الفصل الثالث

صورة النفس عند يونج

(١) بين المذهب والمنهج

أودُّ في البداية تفصيل القول في التمييز الذي ذكرته آنفًا بين مفهومين شاع الخلط بينهما بسبب عدم دقة المصطلحات التي نستخدمها في العربية، وما يماثله من عدم الدقة في بعض المصطلحات الأجنبية، وإن اختلفت أسباب عدم الدقة بين الحالتين، وتتمثل بصفة عامة في محاولات الدارسين الأجانب الدائبة لإضفاء دلالاتٍ جديدة على مصطلحات معتادة (بمعنى شيوعها وثبات دلالتها) أو سكِّ مصطلحات جديدة تقوم على إجراء تعديلات معينة في الصيغ الصرفية لتلك المصطلحات. وقد يختلط الأمر مثلًا على المترجم أو القارئ عمومًا حين يواجَه بصورتين للصفة المشتقة من اسم يعرفه مثل system؛ إذ إن له عدَّة دلالاتٍ أوجزها فيما يلي (١) نظام «مجمع اللغة العربية» أو منظومة «المجمع» والأخيرة شائعة في الإشارة إلى منظومة الأمم المتحدة UN System التي تتكون من المنظمة organization والهيئات والوكالات التابعة لها agencies, councils, commissions وهلم جرًّا، و(٢) الجهاز أو الشبكة و(٣) النسق (المجمع) أو المنهاج أو المذهب. وتتغير ترجمة الاسم وفق السياق الذي تقع فيه (انظر معجم النفيس لمجدي وهبة). وذلك يعرفه كل قارئ أو مترجم متمرس، وأما الخلط فيبدأ حين يواجه القارئ أو المترجم الصفة «المعتادة» من الاسم وهي systematic التي تتضمن جميع الدلالات السابقة إلى جانب دلالةٍ أخرى هي الانتظام أو الدَّأب، فإذا استُخدمت في العلوم الإنسانية كان يمكن أن تعني «المذهبيَّ» عادة وفي أحيانٍ أخرى «المنهجيَّ». ولكنك إذا أضفت حرف s إلى الصفة systematics أصبحت تعني علم تصنيف الأحياء، وإذا اشتققت صفةً أخرى من الاسم هي systemic أصبحت تشير إلى ما يشمل كيان الجهاز كله أو الجسم كله في الفسيولوجيا، مثل العلة العامة التي تصيب جميع أعضاء الكائن الحي كله، أو الفكرة الفلسفية كلها مجازيًّا.
وقد درج العلماء في الغرب على استخدام الصفة العامة المعتادة systematic في وصف العالم أو الفيلسوف الذي يستمسك بمذهب في الفكر أو في البحث لا يحيد عنه بل يؤكده في كل ما يكتب أو يقول، وارتضينا أن نفرِّق بين المذهب الذي قد يقوم على الحدس أو التأمل وحسب intuition, speculation أو حتى على الظنِّ conjecture وبين المنهج العلمي الذي درجنا على موازاته بمصطلح method منذ أن رسخه ديكارت. وقد ساعدتنا تقاليد استعمال الكلمات المذكورة في العربية؛ أي مبحث التداولية اللغوية pragmatics على اعتبار أن المذهب أعمُّ من المنهج، فنحن نعرف الفقه على المذاهب الأربعة، ويقول أبو فراس:
ومِنْ مذهبي حُبُّ الدِّيَارِ وأَهْلِهَا
ولِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ

وتقول أراجيز الصغار:

الحَبْسُ لَيْسَ مذهبي
ولَيْسَ فِيهِ طربي
فَلَسْتُ أَرْضَى قَفَصًا
وإنْ يكُنْ مِنْ ذَهَبِ
وأما المنهج والمنهاج والنهج فهو الطريق، ونهج قصيدة البردة (أي «معارضتها» اصطلاحًا) قصيدة أخرى لها شكلها وزنًا وقافية، لكننا خصصنا المنهج للعلوم، بل إن الكلمة دخلت مدارسنا بمعنى الموادِّ الدراسية «المقررة»، مع الإيحاء بأنها ذات نظامٍ دقيقٍ كفيلٍ بتنمية معارف التلاميذ ومداركهم. والمنهاج صورة أخرى لا تتمتع بهذا القدر من الشيوع. ونحن حين نصف عملًا بأنه منهجيٌّ نقول إنه methodical والعبارة الشيكسبيرية التي دخلت اللغة الإنجليزية (من مسرحية هاملت) تقول: إن جنونه مقصود؛ أي متكلف There is method in his madness بمعنى أن هاملت يتصنع الجنون عامدًا ويمارس مظاهره وفق منهجٍ يكشف عن عمده، كما نشير إلى بعض الفلاسفة بأنهم مذهبيون systematic بمعنى أن لهم مذهبًا محددًا قد يقوم على توجه orientation فكريٍّ معينٍ، نطلق عليه الأيديولوجيا أحيانًا، ونصف غيرهم بأنهم غير مذهبيين؛ أي إن جماع آرائهم الفلسفية لا تمثل مذهبًا واحدًا، مثل الشاعر والناقد كولريدج؛ فهو فيلسوف انتقائي eclectic بمعنى أن دراساته الفلسفية لا تنتمي لمذهب فلسفيٍّ نظريٍّ محددٍ لا تتعداه، بل هو يتحدث مقتبسًا آراءه من مذاهب فلسفيةٍ متعددةٍ لا تمثل منهجًا علميًّا يمكن أن نطلق عليه المبحث العلمي المستقل discipline؛ أي المبحث العلمي أو الفلسفي القائم على فرضيَّاتٍ يمكن إثبات صحتها بالمنهج العلمي؛ أي القائم على الملاحظة والتجربة، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو القائم على الاستقراء induction والقياس analogy والاستنباط deduction, extrapolation كما هو الحال في الإنسانيات أو ما يسميه الفرنسيون العلوم الإنسانية، أو ما يسميه الألمان Geisteswissenschaften للتمييز بينها عمومًا وبين العلم الطبيعي Naturwissenschaft، منذ القرن التاسع عشر، وغياب المذهب الذي قد يكون أيديولوجيا لا يعني بالضرورة غياب المبحث العلمي، بل إن المبحث العلمي لا بدَّ أن يسمح، كما ذكرت في فقرة سابقة في المقدمة، بإمكان التغيير؛ فالعلم بمفهومه الشائع الذي ينصرف إلى العلم الطبيعي، يعتمد على معطيات التجارب أو معطيات الاستقراء وما تأتي به هذه وتلك من حقائق جديدةٍ، وقد تتعارض بعض هذه الحقائق مع ما بني عليه المبحث تعارضًا يرغم العالم؛ أي الباحث في العلم، على تعديل صورة النتائج التي كانت قد استقرت؛ ومن ثمَّ تعديل منهج بحثه أيضًا وصورته التطبيقية بل والنظرية اهتداءً بالتطورات التي ما تفتأ تترى. ولكن المفكر المذهبيُّ قد يجد من الصعب عليه، بل من المحال أحيانًا، أن يقبل تعديل شيءٍ في مذهبه إذا كان هذا المذهب قد تحوَّل إلى عقيدة إيمانية creed فأصابه الجمود rigidity وأصبح مذهبًا متحجرًا dogma والمثال الذي نحن بصدده تحوُّل المبحث العلمي عند فرويد إلى مذهب يمكن أن نصفه بالجمود؛ فهو لا يقبل تعديلًا فيه بحيث يحوِّله من الوصف بالمبحث العلمي الذي يقبل التعديل إلى مذهب عقائدي لا يقبل ذلك إطلاقًا، ويذكر لنا يونج أن سرَّ اختلافه مع فرويد وانفصاله عنه كان إيمان الأخير بالتعليل الجنسي وحده لمعطيات اللاوعي وما استتبع ذلك من نظريات متسقة فيما بينها ولكنها تحول دون إضافة شيءٍ إليها أو انتقاص شيءٍ منها، ناهيك بتعديل أيِّ مبدأٍ من مبادئها.

لم يكن يونج مذهبيًّا بهذا المعنى الضيق، بل كان باحثًا في علم جديد يتشكل وفق انعتاق العلماء من التصور الماديِّ الصارم للعلم في القرن التاسع عشر، فقد صاحب التطوُّر في العلوم الطبيعية، في مطلع القرن العشرين، تطورٌ في الإنسانيات، وللقارئ أن يرجع إلى قائمة النتائج التي انتهى إليها الباحثون في آخر القرن التاسع عشر بصدد «اللاوعي» (ص١٠٠–١٠١ أعلاه) حتى يدرك أن المبحث (علم النفس برمَّته) كان ما يزال في طور التشكيل، وعندما انضمَّ يونج إلى دارسي الطب النفسي كان له مذهبه الفكري الذي تشكَّل ونما منذ الطفولة، وكان مذهبًا نفسيًّا أيضًا، أو قل إنه كان يجمع بين «الحقائق البيولوجية والحقائق الروحية» كما يقول في المقتطف الوارد أعلاه من سيرته الذاتية، بحيث كان يرى فيه «موقع الصدام بين الطبيعة والروح في الواقع الفعلي» (ذكريات وأحلام وتأملات ص١٠٨–١٠٩). والمثال الحاضر عليه تعديل مصطلح «الصور الأزلية» إلى «الأنماط الفطرية»، على نحو ما ذكرت آنفًا، في العقد الثاني من القرن العشرين، والتحول في مفهوم «المركَّب» من الشخصية إلى معناه الخاص داخل النفس كما سبق أن بينت، وما سوف أعود إليه.

(٢) النموذج العامُّ للنفس

ولذلك فإن ما يسميه ستيفنز «نموذج» النفس عند يونج (١٩٩٠م، ص٢٧) أو ما يقول مري ستاين إنه «خريطة» الروح عند يونج في كتابه الذي يحمل هذا العنوان (١٩٩٨م) — لا يزيد عن صورةٍ تقريبيةٍ لما بناه يونج على امتداد عمله بالتحليل والدرس والتجريب، ذاتيًّا وموضوعيًّا، لتصوره الخاص للنفس والروح؛ ولذلك أيضًا نرى أن المجلدات التي تناهز العشرين التي طبعت فيها أعماله يتضمن بعضها اختلافاتٍ بين ما هو مبكرٌ وما هو متأخرٌ، والمجلد السابع، على سبيل المثال، وعنوانه: «مقالان عن علم النفس التحليلي»؛ والذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٥٣م (في حياته)، والثانية عام ١٩٦٦م؛ أي بعد وفاته، يضم مقالًا نشره عام ١٩١٧م وأعيد نشره مرتين في حياته بعنوان: «عن سيكلوجية اللاوعي»، ومقالًا آخر بعنوان: «العلاقات بين الأنا واللاوعي» (١٩٢٨م) إلى جانب ملحقٍ يتضمن أفكارًا سابقةً في الموضوع نفسه ونُشرت بعنوان: «دروب جديدة في علم النفس» (١٩١٢م)، وأخرى بعنوان: «بناء اللاوعي» (١٩١٦م) إلى جانب نسخ جديدة من كل هذه الأفكار تتضمن ما طرأ عليها من تعديل، وقد نشرت عام ١٩٦٦م. ولمَّا كنت أعتمد في هذه الدراسة على ما جاء به الباحثون في منهج يونج أو مبحثه العلمي الخاص، فقد قارنت كتاباتهم بعضها ببعض، ووجدت أن الصورة التي يقدمها ستيفنز في كتابه الأول (١٩٩٠م) تتميز بالوضوح اللازم لهذه الدراسة العامة؛ ومن ثمَّ اعتمدت على ما يسميه «النموذج» ويشفعه برسمٍ بيانيٍّ أرفقه بهذا الفصل، راجيًا أن يؤدي المهمة المرجوة.

