الفصل الثاني

اللاوعي

(١) نشأة الوعي باللاوعي

عندما ذكرت في الفصل السابق أن فرويد «اكتشف» اللاوعي، ووضعت الكلمة بين علامات تنصيصٍ للدلالة على أن الكلمة مشكوك في صحتها أو منسوبة للعامَّة، كنت أمهد للحديث بتفصيلٍ أكبر عن هذا المفهوم الذي قد يستعصي إدراكه بوضوح على غير المتخصص، فأما الوعي بوجود ما لا يعيه المرء، أو بوجود أفكارٍ أو صورٍ أو مشاعر لا يدري المرء أنها قائمة في أعماق نفسه، فليس من «مكتشفات» علم النفس الحديث؛ إذ أثبت باحثان هما إلينبرجر Ellenberger (١٩٧٠م) وهوايت Whyte (١٩٧٩م) أن النصوص القديمة عند المصريين والهنود وبعض المسيحيين في العصور الوسطى تدل على حيرة أصحاب هذه النصوص إزاء اكتشاف وجود مثل تلك المادة اللاواعية داخل نفوس الناس، خصوصًا الباحثين في الدين، مهما تكن صورة ذلك البحث أو صورة ذلك الدين، ويحمل لنا التراث المصري والهندي والمسيحي (بل والإسلامي) أدلةً على إدراك ذوي الشفافية الروحية وجود تلك المادَّة غير الواعية، وأظننا ندرك جميعًا الدور الذي كان منوطًا بالأحلام في حياة أصحاب الرؤى والنبوءات (بل والأنبياء) فهي من قديم الزمن رموزٌ لأشياء لا يعيها الحالم، سواء كانت نابعةً من حياته في الدنيا أو رسائل من عالمٍ خفيٍّ، أو أوامر من الخلَّاق العليم.
ويقول أنطوني ستيفنز (١٩٩٠م) إن تطور مفهوم اللاوعي في العصر الحديث مرَّ بأربع مراحل؛ كانت الأولى، في القرن السابع عشر، مولد العلم الطبيعي، حين «تصوَّر» بعض العلماء وجوده، والثانية في القرن الثامن عشر حين بدأ الحديث عنه، ثم في آخر القرن التاسع عشر حين بدأت التجارب التي تثبت وجوده على أيدي علماء النفس، وأمَّا البحث في بنائه وعمله فلم يبدأ إلا عندما تصدَّى سيجموند فرويد لدراسته والانتفاع به عام ١٨٩٠م. ويقول ستيفنز إن أول مفكرٍ حديثٍ وضع صياغة واضحة للَّاوعي كان جوتفريد فون لايبنتز Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦م)، ولكن الاعتراف الكامل باللاوعي باعتباره قوة دينامية يستند إليها الوعي جاء على أيدي الفلاسفة الألمان شلينج Schelling وهيجل، وشوبنهاور Schopenhauer ونيتشه Nietzsche، وأما العمل الرئيسي في هذا الصدد فكان نشر إدوارد فون هارتمان (١٨٤٢–١٩٠٦م) Hartmann كتابًا بعنوان: «فلسفة اللاوعي» عام ١٨٦٨م، وكان ذلك بمثابة تمهيد الأرض اللازمة لإقامة فرويد بنيان اللاوعي على أسس علمية مقبولة. وكانت تلك الأسس العلمية المقبولة هي الأدلة التجريبية؛ أي المستقاة من الخبرة العملية في العلاج.

(٢) التنويم المغناطيسي

يقال إن الطب النفسي الحديث قد بدأ عندما ابتدع طبيب من فيينا يسمَّى فرانز أنطون مِزْمَر mesmer (١٧٣٤–١٨١٥م) أسلوبًا لعلاج عدة أنواع من الأمراض العصبية أطلق عليه اسم «المغناطيسية الحيوية» animal magnetism ونطلق عليه اسم «التنويم» hypnotism وإن جرت العادة على إضافة صفة «المغناطيسي» بسبب الوصف الذي وضعه مِزْمَر، فأصبحنا نطلق عليه بالعربية اسم «التنويم المغناطيسي». وأما تعريف هذا المذهب المذكور فغير متفق عليه، وأقصى ما استطاعه العلامة الكندي ف. ل. ماركوزه Marcuse في كتابه: «التنويم [المغناطيسي] بين الحقيقة والخرافة» (١٩٥٩م) قوله إن المقصود «تغيير حالة الإنسان تغييرًا أصيلًا، وعادةً ما يكون ذلك بتكرار عوامل تأثير يتمتع فيها الإيحاء — بغضِّ النظر عن تعريفنا له — بقدرٍ أكبر من المعتاد من الفعالية» (ص٢١). أي إن الإيحاء suggestion هو العامل الفعال في هذا «التنويم»، وكان مِزْمَر المذكور صاحب رؤيةٍ دينيةٍ روحيةٍ يعتبرها الجمهور دليل قداسةٍ ويراها المتدينون من الخطايا؛ لأن الاستغراق في الرؤى والمشاعر الغيبية كان يعني الدخول إلى أسرار الدين؛ فالصفة mystic التي تطلق على أمثال هؤلاء وثيقة الصلة بكلمة mystery؛ أي السِّرُّ أو اللغز، وكلمة mysticism التي توازي في الدلالة العامة «التصوف» عندنا — تعني إما الإدراك الروحي عن طريق التأمل العميق للذات الإلهية، وإما القدرة على اكتناه أسرار الوجود، بما في ذلك «نفس الإنسان»، وذلك كان مدخل الطبيب مِزْمَر [ومن الطريف أن الصفة التي تصف مذهبه هي «المِزْمَرية» mesmerism؛ وتعني سيطرة شيءٍ على النفس، وmesmerize فعلٌ يفيد هذه السيطرة] ومن الطبيعي أن يرى المتدينون في «السلطة الروحية» عند الطبيب خطرًا على الطرفين، الممارس والمريض، فالتعرُّض للقوى الخفية يحمل أخطارًا نجهل أبعادها.

وأما أسلوب العلاج الذي كان مِزْمَر يمارسه فكان يستند إلى نظرية نراها اليوم غريبة؛ تقول: إن في الإنسان مغناطيسية حيوية، وتقول: إن في الجسم سوائل بشريةً عامَّةً، وإنها موزعةٌ في أجسام الأصحاء توزيعًا سليمًا، وإن الموادَّ الخامدة تتمتع بمغناطيسية خاصَّةٍ؛ سواء كانت من الخشب أو المعدن أو الماء، وتؤكد ممارسة حاسة اللمس — خصوصًا مسَّ أطراف الجسد — الشعور بهذه القوة الكامنة، كما كان مِزْمَر يؤمن بتأثير الكواكب في الإنسان، ويقول: إن قدرة المعادن على التمغنط [ومن ثمَّ على التأثير في المغناطيسية الحيوية بحيث يستجيب المريض لها ويُشفى من اضطرابه النفسي] — تتفاوت قوةً وضعفًا ما بين أشرف المعادن؛ وهو الذهب وأحقرها؛ وهو الرصاص.

