاهُ حَقًّا قِمَّةُ المَنَارْ؟
هَلْ ذَاكَ تَلُّ موطني؟ وهذِهِ كنيستي؟
هَلْ تِلْكَ حَقًّا بلدتي؟
وعَبَرْنَا الحَدَّ الفَاصِلَ لِلْمَرْفَأِ في المَاءِ
وجَعَلْتُ أُنَهْنِهُ وأَنَا أَرْفَعُ لِلهِ دعائي
أَسْأَلُكَ إِلهِي اليَقَظَةَ وَالصَّحْوَةْ
أوْ نَوْمًا أَبَدِيًّا في هذِي الغَفْوَةْ!
(٤٥٢–٤٧١)
وتطلب المؤلفة من القارئ أن يبحث في أعماق نفسه عن أية ذكرياتٍ (ولو في صورة شذراتٍ) يمكن لهذه السطور أن تسترجعها من تلك الأعماق، فإذا نجح القارئ في هذا المسعى، فسوف يكون قد أدرك المقصود بإخراج أنماطٍ فطريةٍ كامنةٍ في اللاوعي إلى الوعي بفضل هذه الصور الشعرية. وتضيف قائلة إن ذلك ما حاول فرانسيس جولتون Galton [وسوف أعود إليه مرتين؛ الأولى في الفصل الأول والثانية في الثاني] أن يفعله وسجله في كتابٍ؛ عنوانه: «بحوث في الطاقة الإنسانية وتطورها» (١٨٨٣م) قاصدًا البحث في تدفق الأفكار في ذهنه بعيدًا عن تدخل («وعيه الذاتي» self-conscionsness) كما تقول بودكين (ص٣١)؛ إذ عمد أولًا إلى فحص ما توحي به أشياء مختلفة يراها أثناء السير، ثم انتقل إلى ما توحي به ألفاظ منوعة، مسجلًا النتائج التي حصل عليها؛ ومن ثمَّ اكتشف ما لم يكن يتصور وجوده في «أعماق نفسه»، وكانت النتيجة العامة التي وصل إليها، أن «النفس تمرُّ دائمًا على أشياء مألوفة من دون أن تحتفظ الذاكرة بأية انطباعاتٍ عن ذلك المرور؛ إذ إن وقع أقدامها خفيفٌ وسريعٌ، ولولا هذه التجارب التي أجريتها ما عرفت شيئًا عنها» (بودكين ٣٢). والطريف أن المؤلفة تطبق منهج جولتون على قراءتها الخاصة لقصيدة الملاح الهرم بأسلوب يذكِّرنا بتحليل يونج لأحلامه؛ أي بالنهج الذي يعتمد على التأويل construction [الاسم من الفعل to construe وسوف أعود إليه] استنادًا إلى قاعدتَي التشابه والتجاور [وسوف أعود إلى ذلك]؛ أي إن الاستبطان بأسلوب جولتون يتيح للقارئ، حسبما تقول بودكين، أن يغوص في أعماق النفس حيث اللاوعي، وحيث ترتبط الحركة الروحية بصورة الريح التي تعتبر من ثمَّ نمطًا فطريًّا. والتأويل هنا يشبه الترميز، وهو ما تقول المؤلفة إنه طاقةٌ إنسانيةٌ أصيلةٌ للتعبير عما تعجز ألفاظ لغة الحياة اليومية عن التعبير عنه.
وتضرب بودكين أمثلة على هذه الأنماط الفطرية أو الصور الأزلية للريح، من الكتاب المقدس، ومن المشاعر الإنسانية؛ للتدليل على أن ما يحدث في قصيدة «الملاح الهرم» من تصويرٍ لبعث الحياة في البحارة الموتى بفضل هبوب الريح يعتبر رمزيةً شعوريةً، قائلة إن الريح الطبيعية، وأنفاس الإنسان، وقدرة الروح الربانية جوانب لقوةٍ واحدةٍ لا تختلف شعوريًّا أو رمزيًّا مهما اختلفت صورها؛ مستشهدةً بإنجيل يوحنا حيث صورة الريح أو الروح التي تهبُّ أينما شاءت، وقول كاتب سفر أعمال الرسل الذي يقول: إن الروح القدس عندما هبط، تردد في السماء صوتٌ يدل على هبوب عاصفةٍ، وبما كُتب على تابوت إخناتون، وهو دعاؤه إلى أتون الذي يقول فيه: «إنني أنشق الأنفاس العذبة الحارَّة من فمك … إنني أرغب في أن أستمع إلى صوتك العذب؛ أي الريح، حتى تعود الحياة ويعود الشباب إلى أطرافي من خلال حبك» (ص٣٦). ثم تقتبس قولًا للناقد أوين بارفيلد Barfield الذي يؤكد أن الشاعر يستعيد بهذه الصور وحدةً فكريةً لم تعد الحواس تدركها. وتعلق على ذلك قائلةً إن لهذه الصور قدرة الأحلام على الغوص إلى الأعماق، رابطةً بين أعماق الإنسان في اللاوعي، وقدرة الشاعر على الغوص فيها، فطاقة الوصول إلى هذه الأعماق طاقة شخصية، ويسميها يونج المعادلة الشخصية the personal equation وهو ما أعرض له في الفصل الأول.
وتستعين بودكين بكلام جون ليفنجستون لوويس Lowes عن قصيدة الملاح الهرم في كتابه الطريق إلى زانادو (١٩٢٧م) وعنوانه الفرعي: «دراسة لمسارات المخيلة»، الذي يرصد فيه مصادر الصور الشعرية في القصيدة بالرجوع إلى الكثير مما قرأه الشاعر أو سمع عنه، وتقول: إن الباحث يتبع ما زعمه الشاعر من خضوعه لما تعلق بذاكرته «بكلاليب» hooks of memory من دون إشارة إلى طاقة «التعبير الشخصي» التي يذكرها فوسيت Fausset في كتابه بعنوان: «كولريدج» (١٩٢٦م) قائلةً إنها ترجح قول الأخير، وإن كانت تبدي تقديرها لما يذكره لوويس في تحليله للفقرات التالية:
بَلْ إنَّ البَحْرَ تَعَّفنَ، يا اللهْ!
لِمَ قَدَّرْتَ عَلَيْنَا ذلِكَ يا ذَا الجَاهْ؟
كانَتْ أَشْيَاءٌ مُوحَلَةٌ تَزْحَفُ مُتَثَاقِلَةً
فَوْقَ ضُرُوبِ الأَمْوَاجِ المُوحَلَةِ
… … … …
وكَثْرَةُ الرِّجَالِ كَانَتْ مَنْظَرًا ما أَجْمَلَهْ!
مَوْتى جَمِيعًا، رَاقِدُونْ
وأَلْفُ أَلْفٍ مِنْ صِغَارِ الكَائِنَاتِ المُوحِلَةْ
تَحْيَا وأَحْيَا مِثْلَمَا يَحْيَوْن.

وكذلك:

ووَرَاءَ الظِّلِّ المَمْدُودِ لمَرْكَبِنَا في المَاءْ
أَبْصَرْتُ ثَعَابِينَ البَحْرِ النَّجْلَاءْ
كَانَتْ تَسْبَحُ بمسَارَاتٍ بَارِقَةٍ بَيْضَاءْ
فَإِذَا رَجَعَتْ كَانَ الضَّوْءُ الجِنِّي
يَتَسَاقَطُ في نُدَفٍ شَهْبَاءْ
أَمَّا في دَاخِلِ ظِلِّ سَفِينَتِنَا نَفْسِهْ
فَلَقَدْ أَنْعَمْتُ النَّظَرَ إلَى كُسْوَتِهَا الزَّاهِيَةِ الأَلْوَانْ
مِنْ زَرْقَاءَ إلى خُضْرٍ لَامِعَةٍ وسَوَادٍ فَتَّانْ
كَانَتْ تَتَلوَّى وتعومُ بِكُلِّ مَكَانْ
بمَسَارَاتٍ يُومِضُ كُلٌّ مِنْهَا بِنُضَارِ النِّيرَانْ
(الملاح الهرم، ١٢٣–١٢٦، ٢٣٧–٢٤٠، ٢٧٢–٢٨١)

وكان كتاب لوويس (١٨٦٧–١٩٤٥م) المشار إليه؛ أي «الطريق إلى زنادو» (١٩٢٧م) قد أصبح العملَ الأساسيَّ في كل ما يتعلق بمصادر الصور التي تزخر بها قصيدة الملاح الهرم، ويعتبر مرجعًا في هذا الباب وأساسًا لمن يريد تتبع مصادر الشاعر، وتقول بودكين إن الناقد يشير إلى ما تعلق في أعماق الشاعر «بكلاليب الذاكرة»، وحقق الانصهار والامتزاج الكيميائيَّ بين عناصر متباينةٍ، مثل اللون والسكون والبحر الذي فسد، بحيث تمكَّن من خلط الصور «في البئر العميقة للفكر اللاواعي» (بودكين ٤٢). والعبارة بين علامات التنصيص عبارة لوويس نفسه الذي يشير أيضًا إلى «التوازن البنائيِّ الرائع»، بين الفقرتين الأخيرتين الواردتين أعلاه، حيث يصف الشاعر ثعابين الماء داخل ظلِّ السفينة وخارجه، فكلُّ منهما يعتبر إجابةً أو ردًّا على الآخر، وتنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى الرمزية الشعورية، وإلى المعادلة الشخصية التي أشرت إليها آنفًا، وإلى حديث ت. س. إليوت عن الذهن الأوروبي أو النفس الأوروبية؛ منطلقةً من هذا إلى تحليل الفقرات التي تعتبرها ذروة القصيدة، مقارنةً إيَّاها بشعر بعض أعلام الشعر الأوروبي، ثم تتوقف عند هذه الفقرات التي تصف العاصفة، وتتلو إحساس الملاح الهرم بالحب، ونجاح الحب في إزالة اللعنة التي حلَّت بالسفينة. وهذه هي الفقرات:

وانْفَجَرَ ضَجِيجُ حَيَاةٍ في طَبَقَاتِ الجَوِّ العُلْيَا
مِئَةُ الأَلْوِيَةِ اللَّامِعَةِ النَّارِيَّةْ
تَتَدَافَعُ مُسْرِعَةً رائحةً غَادِيَةً
وتَرَاقَصُ بَعْضُ نُجوُمٍ خَابِيَةٍ
رَائحَةً غَادِيَةً دَاخِلَةً خَارِجَةً
مِنْ بَيْن الأَلْوِيَةِ!