يقول ستيفنز إننا نستطيع تمثيل نموذج يونج للنفس بالشكل البياني الذي يقدمه ويتكون من ثلاث حلقات متداخلة؛ فالحلقة الخارجية تبين المدار أو الفلك الذي تدور فيه الأنا the ego في شريط يمثل الوعي، في دائرة تقع في مركزها نواة nucleus هي الذات the self ويربط ما بين الأنا والذات محورٌ؛ أي رابطٌ بامتداد نصف قطر الدائرة، ويمتدُّ داخل الشريط شريطٌ أعرض يمثل الذي يضمُّ في داخله دائرةً تمثل اللاوعي الجمعي collective unconscious. أما الوحدات الفعالة التي تشكل اللاوعي الشخصي فهي المركَّبات complexes، وأما الوحدات الفعالة التي تشكِّل اللاوعي الجمعي فهي الأنماط الفطرية archetypes. ويقول ستيفنز إن علينا ألا نتصور هذه «المكونات» الفاعلة في صورةٍ ثابتةٍ أو خامدةٍ بل باعتبارها «نظمًا» systems في حالة تفاعلٍ وتغيرٍ دائمين، وهي تخضع جميعًا للتنسيق الذي تقوم به الذات.
figure
شكل بياني لنموذج النفس عند يونج (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٢٨).

ويضيف ستيفنز قائلًا:

… وأما المركبات فهي مجموعة من الأفكار المترابطة التي تجمع بينها شحنةٌ شعوريةٌ مشتركةٌ، وهي تمارس تأثيرًا ديناميًّا في الخبرة الواعية وفي السلوك، وأما النمط الفطري فهو «مركزٌ» فطريٌّ innate أو مركزٌ مهيمنٌ dominant يشترك فيه المخُّ مع النفس psyche ولديه القدرة على المبادرة والتأثير والوساطة في تشكيل الخصائص السلوكية والخبرات المميزة لجميع أبناء البشر، بغضِّ النظر عن الانتماء العرقي، أو الثقافة أو الحقبة التاريخية أو الموقع الجغرافي. وتوجد علاقة وظيفية وثيقة بين المركَّبات والأنماط الفطرية؛ ذلك أن المركَّبات صورٌ تمثيليةٌ representations للأنماط الفطرية؛ بمعنى أن المركَّبات هي الوسائل التي تكشف بها الأنماط الفطرية عن نفسها في النفس الشخصية. (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٢٨)

(٣) وظائف الوعي الأوليَّة

ويقدم ستيفنز الشرح التالي لذلك التصور الذي يقول إنه «خيالي»: أمَّا «الأنا» فتقع في بؤرة الوعي، وتتولى مهمة إحساسنا بوجودنا وإدراك كل منا لهويته الشخصية. ولهذا تعتبر العامل الحامل للشخصية، فوجودها على الطبقة الخارجية للنفس يجعلها الوسيط بين خبرة المرء بما هو خارجيٌّ وما هو داخليٌّ، واختلاف الأفراد في تحديد درجات أهمية الأشياء هو الذي يحدد نمط الموقف the attitude types عند كل منهم؛ فالنمط الانبساطي extravert يرى فيما هو خارجه دلالة كبرى، على عكس الانطوائي introvert الذي يولي خبراته الباطنة أهمية أكبر. ويضيف ستيفنز قائلًا:
لاحظ يونج أن الأفراد يختلفون في استعمالهم الواعي لكل وظيفةٍ من وظائف الوعي الأولية primary functions وهي التفكير thinking والشعور feeling والحدس Intuition والإحساس Sensation. وقد تصبح إحدى هذه الوظائف الأربعة فائقةً superior في أيِّ فرد من الأفراد، وهو ما يعني أنها تطورت ونمت إلى درجة أكبر من الوظائف الأخرى؛ ومن ثمَّ فهي تستخدم استخدامًا أكبر من غيرها، وهذا هو الذي يحدد الجانب الوظيفي من وظائف النمط السيكلوجي.
(ستيفنز ١٩٩٠م، ص٣٠)

ويؤكد ستور وكامبل ما يقوله ستيفنز أو ما يوحي به في النموذج الذي وضعه من أن «الأنا» «تخرج» من الذات في مرحلة النمو المبكر، وهي «تخرج» أو تتشكل لأداء مهام حاسمة في حياة الفرد، أوَّلها إدراك المعنى وتقدير القيم، ولكنها تظل تابعة للذات على الرغم من كونها تعبيرًا عنها. ويقتطف ستور كلامًا عن الذات كتبه يونج في مرحلة النضج الأخيرة، وهو منشور في المجلد الثاني عشر من أعماله (وعنوانه: علم النفس والخيمياء) حيث يقول «إنها ليست فقط مركز النفس بل إنها أيضًا محيط الدائرة كلها الذي يشمل الوعي واللاوعي؛ والمقصود أنها مركز هذه الصورة الشاملة، مثلما تعتبر الأنا مركزًا للنفس الواعية» (يونج: المجلد ١٢، الفقرة ٤١، في ستور ص٧٧).

ويشير ستاين إلى أن أقوال يونج تؤكد فيما يبدو تعريف ستيفنز للاوعي الشخصي في المجلد الثامن من أعمال يونج الكاملة وعنوانه بناء النفس ودينامياتها وهو يضم أعمالًا كُتبت في مراحل متفاوتةٍ من حياة يونج؛ ولذلك فالدراسات حافلة بالإشارات المتبادلة بين هذه الدراسات، وفي إحداها يقول يونج: إن اللاوعي الشخصي ثمرةٌ للتفاعل بين اللاوعي الجمعي والبيئة أو المحيط الذي ينشأ الفرد فيه. يقول يونج:

إنه كل شيء أعرفه ولكنه لا يخطر ببالي الآن، وكل شيءٍ كنت أدركه يومًا ما، لكنني نسيته الآن، وكل شيءٍ أدركته حواسي ولم ينتبه إليه ذهني الواعي، وهو كل شيءٍ أشعر به، وأفكر فيه، وأتذكره، وأريده وأفعله بلا طواعية ولا انتباه له، وهو جميع الأشياء المستقبلية التي تتشكل في داخلي وسوف تنتقل يومًا ما إلى الوعي. كل ذلك هو محتوى اللاوعي (يونج: المجلد ٨، الفقرة ٣٨٢). وإلى جانب ذلك لا بدَّ أن نضيف حالات الكبت المقصود، إلى حدٍّ ما، للأفكار والمشاعر المؤلمة. وأنا أطلق على مجمل هذه المحتويات صفة «اللاوعي الشخصي» (يونج المجلد ٨، الفقرة ٢٧٠). [نشر هذا المجلد عام ١٩٦٠م، والمقتطف هنا من الطبعة الثانية المنقَّحة عام ١٩٦٩م، والتي أعيد إصدارها عام ١٩٩٠م].

كان أحد أوجه اختلاف يونج مع فرويد إيمان يونج بأن المركَّبات التي يتشكَّل منها اللاوعي الشخصي قائمةٌ في الأصحاء وفي المرضى على حدٍّ سواء، بل كان يرى أنها نويَّاتٌ قائمةٌ في كل نفس، على عكس فرويد الذي كان يرى أنها تقتصر على المرضى، وكان يونج يرى — نتيجة لتطبيقه اختبار تداعي الألفاظ — أن هذه المركَّبات تتصرف كأنما كانت كائناتٍ مستقلةً autonomous، ولكل منها نواة أو هي نفسها نواة أو نويَّةٌ، ولكنَّ السؤال الذي شغله كان يقول: كيف يتحول نمطٌ فطريٌّ في اللاوعي الجمعي إلى مركَّبٍ في نفس الشخص؟ ويقول الدارسون إن هذا السؤال مهم؛ لأنه يدلُّنا على الأسلوب الذي تصبح به الحياة الشخصية لكل فرد جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الجمعي للجنس البشري.
كانت قوانين التداعي laws of association التي وضعها أساتذة علم النفس في آخر القرن التاسع عشر — تقدم إجابةً مقنعةً عن هذا السؤال، وكان أهمُّ هذه القوانين قانون التماثل similarity وقانون التجاور contiguity وسوف أقدِّم شرحًا مبسَّطًا استنادًا إلى الأمثلة التي يحللها يونج، والتي نفهم منها أن النمط الفطريَّ ينشط عندما يقترب الفرد من موقفٍ أو من شخصٍ يتسم بخصائص مماثلةٍ لذلك النمط، ومجاورة الشيء أو الفرد المماثل تؤدي إلى اكتساب أفكارٍ أو مبادئ أو مشاعر من ذلك المثيل، فيتحوَّل بسببها النمط الفطريُّ إلى مركَّبٍ، ويبدأ عمله في اللاوعي. والمثال الأول هو علاقة الطفل بأمه، فإذا غابت الأمُّ قام مركَّب العلاقة معها بإسقاط project ذاته على من يحلُّ محلَّها، من البشر أو الكيانات ذوات الأمومة؛ كالكنيسة أو الجامعة أو الجيش. والمثال الثاني هو العلاقة بالوالد؛ إذ يشير يونج إلى حالة امرأة أدى لديها النمط الفطري للوالد إلى نشأة مركَّبٍ في صورة طاغيةٍ جبارٍ يشبه طابع والدها، وهكذا فعندما بدأ العلاج أسقطت نمط الوالد الذي تحوَّل إلى مركَّبٍ على الطبيب، وعندما نجح الطبيب في استدعاء ذلك المركَّب من اللاوعي، تمكن من شفاء المرأة. ويضيف يونج أن مثل هذا المركَّب قد يدفع المرأة إلى نشدان بديلٍ للوالد في زوج يحمل صفاته، وتستمر معاناتها غير واعيةٍ بأن المركَّب الكامن في اللاوعي هو الذي جعلها تنشد ذلك الرجل.
وقبل أن أنتقل إلى بعض الملامح الأعمِّ لصورة النفس عند يونج، أودُّ أن أشير إلى ما يقول به جون فريمان Freeman في تصديره لكتاب: «الإنسان ورموزه» (١٩٦٤م) الذي كتب يونج نفسه الفصل الأوَّل فيه باللغة الإنجليزية، وإن كان قد صدر بعد وفاته؛ ألا وهو أن المركَّبات يمكن أن تكون ظواهر مرَضيةً، ولكنَّ الأنماط من المحال أن تكون كذلك؛ فهي تعبيرٌ سويٌّ عن الطبيعة، وهي لا تتحوَّل إلى ظواهر مرَضيةٍ إلا عندما تؤدي بيئةٌ معينةٌ إلى تحوُّلها إلى مركَّبات؛ إذ توجد علاقةٌ طبيعيةٌ بينها وبين الرموز التي تمثلها الأحلام — كما كان يونج يقول — خير تمثيل؛ فرموز الأحلام مفاتيح للنفس عند الأصحاء والأسوياء قبل المرضى.
(الإنسان ورموزه، تحرير يونج، ط ١٩٦٨م، ص٩)