ويقول ماركوزه إن أسلوب مِزْمَر في العلاج مرَّ بمرحلتين، وقد حقق في كليهما نجاحًا كتب له ذيوع الصِّيت أساسًا بسبب عدد المرضى الذين شُفوا على يديه، أما المرحلة الأولى فكانت تعتمد على تعريض المرضى [ممن قرر أطباء ذلك الزمن استعصاء شفائهم] لصدمةٍ كانت تسمَّى «أزمة»، وكانت تنشأ من التعرُّض لمجالاتٍ مغناطيسية قوية، وتتجلى في تصلُّبٍ أو تشنجٍ في العضلات ورعشةٍ عارمةٍ تتلوها غيبوبةٌ، فإذا خرج المريض من الغيبوبة أحسَّ بارتخاء كاملٍ في جسمه، وبأنه قد شفي ولم يعد يعاني ما كان يعانيه. وأما المرحلة الثانية من أسلوب العلاج والتي اكتشفها عرضًا، فيما يقال، فكانت إقناع المريض بأن يسترخي استرخاءً كاملًا حتى يصل إلى ما يشبه النوم، زاعمًا أن ذلك أثرٌ من آثار المغناطيسية، وعندما نجح مِزْمَر في تحقيق نتائج أفضل بهذا الأسلوب — ابتدع ما يسمَّى «بالعلاج الجماعي»، وإن كانت صورته تختلف اختلافًا كاملًا عمَّا يحدث اليوم حين يجمع عددٌ من المرضى للحديث عما يعانونه حتى ينجحوا في نقل ما هو مكبوتٌ في اللاوعي؛ عبر عتبة الوعي، إلى «الأنا»، على نحو ما يبينه فرويد؛ إذ إن مِزْمَر كان يجهز خابيةً مليئةً ببرادة الحديد الممغنطة، وتخرج من جوانبها قضبان يمسكها المجتمعون لاستقاء المغناطيسية منها. وعندما زادت شهرة مِزْمَر عن الحدِّ، وبدأ الناس — خصوصًا في إنجلترا وفرنسا — يؤمنون بالتنويم [المغناطيسي]؛ أي المرحلة الثانية من ممارسته، هاجمه الأطباء وبعض الهيئات العلمية الفرنسية، وهي التي انتهت إلى أن نجاحه لم يكن نجاحًا علميًّا بل كان نجاحًا لقدرة الإيحاء على التأثير في مناطق مجهولةٍ من النفس. وعلى الرغم من أنه اضطر إلى التوقف — بسبب هذا الهجوم — عن ممارسة التنويم [المغناطيسي] فقد استمر العلماء في بحث الأمر؛ رائين أن الإيحاء في ذاته موضوعٌ جديرٌ بالدراسة العلمية (ماركوزه، ص٢٤).

وكان أهم من التقط خيط الإيحاء عالم أعصابٍ فرنسيٍّ بارزٍ، وهو جان-مارتان شاركوه Charcot (١٨٢٥–١٨٩٣م) الذي كان أشهر داعيةٍ لاستخدام التنويم في العلاج النفسي، خصوصًا بعد نجاحه في استخدامه في علاج الهيستيريا؛ إذ استطاع أن يثبت وجود أصلٍ سيكلوجي للشلل الهيستيري، وذلك من خلال الإيحاء التنويمي بالشلل عند الأصحاء. وأظن أنه من المناسب أن أبين، في هذا السياق، أصل كلمة هيستيريا، خصوصًا لفائدة المتخصص في النقد الأدبي واللُّغوي ومصطلحاته؛ إذ يشيع في تحليل الأسلوب استخدام مصطلح «عكس الترتيب المنطقي» بتقديم الثاني على الأول [التقديم والتأخير، بصفة عامة] وهو Hysteron Proteron فالكلمة «هيستيرون» يونانية، وهي صورة صرفية من Hysteros التي تعني الأخير، و«يروتيرون» التي تعني الأول، من proteros، وأما hysteric فمشتقة من اليونانية hysterikos التي تعني مرض الرحم؛ لأن هيسترا hystera اليونانية تعني الرَّحم، وأما سبب هذا الاشتقاق فهو الفكرة القديمة التي تقول: إن النساء أكثر إصابةً بالهيستيريا من الرجال، وأما المعنى العلمي للهيستيريا فهو مرض نفسيٌّ يعني شيئين: الأوَّل (١) الميل إلى الانفعال الشديد أو القلق المتطرف أو الاضطرابات الحسية أو الحركية، والثاني (٢) حدوث اضطراباتٍ عضويةٍ ظاهريةٍ بسبب قوى لا واعية؛ أي في اللاوعي، مثل فقدان البصر أو السمع وما إلى ذلك بسبيل، وهذا هو المعنى الذي يهمنا هنا، وأما المعنى الشائع في اللغة العامة فهو أيُّ سلوكٍ يفقد فيه المرء التحكُّم في التعبير عن أي انفعالٍ أو إحساسٍ مثل الضحك الهيستيري أو البكاء الهيستيري، وهو ما تقول المعاجم المترجمة اليوم إنه «الهرع» بالعربية، وإن كنت أفضِّل تعريب الكلمة. والمعنى الثاني هو الذي يصف ما فعله شاركوه؛ إذ استطاع أن يستخدم الإيحاء التنويمي في جعل الشخص يفقد البصر أو السمع، أو يصاب بالهلوسة، أو بالشلل التشنجي، أو تخشُّب الجسم، أو إحداث ظاهرةٍ غريبةٍ هي تعدد الشخصية multiple personality حيث يكشف عن وجود شخصيتين أو أكثر، منفصلتين ظاهريًّا، في الشخص نفسه. وكان هذا التعدُّد ينسب إلى الجنِّ والعفاريت التي تسكن جسم الشخص عند القدماء الذين كانوا يتصورون أن «التعدُّد» لا يعني أكثر من شخصيتين حتى القرن التاسع عشر، ثم ثبت أن اللاوعي قادرٌ على تشكيل شخصياتٍ فرعيةٍ متعددةٍ، كما بين شاركوه أن شذراتٍ من هذه الشخصية تحيا وتنمو في اللاوعي، ويمكن أن تظهر عند «التنويم»، بل ربما أفصحت عن وجودها تلقائيًّا فيما يتضح من الاضطرابات الإكلينيكية (انظر المعجم).
ويقول ستيفنز إن ييير جانيه Janet (١٨٥٩–١٩٤٧م) تلميذ شاركوه، نجح في إقامة الارتباط بين هذه «الكيانات السيكلوجية المتزامنة» وما كان يسميه «الأفكار المتسلطة في العقل الباطن» subconscious fixed ideas. وكان جانيه يقول: «إن الفكرة المتسلطة تنشأ وتنمو مثل الفيروس في ركنٍ داخل الشخصية لا تستطيع الذات الوصول إليه، وإنها تعمل في العقل الباطن، وتتسبب في جميع أنواع الاضطرابات الهيستيرية والأمراض النفسية» (ص١٣). وعندما قدم يونج مصطلح «المركَّب» ووضع له تعريفًا سيكلوجيًّا؛ قال إنه يوازي ما يقول جانيه إنه الفكرة المتسلطة في العقل الباطن، كما قال يونج إن النفس الشخصية تتكون من عدة شخصيات فرعية تظهر في الأحلام وشطحات الخيال.
فإذا ذكرنا أن فرويد تتلمذ على أيدي شاركوه (في ١٨٨٥م)، وأن يونج تتلمذ على يد جانيه، في الفصل الدراسي ١٩٠٢–١٩٠٣م، فإننا لا ندهش للدور الذي لعبه هذان الفرنسيان في مولد «علم النفس العميق»؛ إذ تحول فرويد من الدراسة الإكلينيكية للأعصاب إلى علم النفس الدينامي، وبدأ تعاونه مع جوزيف براور Breuer (١٨٤٢–١٩٢٥م) في فيينا. وكان براور قد نجح في استخدام التنويم في علاج الأمراض الهيستيرية [بالمعنى الثاني المبيَّن آنفًا] وذلك بحفز المريض المنوَّم على استعادة انفعال الصدمة abreaction وتفريغ المشاعر القوية المرتبطة بتلك الصدمة أثناء التنويم، وهو ما كان يطلق عليه تعبير «التَّطهُّر» catharsis، وبلغ من انبهار فرويد بالنجاح الذي حققه براور أن أعلن أن بداية التحليل النفسي تؤرَّخ بنجاح براور في علاج إحدى مريضاته. ولكن سرعان ما تخلَّى فرويد عن التنويم، مفضِّلًا منهج التداعي الحرِّ free association الذي وضعه، والذي يقضي بأن يتمكن المريض من تذكُّر الأحداث المنسية؛ أي المكبوتة في اللاوعي، ومن ثمَّ يتحرر من ضغطها الكامن ويبدأ الشفاء. ولكن ستيفنز يقول:

ومع ذلك، فيصحُّ لنا أن نقول: إن استعمال التنويم ودراسة آثاره لعبت دورًا أساسيًّا وبالغ الأهمية في الكشف عن سلطة قوى اللاوعي، وفي تنمية تقنيات العلاج اللازمة لتمكين الوعي من الوصول إلى تلك العناصر غير الواعية. وعلى الرغم من أن يونج لم يستعن استعانةً تذكر بالتنويم، فلم يكن بقادرٍ على وضع ما وضع من نظرياتٍ لو لم يستعمل التنويم من سبقه من العلماء. (ستيفنز ص١٤)

(٣) اختبار تداعي الألفاظ

كنت ذكرت في المقدمة، وفي الفصل الأول، أن اختبار تداعي الألفاظ الذي وضعه يونج كان يعتمد على اختبارٍ مماثلٍ وضعه فرانسيس جولتون (١٨٢٢–١٩١١م) وهو الاختبار الذي كُتب له أن يبدأ به تعاون يونج مع فرويد. وتفاصيل الاختبار كما يلي: يقرأ الطبيب على المريض قائمةً تتضمن كلماتٍ معينةً، ويطلب منه أن يذكر أول كلمةٍ تخطر بباله عند سماع كلِّ كلمةٍ، وبعد التطوير الذي أدخله بعض العلماء حدد يونج المعايير العلمية لإجراء هذا الاختبار؛ ومن ثمَّ أصبح ينسب إليه، يقول ستور:

كان من نتائج تطبيق يونج لنهج اختبار تداعي الألفاظ أن أدخل مصطلح «المركَّب» في علم النفس. و«المركَّب» مجموعةٌ من التداعيات التي تربط بينها نغمة إحساسٍ معينٍ … وعندما يلمس الشخص هذا «المركَّب»، تلوح عليه دلائل اضطرابٍ شعوري. وكان يونج يثبت وجود هذا الاضطراب لا من حيث طول المدة التي يستغرقها الشخص في الاستجابة للكلمات التي يسمعها فقط، بل أيضًا بتسجيل عمق تنفُّس الشخص، والمقاومة الكهربية لبشرته، وسرعة نبضه؛ فهذه المؤشرات الفسيولوجية تتغير باستجابتها للمشاعر، وهكذا كان يونج من أوائل التجريبيين الذين أثبتوا الآثار الدينامية للكوامن النفسية المنسية و«المكبوتة». ورغم أن كلمة «مركَّب» نادرًا ما تستخدم الآن؛ فإن المفهوم مهم في نظر يونج، ليس فقط لأن الإثبات التجريبي لوجود «المركَّبات» في اللاوعي يعضد نظرية الكبت التي وضعها فرويد؛ بل أيضًا لأنه يؤكد فكرة يونج القائلة بأن النفس منقسمةٌ إلى شخصياتٍ فرعيةٍ (ستور ٢١–٢٢).

وقد تأثر يونج أيضًا بالدراسة المهمة التي أجراها ثيودور فلورنوي Flournoy (١٨٥٤–١٩٢٠م) عن «وسيطة روحانية» زعم أن لها روحًا عاشت في زمن سابق، وأنها تتكلم بلغة سكَّان كوكب المريخ، وقضى الباحث خمس سنواتٍ في هذه الدراسة، وأعلن اختلافه عمَّن يقولون إنها صادقةٌ بل ومن يتهمونها بالتحايل والمخاتلة جميعًا؛ إذ انتهى إلى أنها تعبِّر أثناء التنويم أو عندما تحلُّ بها النوبة الروحانية عن ذاكرةٍ منسيةٍ cryptomnesia، وهي كلمةٌ نحتها نحتًا لوصف حالتها. وأبدى يونج اهتمامًا كبيرًا بهذه الدراسة بسبب اهتمامه طول عمره بالروح وبالروحانيات، على عكس فرويد الذي قيل إنه يستهجنها. وعلى أية حال فإن ممارسي العلاج النفسي قدموا للمحللين أدلةً تجريبيةً على وجود مقومات دينامية في اللاوعي.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان الباحثون قد توصلوا إلى عددٍ من النتائج حول اللاوعي يلخصها ستيفنز على النحو التالي:

  • (١)
    يقع عددٌ كبيرٌ من أنشطة الإدراك والتفكير تحت عتبة الوعي beneath the threshold of consciousness، وهي فكرةٌ لخصها العلامة الألمانيُّ هيرمان فون هيلمهولتس Helmholtz (ت١٨٨٩م) عام ١٨٦٧م في عبارة [Ubewusster Schloss] التي تعني الاستنباط اللاواعي unconscious inference كما تشير إليها عبارة و. ب. كاربنتر Carpenter (١٨١٣–١٨٨٥م) (١٨٦٨م) التفكير اللاواعي unconscious cerebrations.
  • (٢)
    يختزن اللاوعي العديد من الذكريات والمدركات الحسية التي لا يعرف الفرد الواعي شيئًا عنها، ومن الممكن أن تستعاد هذه من خلال التنويم، وهو ما يؤدي إلى ظاهرةٍ مدهشةٍ تسمَّى التذكُّر الفائق التنويمي hypnotic hypermnesia (وتعني استرجاع الذات لذكريات بقدرٍ هائلٍ من التفصيل).
  • (٣)

    بعض المهارات التي تكتسب بفضل الجهد الواعي — مثل ركوب العجلة أو الكلام بلغةٍ أجنبيةٍ — تصبح تلقائيةً، ثم تمارس بصورةٍ لا واعية.