•••

واشْتَدَّ زَئِيرُ الرِّيحِ المُقْبِلَةِ وطَالْ
وسَمِعْنَا أَنَّاتِ الأَشْرِعَةِ كَأَنَّ فُرُوعَ السَّوْسَنِ تَبْكي الحَالْ
وتَهَاطَلَ غَيْثٌ مِنْ بَعْضِ سَحَابَاتٍ سُودٍ وثِقَالْ
والقَمَرُ علَى طَرَفِ الدِّيمَةِ مَالْ

•••

وانْشَقَّتْ دِيمَتُنَا المُثْقَلَةُ السَّوْدَاءْ
لكنَّ القَمَرَ إلَى جَانِبِهَا ما زَالْ
وانْقَضَّ البَرْقُ بلا إبْطَاءْ
مِثْل مِيَاهٍ سَاقِطَةٍ مِنْ بَعْضِ صُخُورٍ شَمَّاءْ
فَإِذَا هي نَهْرٌ ذُو عُمْقٍ يَزْخَرُ بالمَاءْ
(الملاح الهرم، ٣١٢–٣٢٧)
وتتوقف المؤلفة طويلًا عند ما تسميه «صورة العاصفة»، لتوحي بأنها نمط فطري، مستشهدةً بفقرة جميلة يصف العاصفة فيها هيلير بيلوك Hilaire Belloc الكاتب الأنجلو فرنسي (ت١٩٥٣م) ويعاملها معاملة الكائن المهيب الذي ينقضُّ من السماء فيخشاه أهل الأرض، وتقول: إن هذه الصورة كانت كامنة في اللاوعي لدى الشاعر، وأظن أن وصف بيلوك جديرٌ بالاقتطاف من كتاب بودكين المذكور. يقول بيلوك:

ما شاهد هذا المخلوقَ المهيب أحدٌ يومًا ما وهو يخطو بخطواتٍ رهيبةٍ يظلِّله الغمام إلا أدرك الذكرى أو المعرفة التي تهزُّ جوانحه هزًّا لمرآه. ذلك كان السيد الأعظم، والصديق الأعظم، والعدو الأعظم، بل والصنم المعبود الأعظم (فقد كان يجمع كلَّ هذه الصفات) وهو الذي كنا منذ حرثنا الأرض، نراقبه، ونرحب به، ونحاربه، بل ونعبده بكل أسف.

(من فصلٍ عنوانه: «العاصفة» في كتاب هذا وذاك لبيلوك، في بودكين ص٤٧.)

وتعلق مود بودكين على صورة العاصفة الواردة في الفقرات المقتطفة أعلاه، استنادًا إلى ما يقوله يونج (بعد أن مهدت له بما يقوله بيلوك) قائلةً:

إن فكرة صورة العاصفة، والمكانة التي تشغلها في النفس — لا في نفس أوروبا وحدها بل في ثقافةٍ أوسع وأقدم — تعيدنا إلى نظام الخلق الذي سبق تمثيله بالإحالة إلى الريح والروح؛ حيث يوجد جانبان نميز الآن بينهما — هما الانطباع الحسيُّ الخارجيُّ والجيَشان الذي نحسه في باطننا — إذ يظهران غير متميزين. ويستشهد الدكتور يونج في مناقشته «لرمز التصالح باعتباره مبدأ التنظيم الدينامي» في كتابه: «الأنماط السيكلوجية»، ١٩٢٣م، ص٢٥٧ وما بعدها [بسطورٍ من الترانيم الفيدية Vedic الهندية] التي كتبت ما بين عامي ١٠٠٠م و١٥٠٠م قبل الميلاد، [ويطلق عليها اسم الفيدات Vidas، والتي تقول: إن الصلوات أو طقوس الحرق بالنار — تقود أو تؤدي إلى تدفق أنهار ريتا Rita] وتبيِّن أن فكرة «ريتا» القديمة تمثل بأسلوبٍ واحدٍ لا انفصام فيه دورة الطبيعة التي تنجب المطر والنار، وتنجب معهما ضروب الجيَشان الباطن الذي تنظمه الطقوس، وهي التي تنطلق منها الطاقة الحبيسة بفضل احتفالات مناسبة.

وهكذا فالعاصفة التي تظهر في النفس التي تشعر بها؛ لا باعتبارها شيئًا ماديًّا متميزًا بل باعتبارها مجرد مرحلةٍ في حياتها الخاصة، تعتبر قادرةً على الانطلاق بفضل الصلوات عندما تقوم الصلاة بتغيير الحياة الباطنة ومجراها كلِّه وجوِّها الخاصِّ. وفي قصيدة كولريدج، تأتي الراحة التي يمثلها المطر في أعقاب فضِّ التوتر الباطن بفضل قوة الحب والصلاة، وذلك بصورة طبيعية ومحتومة كالتي يقوم بها النوم والأحلام الشافية:

وكَانَتِ الدِّلَاءُ تَفْتَحُ الأَفْوَاهَ في بَلَاهَةٍ بَدَتْ
مِنْ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ فَوْقَ السَّفِينَةِ العَجْفَاءْ
لكنَّنِي حَلُمْتُ أنَّها بِأنْدَاءِ السَّمَاءِ أُفْعِمَتْ
وعِنْدَمَا صَحَوْتُ أَمْطَرَتِ السَّمَاءْ

•••

كانَتْ شَفَتَايَ مُبَلَّلَةً والحَلْقُ بِهِ بَرْدٌ كَاسِرْ
وثيابي يُثْقِلُهَا بَلَلٌ غَامِرْ
لا شَكَّ بأنَّ الري أتاني بمنامي
فَظَلَلْتُ أَعُبُّ مِيَاهَ الأَحْلَامِ
(الملاح الهرم، ٢٩٧–٣٠٤)

إننا نقبل المشهد بالإحساس الذي نقبل به السرد القائم على استعارةٍ معترفٍ بها؛ أي على مشهدٍ حدث يتتابع فيه إطلاق التوتر العاطفيِّ بطاقته الحبيسة وتفريغها، وهو ما يشبه إخبار القديس أوغسطين لنا في اعترافاته عن طول القلق والتوتر اللذين سبقا إيمانه الدينيَّ، وكيف حدث أن «أدَّى التأمل إلى تجميع وتكديس أطراف كآبتي أمام عينَي قلبي، فإذا بعاصفة جبارة تهبُّ، فتأتي بشآبيب جبارةٍ من الدموع.»

(بودكين، المرجع نفسه، ص٤٧–٤٨)
وأظن أن هذا العرض الموجز لكتاب مود بودكين يكفي للتدليل على أهمية العلاقة التي يقيمها يونج بين علم النفس التحليلي وبين الأدب، ولا أملك إلا التعبير عن الحزن بسبب استحالة تقديم عرضٍ أوفى لهذا الكتاب، وكم تمنيت أثناء إعادة قراءته في العام الماضي أن أترجمه كلَّه حتى أبيِّن للقارئ العربي مدى ثراء مادته المستقاة من فكر يونج حين تتناوله باحثةٌ ملمَّةٌ بالتراث الأدبي العالمي، وكيف يمكننا أن ننتفع بمنهجها في دراستنا للأدب المقارن! أقول: «كم تمنيت» مدركًا أن أمنيتي عسيرة التحقيق؛ لأن الترجمة الأمينة له لا بدَّ أن تصحبها شروحٌ مستفيضةٌ للأفكار التي تأتي بها من مصادرَ أوروبيةٍ وشرقيةٍ متنوعةٍ، وكثيرٌ منها غير مألوفٍ للقارئ العربي أو تقيِّد نشره محاذير من ضروبٍ شتَّى، ناهيك عن أسماء الأعلام الأجانب الذين أصبحوا غرباء في هذه الأيام! وكانت خطوتي «التعويضية» إذا استخدمنا مصطلحًا (يونجيًّا) ترجمة بعض نصوص الشعر القصصي الرومانسي إلى العربية بأساليب تقترب من أساليب مؤلفيها، ومن بينها كتابٌ يتضمن نصَّ قصيدة الملاح الهرم، وقصيدتَي «لاميا الأفعوانة»، و«الحسناء القاسية» اللتين كتبهما كيتس Keats وقصيدة ألاستور للشاعر شللي Shelley و«حسناء جزيرة شالوت» للشاعر تنيسون Tennyson وكلها تقبل التحليل بأسلوب «الأنماط الفطرية» وفق عرض مود بودكين لها في هذا الكتاب، وعنوان كتابي: «نصوص من الشعر القصصي الرومانسي الإنجليزي»، المركز القومي للترجمة، القاهرة ٢٠١٨م، ويكفي أن نلقي نظرةً على أنواع الأنماط الفطرية التي تتناولها المؤلفة، قبل أن نتوقف قليلًا عند أحدها وقبل الانتقال إلى قضية المصطلح التي هي مدار البحث في هذا الكتاب.

تقدِّم مود بودكين دراساتٍ للأنماط الفطرية التالية: نمط الميلاد الجديد الذي عرضت له آنفًا عند يونج، وتطبيقًا له في دراسة الشعر، ونمط الجنة والنار وصورهما في الشعر وعلاقتهما بالنمط السابق، وقلمها يصول ويجول بين الرموز الدينية والشعرية من أفلاطون حتى ملتون والرومانسيين، ووليم موريس، ومنتقلًا ما بين دانتي وفيرجيل حتى العصر الحاضر، ثم تعرض لصورة المرأة في فصلٍ كاملٍ من أساطير القدماء إلى أساطير المحدثين، وكيف يؤثر ذلك النمط الفطري في مسار الفكر والشعر على مرِّ العصور، ثم تتوقف في فصلٍ آخر عند صور الشيطان والبطل والإله، مبينةً كيف تطورت هذه الصور، وكيف ارتبطت بأنماطٍ فطريةٍ محددةٍ، وهي تخصص لها الفصل السادس الذي تناقش فيه أنساق القداسة وصور المقدس والمعاصر في روايات د. ﻫ. لورنس، وشعر ت. س. إليوت، والكوميديا الإلهية، وتختتم كتابها ببعض الأفكار التي نراها حديثةً من الطقوس والفنون البصرية وفنون الأداء (حتى الرقص) وصلتها باللاوعي الجمعي وكيفية دراستها من مدخل الأنماط الفطرية.