(٤) بين الفطري والمكتسب

في الفصل الذي يخصصه ستور للحديث عن الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي (ص٣٣–٥٥) يعرض المؤلف حديث يونج في أحد مقالاته المبكرة عن المؤثرات التي يتعرض لها الطفل أثناء النمو، ويقول فيها يونج:

إن تأثير الأبوين الذي يرجع إلى فترة الطفولة المبكرة، يتعرَّض للكبت ويغوص في اللاوعي، لكنه لا يجتثُّ، بل يظلُّ يتحكم بخيوطٍ خفيةٍ في حركة النفس الفردية ظاهريًّا أثناء النضج. وموقف الطفل — مثل كلِّ شيءٍ هبط إلى اللاوعي — يظلُّ يرسل مشاعر منذرةً غامضةً؛ مشاعر بأنه يسترشد سرًّا بمؤثراتٍ من العالم الآخر. ولا تُنسَب هذه المشاعر في العادة إلى الوالد، بل إلى ربٍّ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ (يونج: المجلد الرابع، الفقرة ٣٢٠)

ويعلق ستور على هذه الفقرة قائلًا:

يبدو أن يونج، في هذه الفقرة، ينظر في الصور الفطرية التي ترجع أصولها إلى الخبرة الطفولية لا إلى عناصر استعدادٍ وراثيةٍ. ولو استمر يونج في تقديم وجهة النظر المذكورة حول أصول صور الأنماط الفطرية، لتمكن من الظفر بقبول أوسع نطاقًا لنظرياته في علم النفس. (ستور، ١٩٧٣م، ص٤٢)

ولكن يونج لم يكن يسعى لتقبل نظرياته بل كان يقدِّم ما يراه «الحقيقة»، والعبارات التي اقتبسها ستور من يونج ترجع إلى عام ١٩١٠م، وترد في سياق نقده للتحليل النفسي، وكان قطعًا ما يزال متأثرًا بأفكار فرويد، لكنه سرعان ما عدل عن هذا الموقف بعد عامين تقريبًا حين شعر بأنه تمكَّن من جمع المادة العلمية الكفيلة بإقناع علماء عصره بصحة ما ذهب إليه؛ إذ نشر عام ١٩١٢م كتابه: «دروب جديدة في علم النفس» الذي هزَّ الأوساط العلمية هزًّا وتلاه بكتاب عنوانه: «سيكلوجية اللاوعي» في العام نفسه، ثم كتاب: «مبنى اللاوعي» (١٩١٦م) وكتاب عن «سيكلوجية اللاوعي» (١٩١٧م) وهو الذي أعيد طبعه عام ١٩٢٦م وعام ١٩٤٣م، على الرغم من موجات النقد الشديد التي كان يقابل بها. وقارئ هذه الكتب — سواء منها ما روجع وما لم يراجع — يشعر أن يونج كان يسبح ضد التيار، بل إننا اليوم نعجب للمقاومة الشديدة التي لقيها من المجتمع العلمي (والأدبي!) آنذاك.

كان من الطبيعي ألا يرضى المجتمع العلمي عن حديث يونج عن اللاوعي الجمعي، بل وعن فكرة اللاوعي عند فرويد أصلًا، فعلماء القرن التاسع عشر كانوا ينشدون «اليقين» العلمي، وهو القائم على معطيات الحواس والمذهب السلوكي behaviorism الذي يقول: إن البيئة هي التي تبني الشخصية؛ بمعنى أن النفس تعتبر عند الميلاد صفحةً بيضاء Tabula Rasa يتولى التعليم كتابة ما يشكِّل شخصية الإنسان وتفكيره فيها (انظر المعجم). وأما يونج فكان يقول بعكس ذلك؛ إذ كان يؤمن بأن الشخصية موجودة بالقوة in potential (كما يقول الفلاسفة اليونان) في الإنسان منذ الميلاد؛ أي إن عواملها كامنةٌ في النفس منذ البداية، وكل ما تفعله البيئة هو تنشيط أو تفعيل هذه العوامل فتخرج لنا ما يسمَّى الشخصية بالفعل، بدنيًّا ونفسيًّا.
وكان الباحثون في التراث الأوروبي الكلاسيكي قد درجوا على مذهب أرسطو الرامي إلى إخضاع كل مادة «علمية» للعقل والمنطق، وهو التيار الذي اشتدَّ عوده منذ ديكارت، وعند أصحاب الفلسفة الواقعية الإنجليز في القرن الثامن عشر، وهكذا، وعلى ضوء ازدهار العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، لم يعد العلماء يقبلون ما يقول به الرومانسيون من سطوة الخيال وقوة الروح الكفيلة بكشف أسرار الوجود، فأصدر العلامة ف. ل. لوكاس F. L. Lucas كتابًا يهاجم فيه ضمنًا مسار البحث في اللاوعي، نابذًا اللاوعي برمَّته، مرددًا كيف يمكننا تفسير ما هو معلوم بما هو مجهول، وكان عنوانه: «تدهور المثل الرومانسي الأعلى وسقوطه» عام ١٩٣٦م، منطلقًا في هجومه على الرومانسيين كلهم من شعر وليم بليك Blake قائلًا: إن الارتكان إلى اللاوعي في كتب ذلك الشاعر النبوئية؛ مثل أورشليم، واقتران الجنة والنار وغيرهما (حتى قصيدته الطويلة ميلتون) تستند إلى نظم رمزية خفية نابعة من اللاوعي، ولا تؤدي المهمة المنوطة بالأدب وفق النهج الكلاسيكي، ألا وهي إثراء الوعي بالحياة الإنسانية القائمة على البصر قبل البصيرة.
بل إن بعض الأدباء الذين كانوا في أعماقهم مؤمنين بالحرية ويمارسونها في مطلع القرن العشرين مثل د. ﻫ. لورنس D. H. Lawrence الذي كان يفصح في رواياته وشعره عن المذهب الحيوي vitalism والحياة الباطنة التي تؤكد مفهوم اللاوعي، وكان يعلن، خصوصًا في كتابيه: «التحليل النفسي واللاوعي» (١٩٢١م) «وخرافة اللاوعي» (١٩٢٢م)، عن اختلافه مع فرويد حول تفسير القوة الباطنة، مؤكِّدًا أن عقلنة ratiocination اللاوعي؛ أي إخضاعه إلى أسس عقلانية بدعوى العلاج واستعادة الحياة النفسية السوية — معناه تجاهل القوة الشعورية أو إطفاء جذوتها، فلورنس يدعو في هذين الكتابين إلى تحريرها بحيث يشعر المرء بأن لحياته معنًى، وهو الموقف الوجودي الذي تأثر به في هذه الفقرة [انظر كتابي: «المختار من شعر د. ﻫ. لورنس» (٢٠١٨م) حيث أناقش ميوله الوجودية في المقدمة].
ويقدم ستيفنز سببًا علميًّا (وتاريخيًّا) لعدم التقدير الذي لاقاه كتابه، قائلًا إن يونج كان قد بدأ بإطلاق اسم «الصور الأزلية» على مضمون اللاوعي، موحيًا بأنها مستقاةٌ من التاريخ الموغل في القدم للإنسان، فظنَّ العلماء أنه يؤمن مثل فرويد بالنظرية التي ثبت بطلانها، والتي تقول: إن الخصائص المكتسبة تورَّث، وهي التي كان قد اقترحها أصلًا العالم الفرنسي جان بايتيست لامارك Lamarck (١٧٤٤–١٨٢٩م)؛ إذ كان العلماء يفضلون نظرية النشوء والارتقاء وفق ما يسمى بالانتخاب الطبيعي. ويضيف ستيفنز قائلًا: إن يونج حينما طرح نظريته الخاصة باللاوعي الجمعي — ظن عدد كبير أنه يشير إلى شيءٍ «صوفي» أو «مفهومٍ روحيٍّ» مثل «النفس الجمعية»، أو أنه كان يحاول بعث المفهوم الذي وضعه فون شيلينج Schelling باسم «روح العالم»، ولقد استمرت هذه التصورات الفاسدة إلى اليوم في بعض الدوائر العلمية.

وسوف أقدِّم للقارئ نصَّ الحجة التي يسوقها ستيفنز في كتابيه عن يونج (١٩٩٠م، ١٩٩٤م) المشار إليهما، عارضًا وناقدًا لما يعتبر سوء صياغةٍ من جانب يونج عدل عنها فيما بعد؛ يقول ستيفنز:

الواقع أن اللاوعي الجمعي فرضيَّةٌ علميةٌ محترمةٌ، وليس على المرء أن يعتنق النظرية اللاماركية للتطور حتى يقبلها. بل إنها تتمشى تمامًا مع المدخل النظري الذي يتخذه علماء البيولوجيا في دراسة سلوك الحيوان في بيئاته الطبيعية؛ إذ يقول هؤلاء العلماء الذين يسمَّون إثولوجيين Ethologists إن كل نوع من أنواع الحيوان يتفرد بجهازٍ يتكوَّن من عدد من السلوكيات اللازمة للتكيف مع البيئة التي نشأ فيها هذا النوع. وتعتمد مجموعة السلوكيات المذكورة على آليات إطلاق فطرية innate releasing mechanisms يرثها الحيوان في الجهاز العصبي المركزي، وهي معدَّةٌ بالطبيعة للعمل عندما تصادف ما يسمَّى «علاماتٍ منبِّهةً» sign stimuli في البيئة. وعند الالتقاء بهذه المنبهات تنطلق الآلية الفطرية فيستجيب الحيوان «بنسقٍ سلوكيٍّ» مكيَّفٍ مع الحالة. فإذا أخذنا في اعتبارنا المرونة العظمى في التكيُّف لدى الإنسان، وجدنا أن الموقف الخاصَّ بسلوك الحيوان — يتسم بتشابهٍ كبيرٍ مع نظرة يونج لطبيعة الأنماط الفطرية وطرائق عملها أو تفعيلها.