  • (٤)

    للَّاوعي وظيفةٌ خلَّاقةٌ تبدع الأساطير، ولا حدود لإنتاجه من الأحلام، والأساطير، والقصص، والصور، والرموز، والأفكار، ويمكنه في حالات المرض النفسي أن يؤدي إلى الأوهام الضالة والهلاوس، وشتَّى تجليات الهيستيريا.

  • (٥)
    يعمل اللاوعي باعتباره قوةً دينامية، وهكذا استُعيض عن مفهوم مِزْمَر الأصليِّ عن «السائل المغناطيسي» بفكرة الطاقة النفسية، وحلَّت فكرةٌ تقول: إن هذه الطاقة يمكن أن تكبح، inhibited أو تتعرض للإعلاء والتسامي sublimation أو النقل transference من عنصر نفسي إلى عنصر آخر.
  • (٦)
    وجود شخصيات فرعية subpersonalities تحت عتبة الوعي، وهي التي قد تنمو وتتطور بصورة مستقلة، أو باعتبارها أجزاءً من الشخصية الواعية، بعد انفصالها أو انفصامها عن الوعي، وقد تظهر هذه الشخصيات الفرعية في الأحلام أو التخيلات، أو في حالات التنويم أو غيبوبة الوسيط الروحي أو في حالات تعدد الشخصية (ستيفنز ١٩٩٠م، ١٦–١٧).
وعندما بدأ فرويد حياته العملية، في ظل مكتشفات شاركوه وبراور، لم يشأ أن يكتفي بالتنويم خصوصًا في علاج العصاب؛ إذ لاحظ أن العصاب أشدُّ تعقيدًا مما كان يتصور، خصوصًا بعد ما خرج من علاج بعض مرضاه بحقيقتين لم يستطع تجاهلهما: الأولى وجود صدمةٍ جنسيةٍ حقيقيةٍ أو متخيَّلةٍ تفسر إصابة المريض بما يعانيه، والثانية عدم استعداد المريض للاعتراف بطبيعة الصدمة المذكورة. فهو يكبت ذكراها في اللاوعي. ووضع فرويد منهج التداعي الحرَّ free association الذي أصبح يمثل له مفتاح اللاوعي، وقاعدة الإجراءات العلاجية التي نعرفها اليوم باسم التحليل النفسي. وكما هو معروفٌ فقد يبدأ المريض الاسترسال في تذكُّر ما يكمن في اللاوعي، ثم يبدي مقاومةً resistance حين يصل إلى الصدمة؛ ومن ثمَّ كان عمل فرويد يتضمن تبيان هذه المقاومة بنقلها إلى العقل الواعي، وعلى امتداد الجلسات لاحظ أن المرضى قد يكنُّون له حبًّا أو كرهًا نتيجة مواقف شعوريةٍ لا واعية تجاه أشخاصٍ آخرين؛ عادةً من الآباء والأمهات؛ ومن ثمَّ أطلق فرويد على ذلك وصف النقل transference، وهكذا أصبح النقل إلى جانب المقاومة من العناصر التي تشترك مع التداعي الحرِّ في تشكيل العلاج بالتحليل النفسي.

(٤) التَّداعي الحرُّ ومذهب فرويد

وقد استخدم فرويد التداعي الحرَّ في حلِّ لغز الأحلام؛ إذ اكتشف أن القوة النفسية ذاتها التي كانت تدفع المرضى إلى مقاومة التعبير عن الأفكار «الإباحية» أثناء استرخائهم على الأريكة، كانت تفرض الرقابة censor على الأفكار المماثلة في الأحلام. فكان يرى أننا حين نسترجع ما نسميه المضمون الواضح manifest للحلم، فإننا نسترجع في الواقع صورة مهذبة له — أي أزيلت منها العناصر الكامنة latent — وهي دائمًا ما تكون رغبةً جنسيةً أو رغبةً جنسيةً محرَّمةً؛ أي إن الرقيب النفسي يغير من صورة الرغبة المذكورة حتى يجعلها «مقبولةً» للحالم، وهكذا كان فرويد يؤمن بأن التداعي الحرَّ قادرٌ على هزيمة الرقيب. ومن ثمَّ أصبح يرى فرضيتين مهمتين عن طبيعة اللاوعي: الأولى أنه يتضمن ذكرياتٍ خاصَّةً بالفرد، والثانية أن الذكريات المكبوتة دائمًا ذات طابعٍ جنسي. ثم أضاف فرويد فرضيَّةً ثالثةً تقول: إن الطاقة التي تسيِّر الجهاز النفسي كلَّه وتعتبر مسئولةً عن تطوره في الطفولة، ذات أصلٍ جنسي، وأطلق على هذه الطاقة اسم ليبيدو Libido، وتأكيد هذه الفرضيَّات مهمٌّ بسبب اعتراض اثنين من ألمع زملائه عليها وهما أدلر ويونج.
وفي فترة التسعينيات من القرن التاسع عشر، أصيب فرويد بأعراضٍ عصابيةٍ استمرَّت سنواتٍ عالجها بنشدان مشورة طبيبٍ متخصصٍ في الأنف والأذن والحنجرة (فيلهلم فليس) وتطبيق نظم التحليل النفسي ذاتيًّا، وخرج منها، بعد شفائه، بالمعالم الرئيسية للتحليل النفسي باعتباره نظريةً متماسكةً. وهذه بإيجاز هي: الحياة الجنسية في الطفولة، ومراحل تطور الطاقة الجنسية في الطفولة، ومركَّب أوديب، ومركَّب الإخصاء، والمبادئ التي تحكم الفكر المتسلط وتحوُّل شكل الليبيدو، ونظرية الأحلام، وزلَّات اللسان parapraxes التي تعبِّر بصورةٍ غير مباشرة عن المحظورات التي يحذفها الرقيب في اللاوعي، والذكريات الحاجبة screen memories؛ أي التي تحجب أمثال هذه المحظورات، والفكرة التي تقول: إن الخيالات المبكرة والخبرات الجنسية الأولى تؤدي دورًا حاسمًا في تحديد طبيعة التطورات اللاحقة، وفهم أعراض الأمراض النفسية باعتبارها صورًا ماديةً بديلةً عن الرغبات الجنسية المكبوتة. وهكذا كانت فترة المرض النفسي فترة «مرضٍ خلَّاق» مثل الفترة التي كتب على يونج أن يقضيها، وسبق ذكرها، من ١٩١٣م إلى ١٩١٨م. ومن الطريف أن كلًّا منهما أصيب بهذا المرض في السنِّ نفسها تقريبًا (أزمة منتصف العمر) وعند شفاء فرويد كتب تفسير الأحلام (١٩٠٠م) وعند شفاء يونج كتب الأنماط السيكلوجية (١٩٢١م).