وأما النمط الفطري الذي أريد أن أتوقف قليلًا عنده فهو ما تقصده بودكين بالنسق الذي شرحته آنفًا، وقلت إنه يعني النظام أو الترتيب، مضيفًا قول المحدثين إنه أقرب ما يكون إلى العنقود؛ فالنسق شكلٌ معينٌ تتخذه عناصر يرتبط بعضها بالبعض بروابط داخليةٍ، وهو يوحي من ثمَّ بنظامٍ بنائي أو بنيوي structural، وهذا هو المعتاد في الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي تتبع المبدأ الفطري الذي نصَّ عليه الفيلسوف كانط، وهو مبدأ العلة والمعلول؛ أي ميل الإنسان فطريًّا [a priori] إلى ربط حدوث شيء بما تسبب فيه، وهو ما يسمَّى منطق التعليل أو العلِّيَّة aetiology وبناءً على هذا المنطق وضع ﻫ. أ. بتيس H. E. Bates تعريفه للقصة القصيرة والتمييز بينها وبين الحكاية tale؛ فالقصة القصيرة الحديثة تقوم على وقائع يتلو بعضها بعضًا بمنطق العلِّيَّة، على عكس الحكاية التي لا ترتبط إلا بالتتابع الزمني في سرد أحداثها، ويضيف كولريدج أن الالتزام بالتتابع الزمني أو وفقًا لمنطق العلِّيَّة، لا ينطبق على الأحلام؛ إذ يقول في كتابه: «حديث المائدة» (المنشور عام ١٩٢٢م) إن الحالم لا ينتقل من أ إلى ب بل من أ إلى ج، وقد يقدم عكس الترتيب المذكور، فصور الأحلام إبداعيةٌ ومتحررةٌ من الزمنية والعلِّيَّة معًا، وهو ما يقول يونج [وفرويد] إنه منطق اللاوعي، ولكنَّ فرويد باحثٌ تجريبي يميل بطبعه إلى ما يميل إليه العلماء التجريبيون من انتظام المنهج systemic regularity مؤمنًا إيمانًا شبه ديني بضرورة الاتساق consistency حتى وإن كان الاتساق قائمًا على أيديولوجية معينة، وحتى ولو عكرت صفوه أحداثٌ واقعيةٌ؛ فهو يقترب في مذهبه من الفلاسفة المذهبيين systematic philosophers؛ أي الذين يقدمون مذاهب فكريةً متكاملةً لا تكاد تتضمن أية استثناءاتٍ، وإن تضمنت استثناءً ما قيل إنه الاستثناء الذي يؤكد وجود القاعدة؛ ولذلك كان فرويد يراجع ما يكتبه وينقحه ويهتم بدقة مصطلحاته ووضوحها، على عكس يونج؛ إذ اشتهر عنه أنه يستند في عمله إلى الإضافة بدلًا من التعديل، فإذا اكتشف ما يستدعي تعديل فكرة أو مصطلح لم يعمد إلى تعديله بل «عدل عنه» إلى مصطلحٍ آخر أو فكرةٍ أخرى، وكان ذلك يتسبب في عناء كبيرٍ لدارسيه ومترجميه ويقتضي تدخله في الترجمة حتى تتفق مع الإضافة أو التغيير.
ومن توابع فكرة «النسق»، والتي تستخدمها بودكين، والتي قلت في الفقرة السابقة مباشرة لحديثي عن علم النفس والأدب عند يونج: «إنها لا تنشأ إلا عندما يقع فعلٌ يؤدي إلى خروج النمط الفطري من اللاوعي إلى الوعي المتجسد في عنقود الصور الشعرية»، أن يبني الشاعر عمله على هيكلٍ أو قالبٍ قصصي يتضمن فعلًا نابعًا من نمطٍ فطريٍّ معينٍ حتى يتيح بناء هذا «النسق»، وأما الفعل action في هذه القصة الشعرية التي تنتمي نوعيًّا إلى فن البالاد ballad [انظر الأدب وفنونه (١٩٨٤م) للمؤلف] فهو قتل الملاح لطائرٍ جميلٍ أبيض الريش ودودٍ، من دون سببٍ على الإطلاق. هذا هو «الفعل» الذي يقابل الفعل الذي يقوم عليه كل عمل مسرحي، أما في الدراما فعادة ما تكون للفعل مبرراتٌ، وعادة ما يصدر عن وعيٍ كاملٍ يدركه الجمهور سواء تعاطف معه أو أدانه، فإقدام «مكبث» على قتل الملك الذي حلَّ ضيفًا عليه وتربطه به صلة قرابة، فعلٌ واعٍ متعمَّد، وهو محور مسرحية مكبث ومناط الصراع فيها على مستوى مجسد يدركه الوعي تمام الإدراك، وأما قتل الملاح للطائر فهو ثمرة نزعة شرٍّ لا يعيها الملاح ولا يفهمها زملاؤه البحارة؛ أي إنه فعل لا علَّة له، ويستكشف الشاعر في قصيدته من خلال الأحداث المجسمة في البحر تلك المنطقة اللاواعية في أعماق نفس الملاح، حتى يهديه نمطًا فطريًّا آخر هو تذوق الجمال، والجمال والخير صنوان في الشرعة الرومانسية، فيتغلب واعيًا على ما أقدم على ارتكابه غير واعٍ.
ولكن الشاعر حين يستكشف هذه الأحداث الباطنة التي تكتسي كساءً ظاهرًا، يعمد إلى وضعها في قالب نمطٍ فطريٍّ آخر ينتمي إلى اللاوعي الجمعي، وهو نمط الرحلة؛ فالإنسان، كما يقول يونج في كتابه: «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي»، «يرى الحياة في الدنيا في صورة رحلة» (ص٣٧) والأدباء يستخدمون موتيفة الرحلة للتعبير عن المسار أو المسير أو المصير، وهي من الوسائل التي يستخدمها الإنسان بفطرته لربط ما كان بما يكون (وما سوف يكون) كما تتخذ الرحلة عدة معانٍ وفقًا للتقاليد الخاصة بكل جماعةٍ بشريةٍ، ومن أهمِّها، كما نعرف، تقاليد الحجِّ، وهو الذي تعبر عنه بالإنجليزية الكلمة المستخدمة للرحلة نفسها pilgrimage، ومن تقاليد رحلة الحاج التطلُّع إلى محو الذنوب والآثام، وعذاب السفر ووعثاء الطريق تمثل جزءًا من الثمن الذي يدفعه الحاجُّ مقابل الغفران، كما يقول صلاح عبد الصبور «إن عذاب رحلتي طهارتي» («الخروج»). وهكذا ينظم كولريدج قصيدته بحيث تقوم الرحلة على أساس نمطٍ فطريٍّ آخر هو القصُّ، والقاصُّ هنا هو الملاح الهرم نفسه، ويقتصر دور الشاعر على سطرين فقط في أول القصيدة، ثم يسلم الكلام إلى شاب ذاهب إلى حفل زفاف مع اثنين من أصدقائه، ويتدخل بأسئلته في حالة أو حالتين، والملاح ماضٍ في سرده لقصَّةٍ لم يطلب ضيف الزفاف سماعها. ونحن نعجب لقدرة الملاح على إملاء إرادته على الشاب، ولا نعرف السبب إلا في آخر القصيدة، في حواره مع الناسك، ألا وهو أن سرده لقصته جزءٌ من تكفيره عن ذنبه (٥٧٣–٥٧٤)، وعندما يدرك الناسك ما حدث يقبل أن يصغي إلى القصة، التي تمثل اعتراف الملاح، ويبشره بالتكفير عن ذنبه:
وعِنْدَهَا أَحْسَسْتُ أنَّ هَيْكَلَ الجِسْمِ انْخَلَعْ
وأنَّ أَفْظَعَ الآلَامِ قَدْ وَقَعْ
وأَنَّهُ يرغمني على ابْتِدَاءِ قصتي
وَبَعْدَهَا أَعَادَ لي حريتي.
(الملاح الهرم، ٥٧٨–٥٨١)

ولكن سرد القصة على الناسك فعل مفهوم، فنحن نعرفه في التقاليد الكاثوليكية في صورة الاعتراف، وهو بغضِّ النظر عن التقاليد الدينية، من الأساليب التي يتبعها المحللون النفسيون جميعًا في الوصول إلى ما يكتمه الشخص أو ما هو مكتوب في اللاوعي، وقد يكون المريض الذي يعاني من مرض نفسي ويسترخي على الأريكة أمام الطبيب للحديث بحرية عما يجول بخاطره صورة من الصور الحديثة التي تؤدي فيها «الفضفضة» إلى التحرر من أثقال الإحساس بالذنب إن كان المريض واعيًا به، أو التفريج عمَّا هو حبيس في اللاوعي، ابتغاء التغلب عليه والشفاء من معاناته. وقد يتساءل المرء: ما دام الناسك قد أعاد للملاح الهرم حريته بعد قصِّ القصة، فما الذي يدفع الملاح إلى الانطلاق ونشدان من يستمع إلى تلك القصة العجيبة؟ الواقع أن الشاعر كان يدرك ذلك؛ فقد جعل هذا الملاح هرمًا لا لأنه بلغ أرذل العمر، بل لأنه مرَّ بأهوالٍ جعلته يكتسب صورة نمط فطريٍّ آخر هو الشيخ الحكيم، وهو من الأنماط الفطرية التي يعود إليها يونج المرة تلو المرة في كتاباته، وخاصة ما يعرفه ويصادفه في عيادته. فالشيخ الحكيم هنا والدٌ وجدٌّ وهادٍ ومرشدٌ، والتجارب المريرة التي مرَّ بها — وخصوصًا مواجهته لنمطين فطريين آخرين هما الحياة والموت — قد أكسبت نظرته قوةً روحيةً خارقةً، خصوصًا بعد أن برئ على مستوى الوعي الشخصي، وهكذا فهذه القوة الروحية ترغمه على أن ينشد من «عليه الاستماع» لقصته، مكابدًا في ذلك آلامًا وقلقًا رهيبًا. يقول الملاح:

ومُنْذُ تِلْكَ السَّاعَةْ، يَعْتَادُنِي الأَلَمُ الغَرِيبْ
في لَحْظَةٍ مَجْهُولَةٍ مِنَ القَلَقْ
وعِنْدَهَا يَظَلُّ قلبي يَحْتَرِقْ
حَتَّى أَقُصَّ قصتي بِوَقْعِهَا الرَّهِيبْ