… كان يونج نفسه يصرُّ على أن مصطلح النمط الفطريِّ «لا يقصد به فكرة موروثة بل أسلوب عملٍ موروثٍ يتفق مع الأسلوب الفطري الذي يخرج به الفروج من البيضة، والذي يبني به الطائر عشَّه، … وبعبارة أخرى إنه «نسق سلوكيٌّ» وهذا الجانب من جوانب النمط الفطريِّ، البيولوجي البحت — هو المجال الخاص للسيكلوجية العلمية» (يونج، المجلد ١٨، الفقرة ٩٩).

لا غبار على أمثال هذه الأقوال من الزاوية البيولوجية. أما الإيحاء بمذهب لامارك فيظهر لنا عندما يقول يونج: إن خبرات الأنماط الفطرية «تنقش» على النفس بسبب تكرارها على امتداد آلاف السنين من الوجود البشري. فهو يقول مثلًا: «يوازي عدد الأنماط الفطرية الكثيرة عدد الحالات المميزة للإنسان في الدنيا. فالتكرار الذي لا ينتهي قد نقش هذه الخبرات في تكويننا النفسي، لا في شكل الصور الحافلة بالمضمون، بل في البداية باعتبارها أشكالًا خاليةً من المضمون، بحيث تمثل فقط إمكانية نشأة نمطٍ معينٍ من الإدراك أو الفعل» (يونج المجلد ٩، ١، الفقرة ٩٩).

ولا توجد مشكلةٌ في زعم يونج أن الأنماط الفطرية لا تمثل إلا إمكانية نشأة أنماطٍ معينةٍ من الإدراك أو الفعل، ولكن علماء البيولوجيا لا يمكنهم قبول الفكرة التي تقول: إن خبرات الأنماط الفطرية تُنقش في التكوين النفسي … ويونج يستخدم هذه الألفاظ مجازيًّا واستعاريًّا، لا علميًّا. ولحسن الحظ يسهل نبذها ما دامت لا علاقة لها بفرضيَّة الأنماط الفطرية.

أما الذي يثبُت في البناء الجيني فهو الاستعداد المسبق predisposition لهذه الأنواع من الخبرات. فكل كائن حيٍّ ينشأ ويتطور في بيئته الخاصة به [وهي التي يسميها علماء البيولوجيا محيطه الخاص umwelt] وفي أثناء دورة حياته يصادف حالاتٍ يتميز بها عن غيره …

ومرت فترةٌ طويلةٌ قبل أن ينجح يونج أخيرًا في تبرئة نفسه من تهمة «اللاماركية» عندما أعلن في عام ١٩٤٦م التمييز النظري الواضح بين النمط الفطري في ذاته الذي يكمن في أعمق أعماق اللاوعي ومن المحال أن يعرف (مثل مفهوم كانط للشيء في ذاته) وبين الصور والأفكار وضروب السلوك الفطرية التي يؤدي النمط الفطريُّ في ذاته إلى ظهورها. فالذي يرثه المرء هو النمط الفطري في ذاته (أي الاستعداد المسبق لتلقي خبراتٍ معينةٍ) لا الخبرة نفسها.

وهكذا فإن الأنماط الفطرية تمنحنا استعدادًا مسبقًا لمواجهة الحياة والخبرة بأساليب معينةٍ وفقًا للأنساق التي أقيمت سلفًا في النفس، كما أنها تتولى أيضًا تنظيم المبادئ والخبرات حتى تجعلها تتفق مع تلك الأنساق. وهذا هو ما يعنيه يونج بقوله إن عدد الأنماط الفطرية يوازي في كثرته عدد الحالات المميزة للإنسان. (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٣٧–٣٩)

ويشير يونج في بعض ما كتبه إلى تأثره بأفلاطون؛ أي إلى كون الأنماط الفطرية مثلًا ideas كالتي يتحدث عنها أفلاطون، ولكنه يبين في دراسته الأساسية للأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي (خصوصًا في ص٧٦ و٧٩ و١٨٦) أن تصوُّره للأنماط الفطرية تصوُّرٌ ديناميٌّ يرمي إلى تحقيق أغراضٍ معينةٍ، بمعنى أن الأنماط الفطرية ليست مُثلًا مجردةً بل قوًى كامنة تسعى لتحقيق ذاتها في الشخصية وفي سلوك الفرد، أثناء دورة الحياة وفي سياق البيئة.
(يونج: الأنماط الفطرية والوعي الجمعي، ترجمة هل Hull، ١٩٥٩م، الطبعة العاشرة ١٩٩٠م.)

وتعضيدًا لهذا الرأي أورد كلام يونج نفسه الذي يؤكد فيه مذهبه الذي يقول: إننا نأتي إلى الدنيا بالبناء النفسي الفطري الذي يمكِّننا من اكتساب الخبرات البشرية الخالصة؛ أي التي تميز البشر عن سواهم. يقول يونج:

إن طبيعة الرجل كلَّها تفترض سلفًا وجود المرأة، جسديًّا وروحيًّا؛ فالنظام الخاصُّ به يتجه إلى المرأة منذ البداية، مثلما يتمتع بالاستعداد لتقبُّل عالمٍ بالغ التحديد حيث يوجد الماء والضوء والهواء والملح والكربوهيدرات … إلخ. فشكل العالم الذي يولد فيه موجود سلفًا ومولود سلفًا في داخله باعتباره صورةً فعليةً كامنةً. وعلى غرار ذلك يوجد الآباء والزوجة والأطفال والميلاد والموت في فطرته باعتبارها صورًا فعليةً كامنةً؛ أي باعتبارها ضروب استعدادٍ نفسية. وهذه الفئات السابقة الوجود a priori بطبيعتها تتمتع بطابع جمعي؛ فهي صورٌ للوالدين وللزوجة والأطفال بصفة عامة، وليست مقدرة سلفًا. ومن ثمَّ فعلينا أن ندرك أن هذه الصور تفتقر إلى المضمون الصلب؛ ومن ثمَّ فهي لا واعية. وهي لا تكتسب الصلابة والتأثير والوعي آخر الأمر إلا عندما تقابل الحقائق العملية التي تلمس الاستعداد اللاواعي وتبثُّ فيه الحياة.
(يونج، المجلد السابع، مقالتان عن علم النفس التحليلي، ١٩٥٣م، ط٢، ٦٦، الفقرة ٣٠٠)

(٥) البنيويَّة والبيولوجيا

عندما ترجمت كلمة system في السطر الأول من هذا المقتطف بكلمة «نظام» خطرت لي عدة معانٍ لهذه الكلمة على نحو ما أشرت إليه في الصفحة الأولى من هذا الفصل؛ إذ تصورت أن يونج يعني نسقًا pattern فطريًّا معينًا؛ خصوصًا لأنه يستخدم إحدى الكلمات التي غدت من مصطلحات البنيوية وهي الشكل form ومصطلحًا بنيويًّا أساسيًّا آخر هو الصورة image وهذه جميعًا مما شغل كلود ليفي —شتراوس Levi-Strauss والمدرسة الفرنسية للأنثرويولوجيا البنيوية التي تتحدث عن أبنية تحتية infrastructure في اللاوعي، وتعتبرها مسئولة عن جميع العادات والمؤسسات الإنسانية. والمتخصصون في علم اللغة يقولون إنه على الرغم من اختلاف القواعد النحوية ما بين لغةٍ وأخرى؛ فإن لها جميعًا أشكالًا أساسيةً تعتبر عالميةً، وهي التي يشير إليها تشومسكي باسم المبنى العميق deep structure، ومعنى هذا، كما كان شرَّاح تشومسكي يقولون، وجود بناء نحويٍّ — أي قواعد لعلاقة الألفاظ والمعاني بعضها ببعض على أعمق مستوى — عصبي نفسي Neuropsychic، وهو بناء عام عالمي فطري ترتكز عليه جميع ضروب النحو، وهو ما يقول عنه مايكل فوردام Fordham (١٩٠٥–١٩٩٥م) إنه مثال للأنماط الفطرية عند يونج [في كتابه: «الأطفال باعتبارهم أفرادًا» (١٩٦٩م)]، ولم يكن فوردام وحده في إقامة هذه الصلة، بل أيده علماء آخرون في البيولوجيا، ومن أهمِّهم إدوارد أ. ويلسون Wilson (المولود عام ١٩٢٩م) الذي يُنسب إليه الفضل في وضع مبحث علميٍّ جديدٍ هو البيولوجيا الاجتماعية sociobiology؛ خصوصًا في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، والذي صدر عام ١٩٧٥م، والمعروف أن هذا المبحث العلميَّ قد نما حتى أصبح اليوم نظريةً كاملةً تقوم على اعتبار أن أنساق السلوك؛ والتي تتميز بها جميع أنواع الأحياء الاجتماعية، ومن بينها الإنسان — قائمة على استراتيجيات استجابةٍ تنقلها الجينات من جيل إلى جيل، وتهدف إلى زيادة قدرة الكائن الحي على البقاء في البيئة التي نشأ فيها وارتقى. ويقول ويلسون في الطبعة المختصرة لكتابه المذكور: «إن السوشيوبيولوجي يقطع بأن النمو النفسي الاجتماعي لأفراد أيِّ نوعٍ من الأحياء يعتمد على ما يسمَّى قواعد النمو epigenetic rules، بل ولقد شهدنا بعض الأطباء النفسيين الذين أولعوا بعلوم السلوك الحيوانية ethology منخرطين في دراسة ما يسمونه أنساق الاستجابة النفسية البيولوجية إلى جانب الأبنية العصبية العميقة المتماثلة، قائلين إنها هي التي تتحكم في اكتساب أنساق تكيُّفٍ سويةٍ أو مريضةٍ في أفراد بعينهم نتيجة استجابتهم للاختلافات في بيئاتهم الاجتماعية.» ويقول ستيفنز (١٩٩٤م) «إن جميع هذه المفاهيم تتفق مع فرضيَّة الأنماط الفطرية التي قدمها يونج من عقودٍ كثيرةٍ، ولم يكد العالم يوليها أيَّ اهتمام» (ص٥٣).
والواقع أن يونج يصرِّح باهتمامه بالبيولوجيا في بعض كتابات مرحلة النضج؛ إذ يقول في المجلد الحادي عشر «علم النفس والدين بين الشرق والغرب» (١٩٥٨م، طبعة ١٩٦٩م): «إن كل حياة فردية تتطابق مع الحياة السرمدية للنوع الذي ينتمي إليه الفرد» (الفقرة ١٤٦). وهو يشرح هنا أن النمط الفطريَّ بمفهومه البيولوجي يحدد بناء النفس؛ ومن ثمَّ فإن «عمل» النفس تتحكم فيه بعض المبادئ البيولوجية مثل التكيُّف adaptation، والثبات المتزن homeostasis والنمو، وأما التكيُّف فقد سبقت الإشارة إليه في غير هذا السياق. ونضيف أن يونج يقول: إن الطفل يولد مجهَّزًا بطاقة أنماطٍ فطريةٍ تمكِّنه من التكيُّف مع الواقع بأسلوبٍ لا يختلف عن أسلوب أسلافه في الماضي السحيق، والمجموع الكلي لطاقة هذه الأنماط الفطرية يطلق عليها يونج اسم «الذات» self التي كثيرًا ما يشير إليها باسم النمط الفطري لجميع الأنماط الفطرية. ومن داخل هذا الرحم تخرج الأبنية النفسية الأخرى، مثل الأنا، والقناع، والظل، والأنيما أو الأنيموس، وتنهض جميعها بمهامِّ التكيُّف تحت إرشاد الذات.