(٥) بين يونج وفرويد

وأودُّ أن أقتطف للقارئ بعض أقوال يونج نفسه تعليقًا على مذهب فرويد، ولكنني لا بدَّ أن أشير أولًا إلى موقف تلميذٍ نابهٍ آخر من تلاميذ فرويد، وهو ألفريد أدلر (١٨٧٠–١٩٣٧م) الذي سمعت به أول مرة في كتاب جود Joad المشار إليه في المقدمة. كان آدلر طبيبًا في فيينا وعضوًا في حلقة فرويد حتى عام ١٩١١م، ثم اختلف معه مثلما اختلف يونج حول التوكيد الحصري من جانب فرويد للحياة الجنسية تعليلًا للإصابة بالعصاب، ثم ازداد اقتناعه من خلال الممارسة الإكلينيكية بأن الغرائز الاجتماعية وطموحات السلطة التعويضية من الدوافع الأساسية الأقوى من الحياة الجنسية. وأظن أن المصطلحين المذكورين في حاجةٍ إلى إيضاحٍ. فأمَّا ما يسميه آدلر بالغرائز الاجتماعية فهو النزوع الفطري لدى الفرد للاتصال بغيره بل والارتباط به، وقد يكون ذلك غير مرتبطٍ بالحياة الجنسية، فإذا ارتبط بها فهو دائمًا أقوى وأفعل، وأما ما يسميه طموحات السلطة التعويضية فيعني به نزوع الفرد إلى إثبات وجوده من خلال إثبات سلطته في مجال حياته، فإذا تعرَّض لأزمة نفسية انتقل ذلك النزوع إلى اللاوعي حتى يعوَّض المرء عمَّا أخفق فيه فسبب له الأزمة؛ فالتعويض هنا صادر من اللاوعي، وصراعه مع الوعي قد يؤدي إلى أعراض عصابية. وفكرة السلطة مستقاةٌ من فكر نيتشه كما سبق أن ذكرت، ولكن آدلر يستخدمها في تفسير ظاهرة نوع من العصاب خبره بنفسه. وسوف يعود يونج إلى فكرة التعويض فيما بعد.

ولننظر الآن فيما يقوله يونج عن علاقته بفرويد وبالمذهب الذي سبق تلخيصه في الفقرة قبل السابقة. يقول يونج:

لم أكن قد لقيت تعاطفًا كبيرًا مع الأفكار التي عبرت عنها في كتابي: «سيكلوجية الخرف المبكر» The Psychology of Dementia Praecox، بل إن زملائي كانوا يضحكون مني. ولكني بفضل هذا الكتاب عرفت فرويد؛ إذ دعاني لزيارته، وكان لقاؤنا الأول في فيينا في مارس ١٩٠٧م. تقابلنا في الواحدة ظهرًا وجعلنا نتكلم من دون توقف تقريبًا ثلاث عشرة ساعةً. كان فرويد أول رجل يتمتع بأهمية حقيقية أصادفه فيما مرَّ بي من خبرات حتى ذلك الوقت، ولم يكن يضارعه إنسان آخر. ولم يكن في موقفه أدنى لمسة من التفاهة، فقد وجدته حادَّ الذكاء، بالغ الحصافة، باهرًا بصفة عامة، ومع ذلك فقد كانت انطباعاتي الأولى عنه مرتبكةً إلى حدٍّ ما؛ إذ لم أستطع أن أفهمه.

بهرني ما قاله عن نظريته الجنسية، ولكنَّ ألفاظه لم تستطع إزالة ترددي وشكوكي. حاولت تقديم تحفظاتي في عدة مناسبات، ولكنه كان ينسبها كل مرة إلى ضآلة خبرتي. وكان فرويد على حقٍّ؛ إذ لم أكن قد اكتسبت في تلك الأيام من الخبرة ما يكفي لتدعيم اعتراضاتي. كنت أدرك أن نظريته الجنسية ذات أهميةٍ كبرى له، شخصيًّا وفلسفيًّا. بهرني ذلك ولكنني لم أستطع البتَّ في مدى ارتباط ذلك التوكيد للحياة الجنسية بضروب تحيزه الشخصي، ومدى استناده إلى خبراتٍ صحيحةٍ علميًّا.

وقبل كل شيءٍ بدا لي أن موقف فرويد تجاه الروح مشكوك في صحته إلى حدٍّ بعيد. فكلما برزت إشارة واضحة إلى الروحانية (بالمعنى الفكري لا بالدلالة الخارقة) في شخصٍ أو في عملٍ فنيٍّ، كان يعبِّر عن ارتيابه فيها ويوحي بأنها نزعةٌ جنسيةٌ مكبوتةٌ. وكل شيءٍ لا يمكن تفسيره تفسيرًا جنسيًّا مباشرًا كان يشير إليه قائلًا إنه «نزعة جنسية نفسية» psychosexuality. واحتججت قائلًا: إن هذه الفرضيَّة إذا أتحنا لها خاتمتها المنطقية، فإنها يمكن أن تؤدي إلى طمس أي حكمٍ على الثقافة. وعندها سوف تبدو الثقافة مجرد هزليةٍ؛ أي العاقبة المرَضية للنزعة الجنسية المكبوتة. فأعرب عن موافقته قائلًا: «نعم، إنها كذلك، وليست سوى لعنة من لعنات القدر التي لا نملك أن نقاومها». لم أكن على استعداد إطلاقًا للموافقة، أو أن أترك القضية بالصورة التي رسمها، ولكنني في الوقت نفسه لم أشعر بالقدرة اللازمة لمناقشته في المسألة حتى النهاية. (يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص١٤٩–١٥٠)

ويواصل يونج عرض أسس رفضه لتركيز فرويد على الغريزة الجنسية وحدها، مبينًا أن إيمان فرويد بها يشبه إيمانه بدينٍ ما، قائلًا إنه قد استبدل بالإله الذي كفر به (ص١٥١) إلهًا آخر هو الحياة الجنسية، وكما ذكرت في المقدمة كان كلٌّ منهما أثناء رحلتهما إلى أمريكا يتحدث عما يهمه، وكان ذلك في عام ١٩٠٩م، وهو العام الذي اتضح فيه الخلاف الحقيقي حول مفهوم اللاوعي؛ لا باعتبار كينونته أو وظيفته، بل من حيث مضمونه ومحتواه، وكذلك من حيث انتماؤه لكل فردٍ على حدةٍ [وفقًا للخبرة الجنسية كما يقول فرويد]، أو انتماؤه للبشرية جمعاء [كما يقول يونج].