•••

وإنني أَطُوفُ مِثْلَ اللَّيْلِ بالبُلْدَانْ
وقَدْ وُهِبْتُ طَاقَةً غَرِيبَةً علَى البَيَانْ
وحَالَمَا أَرَى مُحَيَّا مَنْ عَلَيْهِ الاسْتِمَاعْ
لقصتي أَقُصُّهَا عَلَيْهِ فَارِضًا كُلَّ انْصِيَاعْ
(الملاح الهرم، ٥٨٢–٥٩٠)
ويعلق الشاعر في شرحه المنثور، الذي أضافه إلى القصيدة على هاتين الفقرتين قائلًا: «وهكذا على الدوام يعتصره الألم الذي يعاوده فيرغمه على السفر من بلد إلى بلد»؛ أي إن الشاعر يقرُّ واعيًا بالألم النابع من إحساسه بفداحة إثمه، ويربط بين هذا الوعي الفردي ونزوع كلِّ آثمٍ نزوعًا فطريًّا إلى التَّرحال؛ إمَّا هروبًا مما فعل، وإمَّا نشدانًا للتكفير عما ارتكبه بسبب نزعة شرٍّ غير مفهومة ولا واعية، وبعبارةٍ أخرى يربط الشاعر بين الوعي الفردي واللاوعي الجمعي، ونحن نعرف من سيرة الشاعر أنه كان مشغولًا في عام ١٧٩٨م، العام الذي بدأ كتابة «الملاح الهرم» في آخره، بكتابة قصيدةٍ طويلةٍ لم يقدَّر له استكمالها عن أصل الشر في نفس الإنسان، وقصيدةٍ أخرى عن قابيل Cain بعد أن قتل أخاه هابيل فهام على وجهه في الأرض، وقصيدةٍ أخرى عن الهذيان Delirium قائلًا إن مادتها مستمدة من أحلامه آنذاك. ويقول الشاعر إن البداية الحقيقية لقصيدة «الملاح الهرم» كانت حلمًا رآه أحد جيرانه، ونستطيع أن ندرك على ضوء ذلك سرَّ الاهتمام الشديد الذي يبديه يونج بالأحلام باعتبارها — كما كان فرويد يقول — وسائل كشفٍ عن اللاوعي الفردي، وندرك أيضًا سرَّ اختلافه مع فرويد حين رفض التفسير الفرويدي الفردي [والجنسي في معظم الحالات] و«اكتشف» كيف يرتبط اللاوعي الفردي باللاوعي الجمعي، من خلال اكتشافه الصور الأزلية primordial images وهو الاسم الذي ظل يطلقه على الأنماط الفطرية من عام ١٩١٢م حتى عام ١٩١٩م.
كان سبب التعديل فيما يروي الباحث مري ستاين Stein أن تلك الأنماط لم تكن مجرد صور، كما ذكرت في مستهل الجزء الثاني من هذه المقدمة، فقد تكون مسارًا أو حركةً أو ميلًا طبيعيًّا، أو رمزًا، ويبين لنا الباحث أنطوني ستيفنز Stevens كيف يميز يونج بين العلامة sign والرمز symbol؛ فالعلامة عند يونج تشير إلى شيء محدد، وأما الرمز فهو الشيء الذي يتجاوز أية محاولة لتحديد معناه، ونذكر قول يونج في دراسته لعلم النفس والأدب «وهل فاوست إلا رمز؟» (انظر الختام العرضي للدراسة المذكورة أعلاه) ثم يضيف قائلًا: «لكنني لا أعني بكلمة الرمز الحكاية الرمزية allegory التي تشير إلى شيء مألوف بل جدُّ مألوفٍ، ولكنني أعني بها التعبير الذي يرمز لشيء لا نعرفه بوضوح ولكننا نشعر به شعورًا عميقًا» (يونج: «الإنسان الحديث باحثًا عن روح»، ص١٧١) وهكذا فإن لنا أن نحاكي يونج ونقول: إن «الملاح الهرم» رمز بالدلالة التي يذكرها، ولنا أن نعتبرها نسقًا يتكون من أنماط فطرية كثيرة، تتفاوت صورها بتفاوت بيئتها الثقافية؛ فالرحلة البحرية عند سكان الجزر قد تقابل الرحلة في الصحراء عند العرب، وتيمة التَّرحال التي يتغنى بها بودلير تتفاوت صفاتها في عيون سكان الصحارى، وقس على ذلك بعض الأنماط الفطرية الواضحة في القصيدة، ولأتوقف عند طائر القادوس Albatross الذي يُستخدم للإيحاء بنمط فطري يرتبط بالمعنى العام للقصيدة ورمزيتها، أما الرمز فيرجع إلى الطير والطيران في السماء؛ فالارتفاع معنى إنساني يفيد علو المكانة، والابتعاد عن الأرض التي ينشأ منها الأحياء ويعودون إليها، وهو ابتعاد يسمى سموًّا وشرفًا، واقترابًا من الملكوت؛ فالطير «لا يمسكهن إلا الله» في الجوِّ، وهو مرتبط من ثمَّ بالروح عند القدماء والمحدثين، وأما لفظ «القادوس» فأصله عربي هو «القَدَس»؛ أي الدلو وما به من ماء يتطهر الإنسان به، ثم حرِّفت الكلمة إلى القَدُوس ثمَّ القادوس، وعندما دخلت الإسبانية من اليونانية/العربية kados أصبحت الكاتراس alcatras بعد إضافة أداة التعريف العربية، ثم حرِّفت من جديد باستبدال الباء بالكاف بسبب لون الطائر الأبيض، والمعروف أن albus اللاتينية تعني الأبيض، وغدا لنا طائر يسمى ألباتروس albatross أو القادوس.
وليست هذه التفسيرات نظراتٍ نفسيةً للقصيدة بل ربما يكون العكس هو الصحيح؛ أي إن الشاعر يهتدي وحده إلى صور رمزية توحي بها الأنماط الفطرية فتساعد عالم النفس على تحديد دلالاته؛ فالشاعر يرجع إلى صورة الحب التي تطير وترفرف فتوقظ الأرواح من السُّبات، والرومانسيون عمومًا ينشدون التحليق بحرِّية رمزًا للفرار من استعباد الأرض، وما أكثر ورود صور الطيور السابحة في جوِّ السماء عند الرومانسيين، وإذا قال قائل إن هذه الصور من ثمار الوعي، أو بالأحرى إن الشعراء يستخدمونها واعين؛ فالواقع أنها لم تبرز في صورها الرمزية إلا من أنماط فطرية، وهي قد تخرج من اللاوعي إلى الوعي في لحظة الإبداع الشعري، كما يبين لنا أساتذة علم نفس الإبداع مثل شاكر عبد الحميد ومن قبله مصطفى سويف. وأما لحظة الإبداع أو الإلهام التي ينكرها أصحاب الفكر المادي المحدثون فهي حقيقة لا مراء فيها، وإن كان من المستحيل علينا تفسيرها أو إثباتها تجريبيًّا، وت. س. إليوت يصفها بلحظة اشتعالٍ أو انصهارٍ لخبراتٍ معينةٍ في لحظة غامضة يتعذر وصفها، وما دمت ذكرت قتل الملاح للطائر في لحظة غلبته فيها نزعة شر عجيبة قد ننسبها إلى نمط فطري بشريٍّ غير مفهوم؛ فإن لحظة القتل تمثل له لحظة خيانة لنفسه، أو قل خيانة للطبيعة التي ارتبط بها ما دام يعمل في البحر، والبحارة من زملائه لا يسلكون سلوكًا فرديًّا هنا، بل يتصرفون كالقطيع؛ إذ يقول الشاعر في شرحه المنثور، بعد السطر ٥٦: «ولكن حين انقشع الضباب، برر البحارة قتل الطائر، ووافقوا الملاح الهرم، وهكذا جعلوا أنفسهم شركاء في إثمه» ويقبل الشاعر و. ﻫ. أودين W. H. Auden هذا التفسير في كتابه: «النهر الهائج» The Enchaféd Flood (١٩٥٠م) وهو تفسير معقول على أية حال، ولكن الفرق الحقيقي في نظري بين موقف الملاح، وموقف البحارة أنه لم يسمح للنازع اللاواعي بالقتل بأن ينتقل إلى الوعي؛ أي إلى ما يسميه فرويد «الأنا»، بل خان «الأنا» وأردى الطائر قتيلًا، وسرعان ما بدأ عذابه؛ إذ أرغمته الطبيعة من حوله على إدراك خيانته؛ ومن ثمَّ استطاع بفضل دافعٍ باطنيٍّ آخر — هو الإحساس بالجمال، وحبُّ الجمال لذاته — أن يدرك خيانته فيستطيع التكفير عن ذنبه.

ولقد صادفتُ لحظة خيانة رمزية أخرى صورها الشاعر العبقري أحمد عبد المعطي حجازي في مطلع قصيدته الرائعة: «مذبحة القلعة»، حيث يصور عشية اليوم الذي سيفتك فيه محمد علي باشا الكبير بالمماليك، في صورة من نسج اللاوعي، وظني أن الشاعر لم يقصد واعيًا إلى إخراج هذه اللوحة البديعة المقتضبة الحافلة بمفارقات «النقد الجديد». يقول الشاعر:

الدُّجَى يَحْضُنُ أَسْوَارَ المَدِينَةْ
وسَحَابَاتٌ رَزِينَةْ
خَرَقَتْها مِئْذَنَةْ
ورِيَاحٌ وَاهِنَةْ
ورَذَاذٌ وبَقَايَا مِنْ شِتَاءْ
(أحمد عبد المعطي حجازي، «مدينة بلا قلب»، ١٩٦٨م)

النسق هنا حدثٌ يقوم على نمط فطري: فنحن نشهد حدثًا يتكون من فعلين عاملين، الأول مضارع والثاني ماضٍ، ولكنهما معًا يشيران إلى حدث وقع؛ أي إلى إتمام فعل معين، ومع ذلك فهو فعل مستمر، لا ينتهي إلا بالألف الممدودة والهمزة. والفعل الأول مقترن تقليديًّا بالحب؛ إذ يحتضن المرء من يحبه، والدجى؛ أي ظلام المساء يحتضن الأسوار، والأسوار (تعريفًا) تحتضن المدينة، فنحن إزاء سواد يحتضن أدوات حبس، واحتضان السواد للمكان نذيرٌ لا يحتاج إلى شرح، فأما السحابات الرزينة (والسحاب رمز خيرٍ في العربية؛ فهو يُظِلُّ المرء وقد يحمل الغيث) فهي تتعرض لطعنةٍ من رمز السلام الأكبر، رمز الإيمان، وهو المئذنة. هل استطالت المئذنة حتى بلغت السحاب أم هبط السحاب فخرقته المئذنة؟ أيًّا كان الأمر فقد أدت الطعنة إلى أن وهنت أنفاس الريح، ولعلها آخر الأنفاس؛ فالطعنة فتاكة أتت برذاذ من ماء أو من دمٍ، ولم يبق إلا البقايا — أو ما نسميه الرُّفات — من الشتاء. هذا باختصار ما سوف يحدث في الغد حين يلفظ المماليك آخر أنفاسهم ويتناثر رذاذ دمائهم.

(٥) الانطواء والانبساط

غنيٌّ عن البيان أن اكتشافنا في مطلع حياتنا الجامعية للأنماط الفطرية — كان مصدر سعادةٍ غامرةٍ، فنحن الباحثين في الأدب ننهل من أمثال هذه المناهل فلا نرتوي، ووقع في أيدينا آنذاك كتاب فريدا فوردام (١٩٥٣م)، تلميذة يونج، وعنوانه: «مقدمة لعلم النفس عند يونج» الذي يلخص لنا أفكاره الرئيسية، فكدنا نحفظه عن ظهر قلب، وساعدنا الجوُّ العلمي في أوائل الستينيات على أن ننشد المزيد مما كتبه يونج؛ لأنه يساعدنا أولًا على فهم ما نقرأ من زوايا لم نكن نعرفها، ولأنه ثانيًا يتيح لنا وجهة نظرٍ علمية نستطيع بها تبرير حبِّنا للأدب وللشعر خصوصًا (في حالتي). كما أسعدنا الحظ بأن أستاذتنا الدكتورة فاطمة موسى التي كانت تشجعنا (عبد العزيز حمودة وسمير سرحان وأنا) على أن ننشر مراجعاتٍ لكتبٍ جديدةٍ في المكتبة الغربية، باعتبارها ملحقًا في مجلة «المجلة» التي كان يرأسها العظيم يحيى حقي، وسرعان ما تعرَّفنا إلى الدكتور مصطفى سويف، الأستاذ المرموق لعلم النفس، زوج الدكتورة فاطمة، والذي فتح لنا صدره، وكنا نلتقي في منزلهما في كل أسبوع تقريبًا، ونخرج معًا في نزهات أو رحلات جامعية، في شتى بقاع مصر، في الفترة التي امتدت من ١٩٦٢م حتى ١٩٦٥م، وكنا نسأل فيجيب، ولم يكن يضنُّ علينا بالمعلومات التي كنا نتلقاها منه مباشرةً أو من كتب يعيِّنها لنا، حتى أحسست أنا — بصفة خاصة — أن ولوعي باللغة، وإحساسي بأنها «منزل الوجود» الحقِّ — كما عرفت من هايديجر فيما بعد — لن يكتمل إلا إذا قرأت بعض الكتب في علم النفس، بل إنني استطعت الاستفادة مما قرأته آنذاك في إصدار أول كتاب لي وهو «النقد التحليلي» عام ١٩٦٣م، وعندما التحقت بجامعة لندن عام ١٩٦٥م كان الأستاذ هاردنج يعمل أستاذًا لعلم النفس فيها (بكلية بدفورد) (حتى وفاته عام ١٩٩٣م) وكان مثالًا للتواضع والبشاشة الدائمة، فتمكنت من حضور محاضراته، وعندما علم أنني من هواة يونج لم يعلق، وكنت أعلم أن لديه بعض التحفظات على ما يسميه التعميمات «غير التجريبية» في وصف أنماط الشخصية، على الرغم من ولوعه بالأدب، ولهذا قصة.