(٦) الذَّات ورموزها

وأظن أن تعريف الذات الذي يضرب بجذوره في البيولوجيا لكنه يرشدنا إلى أسرار الروح؛ جديرٌ بالتوقف قليلًا عنده؛ وذلك لعلاقته المحتومة بالبنيوية الظاهرة فيما يقوله يونج عن الاكتمال wholeness [أو التكامل integrity طبقًا لبعض مترجمي يونج ومفسريه] باعتباره ثمرة تعارضٍ ثنائيٍّ [أو وجود قطبين متعارضين داخل الذات] وهو ما تقول به البنيوية من دون الرجوع إلى يونج. والنَّصُّ الأساسيُّ الذي يعرض يونج فيه تصوُّره للذات self عنوانه Aion أيون [المستعار من الدين المثرائي] mithraism القديم، حيث «يطلق الاسم على إله يتحكم في الروزنامة الفلكية؛ ومن ثمَّ في الزمن نفسه» حسبما يقول مري ستاين الذي يضيف قائلًا: «إن العنوان يوحي، من ثمَّ، بأنه عاملٌ يتجاوز المسار الموحَّد continuum للزَّمكان الذي يتحكم في وعي الأنا» (ص١٥٧). والعنوان الفرعي لهذا الكتاب هو «بحوث في ظاهريات الذات»، ويصفه المحررون بأنه «دراسة مطولة للنمط الفطري للذات». ولنستمع أولًا لما يقوله يونج في مستهل حديثه في ذلك الكتاب عن الذات، ثم ما يقوله فيما بعد حين ينتهي من تعريفها، يقول يونج:
توجد الذات … خارج المجال الشخصي تمامًا، ولا تظهر — إذا ظهرت — إلا في صورة بديهية دينية، وتتفاوت رموزها ما بين الأعلى والأدنى … وكلُّ من يريد أن يحقق الغاية العسيرة؛ أي أن يحقق شيئًا لا فكريًّا وحسب بل أيضًا، طبقًا لقيمته الشعورية، عليه أن يتصدَّى لمشكلة الأنيما [النفس الأنثى] والأنيموس [النفس الذكر] حتى يشقَّ الطريق إلى الوحدة العليا أو الوحدة الرفيعة؛ ألا وهي الوحدة بين الأضداد coniunctio oppositorum؛ فهذا شرطٌ لا غنى عنه للاكتمال.
(يونج، المجلد التاسع: الجزء الثاني، الفقرة ٥٧–٥٨)
وقد يكون ستاين مبالغًا بعض الشيء حين يقول: إن يونج يعني «الذات» حين يشير إلى مصطلح الاكتمال wholeness فإن يونج لا يقيم ترادفًا صريحًا بل يقول: إن الاكتمال يتحقق حين تتحقق الذات في الوعي؛ بمعنى أن يحرص المرء على أن ينشد اكتماله واعيًا حتَّى يشعر بوجود ذاته، وهذه لمسة وجودية تشبه ما أشرت إليه آنفًا من ميول وجودية؛ فالوعي بالذات من طريق الوعي بالاكتمال — وعيٌ بالوجود الذي يعنيه هايديجر بمصطلح الحضور dasein [انظر مصطلحات الفلسفة الوجودية ٢٠١٧م] ومن الطبيعي أن يتوسل يونج بالرموز الهندسية الأساسية التي يراها فطريةً، ما دامت قائمةً في اللاوعي عند جميع الشعوب على الرغم من تعدد ثقافاتها وتنوعها، وهو يرى أن أهم رمزين في هذا المجال هما المربع والدائرة، وقد سبقه وتلاه علماء وأدباء وفنانون لاحظوا كيف يستجيب الإنسان بفطرته للمربع وللدائرة؛ فالباحثة كارين أرمسترونج Armstrong تشير إلى هذه الظاهرة في شكل الكعبة ذات التاريخ العريق، والطواف حولها؛ والذي يمثل الدائرة، (انظر كتابيها «سيرة حياة النبي محمد»، و«القدس») ويشير غيرها إلى الأضلاع الأربعة للهرم، وغيره من المباني القديمة التي عرفتها حضاراتٌ لا يكاد يتصل بعضها ببعض، وتقوم على الشكل الرباعي والدائري المحيط به، وهو ما يراه يونج في صورة المندلة mandala باعتبارها رمزًا للمركز وللحركة من حوله؛ إذ يواصل يونج في الكتاب نفسه حديثه عن الذات قائلًا:

على الرغم من أن فكرة «الاكتمال» تبدو للوهلة الأولى مجرد فكرةٍ تجريديةٍ (مثل الأنيما والأنيموس) فإنها في الواقع عملية وتجريبية ما دامت النفس تستبق وجودها برموز تلقائية أو مستقلة. وهذه هي الرموز الرباعية للمندلة، وهي التي نجدها لا في أحلام المحدثين وحسب — وهم الذين لم يسمعوا عنها من قبل قط — بل نجدها منتشرة في السجلات التاريخية لكثيرٍ من الشعوب والكثير من الحقب الزمنية. (يونج، المرجع نفسه، الفقرة ٥٩)

ويقول ستاين إن يونج يرى أن هذه الرموز فطريةٌ innate وأصيلةٌ وتلقائيةٌ أو ذات استقلالٍ autochthonic، وأنها تقدَّم للنفس من خلال منطقة الأنماط الفطرية النفسية عبر أنماطٍ فطريةٍ معينةٍ، بحيث نجد أن الذات — وهي الكيان التعالي transcendent غير النفسي nonpsychological — تتفاعل مع الجهاز النفسي لتنتج رموز الاكتمال، وكثيرًا ما تكون صورًا رباعية أو خاصة بالمندلة (مربعات ودوائر) (ستاين ص١٥٨). والواقع أن يونج يكرر في ذلك الكتاب فكرة استقلال الذات وطابعها الفطري وطاقاتها على التعالي بمعنى تجاوز عالم الحواس، وهو ما يقول معظم الشراح إنه يعني أن هذه الطاقة روحية، وأن الإنسان بطبعه مضطرٌّ إلى الحديث بالرموز عمَّا لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ.
وعلى الرغم من تأكيد يونج أن صورة الذات لديه غير تجريديةٍ بل عمليةٌ أو تجريبيةٌ empiric فإن الصورة التي يرسمها يصعب — إن لم يكن من المحال — تصوُّرها. ويحاول بعض شراح يونج مثل ستيفنز تبرير هذا التجريد؛ إذ يقول إن الإنسان يولد بمواهب من الأنماط الفطرية؛ أي الإمكانات أو القدرات الأصيلة التي تساعده على التكيف مع البيئة بأسلوب لا يختلف عن أساليب أجداده، كما سبق أن ذكرت، مضيفًا إن جماع هذه القدرات؛ أي الذات تعتبر الروح التي تنظم الشخصية الكاملة، وهو يستخدم كلمة genius للتعبير عن الروح، وربما كان يوحي بمعانيها الأخرى الكثيرة مثل الاستعداد الفطري، أو العبقرية أو النبوغ، ناهيك بدلالة «الروح» الخاصة باعتبارها «الجوَّ النفسي» [الجو النفسي للمكان genius loci] ثم يقول إنها هي «المسئولة عن تنفيذ المشروع الذي وضع للحياة في كل مرحلة من مراحل دورة الحياة وعن تحقيق أفضل تكيُّفٍ يمكن أن تسمح به الظروف في كلِّ حالة» ثم يقول:
للذات إذن وظيفةٌ غائيةٌ teleological؛ وذلك لأنها تتمتع بخصائص فطريةٍ تدفعها إلى تحقيق غاياتها في الحياة. (وكلمة teleo كلمةٌ منحوتةٌ من كلمة teleos بمعنى الكامل، أو المكتمل، وكلمة telos بمعنى الغاية؛ ومن ثمَّ فإن كلمة teleology تعني تحقيق غاية الاكتمال).
وغاية الذات الاكتمال. وكان يونج يطلق على هذا المسعى الذي يستغرق العمر كلَّه تعبير: «السعي للتفرد،» individuation والتفرد هو المبرر لوجود الذات؛ أي إن غرضه الراسخ هو أقصى قدرٍ ممكنٍ من تحقيق الذات self-realization في النفس psyche وفي الدنيا. (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٤١)
ويواصل ستيفنز محاولته إيضاح غموض تجريدات يونج قائلًا: إن الذات self على الرغم من جذورها البيولوجية، قادرةٌ على كشف أسرار الروح soul التي لا يمكن التعبير عنها؛ ولذلك فالإنسان يسقط صورة الذات على ما يراه ذا طاقةٍ جبارةٍ أو مكانةٍ مهيبةٍ؛ مثل رؤساء الدول والملوك والملكات، أو حتى على الكيانات الخارقة مثل الدولة أو الربِّ أو الشمس أو الطبيعة أو الكون. ففي معظم الثقافات تتماهى ظاهريات الذات مع الإله أو مجمع الأرباب، والنتيجة أن أصبح الإله والذات يشتركان في الرمزية نفسها. وخير نموذجٍ لهذه الرمزية صورة المندلة التي سبق الحديث عنها بمربعاتها ودوائرها (المرجع نفسه ٤٢).
ومن الطبيعي أن يثير كلام يونج عن الذات خلافاتٍ حادَّةً، لا بين معارضيه فقط الذين لا يرون أن الحديث عن الروح — بأية مصطلحات معدَّلةٍ (حسبما شرحت في مستهل الفصل) — ينتمي إلى العلم التجريبي، ولكن أيضًا بين مؤيديه الذين لم يقتنعوا بتفريقه بين soul التي درجنا على اعتبارها مرادفةً للألمانية Seele وبين self الموازية للألمانية Selbst خصوصًا؛ لأن تجريداته تقرِّبه من فلاسفة زمنه وانشغالهم بالفكر التجريدي مثل هوسيرل وهايديجر وجادامر. ولكن قبول تعريفاته، مهما يكن غموضها أحيانًا، يتيح لنا فهم ما يسهل إدراكه وتصورُّه مثل القناع persona والظلِّ shadow والأنيما والأنيموس anima/animus والثبات المتزن homeostasis والأحلام dreams والنمو growth وسوف أوجز الحديث عن كلٍّ من هذه الموضوعات استكمالًا لصورة النفس عند يونج.