كان يونج قد قضى تسعة أعوام في دراسته العميقة للأوهام الخادعة delusions والهلاوس hallucinations التي يكابدها مرضى الشيزوفرينيا في مستشفى برغولزلي في زيوريخ، وكانت قد أقنعته بأنه لا بدَّ من وجود أساس جمعي collective أو عام عالمي للنفس البشرية؛ فقد لاحظ أن الأفكار الغريبة والهلاوس والصور البصرية التي كانت تماثل إلى حدٍّ مذهل بعض «العناصر الأسطورية الأساسية» mythologems والصور الدينية التي ذكرها عدد كبير من الباحثين في التاريخ الثقافي من شتى أنحاء العالم. وهكذا قام يونج بجمع ثروة هائلة من الأدلة التي أقنعته بأن هذه الرمزية العالمية لم تكن ترجع إلى الخبرة الفردية أو الانتشار الثقافي بقدر ما كانت ترجع إلى بناء المخ البشري وإلى عنصر أساسي من عناصر النفس اللاواعية التي يشترك أفراد الجنس البشري كله فيها.

(٦) اللاوعي الجمعي

كان اهتداء يونج إلى هذه الفكرة يمثل له انشقاقًا واضحًا عن مسار فرويد، فرفض أن يفصح له، مثلما رفض أن يعرب له قبل ذلك، عن اعتراضه على نظريته الجنسية. ثم حدث أثناء رحلتهما التي أشرت إليها آنفًا، أن رأي يونج حلمًا يرويه في سيرته الذاتية ويقول إنه كان يمثل أهمية خاصة له. قائلًا:

كان فرويد قد استطاع، كما ذكرت من قبل، تفسير أحلامي تفسيرًا ناقصًا، كما كان يعجز عن تفسيرها أحيانًا. كانت أحلامًا ذات مضمونٍ جمعي، وتتضمن قدرًا كبيرًا من المادة الرمزية. وكان أحدها ذا أهميةٍ خاصَّةٍ لي؛ لأنه وجهني للمرة الأولى إلى مفهوم «اللاوعي الجمعي» ومن ثمَّ أصبح مقدمةً أو مدخلًا لكتابي: «تحولات الليبيدو ورموزه». Wandlungen und Symbole der Libido. يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص١٥٨)

وهو الكتاب الذي نشر بالإنجليزية عام ١٩١٦م بعنوان سيكلوجية اللاوعي، ثم أصبح يحمل عنوان رموز التحوُّل في المجلد الخامس من أعماله الكاملة. ولا أظن أننا بحاجةٍ إلى أن نستمع إلى وصفه للحلم تفصيلًا بل يكفي أن نرى كيف رأى يونج أنه كشف له عن اللاوعي الجمعي؛ إذ رأى فيما يرى النائم أنه في منزل له يتكون من عدة طوابق؛ أي إنه منزله الخاص، وأنه يرمز لمستويات الوعي ثم اللاوعي عنده قائلًا:

كان من الواضح لي أن المنزل يمثل صورة للنفس من نوعٍ ما؛ أي صورةً لحالة الوعي عندي آنذاك، إلى جانب إضافات كانت لا واعية حتى تلك اللحظة. كان الوعي يمثله الصالون [غرفة الجلوس] وكان يوحي بجو المعيشة فيه.

وكان الطابق الأرضي يمثل المستوى الأول للاوعي، وكلما توغلت هابطًا في المنزل ازدادت غرابة المشهد وظلامه، وعندما وصلت إلى القبو اكتشفت بقايا ثقافة بدائية؛ أي عالم الإنسان البدائي في داخلي، وهو عالم يندر أن يصل إليه الوعي أو يضيئه. فالنفس البدائية للإنسان تقع على تخوم حياة الروح الحيوانية، تمامًا مثلما كانت كهوف العصور قبل التاريخية يسكنها الحيوان عادةً قبل أن يستولي الإنسان عليها …

كان الحلم يشير إلى وجود مناطق أبعد لحالة الوعي التي وصفتها لتوي: مثل الطابق الأرضيِّ الطويل غير المسكون ذي الأسلوب القروسطيِّ، ثم غرفة الخزين تحت مستوى الأرض ذات الطابع الروماني، وأخيرًا القبو الراجع إلى عصور ما قبل التاريخ. وكانت هذه دلائل على الأزمنة السابقة، ومراحل الوعي الماضية …

[ …] كان حلمي … يشير بوضوح إلى أسس التاريخ الثقافي، وهو تاريخ طبقاتٍ متتابعةٍ من الوعي. وهكذا أقام حلمي نوعًا من الرسم البياني الهيكلي للنفس البشرية؛ إذ إنه يفترض وجود طبيعة لا شخصية impersonal تمامًا تحت تلك النفس. ووضحت الصورة في نظري، كما يقول الإنجليز، وأصبح الحلم يمثل لي صورةً هاديةً كُتب لها في الأيام التالية أن تتأكد إلى حدٍّ لم أكن أتخيله في البداية، كانت تلك أول لمحةٍ أدركها لوجود شيءٍ جمعي فطري a priori تحت النفس الشخصية. كنت أظن أولًا أنها آثار طرائق عملٍ سابقةٍ [قديمةٍ مهجورةٍ] ولكن عندما ازدادت خبرتي، واستطعت الاستناد إلى معارف أصدق وأثبت، أدركت أنها أشكالٌ غريزيةٌ؛ أي أنماطٌ فطريةٌ.
(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ١٦٠–١٦١)
وكان ذلك الأساس «اللاشخصي» (الذي يعني به الأساس الفطري العام) هو الذي دفعه إلى دراسة الأركيولوجيا (علم الآثار) والأساطير والأديان المقارنة طيلة عام ١٩١٠م، حيث جمع المادة اللازمة للكتاب الذي نشره في جزءين عامَي ١٩١١م و١٩١٢م بعنوان: «رموز التحول» الذي أصبح بداية انسلاخه عن حركة التحليل النفسي. وكان الكتاب يتكون من سلسلة من التخيلات عند مريضة أمريكية أُطلق عليها اسم الآنسة ميلر، إلى جانب تأملات يونج فيها، وهي التي لا يكتفي فيها بعرض فرضيَّته عن اللاوعي الجمعي، مستندًا إلى نظائر أسطوريةٍ كثيرةٍ لتخيلات الآنسة المذكورة، بل يعلن في الكتاب رفضه القاطع لرأي فرويد القائل إن «الليبيدو» قوة جنسية محضة، مؤكِّدًا أنه يراه طاقةً نفسيةً غير نوعيةٍ، شبيهةً بالدافع الحيوي Élan Vital عند هنري برجسون (١٨٥٩–١٩٤١م)، ومشيرًا إلى أن الحياة الجنسية لا تمثل إلا شكلًا واحدًا من أشكال انطلاق هذه الطاقة. كما أعلن يونج رفضه لمبدأٍ رئيسيٍّ آخر من مبادئ نظرية التحليل النفسي، ألا وهو ما يسمَّى بمركب «[أو عقدة] أوديب، ومركَّب [عقدة] إلكترا»، باعتبارهما مرحلةً من مراحل النمو التي يمرُّ بها كلُّ صبيٍّ وكلُّ فتاةٍ.