كنت قد تعلمت من فوردام وغيرها أن يونج يميز بين الشخصية الانطوائية introverted والشخصية الانبساطية extraverted على نحو ما أشرحه فيما بعد، وما إن توفِّي يونج عام ١٩٦١م حتى بدأ تياران متضادان حيال عمله، كان أوَّلهما، خصوصًا في أمريكا، مؤيدًا مناصرًا إلى حدِّ الوله والعبادة، وكان أفراد الثاني متحفظين على الرغم من إيمانهم بمبادئه وممارستهم لطرائقه في العلاج النفسي، وكان معظم هؤلاء أوروبيين، وكان بعضهم يعمل في إنجلترا، وبلغ أصحاب التيار الأول ذروة الإيمان بيونج في آخر القرن العشرين حين أصدر مري ستاين Murray Stein كتابه خريطة الروح عند يونج عام ١٩٩٨م، فبلغت طبعاته اثنتي عشرة طبعةً بحلول عام ٢٠١٠م، وأما التيار المحافظ فيمثله الفيلسوف ريتشارد وولين Wolin الأمريكي الذي يقسو على يونج في كتابيه «غواية اللامعقول» و«متاهات»، (وكلاهما ترجمْتُه إلى العربية) وأما الدارسون المعتدلون في نصرتهم ليونج فأهمهم أندرو صمويلز Samuels العضو المتخصص في جمعية علم النفس التحليلي في لندن، ومؤلف الكتاب العظيم «يونج ومن اتبعه» (١٩٥٨م)، ولنا أن نضيف الأستاذة بني شورتر Bani Shorter التي درست موقف يونج من المرأة (١٩٨٧م) وفريد بلاوت Plaut الذي كان يتولى رئاسة تحرير مجلة علم النفس التحليلي التي تصدر في لندن.
وأما القصة فقد دخلت مرحلة التعقيد حين أصدر هانز أيزينك Eysenck عالم النفس البريطاني الشهير (١٩١٦–١٩٩٧م — الألماني المولد) كتابه «التفاوت بين البشر» Inequality of Man عام ١٩٧٣م، فأثار عاصفة من المجادلات داخل جامعة كيمبريدج، فقد كان، على الرغم من منهجه العلمي الصارم، ينبه القارئ إلى ضرورة الحرص في افتراض المساواة المطلقة بين البشر، نتيجة الدعوات السياسية التي كانت تعتمد على معطيات ذهنية ونفسية (بعضها بيولوجي) للوصول إلى نتائج اجتماعية واقتصادية معينة. وكان أيزينك من علماء النفس المولعين بمخاطبة الجماهير بنشر كتب يقرؤها غير المتخصصين في علم النفس إلى جانب المتخصصين؛ مثل: «اختبر مستوى ذكائك»، إلى جانب كتب مثيرة أخرى مثل تدهور إمبراطورية فرويد وسقوطها، ولا شك أن عنوان كتابه كان يغري بالهجوم عليه حتى من جانب من لم يقرؤه؛ لأن التفاوت قد يشي بالعنصرية، رغم حرص المؤلف على عدم الإشارة من قريب أو من بعيد إلى أجناس بشرية بعينها، ومع ذلك فقد عقدت جامعة كيمبريدج مؤتمرًا علميًّا حول الكتاب وأذاع التلفاز الجلسة العامة الختامية، وكانت حافلة بالمساجلات الممتعة التي دارت بين أنصار المذهب «العلمي» الذي يستند إلى المكتشفات الجينية (التي أدت إلى وضع صورة الجينوم البشري) منذ أن أعلنها البريطانيان اللذان حصلا على جائزة نوبل عام ١٩٦٦م، وبين أنصار علم الاجتماع الحديث الذي يكاد يُرجع كلَّ اختلافٍ بشريٍّ إلى البيئة والمجتمع بنظمه المستحدثة.
وبعد أن هدأت العاصفة عاد الحديث عن يونج، وخصوصًا تمييزه بين نمطي الشخصية الرئيسيين، وهما الانطواء والانبساط، وإن كان هذه المرة في سياق حركة نصرة المرأة؛ إذ هاجمت رائدات الحركة النسوية التمييز الذي وضعه يونج بين صورة المرأة الماثلة في نفس كلِّ رجلٍ، وهو يسميها «أنيما» anima الكلمة اللاتينية التي تعني الروح أو النفس الأنثى، وبين صورة الرجل الماثلة داخل كلِّ امرأةٍ ويسميها «أنيموس» animus؛ أي النَّفس الذَّكر، وإن كان لهذه الكلمة في الإنجليزية معنًى آخر غير مقصودٍ هو العداوة. وبينما استمرت المساجلات بين المهاجمات والمدافعين عن يونج، كان الجانبان كثيرًا ما يخلطان بين المناهج العلمية المتبعة في الهجوم والدفاع — وخصوصًا بين ما يعتبره العلماء علمًا صلبًا hard لاعتماده على حقائق مادية (بيولوجية في النهاية) وما يرونه علمًا رخوًا soft لارتكانه إلى الحالات النفسية والمشاعر والأفكار، وهي ما يعتبرها العلم «الطبيعي» ابن القرن التاسع عشر غير جديرةٍ بالثقة؛ مثل الحقائق البيولوجية، ولكن يونج كان قد تعرض للتضادِّ المذكور، حين انتهى إلى وضع ما أسماه اللاوعي الجمعي؛ أي ما لا يعيه الإنسان على الرغم من وجوده في أعمق أعماق نفسه، وهو، كما ذكرت آنفًا، مصدرٌ للأنماط الفطرية؛ أي العامل الذي يوحِّد بين البشر جميعًا مهما يكن تفاوتهم الذي ذكره أيزنيك، ومهما تفاوتت طبائعهم بين الانطواء والانبساط.
ويبلغ تعقيد القصة ذروته حين يصدر إدوارد سعيد كتابه «الاستشراق» (وسبقت لي ترجمته) الذي يهاجم فيه المذهب الجوهري (الجوهرية) الذي يعني أن بعض الكتاب أو السياسيين يفترضون في جنس معين من البشر خصائص جوهرية؛ أي تتعلق بالفطرة الأصلية التي فطروا عليها، بحيث يصبح من الصعب — إن لم يكن من المحال — تغييرها، قائلين إن الناس «تتفاوت» تفاوتًا جوهريًّا فيما بينها، وكانت هذه من الأفكار التي كان الاستعمار الأوروبي يستند إليها في تبرير احتلال بلدان العالم الثالث، كما يتضح من كتاب «أين الخطأ؟» الذي وضعه برنارد لويس (ت٢٠١٨م) (وقد ترجمته إلى العربية) وكما يصوره أباطرة الاستعمار البريطاني وكتَّابهم مثل رديارد كبلنج Kipling في قصيدة «عبء الرجل الأبيض» (وهي مترجمة في مقدمة رواية كيم التي ترجمتها له). ولكن «الجوهرية» فكرةٌ أقرب إلى الفلسفة المستخدمة لتبرير السياسة منها إلى المذهب العلمي القائم على الاستقراء والتحليل والاستنباط ثم التعميم، وإذا كان المستعمرون قد توسلوا بهذه الفكرة في تحقيق مكاسب ماديةٍ فقد خلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا العلم واتبعوا كلَّ ما يجلب لهم الشهرة في الغرب المترف المتلاف، ويحقق لهم ذيوع الصِّيت ولو كانوا من أبناء العالم الثالث، فكتبوا ما كتبوا في إطار «الجوهرية»، وعموا عن العلم وما أتى به من منجزات.
وفي غمرة التعقيد الذي نشأ من رحم التحليل النفسي عند فرويد، وعلم النفس التحليلي عند يونج، نشأت مناهج نقدية جديدة للأدب لا تكاد تلقي بالًا إلى حقيقة ما قاله هذان العالمان، وتمزج المباحث العلمية بعضها ببعض دون تبصُّرٍ؛ مثل باحث أمريكي اسمه «أونوراتو» Honorato يكتب كتابًا يتولى فيه إجراء «تحليل نفسي» للشاعر الإنجليزي وليم وردزورث بعد وفاته بأكثر من ١٢٠ سنةً، وينتهي من تحليله إلى أن الشاعر قد ارتكب جريمة قتل لم يكتشفها أحدٌ، استنادًا إلى ما وجده في شعره من أحاسيس دفينةٍ بالذنب، وأما بيتسون Bateson الإنجليزي فقال في كتابه: «إعادة تفسير للشاعر وردزورث» (١٩٥٤م) إن مشاعر الإحساس بالذنب كانت نابعة عند الشاعر من حبه لأخته دوروثي، وإن كتمان هذا الحبِّ «المحرَّم» سبب تصويره للطبيعة بمظاهرها الخامدة الميتة، وعندما اعترض النقاد على هذا الزعم الغريب بالقدرة على التحليل النفسي، أصدر المؤلف طبعة ثانية عام ١٩٥٦م من الكتاب بعد حذف تلك الإشارة إلى الحبِّ «المحرم». كما تصدت الناقدات النسويات لكل ما قاله يونج عن الفرق بين الجنسين، ثم انطلقت سهام الهجوم عليه من كلِّ حدبٍ وصوبٍ بسبب دراساته للأساطير والعقائد البشرية «البدائية» ومحاولته الربط بين الظواهر الفنية والأدبية والدينية التي تختلف باختلاف الثقافات وبين أصلٍ دفين بشريٍّ مشتركٍ ينبع منه كل شيءٍ، بل هاجمه ريتشارد وولين، كما ذكرت، متهمًا إياه بالانفلات الخلقي؛ لأنه ذكر في خطاب إلى فرويد أنه يشعر بميل إلى تعدد الزوجات، مقتبسًا بعض أقوال إحدى مريضاته، وكلَّل هذا بإثارة الاشتباه في عدائه لليهود.
ولم تكن الحياة الثقافية في مصر، وفي الوطن العربي عمومًا، بمعزلٍ عن التيارات الثقافية والأدبية في العالم، وكان المثقفون الجدد في مصر قد انبهروا بما أتت به النظرية الفرنسية، وهو الاسم العام الذي يطلق على البنيوية، وما بعد البنيوية (وما بعد الحداثة التي ولدت، كما يقول ريتشارد وولين، في كنفها، أو كانت الصورة الأدبية لها). ولم يكن علم النفس، ولا التحليل النفسي يتمتع بوجودٍ بارزٍ في هذه النظرية التي كان من أقطابها أعلامٌ مثل بارت، ودريدا، وليفي-شتراوس، وفوكو، وهيليس ميلر، وهارتمان، ويول دي مان، ومن جاراهم من الإنجليز مثل ديفيد لودج، باستثناء بارز وهو جاك لاكان عالم النفس الفرنسي الذي أعاد تفسير فرويد وقدمه في صورة قشيبة. أي إن نظريات علم النفس التحليلي التي أتى بها يونج وأصبحت تتمتع بشعبيةٍ كبيرةٍ، في أمريكا خصوصًا، لم تجد من يناصرها في الوطن العربي بالصورة المتوقعة، أو، وهو الأهمُّ، لم تجد من يقدمها إلى الجمهور الذي درج على آراء فرويد، بل كان الكثير من الدارسين يخلطون، كما ذكرت، بين علم النفس والتحليل النفسي؛ ناهيك بعلم النفس التحليلي. وكان المتوقَّع أن يقوم دارسو اللغة الفرنسية وآدابها بنقل أفكار لاكان Lacan وعرضها، إن لم يقدموا نصوصه نفسها بلغةٍ مفهومةٍ، فترجماته الإنجليزية بالغة الصعوبة، ولكن ذلك الأمل لم يتحقق، وشغل الناس في أواخر السبعينيات ثم في الثمانينيات منه بالتيارات التي رصدتها في كتابي: «المصطلحات الأدبية الحديثة»؛ وعلى رأسها السيمياء (السيميوطيقا) والهرمانيوطيقا (التفسيرية) والتاريخية الجديدة، كما شغل دارسو الآداب الأجنبية بالنقد النسوي، ونقد ما بعد الاستعمار الذي يتولى تحليل الأدب الذي كتبه أبناء العالم الثالث الذين تحرروا من الاستعمار ودراسة أنواع علاقاتهم بثقافة الدول التي تستعمر بلدانهم، إما بالمقاومة، وإما بالاستيعاب، وإما بالتهجين، وإما بابتداع نظمٍ جديدةٍ في الثقافة والأدب تتضمن مفارقات القرب والبعد معًا.
كما غاب عن الساحة الفكرية التأثير الذي كنا نتوقعه للفلسفة الحديثة، فلم يشارك المتخصصون مثلًا في الفلسفة التحليلية (أو فلسفة التحليل اللغوي) في النهضة التي قادها كبار النقاد الذين لمعت أسماؤهم، واختفى أرباب الفلسفة الوضعية مع من اختفوا من دارسي المذاهب الفلسفية المتفرقة، ولم يتحسن الوضع إلا في الألفية الثالثة، فنبغ من نبغ من شباب الفلاسفة، وكانت المؤتمرات الفلسفية يقودها بعض الرواد الكبار مثل مراد وهبة، ثم عقد في جامعة القاهرة في ٢٠١٧م مؤتمر عن الهرمانيوطيقا، وإن كان قد جعل عنوانه «التأويل»، والتأويل بعد فرعٌ من فروع الهرمانيوطيقا فالفعل يؤوِّل to construe يعنى الإحالة إلى شيء لا يدل النص عليه صراحة، والشائع أن تكون الهرمانيوطيقا مرادفة للتفسير interpretation، وأقول بالمناسبة إن الفعل «يؤوِّل» صيغة صرفية من «يَؤُول» أي يتجه إلى آلِهِ (أي أهله) أو يصبح ملكًا لفرد أو لشيء، ومنه الماضي آل، والاسم الأيلولة، والأرجح ألا تكون له علاقة بالاسم المعروف «الأوَّل»؛ فتأويل اللفظ يعني نسبة دلالته إلى شيء لا يوحي اللفظ أو الشيء به، ومنه تأويل الأحلام، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (يوسف: ٦)، وإذا كان قد شاع لدينا تعبير «تفسير الأحلام» واخترنا العبارة ترجمةً لكتاب فرويد الذي يقول: «تفسير» ولا يقول: «تأويل»، فهذا لا يبطل صحة الاشتقاق العربي الذي ذكرته، ولا يعني أن الله سبحانه قد علَّم يوسف الرجوع بالأحلام إلى أولها، كما ظن أحد الدارسين. ولا يدهشنَّ أحدٌ من صيغة التفعيل؛ فالعرب تقبل فعل وتفعَّل ويتفعَّل، فأنت تقول فاه وتفوَّه، واعتاد وتعوَّد، وقواعد الإعلال والإبدال معروفة.