(٧) القناع

وسوف أبدأ بالقناع persona أولًا؛ لأنه نشر مبكرًا نسبيًّا في حياة يونج (١٩٢٨م)؛ وثانيًا لأنه يمهد للأفكار الأخرى التي تلته منطقيًّا في عمل يونج، فقد نُشر في المقالة الثانية من كتاب يونج مقالتان عن علم النفس التحليلي، أما الأولى فعنوانها: «عن سيكلوجية اللاوعي» ونشرت عام ١٩١٧م، و١٩٢٦م، ثم ١٩٤٣م، وأما الثانية فعنوانها «العلاقات بين الأنا واللاوعي» (١٩٢٨م) ويتحدث فيها في الباب الأول عن تأثير اللاوعي في الوعي، وفي الفصل الأول منه يناقش الفرق بين اللاوعي الشخصي واللاوعي الجماعي، وهو ما سبق الحديث عنه، وفي الفصل الثاني يناقش الظواهر الناجمة من استيعاب اللاوعي، وفي الثالث يناقش «القناع» باعتباره شريحةً من شرائح النفس الجمعية، وأما في الباب الثاني وعنوانه «التفرُّد» فيناقش في الفصل الأول منه «وظيفة اللاوعي» وحسب، وأما الموضوعات الأخرى التي سوف أعرض لها؛ وهي الأنا والظل والثنائي المقترن syzygy؛ أي الأنيما والأنيموس فمنشورة كما ذكرت من قبل في كتاب تأخر نشره، وعنوانه: «بحوث في ظاهريات الذات» (١٩٥١م) والباب الثاني فيه عنوانه «أيون» Aion الذي أشرت إليه آنفًا.
أما القناع فمعناه واضح، ونحن نستخدم التعبير في حياتنا اليومية وفي الأدب للدلالة على الصورة التي يتخذها الفرد في المجتمع وفق تصويره الخاصِّ لنفسه وأساسًا من أجل التكيُّف، ويعرِّفه يونج قائلًا إنه «مركَّبٌ وظيفيٌّ يتكون لأسباب التكيف، أو من أجل تيسير الحياة لصاحبه. ولكنه لا علاقة له على الإطلاق بالطابع الفردي individuality» (المجلد السادس، الفقرة ٨٠١). ونحن نعرف أن النجاح الاجتماعي يعتمد على جودة القناع، فأفضل الأقنعة ما يستطيع التكيُّف بمرونةٍ مع شتَّى الحالات الاجتماعية، بشرط كونه ممثلًا صادقًا لصفات الأنا التي تقف خلفه. وتبدأ المتاعب حين يحاول المرء ارتداء قناعٍ لا يتفق مع طبيعته، أو يحاول اتخاذ موقفٍ لا يؤهله تكوينه النفسي لاتخاذه، ونحن كثيرًا ما نقابل هذه الحالات في حياتنا اليومية، وكثيرًا ما تلحظها العين حين يكون صاحب القناع عصابيًّا، وربما يصل إلى الذروة حين يتماهى المرء مع قناعه، وذلك مألوف في الأعمال الأدبية بشتى اللغات وفي جميع الثقافات، وقد يوجد في الكوميديا مثلما يوجد في التراجيديا. ونحن نتعرض في مرحلة النمو إلى اختيار القناع الذي ييسر لنا الحياة. وقد نصل إلى حالة من التوفيق بين الظاهر والباطن، أو ربما اتجه المرء إلى كبت النزعات الذميمة، فإذا زادت درجة الكبت وتكاثرت تلك النزعات فقد تكوِّن ما يسمَّى الظلَّ وهو مركَّب الشخصية الفرعية subpersonality complex.

(٨) علاقة زيادة الوعي/المعرفة بالسُّلطة

وقبل أن أتحدث عن الظل، أودُّ أن أشير إلى فكرة تشبه إلى حدٍّ ما علاقة المعرفة بالسلطة التي ترتبط لدينا اليوم باسم الفيلسوف ميشيل فوكو Foucault؛ إذ يقول يونج في ختام الفصل الثاني وعنوانه: «الظواهر الناجمة عن استيعاب اللاوعي» (في المقالة الثانية المشار إليها عاليه) وقبل أن يتحدث عن القناع، إنه كان يشير إلى الجوانب اللاواعية في النفس؛ أي إلى اللاوعي الشخصي، وهو الذي يميط المحلِّل اللِّثام عنها في علاج الذُّهان مثلًا، وأما إضافة الطبقات الأعمق من اللاوعي التي يسميها اللاوعي الجمعي؛ فهي تؤدي إلى تضخمٍ حميدٍ في الشخصية، enlargement وهو يؤدي بدوره إلى تضخمٍ خبيثٍ inflation نتيجة تحميل وعي الفرد أثقالًا إنسانيةً قد لا يستطيع حملها، أو قل ينوء بحملها إذا تجاوز التحليل حدًّا معينًا؛ قائلًا: إن ذلك من «العواقب الوخيمة للوعي الكامل». وقد ذكرني هذا بقول ت. س. إليوت في رباعية قصر نورتون المحترق التي كتبها (١٩٣٥م) أثناء كتابته: «جريمة قتل في الكاتدرائية»، حيث يقول: إن «أبناء البشر لا يستطيعون تحمُّل قدرٍ كبيرٍ من الواقع» [ويقول هذا توماس أيضًا في تلك المسرحية]، وعلى الرغم من أن إليوت يتحدث عن الزمن، ويونج يتحدث عما في داخل نفوس البشر؛ فإن الفكرتين متشابهتان؛ فالمعرفة بما في اللاوعي الجماعي ثقيلة الوطأة مثل المعرفة بحقيقة الزمن، والواقع أن يونج يقدم لنا حاشيةً مطوَّلةً عن المعرفة وطاقة احتمالها بل والسلطة التي تهبها لصاحبها، ولا أملك إلا أن أقدِّمها إلى القارئ العربي الذي يشهد الآن ما يسمَّى ثورة المعلومات، أو لعلنا نسمِّيها ثورة المعرفة؛ إذ يقول يونج:

التضخم الخبيث ظاهرة تنشأ من التوسع في الوعي، وليست على الإطلاق مقصورةً على العلاج التحليلي، وتقع الظاهرة عندما تتغلب المعرفة على الفرد، أو عندما يسيطر عليه إدراكٌ معينٌ. كتب القديس بولس إلى أهل كورنثوس يقول: «إن المعرفة تنفخ تكبُّرًا» (الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس ٨ / ١)؛ أي إن المعرفة الجديدة قد أدارت رءوس عددٍ كبيرٍ من الناس، على غرار ما يحدث دائمًا في الواقع. والانتفاخ / التضخم الخبيث لا علاقة له بنوع المعرفة، ولكن الحقيقة الواضحة الفريدة هي أن أية معرفةٍ جديدةٍ يمكن أن تسيطر سيطرةً شديدةً على رأسٍ ضعيفٍ حتى تمنعه من أن يرى أو يسمع أيَّ شيء آخر. فهي تسلبه حواسه فيعتقد على الفور أنه قد حلَّ لغز الكون. ولكن هذا صنو خداع الذات الجبار. وهذا الواقع شائع إلى الحدِّ الذي يجعل الأكل من شجرة المعرفة في سفر «التكوين» (٢ / ١٧) يوصف بأنه خطيئةٌ مهلكةٌ. وقد لا يتضح على الفور السبب في أن زيادة الوعي إلى هذه الدرجة وما يتبعها من خداع الذات — يعتبر ذا أخطارٍ جمَّةٍ. فسفر «التكوين» يصور اكتساب الوعي في صورة انتهاكٍ لأمرٍ محظورٍ، كأنما كان المقصود بالمعرفة أن تكون حاجزًا محرَّمًا وكأنما اجترأ الإنسان ففسق بتخطيه. وأعتقد أن سفر «التكوين» على حق ما دامت كلُّ خطوةٍ تتَّخذ لاكتساب مزيدٍ من الوعي — نوعًا من الذنب الذي ارتكبه يروميثيوس؛ فالمعرفة تعني مجازًا أن الأرباب قد تعرضت لسرقة نارهم؛ أي سرقة شيءٍ كانت تملكه سلطات اللاوعي، فإذا به ينتزع قسرًا من سياقه الطبيعي فيصبح خاضعًا لأهواء النفس الواعية. ولكن الفرد الذي اغتصب المعرفة الجديدة يكابد تحولًا معينًا، أو قل إنه تضخم الوعي الذي لم يعد يماثل وعي أقرانه من البشر. أي إنه رفع نفسه فوق مستوى البشر في عصره («سوف تصبحان مثل الله» التكوين ٣ / ٥) ولكنه بسبب هذه الفعلة فصل نفسه عن سائر البشر. ويتمثل انتقام الأرباب في آلام وحدته؛ إذ لن يستطيع بعد الآن أن يعود إلى البشر. إنه، كما تقول الأسطورة؛ [أي أسطورة يروميثيوس]، مغلولٌ فوق صخور جبال القوقاز الموحشة الجرداء، بعد أن هجره الله ونبذه البشر.