(٧) رفض مركَّبَي أوديب وإلكترا

قد يدهش بعض دارسي الأدب، والكثير من القراء الذين درجوا على قراءة نقد النقاد، حين يواجهون رفض يونج «لمركَّب أوديب»؛ أي تعلُّق الصبيِّ الجنسي بوالدته، أو اشتهاؤها المكبوت في اللاوعي، وكيف يضر ذلك بعلاقته السوية بالجنس الآخر، و«مركَّب إلكترا»؛ أي تعلُّق الفتاة المرَضي بأبيها، وكيف يؤدي إلى مثل ذلك الضرر فيما بعد؛ إذ درجنا على الإشارة إلى «عقدتَي» أوديب وإلكترا وتطبيقاتهما النقدية (السيكلوجية) حتى كادتا تصبحان من المسلَّمات. والأصل كما نعرف يرجع إلى مقال كتبه إرنست جونز Ernest Jones وهو باحثٌ نابهٌ من مقاطعة ويلز في بريطانيا، عمل «محللًا» نفسانيًّا مع فرويد، وآمن به، ونشر المقال المذكور، وعنوانه «مركَّب أوديب باعتباره شرحًا للغز هاملت: دراسة في الدافع». في المجلة الأمريكية لعلم النفس، في يناير ١٩١٠م. والباحث المذكور — واسمه بالكامل ألفريد إرنست جونز (١٨٧٩–١٩٥٨م) — يسوق حجة تقول: إن هاملت كان يعاني مركَّب أوديب؛ أي التعلُّق المرَضي بحب والدته، وهو ما جعله عاجزًا عن إقامة علاقة سوية مع أوفيليا، وهي حجة يصعب نقضها (أو إثباتها) علميًّا لسببٍ بسيطٍ، وهو أن هاملت شخصية خيالية ابتدعها خيال شيكسبير الشاعر المسرحي الإنجليزي الشهير؛ فمعلوماتنا عنه محدودة بأقواله وأقوال الآخرين عنه في المسرحية، وكلُّها من نسج خيال الشاعر، ومع ذلك فقد اكتسبت هذه النظرة جاذبيةً جعلتها ترقى إلى مستوى الحقيقة التي لا مراء فيها، وأهمُّ دلالاتها ما يقوله فرويد عن «غشيان المحارم» incest [مجمع اللغة العربية] ويقصد به الرغبة الجنسية تجاه من يحظر الدين أو الأعراف تزاوجهم، ومن الطبيعي أن يلقى كلام فرويد قبولًا واسع النطاق لبساطة الفكرة وشيوع ظواهرها، ولم يكن يونج يعترض على وجود الدافع الجنسي بطبيعة الحال، ولكنه كان يولي اهتمامًا أكبر للتحولات التي يتخذها ذلك الدافع فيبتعد بها عن أصله الجنسي؛ فهو — كما سبق أن ذكرت — يرى أن الليبيدو طاقة نفسية، حتى وإن صح افتراض فرويد بأن لها أصلًا جنسيًّا، فحديث يونج عن التحولات transformations يهمُّ دارسي الأدب والنقد؛ إذ يقول في كتابه: «سيكلوجية اللاوعي» (١٩١٢م والترجمة الإنجليزية ١٩١٦م) إن هذه التحولات تحدث بفضل القدرة الفطرية للعقل البشري على خلق الصور المجازية القائمة على القياس analogy فالصيد والقنص يشبه البحث عن شريك جنسي، ولكنه يتحول ويخلق إثارته الخاصة وتوقعاته المختلفة؛ ومن ثمَّ يكتسب دلالاتٍ ثقافيةً ودوافع أخرى يصبح لها وجودها الخاصُّ؛ بعيدًا عن الصور الجنسية المجازية، ومع ذلك فإن بعض رواسب هذه الصورة المجازية تظلُّ قائمةً، ونراها — حسبما يقول — في اختزال بعض الأنشطة الثقافية المعاصرة في تفسيراتٍ جنسية.

ويقول يونج: إن هذا الميل الفطريَّ لخلق التشبيهات يؤدي إلى اتساع نطاق العالم الإنساني للوعي والثقافة:

فكأنما تؤدي زيادة الليبيدو، فيما يبدو، بفضل تشكيلات هذه المخيِّلة القائمة على القياس إلى تخليص الليبيدو من العامل الجنسي، ويزداد باطراد مقدار العناصر الخيالية «المعادلة» [للدافع الجنسي] التي تحلُّ محل التحقيق البدائيِّ للعامل الجنسي. ويؤدي هذا إلى توسُّعٍ هائلٍ في نمو صورة العالم بسبب انضمام أشياء جديدةٍ إليه واستيعابها على الدوام باعتبارها ذات طابعٍ جنسي.

(يونج: «سيكلوجية اللاوعي»، ١٥٦)
ومعنى هذا، كما يقول مري ستاين، أن العالم القديم «للنشاط البشري والوعي» أصبح على امتداد آلاف السنين أكثر اتِّصافًا بالطابع الجنسي، ولكنه ظل يفقد هذا الطابع الجنسي في الوقت نفسه: فاتساع الطابع كان يرجع إلى زيادة المجازات والصور الاستعارية التي استمر إبداعها بلا توقفٍ، وأما فقدانه فيرجع إلى أن هذه الصور المجازية كانت تفقد فقدانًا مطردًا صلتها بالمصدر أو قربها منه (ص٦٥–٦٦). وإلى هذا الحدِّ، كما قلت، لم يكن اختلاف يونج مع فرويد عميقًا إلى حدِّ رفض المركَّبين المذكورين، ولكننا نجد في الفصل الأخير من «سيكلوجية اللاوعي» وعنوانه: «التضحية» دراسةً كاملةً لهذا الموضوع، وخصوصًا «غشيان المحارم». وأودُّ قبل أن أورد ما يقوله يونج في سيرته الذاتية عن هذه القضية وتأثير حديثه عنها في صداقته مع فرويد — أن أشرح المعنى الاشتقاقي لكلمة «التضحية» sacrifice الإنجليزية؛ وهو معنًى لا تشترك فيه مع مرادفاتها الألمانية التي تفيد الدلالة الشائعة؛ إما القربان opfer (الأضحية) وإما التخلي عن شيءٍ Verkaufen؛ فهي في الإنجليزية تعني التقديس من اللاتينية Sacrificium من Sacer (مقدس) والفعل Facere (يجعل) (يصنع)؛ فالفعل اشتقاقًا يعني إضفاء القداسة، ويونج يشير إلى ذلك في هامش أضافه فيما يبدو أثناء مراجعة ترجمة الكتاب، وأظن أن هذه حالةٌ نادرةٌ؛ إذ يجد فيها المؤلف نفعًا في الاستعانة بكلمةٍ أخرى تعتبر مرادفةً لكلمةٍ بلغته الأمِّ، ويرتبط السبب هنا بنظرته إلى طبيعة تضحية الأنا في أثناء النمو والاتجاه إلى النضج، وما توحي به من دلالاتٍ تعالية يشرحها يونج في مكانها. يقول يونج في الفصل الخاص بفرويد:

عندما كنت أعمل في كتابي عن الليبيدو واقتربت من نهاية الفصل الذي جعلت عنوانه «التضحية»، كنت أعرف مقدمًا أن نشر الكتاب سوف يكلفني صداقتي مع فرويد؛ إذ إنني كنت أنتوي أن أدرج فيه تصوري الخاص لغشيان المحارم، والتحول الحاسم لمفهوم الليبيدو، وأفكارًا منوعةً أخرى اختلفت فيها مع فرويد. كان غشيان المحارم لا يمثِّل في نظري مشكلةً شخصيةً إلا في أندر الحالات. فمن المعتاد أن يكون لغشيان المحارم جانبٌ دينيٌّ إلى حدٍّ بعيدٍ، ولهذا السبب نجد أن موضوع غشيان المحارم يقوم بدورٍ حاسمٍ في جميع نظريات نشأة الكون تقريبًا وفي أساطير متعددةٍ. ولكن فرويد كان يستمسك بالتفسير الحرفي له ولا يستطيع أن يدرك الدلالة الروحية لغشيان المحارم باعتباره رمزًا. كنت أعرف أنه من المحال أن يقبل أية فكرة من أفكاري عن هذا الموضوع.

(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص١٦٧)

ويعلق معظم دارسي يونج على ما يقوله في كتابيه المذكورين بشأن اختلافه مع فرويد في تفسير علاقة الأبناء بالآباء في مرحلة النمو قائلين إن العلاقة كانت نفسانيةً وشخصيةً، مهما بدا من جوانبها المادية، وذات قالبٍ روحيٍّ، وخصوصًا علاقة الابن بالأم، كما ينفرد ستيفنز في كتابه الأول بتقديم تفسير للخلاف بين يونج وفرويد من حيث اختلاف شخصية كلٍّ منهما عن شخصية الآخر (ص٢٣). ولكنني وجدت شرحًا مسهبًا لرأي يونج في الموضوع عند مري ستاين في كتابه: «خريطة الروح عند يونج» (١٩٩٨م) وسوف أعرضه فيما يلي بإيجاز.

يقول ستاين إن تصور يونج لغشيان المحارم يمثل «التحول الحاسم لمفهوم الليبيدو»؛ لأنه تصور يحرر رغبة غشيان المحارم من معناها الحرفي، وهو المعنى الذي كان فرويد يقول به في صورة مادية لا واعيةٍ، ولكن يونج يقدم تفسيرًا رمزيًّا له باعتباره الشوق العام لدى الطفل بأن يبقى في فردوس الطفولة. ويبرز هذا الشوق بوضوح عندما يواجه الشخص تحديًا خطيرًا في حياته، يتطلب منه أن ينضج وأن يتكيف مع بيئةٍ غاصَّةٍ بضروب التوتر. فالمرء يريد أن يأوي إلى الفراش ويخفى رأسه تحت الغطاء! أي إن التفسير الرمزي الذي يقدمه يونج يحوِّل «الأمَّ» التي يشتاق الطفل إليها إلى رغبة في النكوص regress إلى مرحلة التبعية الأولى؛ أي إلى الطفولة، وإلى اللاوعي واللا مسئولية. وهذا هو الدافع من وراء جانبٍ كبيرٍ من إدمان المخدِّرات والكحول. وهكذا فعندما تظهر خيالات غشيان المحارم في علاج العصاب؛ فإن يونج يفسرها باعتبارها من ضروب المقاومة للتكيُّف لا باعتبارها رغباتٍ لا واعيةً فعليةً، أو بصفتها ذكرياتٍ طفوليةً لأمثال هذه الرغبات. وكان يونج يفسر الممارسة الفعلية لغشيان المحارم عند بعض الشعوب العريقة — كالفراعنة المصريين على سبيل المثال — بأنها ذات رمزيةٍ دينيةٍ، ما دامت تبين مكانة متميزة للمرء وتثبتها، وتعبر عن التوحد مع مصدرٍ ربانيٍّ للطاقة؛ أي إنه كان زواجًا مع الأم أصل الحياة لا تحقيقًا لأمنيةٍ تتمثل في رغبةٍ جنسيةٍ فعليةٍ. وكان يونج يقول: إن الحياة الجنسية لا علاقة لها بغشيان المحارم في الواقع الفعلي، فغشيان المحارم ذو دلالةٍ رمزيةٍ، ولا ينمُّ على رغبة بيولوجية.
(مري ستاين، «خريطة الروح عند يونج»، ٦٦–٦٧)
ولنا أن نشير عرضًا إلى ما يقصُّه يونج علينا من الطابع السلطوي عند فرويد، وعندما نرجع إلى السيرة التي كتبها إرنست جونز المشار إليه آنفًا عام ١٩٥٣م بعنوان: «حياة سيجموند فرويد وعمله»، نجد إلماحاتٍ لم يغفلها النقاد إلى ميل فرويد إلى الحطِّ من فكر أيِّ شخصٍ يخالفه؛ ولذلك حرص جونز الذي كتب سيرته مهتديًا بآراء أنَّا فرويد، ابنة العلامة، على ألا يذكر شيئًا يشينه أو تظن الابنة الوفية أنه يشينه، مثل بعض الأحداث التي ذكرتها كاتبة سيرته الأولى (وقد صدرت السيرتان أثناء حياة فرويد) وهي هيلين ووكر بونر Puner التي أشارت إلى بعض الأحداث التي تصوره في صورة المستبد برأيه، في كتابها: «فرويد: حياته وفكره» (١٩٤٧م) وقد اطَّلعت على رواية بونر لبعض هذه الأحداث في بعض المراجع عن فرويد فلم أجد فيها ما يشين؛ فإن فرويد كان معتزًّا برأيه ونظريته في التفسير الجنسي للإنسان إلى الحدِّ الذي جعله يوصي يونج بأن يعتنق هذه النظرية باعتبارها عقيدةً إيمانية creed لا تتزحزح dogma ومن طبيعة هذا الإيمان ألا يقبل الشك. وكلُّ أصحاب العقائد الثابتة لا يقبلون التشكيك فيها، وليس في هذا ما يشين، فأما إذا كانت العقيدة علمية؛ أي قائمةٌ على أدلة معترفٍ بها، فنحن نقبلها حتى تظهر عقيدةٌ أخرى قائمةٌ على أدلةٍ مختلفةٍ؛ فهذا طبع العلم، وهذا ما يقوله هانز أيزينك المشار إليه آنفًا في كتابه: «تدهور إمبراطورية فرويد وسقوطها» (١٩٨٥م)؛ إذ يستند في معارضته لفرويد إلى أدلة علمية جديدة قبلها المجتمع العلمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