(٦) قضيَّة المصطلح

كنت ولا أزال أحرص منذ بدأت مشروعي الخاص للترجمة الأدبية على ضبط المصطلحات العربية التي أستخدمها في مقدمات ترجماتي، فأنا أقدم لكل ترجمة من ترجماتي الأدبية بتمهيدٍ أعرض فيه النظرات النقدية للنصِّ عند المحدثين، وعلى مرِّ التاريخ، مبينًا كيف تغيرت النظرة إلى النصِّ وكيف اختلفت المصطلحات التي يستخدمها النقاد في الحديث عنه تفسيرًا وتقييمًا، وأقدم المصطلحات الجديدة التي جاءوا بها، ومعنى كلٍّ منها، فأضيف الجديد إلى ما في معجم مصطلحات الأدب (١٩٧٣م) الذي وضعه أستاذنا مجدي وهبة، وما جئت أنا به استدراكًا لما فاته أو استكمالًا له، في كتابي المصطلحات الأدبية الحديثة (١٩٩٦م) ثم ناقشت قضية المصطلح برمَّتها في كتابٍ آخر عن تعريب المصطلحات وترجمتها في العلوم الإنسانية (٢٠١٥م) والذي جمعت فيه مئاتٍ من المصطلحات الجديدة في النقد الأدبي وفي النظرية السردية، وعندما ترجمت موسوعة الهرمانيوطيقا (١٣٠٠م صفحة) في عام ٢٠١٦م، كان عليَّ أن أطَّلع على ما توافر من كتب الفلسفة الوجودية، خصوصًا عند هايديجر صاحب التأثير الكبير في الفكر المعاصر، وفي النقد الأدبي، وإن لم يوفِّه الدارسون ما هو جديرٌ به، فتوفرت على قراءة أهم ما كتب عامًا أو بعض عامٍ مهتديًا بشروح النقاد له، ثم أصدرت كتابي عن مصطلحات الفلسفة الوجودية عند هايدجر (٢٠١٧م)، ثم عدت إلى يونج وما يلاقيه من تجاهل فكرَّست العام التالي لقراءة أعماله الأساسية وما كتبه المتخصصون عنه، حتى أزيل بعض وجوه الالتباس في فهم علم النفس التحليلي الذي جاء به بعد انفصاله عن فرويد، ومن حسن الحظ أن كتاباته الكاملة المترجمة عن الألمانية قد طبعت بعد مراجعته الشخصية لها؛ إذ كان يونج يجيد الإنجليزية إجادةً يحسده عليها أهلها، وقدِّر لي أن أقرأ ما كتبه أصلًا بالإنجليزية في كتابٍ عنوانه: «الإنسان ورموزه»، والذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٦٤م؛ أي بعد وفاته بثلاثة أعوام. وشارك في الكتاب، إلى جانب الفصل الذي كتبه يونج (٩٤ صفحة) — عددٌ من تلاميذ هذا العلَّامة، كما أذكر بسعادةٍ يوم شاهدت في التلفاز البريطاني برنامجًا سجِّل معه بالإنجليزية، وكانت تعاد إذاعته بين الفينة والفينة بعد وفاته، وهو ما شجعني أثناء دراستي في إنجلترا على الاستزادة من مادته العلمية، على نحو ما شرحت آنفًا في سياق اهتمامي بعلم النفس التحليلي ومناقشاتي مع هاردنج في جامعة لندن.

ولأضرب مثلًا أو مثلين لما أسميه التعريب وما أسميه الترجمة وفقًا لما اتفقت عليه جماعة العلماء ممثلة في الجامعة ومجمع اللغة العربية، وهو ما شاعت الإشارة إليه باسم «المجتمع العلمي». فأما التعريب فهو كتابة المصطلح أو الاسم الأجنبي بحروف عربية، وذلك إمَّا حين لا يوجد مقابلٌ في العربية، كالأكسجين والهيدروجين، وإمَّا حين توجد ترجمةٌ مطوَّلةٌ يصعب تداولها على الألسنة في السياقات العلمية التي تقتضي تكرار المصطلح، ومثالها الميريولوجيا mereology؛ أي فهم الجزء على ضوء الكل، أو فهم الكل على ضوء الجزء؛ فالتعريب هنا فيه توفير للكلام والشرح، خصوصًا إذا استخدم اللفظ تمييزًا أو حالًا. وأخيرًا قدَّم لنا أحمد زايد مصطلح «أركيولوجيا» archeology معرَّبًا، ولا شك أنه سوف يلقى الترحيب؛ لأنه يجنِّب الكاتب تكرار «علم الآثار» بهذه الصيغة، متحايلًا؛ حتى يتجنب استعمال اللفظ تمييزًا أو حالًا، وذلك قياسًا على تعريبنا الكثير من أسماء المباحث العلمية disciplines مثل البيولوجيا (علم الأحياء) فاللفظ الأجنبي قد يشتمل على معانٍ يصعب نقلها إلا بالترجمة المطولة بالعربية؛ فالجغرافيا تعني حرفيًّا رسم الأرض، ولكنَّها — كما هو معروف — علمٌ ذو شعابٍ كثيرة، ربما ضمت الجيولوجيا (ولها أيضًا فروعها) والسكان والمدن وهلم جرًّا. بل إننا نجد من الأيسر أن نشير إلى علم الاجتماع باسمه الأجنبي (سوسيولوجي) في الصياغات التي يتكرر فيها ورود الاسم، مثل علم النفس نفسه؛ إذ يسهل علينا أن نقول: «سيكلوجيًّا» بدلًا من قولنا «من زاوية علم النفس»، وقد سنَّ لنا جيل أساتذتنا هذه السُّنَّة، فتوسعنا فيها؛ إذ عرَّب لويس عوض بعض المصطلحات التي شاع بعضها ولم يشع البعض الآخر، فقد عرَّب scholasticism بأنه الإسكولائية، وهو مذهب أصحاب المدارس الدينية القروسطية؛ [أي في القرون الوسطى من نحت عبد الحميد يونس] الذين يطبقون مبادئ أرسطو، وشاع تعريب عوض، ولكن تعريبه «للهيومانية» humanism لم يشع بسبب وجود البديل العربي وهو «المذهب الإنساني»، والمصدر الصناعي منه (الإنسانية) لا يفي بالغرض؛ لأنه قد يعني الإنسان، وقد يعني صفة الشفقة والرحمة humaneness، وليتنا نقبل تعريب لويس عوض؛ فهو يشير إلى مذهب أوروبي خاص بعصر النهضة، ولم نأخذ به في الشرق عمومًا إلى الآن (انظر المعجم).
وأما الصفات من ذوات المعنى المحدد الذي نستطيع نقله بيسرٍ إلى العربية، ونستطيع أن نفهمه بيسرٍ؛ لأنه يحيلنا إلى ما نعرفه؛ فالأفضل لنا أن نترجمه (انظر الفصل الأول من كتابي عن مصطلحات الفلسفة الوجودية) وأقرب مثالٍ لذلك الصفة resilient التي تفيد المتانة والمرونة معًا، واستخدام كلمتين أو أكثر في نقل معنى كلمة واحدة مقبول في جميع مذاهب الترجمة ومدارسها، فقولك air fare يعني سعر تذكرة الطائرة، فلقد أبدلنا هنا بعض الكلمات، ونبدلها حين يتغير معنى fare في عبارة مثل We were struck by his frugal fare بمعنى دهشنا لتقشفه في الطعام، ولا أريد أن أفيض في هذا المجال، بل أضرب مثلًا أهمَّ من يونج نفسه، وهو مفهوم ما نترجمه بلفظ «التَّفرد» individuation فالترجمة هنا دقيقة وفق الدلالة المعجمية؛ أي الاشتقاقية، ولكن يونج لا يعني بها أن يصبح المرء فردًا أو أن يتفرَّد بمعنى الانفراد بخصائص معينةٍ وحسب، بل يعني بها ما يفيد النضج أو الاكتمال أيضًا، وهو مولعٌ خصوصًا بفكرة الاكتمال التي يسميها wholeness وأحيانًا ما يقول completeness وما أبعد هذا وذاك عن التفرُّد، ناهيك بالكمال!