(يونج: المختار من كتاباته، ١٩٧١م، ص١٠٤)
والواضح من كلام يونج هنا أنه يوصي بعدم مبالغة الطبيب في الكشف للمريض عما يدور في أعماق اللاوعي لديه؛ فهو يدرك أخطار إطلاع المريض على قدرٍ أكبر ممَّا ينبغي من تلك المعرفة الكامنة في اللاوعي، لكنه يقول: «إن السبب في ذلك غير واضح للوهلة الأولى»، ثم لا يأتينا مباشرة بالسبب الذي اهتدى إليه بعد التأمل العميق والدرس الجاد، ألا وهو أن الغاية من الكشف عن «مركَّب الشخصية الفرعية» أو «مركَّب الظل» الكامن في اللاوعي، أن يخرج إلى الوعي قدرًا من الصفات المضادة للقناع، بحيث تتساوى كفَّة القناع مع كفَّة الظلِّ، فلا يزيد الأخير بما يرجح كفته؛ فالغاية تحقيق الثبات المتزن homeostasis في الشخصية. وهو يصف هذا التوازن بأنه تعويضٌ لازمٌ؛ فالظلُّ تعويضٌ بمعنى التعادل المضادِّ لدعاوى القناع الزائفة، والقناع تعويض (بمعنى التعادل أيضًا) عن موقف الظلِّ المعادي للمجتمع. ويونج يقول في غير هذا المكان إن هذين الضدين لا بدَّ من اتزانهما، والتعارض الثنائي binary opposition فكرة بنيوية لم يتخل يونج عنها في تفكيره قطُّ؛ فالقناع إذا سيطر على الشخصية بما يوحي به من زيفٍ وتصنُّعٍ ورياء، يؤدي إلى خللٍ واضحٍ يفقد الشخصية مصداقيتها واتزانها، وإذا سيطر الظل بدوافعه الجهمة الشائنة على الشخصية حوَّل المرء إلى مريضٍ اجتماعيٍّ، وقد يصيبه بالذُّهان أو العصاب، بل قد يجعله مجرمًا لا يرى في ارتكاب الجرائم ما يشين. واختيار تعبير «الظل» للدلالة على ابتعاد هذا الجانب من الشخصية عن ضوء الوعي تعبيرٌ موفَّقٌ ويتسم بالدقة لإشارته إلى جانبٍ مظلمٍ من اللاوعي لا اللاوعي كلِّه، كما هو الحال عند فرويد الذي يرى أن اللاوعي كلَّه ظلامٌ حالكٌ، كما يقول ستيفنز (١٩٩٠م) (ص٤٣).
ويقول يونج في حديثه عن الظل إنه قد يتدخل في الوعي من دون محاولة علاجية أو جهد لقهره؛ أي إن الشخص قد يفاجأ بأن بعض الدوافع المعيبة الكامنة قد شغلت ذهنه ونفسه أو ربما ملكت عليه تفكيره، وفي هذه الحال يجد نفسه مضطرًّا إلى الدفاع عن نفسه، أو حماية نفسه من الإحساس بالذنب أو التفاهة، ويونج يسمِّي هذه الحال اللجوء إلى آليات دفاعٍ عن الأنا ego defence mechanisms وأولها الإنكار؛ أي أن ينكر الشخص وجود هذا الظلِّ، وهو ما يسبِّب له متاعب نفسيةً بطبيعة الحال؛ ولذلك فالأسلم له أن يسقطه على غيره؛ أي أن ينسب الصفة الشائنة إما إلى غيره، ولو لم يكن مقتنعًا بصحة ما يقول، وإمَّا يزعم أنه فعل ما فعل أو شعر بما شعر به بسبب ما فعله غيره؛ فهو في النهاية «ضحيةٌ»، ويسمَّى ستافورد-كلارك Stafford-Clark هذا الأسلوب أسلوب «كبش الفداء» scapegoating في كتابه: «الطب النفسي اليوم» (١٩٦٨م، ص٣٣). ويقول ستيفنز في كتابٍ آخر له بعنوان: «جذور الحرب من منظور يونجي» (١٩٨٩م): إن أسلوب كبش الفداء يفسر جميع حالات التعصب ضد المنتمي إلى أية طائفة تختلف عن طائفة الشخص، فاستعمال أسلوب كبش الفداء يوقظ النمط الفطريَّ للشر في أعماق اللاوعي فيجعله يرى أن كلَّ من يختلف عنه عدوٌّ له، ولا أظنني بحاجة إلى ضرب أمثلة من الحياة الاجتماعية أو السياسية من حولنا في الوطن العربي وفي العالم، حيث تقع الاعتداءات غير المبررة منطقيًّا نتيجة تدخُّل الظل في وعي الشخص وإصابته بخلل واضح في التفكير والإحساس والسلوك.
وفي الحالات العصابية يقع انفصامٌ ما split بين القناع والظل، وفي هذه الحالة يقضي أسلوب العلاج الذي يوصي به يونج بالكشف عن الظل للوعي حتى يمكِّنه من إقامة درجةٍ من التقارب بينه وبين القناع ابتغاء إدراج المركَّبين جميعًا في الشخصية الكاملة، ولكن لمَّا كانت الخصائص التي تشكِّل الظلَّ ذات طابعٍ عاطفيٍّ emotional فإنها تتمتع بالاستقلال إلى حدٍّ ما إلى جانب القدرة على السيطرة على الشخصية (يونج، ١٩٧١م، ص١٤٥) وهو ما يجعل تحقيق الغاية المنشودة بالغ الصعوبة ومرهقًا إلى أقصى حدٍّ، وكثيرًا ما يحدث ألا تفلح البصيرة والنوايا الحسنة في إجراء هذا التقارب؛ «لأن سبب الشعور القائم سوف يبدو، من دون أدنى شك، راجعًا إلى الشخص الآخر أو نابعًا منه ومنتميًا إليه» (يونج ١٩٧١م، ص١٤٦، والتوكيد عند يونج).

وللظلِّ نمطٌ فطريٌّ جوهريٌّ، مثل غيره من المركَّبات الكبرى الأخرى، وهو النمط الفطري للعدو، أو للغريب الخائن، أو للدخيل الشرير. ويقول الشُّرَّاح إن ذلك النمط من آليات التكيُّف اللازمة للبقاء؛ ففي جميع الأحياء يتطلب «الحي» أن يعرف مصادر الخطر على حياته (خصوصًا إن كان حيوانًا) أو التهديد لسعادته وتحقيق أمانيه، فيحذر منه ويعاديه، ثم يُسقط عليه كلَّ صفةٍ سيئةٍ يشعر بها في باطنه؛ أي كلَّ صفات الظلِّ، وقد يصل إلى مرحلة لا يحتملها جهازه العصبيُّ فيمرض، ويصبح في حاجة إلى العلاج القادر على تمكينه من الوعي بما يكمن في اللاوعي من خصائص الظل.

(٩) الثُّنائيُّ المقترن (الأنيما والأنيموس)

والفصل الثالث من أيون Aion: ظاهريات الذات (بعد الأنا والظل) عنوانه: الثنائي المقترن: أنيما وأنيموس The Syzygy: Anima and Animus وهو فصل قصير يؤكد فيه يونج ما انتهى إليه من نتائج عبر ما يسميه التجارب والخبرات العملية الكثيرة الخاصة بالعلاقة بين الجنسين، وهو يتضمن شروحًا لما أشار إليه من قبل عن هذين المصطلحين الأساسيين: الأنيما (النفس الأنثى) والأنيموس (النفس الذكر)، واقتران الاثنين syzygy [وهو أصلًا مصطلح فلكي خاص باقتران الكواكب مع نجومٍ معينةٍ أو اقتران الشمس والقمر عندما يتعامدان في حالة الكسوف]. يقول يونج إنه درس آلاف الأحلام، وفحصها فحصًا دقيقًا وانتهى إلى أن الكثير منها يتضمن صورًا تمثل الخصائص الجسدية والنفسية للجنس الآخر في نظر الحالم، كما انتهى إلى أن هذه الصور تمارس سلطة المركَّبات المستقلة ونفوذها، وهكذا أطلق على المركَّب الأنثوي عند الرجل الأنيما والمركَّب الذكوري عند المرأة الأنيموس وقبل أن أقدم بعض ما يقوله عن هذا الثنائي المقترن، أودُّ أن أقتطف ما يشبه التعريف المبسط:

كل رجل يحمل داخله الصورة الخالدة للمرأة، لا صورة هذه المرأة المعينة أو تلك، ولكن صورةٌ قاطعةٌ محددةٌ للمرأة. وهذه الصورة كامنة أساسًا في اللاوعي، أو قل إنها عامل وراثي ذو أصل أزلي محفور في الجهاز العضوي الحي للرجل، أو قل إنها صورة مطبوعة لنمط فطري تضمُّ جميع الخبرات لدى الأسلاف عن الأنثى، أو وديعة مترسبة، إن صحَّ هذا التعبير المجازيُّ، لجميع الانطباعات التي أحدثتها المرأة منذ الأزل … وما دامت هذه الصورة قائمة في اللاوعي؛ فإن المرء يسقطها دون وعي دائمًا على شخص الحبيبة، وتعتبر من الأسباب الرئيسية للانجذاب المشبوب أو النفور الشديد.