وأظن أنه من المناسب في هذه المقدمة أن أشرح سبب عدولي عن الترجمة إلى التعريب أحيانًا، على الرغم من تفضيلي للترجمة عمومًا حين يتوافر المقابل العربي، والمثال على ذلك كلمتا أنيما (النفس الأنثى) وأنيموس (النفس الذكر) اللتان أشرت إليهما آنفًا، وما السبب إلا أن يونج كان يعني بهذه وتلك ما يزيد على معنى المقابلات العربية، فهما من اللاتينية، وذواتا معانٍ مركبةٍ. أما المعنى الأول فهو صورة الأنثى التي يحملها الذَّكر في داخله بالفطرة، وفي مقابلها صورة الذَّكر التي تحملها الأنثى في داخلها بالفطرة، وتتعرض هاتان الصورتان للتعديل والاختلاف في مراحل العمر المختلفة. وأما المعنى الثاني (الأقل شيوعًا) فهو العنصر الأنثوي في داخل كل ذكرٍ، والعنصر الذكوري في داخل كل أنثى، وهذان يتغيران أيضًا بفعل عوامل النشأة أو ما نسميه «المجتمع» وحسب؛ فالنَّفس الأنثى عند الطفل هي الأمُّ، رمز الغذاء والحنان والدفء والرعاية، ولكنها تتغير أثناء نموه وقد يؤثر ذلك في المعنى الثاني للأنيما — أي العنصر الأنثوي في داخله — وقد لا يؤثر. ولذلك فإن الكلمة المعرَّبة تسمح لنا بتعديل معناها وفقًا لنظرات الكاتب.

وأحب أن أضيف هنا أنني وضعت ترجماتٍ محددةً تفي بالمعاني التي قصد إليها يونج؛ فهو يشير إلى النفس بالكلمة اليونانية psyche والصفة psychic هو وأتباعه، مفضِّلًا إياهما على mind وmental وذلك، كما يقول ستيفنز؛ لأن الأولى «تشير إلى الجهاز النفسي الكامل، اللاواعي منه والواعي، في حين أن الأخيرة تستخدم في اللغة الشائعة للإشارة إلى جانب العمل النفسي الذي يتسم كله بالوعي» (ص٩). وأما الروح فإن يونج يستخدم في الإشارة إليها كلمة spirit المألوفة، ويقول يونج: إن جدَّه كان من علماء اللاهوت، وكان ذا إيمانٍ عميقٍ بوجود الأرواح من حوله، وكان بعد وفاة زوجته الأولى يستغرق في محادثات مع روحها، وإن زوجته الثانية (جدَّة يونج) كانت تتمتع بالشفافية التي كانت تمكِّنها من مخاطبة الأرواح، ويذكر يونج أنه كان يقيم في طفولته في منزل ضخم يقول أفراد الأسرة إنه «مسكون». وأما الروح في العربية فيرتبط معناها بالتراث الديني؛ فهي كلمة ترتبط في القرآن الكريم بالدلالة على الحياة؛ فالله خلق الإنسان من طين ونفخ فيه من روحه جلَّ وعلا («الأنبياء» ٩، «التحريم» ١٢، «الحجر» ٢٩، «ص» ٧٢، «آل عمران» ٥٩) فهي تقابل المعنى الدقيق لكلمة life والصورة المجازية لها تربطها بالريح spiritus-pneuma-atman في اللاتينية واليونانية والسنسكريتية.
ويخصص القرآن معنًى للروح يفيد جبريل — صلوات الله وسلامه عليه — («الشورى» (٥٢)، «مريم» (١٧)، «النحل» (٢)، «الشعراء» (١٩٣)، «غافر» (١٥)، «المعارج» (٤)، «النبأ» (٣٨)، «القدر» (٤)). وله صورةٌ أخرى هي «الروح القدس» Holy Ghost «البقرة» (٥٧، ١٥٣)، «المائدة» (١١٠) وتوجد صورةٌ أخرى قد تفيد المعنى الأول أو معنى الرَّوح؛ أي الرائحة؛ مثل الآية الكريمة في سورة «يوسف» (٩٤) و«الواقعة» (٨٩)، ويأمرنا الله أن ننسب كل ما يتصل بالروح بالدلالة الأولى (وربما الثانية) إلى أمر الله، وقد يكون معنى الأمر «الشأن» concern وقد يكون معناه الأمر (مفرد الأوامر) order؛ أي كلمة «كن» فيكون: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس: ٨٢، آل عمران: ٤٧، مريم: ٣٥)، فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (غافر: ٦٨) وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ (الأنعام: ٧٣).
ويلتقي معنى الروح بدلالة الخلق للحياة (المعنى الأول) بالدلالة الرئيسية الأولى لكلمة الروح في العربية المعاصرة، ولنا أن نعتبره المعنى البيولوجي المرادف للحياة، وهو المعنى الذي نقصده حين نقول: «أسلم فلان الروح» s/he gave up the ghost أو «صعدت روحه إلى بارئها»، ويكثر هذا الاستعمال في العاميات العربية. وأما المعنى الثاني فهو مشتق من هذا ويفيد أن للروح وجودًا مستقلًّا عن الجسد، وهو ما يشير إليه مترجما أحد كتب يونج المبكرة نسبيًّا وعنوانه: «الإنسان الحديث باحثًا عن روح»، والمترجمان هما و. س. ديل Dell وكاري ف. بينز Baynes وهما يجمعان فيه عدة محاضراتٍ ألقاها يونج بالألمانية، ويقولان في تصديرهما إن عمل يونج حتى ذلك الوقت (عام ١٩٣٣م) كان يقصد إلى الجمع بين الجسد والروح، والمعنى هنا قريب من النفس، ويقول ستور Storr إن يونج لم يجد في الإنجليزية مرادفًا دقيقًا للكلمة الألمانية Seele التي جرت العادة على مرادفتها بكلمة soul [الروح/النفس] فاضطر إلى استعارة الكلمة اليونانية psyche (ص٤٢). ولكنَّ للروح معنًى ثالثًا متصلًا بهذا أيضًا، وهو ما يقول لنا يونج إنه كان شائعًا في محيط الأسرة؛ فالروح هنا قد تشمل أرواح الموتى التي تظل موجودةً في هذا العالم ونسميها أشباحًا ghosts، ولها صلة واضحة بالألمانية Geist التي قد تعني الروح أو النفس أو الذهن، وأما أشباح الموتى فيشار إليها باسم «الأرواح والأشباح» spirits and apparitions وكان من أفراد أسرة يونج، كما ذكرت، المؤمنون بقدرة بعض نساء الأسرة على استحضارها conjure up، وكانت هذه الطاقة تسمَّى الشفافية الروحانية clairvoyance التي كانت تنسب لجدة يونج. وللقارئ الذي يبتسم ساخرًا من هذه الآراء أقول: إن عددًا كبيرًا من الناس في أيامنا هذه يؤمنون بقدرة الوسطاء [الوسيط medium] في جلسات خاصة seances على الاتصال بأرواح الموتى، وتوجد في أمريكا جمعيات خاصة لما يسمَّى «علم النفس الروحاني» paranormal psychology ولهم مجلاتهم الخاصَّة، وبرامج تليفزيونية يسجلون فيها وجود الأشباح بأجهزة إلكترونية بالغة الدقة. [انظر كتاب البحوث الروحانية التجريبية (١٩٦٣م) للمؤلف روبرت ﻫ. توليس Robert H. Touless (١٨٩٤–١٩٨٤م)، أستاذ علم النفس والروحانيات في جامعتَي مانشستر وجلاسجو، والذي اشتهر بكتابه عن الفكر السديد].
وفي إطار المعنى الثالث توجد للروح دلالةٌ تفيد كل ما خفي عن الحواس suprasensuous مثل الجن، فمادة «الجن» في اللغة تفيد الخفي أو الخبيء، وهذه كائنات روحية غير مرئية، تضم المؤمنين والكفار من العفاريت، ولكنها تضمُّ في التراث الأوروبي فئاتٍ أكثر كثيرًا مما يشمله تراثنا، فلديهم الجنيات الصغيرات fairies وأنواعٌ متعددةٌ من الشياطين الصغيرة goblins وelves وpixies إلى جانب الشياطين المعروفة devils بطبيعة الحال. وقد يشار في الإنجليزية بألفاظٍ كثيرةٍ إلى هذه الكائنات مثل sprites وspectres وphantoms وما إلى ذلك بسبيل، ويتوسل الشعراء والأدباء بصور هذه الكائنات للرمز إلى القوى الخفية التي تحرك العالم الخبيء وتصاحب البشر في رحلة الحياة.
وأما المعنى الرابع فهو مجازيٌّ، أو قل إنه حدسيٌّ؛ مثل إشارتك إلى روح العصر spirit of the age التي كان وليم هازليت الناقد الإنجليزي، كما سبق أن ذكرت، أوَّل من أدخلها في اللغة ترجمة للكلمة الألمانية Zeitgeist، وكان الأصل المجهول فيها التمييز الذي وضعه «كانط»، الفيلسوف الألماني، بين الظاهر والباطن، أو بين المحسوس والمفهوم حدسًا، واستعمل «كانط» لهما لفظتين يونانيتين هما phainomenon اسم المفعول من الفعل phainesthai بمعنى يظهر، وهي التي تحولت إلى اللاتينية phaenomenon فجاءت بالإنجليزية phenomenon بمعنى الظاهرة، واشتق في مقابلها من اللاتينية numenus الاسم وnumen الذي كان يعني الروح أو القوة الحيوية التي تسكن مكانًا ما أو شيئًا ما، ومنها أتى يونج بلفظة numinosum التي يعني بها أية سلطة تتحكم داخليًّا في الشخص، كالعقيدة أو العاطفة المشبوبة. والواضح أن هذا المعنى المستقى من الأساطير الرومانية (لأن numen كان عند الرومان ربًّا) لا يرتبط إلا مجازًا بمعنى الروح الذي نحن بصدده، كما يستخدم يونج اللفظة اليونانية nous في الإشارة إلى الروح أو النفس، وإن كان معناها في الإنجليزية الحديثة الحصافة والذكاء (أو «الفهلوة» بالعامية).
ويختلف معنى النفس أيضًا في اللغة التراثية واللغة المعاصرة، مثلما يختلف ويتشعب معنى الروح، ولكنَّ النفس أكثر شيوعًا على المستويين اللغويين؛ فالروح ترد بجميع صيغها ٢٦ مرة في القرآن الكريم، مقابل ٢٩٥ مرة تقريبًا للنفس بجميع صورها، وأكثرها شيوعًا هو الدلالة على الشخص person أو ما نسميه اليوم «الذات» subject وself؛ إذ ترد بهذا المعنى مفردة ٦١ مرة كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (آل عمران: ١٨٥)، وخلقكم من نفسٍ واحدةٍ (النساء: ١)، ومَنْ قَتَلَ نَفْسًا (المائدة: ٣٢) وهلم جرًّا، ويقول المفسرون إن هذا المعنى يختلف عن أي معنى من المعاني السابقة للروح؛ فهو يقترب من معنى الإنسان man.
وللنفس معنًى ثانٍ أقلُّ ورودًا يفيد ما نسميه السريرة inner mind والألمانية inner ومشتقاتها مثل innerlicht؛ أي الدخيلة، وقد قلت آنفًا إن يونج كان يفضل psyche في الإشارة إلى النفس؛ لأن mind تعني جانبًا من العمل النفسي يقوم كله على الوعي، حسبما يقول ستيفنز، والواقع أنها تستخدم في اللغة الشائعة في الإشارة إلى النشاط العقلي أو الذهني، وهو ما يختلف عن العقل بمعنى المنطق reason، وأما النفس العربية فإن معناها الثاني المقصود يقترب لا من الوعي فقط consciousness بل من الضمير conscience أيضًا، كقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ (الأعراف: ٢٠٥) وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ (الأحزاب: ٣٧) تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ (المائدة: ١١٦) وفَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (طه: ٦٧) وهكذا، في آيات أخرى.
وللنفس معنًى ثالثٌ يقترب من الروح بمعناها المذكور آنفًا، وهي توازي من ثم soul وself الإنجليزيتين، مثلًا: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم (الصف: ١١) وإِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (التوبة: ١١١) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (الكهف: ٥١) وهو المعنى الذي يؤكد ستيفنز أنه قائم عند يونج، وهو يفرق تفريقًا دقيقًا بين self وsoul (ص٤١) على نحو ما سوف أشرحه في المعجم، وإنما أردت من هذه الملاحظات أن أبين درجة التداخل فيما بين هذه المصطلحات ذوات المعاني المجردة، ومدى التعميم والتخصيص في استعمالات فرويد ويونج لهذه المفردات، فللنفس بالمعنى الذي يستخدمانه دلالةً على جماع النوازع والرغبات والميول والشهوات التي يقسمها فرويد بين «الأنا» ego والأنا العليا superego والأنا السفلى id [أو libido] وقد يقرؤها أحدنا بمعنى يقترب من الذات self وحسب في اللغة العامة، أو subject في اللغة الاصطلاحية؛ إذ نجدها في الآيات التي تشير إلى ما تشتهيه الأنفس «الزخرف» (٧١)، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ (النجم: ٢٣)، وفي وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (يوسف: ٥٣)، ولَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة: ٢٨٦)، وفَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا (النساء: ٤)، وهي من المعاني التي نجدها عند فرويد ويونج.
فإذا نظرنا إلى تواتر ورود هذه الدلالات المتباينة على تقاربها في القرآن الكريم، وجدنا أن المعنى العام للنفس الذي أشرت إليه أولًا، ويقترب من معنى الإنسان حين يكون مفردًا يرد ٦١ مرة، ومتصلًا بضمير جمع المخاطب (أنفسكم) ٥٥ مرة، وبضمير جمع الغائب (أنفسهم) ٩١ مرة، وبضمير المفرد الغائب (نفسه) ٤٠ مرة. وفي جميع هذه الحالات يبرز اتساق المعنى مع الدلالة الحديثة للذات subject أو self والدلالة التقليدية للنفس في اللغة، وهذه الأخيرة هي التي تعني الإنسان وحسب man؛ أي أحد أفراد الجنس البشري.
وأحب أن أشير قبل حديثي عن منهجي في هذا الكتاب إلى أن المعاني الحديثة في اللغات الأوروبية تستغل الكلمات المشتقة من اليونانية واللاتينية في الإشارة إلى معانٍ متخصصةٍ تبتعد قليلًا أو كثيرًا عن المعاني التراثية المشار إليها، فقد تأتي بألفاظ مشتقة من psyche التي ترادف النفس soul/self بصفة تجعلها أقرب إلى الروح، وهي psychic التي تعني «الروحي»، ولكن ضرورة التمييز بينها وبين spiritual تقتضي اشتقاق صيغةٍ عربيةٍ متميزةٍ، وهي الصفة التي تتكون بإضافة ياء النسب؛ أي «روحاني» التي أصبحت معادلة لكل من psychic وpsychical؛ ومن ثمَّ اكتسبت المعنى الذي تحمله كل من هاتين الكلمتين؛ ألا وهو القدرة الخارقة على استشفاف حقائق خبيئةٍ، وخصوصًا قدرة الحدس intuition على الوصول إلى ما لا تدركه الحواسُّ، أو ما لا يهتدي إليه العقل reason أو التحليل العقلاني rational analysis أو ما أسميته «العقلنة» ratiocination في غير هذا المكان من هذا الكتاب. لكنني لم أغير ما جرى العرف عليه من ترجمة personality بالشخصية، واحتفظت بالنفس ﻟ psyche وللذات ﺑ subject وللأنا ﺑ ego وللظل ﺑ shadow وأما self فكان الدارسون أحيانًا يوازونها بالنفس وفقًا للاستعمال الشائع أو بالذات حسبما شاع أيضًا عند يونج بصفة خاصة، وأما الهُوَيَّة (المصدر الصناعي من هو أو هي) فهي identity، وأما معناها الذي يفيد «التطابق» في اللغة العامة، والاشتراك في الماهية في المصطلح الفلسفي؛ فهو «التماهي»، وأحمد الله على أنه شاع ولم يعد عسير الفهم كما كان قبل خمسين عامًا على الأقل.
فأما منهجي في الكتاب فأتَّبع فيه منهجي في تقديم المصطلحات في سياق نشأتها وتطورها وتهذيبها refining، بحيث يؤدي السياق إلى إيضاح الدلالة المقصودة، إلى جانب ما اتفق المجتمع العلمي على ترجمته أو تعريبه منها، فإذا وجدتُ اختلافًا في التفسير رصدته، مدافعًا عما أراه أقرب لعمل يونج على امتداد حياته، منطلقًا من كتابه: «ذكريات وأحلام وتأملات»، والذي يعتبر سيرته الذاتية — وإن كانت قد سجلتها ونظَّمتها وأعدَّتها للنشر أنيلا جافا Aniela Jaffé [ت. ١٩٩١م]، والتي شاركته العمل في عيادته النفسية وصاحبته وسجلت أحاديثه التي اتخذت شكل السيرة الذاتية باللغة الألمانية في السنوات الخمس الأخيرة من حياته، ثم ترجمها ريتشارد وينستون Winston وزوجته كلارا، ونشراها حالما توفي عام ١٩٦١م، ثم عادت المحررة «جافا» إليها وأدخلت بعض التعديلات الشكلية، ونشرتها من جديد عام ١٩٧٣م، وقد ألحقت بالكتاب معجمًا صغيرًا، تستند فيه إلى ألفاظ يونج نفسها، والنسخة التي عندي صادرةٌ عام ١٩٨٩م. وبالإضافة إلى هذا الكتاب، اتبعت أسلوب الباحثين الذين قدموه إلى قراء الإنجليزية في سياقه التاريخي، ومن أهمهم أنطوني ستيفنز في كتابه عن يونج (١٩٩٠م) وكتابه الآخر الصغير عنه (ما قلَّ ودلَّ عن يونج) (١٩٩٤م) وكتاب أنطوني ستور بعنوان «يونج» (١٩٧٣م) وهؤلاء جميعًا يتبعون التسلسل الزمني لفكر يونج ونظرياته وكتاب العلامة الشهير مري ستاين Stein بعنوان خريطة الروح عند يونج (١٩٩٨–٢٠١٠م)، وهي كتب حافلة بالمصطلحات المشروحة وذات الفائدة، ولكنني استعنت ببعض ما كتبه يونج نفسه عن أهمِّ موضوعاته، ويبرز من بين كتبه في نظري عدة كتب، الأول: «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي»، من ترجمة ر. ف. س. هل Hull ١٩٥٩م (الطبعة الأولى، وعندي الطبعة العاشرة (١٩٩٠م)) ويتضمن معظم ما كتبه يونج عن هذين الموضوعين، والثاني هو: «مختارات من كتابات يونج» من ترجمة هل Hull نفسه، وإن كان الذي اختارها وقدمها في ٦٥٠ صفحة، ناقدٌ مرموقٌ هو جوزيف كامبل Campbell (١٩٠٤–١٩٨٧م) وكتاب الأنماط السيكلوجية (١٩٢٦م) الذي يضم تعريفاتٍ وضعها يونج نفسه، والكتاب الأحمر (٢٠٠٩م) واللذين أهدتهما إليَّ الأستاذة الدكتورة سحر صبحي عبد الحكيم، زميلتنا في قسم اللغة الإنجليزية، فلها مني جزيل الشكر. كما أهتدي في المعجم الحالِّي، إلى جانب كتب أخرى كتبها يونج، بكتابٍ عنوانه: «معجم نقدي مختصر للتحليل عند يونج»، (١٩٨٦م) (١٩٩٦م)، من وضع ثلاثة من كبار المتخصصين في يونج؛ وهم أندرو صمويلز، وبني شورتر، وفريد بلاوت، إلى جانب كتب أخرى تتعلق بقضايا متخصصة أذكرها في سياقاتها.

وأودُّ أن أكرر في ختام هذه المقدمة أن معظم كتابات يونج الألمانية التي تُرجمت إلى الإنجليزية في حياته قد راجعها بنفسه، وكان مترجموه يعملون بتعاون وثيق معه، وأما ما كتب عنه بالإنجليزية فهو من وضع المؤلفين أنفسهم ويتحملون مسئوليته مهما يكن إخلاصهم لمبادئ هذا العلَّامة، وأنا أشير في ذيل كلِّ مقتطفٍ مترجمٍ إلى أصل النصِّ، وللقارئ أن يرجع إلى قائمة المراجع إذا أراد، ولعلي بهذا أسدِّد دَينًا هائلًا أحمله إلى الدكتور مصطفى سويف، ولعلي أساعد القارئ العربي أيضًا على معرفة العلامة يونج معرفة أكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