(يونج، المجلد ١٧ تطور الشخصية، الفقرة ٣٣٨، ص١٩٨)
فإذا قبلنا قول يونج إن تعبيره مجازيٌّ، مثلما قبلنا «سوء الصياغة» الذي أشرت إليه سلفًا في حديثي عن إشارة يونج «للخبرات» المنقوشة أو المحفورة أو المطبوعة في الجهاز البيولوجي للرجل — عرفنا قيمة تحديده للأنيما في اللاوعي عند الذكر، وللأنيموس المقابل في اللاوعي عند الأنثى، باعتبارهما أجزاء من جهازٍ فطريٍّ خلقه الله لنا وخلَّفه لنا التاريخ البشريُّ باعتباره العامل المسئول عن إتاحة الارتباط بين الجنسين والحفاظ عليه. وهكذا فلا غنى عن الأنيما والأنيموس لبقاء النوع البشري، فهما يمثلان زوجًا رائعًا من الأضداد، هو الثنائيُّ المقترن the syzygy الذي «يعِد بالوحدة ويمكِّنها فعليًّا من التحقيق» (ستيفنز ٤٦).
هذا التعريف المبسط الذي أوردته من كتاب تطور الشخصية الذي صدر عام ١٩٣٤م لم يكن يتضمن ما أسميته المعنى الثاني، وهو معنى أقدم في الواقع من المعنى الأول الذي تفصح عنه الفقرة المقتطفة، وهو يظهر أول ما يظهر في كتاب أصدره عام ١٩٢١م وصدرت ترجمته الإنجليزية بعد ذلك بعامين وهو: «الأنماط السيكلوجية» (وسوف أعود إليه). ومزية هذا الكتاب أنه يتضمن ما يسميه المؤلف «تعريفات» وهو ملحق يقع في مائة صفحة (٥١٨–٦١٧)، ويتضمن إيضاحاتٍ لا غنى عنها في فهم ما أسميته المعنى الثاني للأنيما والأنيموس، فوجود المعنيين المشار إليهما هو الذي يبرر عدم الاكتفاء بترجمة الأنيما إلى النفس الأنثى والأنيموس إلى النفس الذكر، وإصراري على تعريب اللفظين؛ إذ يقول يونج: إن الأنيما هي الجانب الأنثوي من روح الإنسان في نفس الذكر، في سياق تعريفه للروح التي يشير إليها هنا بلفظة soul [التعريف رقم ٤٨] وهو عندما يقدم مادة Anima (الاسم اللاتيني أصلًا للروح) لتعريفها يحيل القارئ إلى مادة soul، ثم حين يأتي إلى soul يقول Anima بين قوسين، ويبدأ هذه المادة قائلًا:
وجدت من الأسباب ما يكفي، أثناء بحوثي في بناء اللاوعي، للتمييز النظري بين الروح soul والنفس psyche. فأنا أعني بالنفس جماع العمليات النفسية كلها، الواعية منها واللاواعية، وأما الروح soul فأنا أعني بها مركَّبًا من الوظائف المحددة، وأفضل وصفٍ لها يقول إنها الشخصية …
(يونج، الأنماط السيكلوجية، ص٥٨٨)
وبعد تمييز يونج على امتداد صفحاتٍ كثيرةٍ للفرق بين الشخصية الخارجية outer character والشخصية الباطنة inner character يقول:
وأما عن طبيعة الروح فتؤكد خبرتي صحة المبدأ العام الذي يقول إنها تحافظ بصفة عامة على وجود علاقة تكاملية [complementary] مع الشخصية الخارجية؛ فالخبرة تعلِّمنا أن الروح تتضمن جميع الصفات الإنسانية العامة التي يفتقر إليها الموقف الواعي، والنموذج المعتاد هو الطاغية الذي تعذبه الكوابيس في منامه، ويتوجس شرًّا من أوهامه، ومخاوف باطنة من أيامه، فظاهره قاسٍ لا يأبه لشيءٍ ولا يقربه شيءٌ، وباطنه يرتعد لأية ظلالٍ، ويخضع لكل خيالٍ، ويحس أسوأ مآلٍ بين الرجال. وهكذا فإن روحه تتصف بالصفات الإنسانية العامة من ضعف الحال والتأثر بما يقال، وهي التي يخلو منها موقفه الخارجي أو القناع خلاءً كاملًا، فحيث يتصف القناع بالفكر والذكاء، تتصف الروح بالمشاعر والأهواء. وقد اتضح أن الطابع التكاملي للروح ينطبق على الطابع الجنسي أيضًا؛ فهو حقيقة لم يعد يتطرق إليها الشكُّ. فالمرأة ذات الطابع الأنثوي المؤكد تتمتع بروح ذكورةٍ، والرجل ذو الطابع الرجولي المؤكد يتمتع بروح أنوثةٍ. ويقوم هذا التعارض على حقيقة تقول: إن الرجل، على سبيل المثال، لا يتَّسم بخصائص الذكورة الكاملة في جميع الأشياء، ولكن لديه أيضًا خصائص أنثويةٌ معينةٌ. وكلما ازدادت الرجولة في موقفه الخارجيِّ ازداد اختفاء صفاته النسائية، فإذا هي تظهر في الروح. وتشرح لنا هذه الحال كيف نجد أن أشدَّ الرجال رجولةً أقربهم إلى الاتِّصاف بألوان ضعفٍ تميزهم؛ فموقفهم تجاه اللاوعي يتجلى فيه ضعف المرأة وسهولة تأثرها. والعكس صحيح؛ فكثيرًا ما نجد أن أشد النساء اتِّصافًا بصفات المرأة التي تتميز عن غيرها بأمورٍ باطنةٍ معينةٍ، أبعد خلق الله عن البساطة وأكثرهم عنادًا وعزمًا وتصميمًا، وهي الصفات التي لا نجدها بمثل هذه الشدة إلا في الموقف الخارجي للرجال. وتوجد صفاتٌ رجوليةٌ يؤدي غيابها عن الموقف النسوي الخارجي إلى جعلها من صفات الروح. وهكذا فإذا تحدثنا عن الأنيما عند أحد الرجال، فلا بد لنا منطقيًّا أن نتحدث عن الأنيموس عند إحدى النساء؛ حتى نمنح لروح المرأة اسمها الحقَّ. وإذا كان المنطق والواقع الموضوعي عادةً ما يسودان في الموقف الخارجيِّ للرجل، أو قل إذا كانا يعتبران مثلًا أعلى على الأقل؛ فإن المقابل لهما عند المرأة هو الشعور؛ ولكن عكس هذه العلاقات قائمٌ داخل الروح، فعلى المستوى الباطن نجد أن الرجل هو الذي يشعر، وأن المرأة هي التي تتأمل وتفكر. ومن ثمَّ فإن الرجال أشدُّ ميلًا للقنوط الشامل، والمرأة تستطيع دائمًا أن تجد السلوى والأمل؛ ومن ثمَّ أيضًا يميل الرجال إلى الانتحار أكثر من النساء، ومهما تتعرض المرأة إلى الوقوع ضحيةً للظروف الاجتماعية، كالدعارة مثلًا؛ فإن الرجل يقع — على قدم المساواة — ضحية نوازع من اللاوعي في صورة إدمان الخمر وغير ذلك من الرذائل.
(يونج: الأنماط السيكلوجية، ص٥٩٤–٥٩٥)
ويعرض يونج في كتابه «الأنماط السيكلوجية» لما يصوره الشعراء من شخوص يمكن أن توصف بأنها انطوائيةٌ أو انبساطيةٌ، مركِّزًا على عمل شعريٍّ لمعاصره ومواطنه كارل شبيتلر Spitteler (١٨٤٥–١٩٢٤م) والحاصل على جائزة نوبل في الأدب (عام ١٩١٩م)؛ وهو قصيدة طويلة بعنوان يروميثيوس وإبيميثيوس Prometheus und Epimetheus نشرها عام ١٨٨١م تحت اسم مستعار هو كارل فيليكس تانديم Tandem وإن كان العمل الذي أتاح له الحصول على جائزة نوبل هو Olympischer Frühling؛ أي «الربيع الأوليمبي»، القصيدة الطويلة المكتوبة بالبحر السداسي التفعيلة، والتي يمزج فيها الموادَّ الخيالية بالواقعية، والمادة الدينية بالمادة الأسطورية. ويبدو أن الفصل الذي كتبه يونج عن شبيتلر بعنوان «مشكلات الأنماط السيكلوجية في الشعر» (١٣٠ صفحة) قد أغرى النقاد بنشدان ما يزيد على مطلب يونج «السيكلوجي» المحض، وسوف أعود إليه في الفصل السادس، وأما الآن فسوف أستعين أنا أيضًا بالشعر لتبيان الدلالتين اللتين ينسبهما يونج لكل من الأنيما والأنيموس. وسأبدأ بالدلالة الأولى وهي المبينة في الفقرة المقتبسة من كتابه: «تطور الشخصية»، والمترجمة هنا في ص١٤٦، وأقصد بها الصورة الفطرية للأنثى في اللاوعي عند الذكر، وما يقابلها من صورة فطرية للذكر في اللاوعي الأنثوي. ولا أجد خيرًا من شعر شلي Shelley الرومانسي الذي أحب العرب شعره وترجموه، وحاكوه. وأقدم هنا مقتطفاتٍ من قصيدته الطويلة «ألاستور» Alastor أو «روح العزلة» The Spirit of Solitude المترجمة في كتاب: «نصوص من الشعر القصصي الإنجليزي» (المركز القومي للترجمة ٢٠١٨م).
أبدأ بتقديم موتيفة من الموتيفات التي يرى يونج أنها نمطٌ فطريٌّ أصيلٌ، وهي موتيفة الموت؛ فالشاعر شلي يرسم للشاعر الذي يصوره من دون أن يمنحه اسمًا؛ (انظر تصدير القصيدة في الكتاب المشار إليه) هو صورةٌ مثاليةٌ؛ فهو شابٌّ قرأ علوم الأولين ونما إحساسه خير نموٍ، وهو فتًى شجاعٌ ورقيقٌ وفاتنٌ وكريمٌ. ولكننا لا نراه إلا بعد أن يعود إلى الأرض، والبداية إذن تبدأ من النهاية، من دون أن توحي بأي نوعٍ من أنواع الرثاء الحقِّ dirge أو threnody بل بما يعني تأمُّل الرحيل الذي نعدُّه رثاءً بالعربية elegy [وليس كذلك في اليونانية] إلى جانب الصور الأكثر شيوعًا للتأمل الآسي الذي يطلقون عليه Ubi Sunt؛ أي أين هم الآن؟ فالبداية التقليدية، عند الرومانسيين لهذا النوع، صيغة التنكير «كان يحيا بيننا في سالف الأيام …» وهي الصيغة الإنجليزية there was. فنحن نألف الفقرات التي تبدأ بهذا المفتاح [أي «كان»] عند وردزورث: There was a boy … أو There was a time. وعلى غرار ذلك عند شلي: There was a poet … (السطر ٥٠ من ألاستور) وعدم تسمية الشاعر إذن له دورٌ فكريٌّ يستند إلى النمط الفطريِّ للموت، وشلي يبدأ أولى قصائده الطويلة «الملكة ماب» (٢٣٠٠م سطر) بمحاكاة قصيدة سذي Southey، (وعنوانها: «ثعلبة») قائلًا:
المَوْتُ مَا أَرْوَعَهُ!
المَوْتُ والكَرَى أَخُوهُ
المَوْتُ إنَّه مَحَاقٌ مِثْلُ ذلِكَ القَمَرْ
شِفَاهُهُ زُرْقَتُهَا صَارِخَةْ
أَمَّا الكَرَى فَلَوْنُهُ الوردي كَالصَّبَاحْ
مُتَوَّجًا في عَرْشِهِ مِنْ فَوْقِ أَمْوَاجِ المُحِيطْ
وحُمْرَةُ الحَيَاءِ تَصْبُغُ الوُجُودْ
لكنَّما كلاهما ذو روعةٍ فائقةٍ!
(شلي، الملكة ماب١–٨)

وكنت بيَّنت في المقدمة استخدام كولريدج في «الملاح الهرم» لصورة المرأة المرتبطة بالموت، وكيف اعتمد الشاعر على الأحلام في الوصول إلى اللاوعي الجمعي من خلال اللاوعي الشخصي حتى يُكتب له الخلاص من الإثم الذي يبرز باعتباره جزءًا من نسق الأنماط الفطرية. والكتاب الذي ذكرته [نصوص من الشعر القصصي الرومانسي الإنجليزي] ويضمُّ قصيدة: «لاميا الأفعوانة» للشاعر كيتس، وقصيدة «حسناء جزيرة شالوت» للشاعر تنيسون وكلاهما ينتهي بالموت، وأما شلي في هذه القصيدة فيبدأ بالنهاية الطبيعية لتوكيد صورة الدائرة، وهي نسق جمعي من الأنماط الفطرية، ويرسم لنا صورة الشاعر المجهول الراحل حسبما تمثلها التقاليد الرومانسية، بحيث يجمع فيها الخصائص التي كان الرومانسيون يتصورون أنها تمثل الصورة المثالية الفطرية للرجل؛ أي أنيموس، باعتبارها الصورة الكامنة في اللاوعي عند النساء قائلًا: إن شعر ذلك الشاعر (ألحانه) كان يجلب الدمع للعيون:

لكَمْ بَكَى الأَغْرَابُ حِينَ غَرَّدَتْ أَلْحَانُهُ المَشْبُوبَةْ
وكَمْ ذَوَتْ تِلْكَ العَذَارَى عِنْدَمَا شَاهَدْنَهُ يَمُرُّ مَجْهُولًا بِهِنَّ
بَلْ ذُبْنَ حُبًّا لِلْعُيُونِ الشَّارِدَاتْ.
(شلي، ألاستور، ٦١–٦٣)

وبعد أن يصف شلي «تربية» الشاعر وتكوين كيانه النفسي، يبدأ في وصف رحلته لاستكشاف خبايا «الحقيقة» في الطبيعة والإنسان، مؤكِّدًا المثالية التي كان الرومانسيون يدعون إليها، مفترضين وجودها الحقيقي، كالمثل الأفلاطونية إن تحققت في الأرض، وهنا ينشئ شلي صورةً أسطوريةً «طبيعيةً» لتقريب ما يسميه يونج أنيموس من تصوُّر القراء؛ فالشاعر يصبح جزءًا من الطبيعة:

كمْ كانَ يُطِيلُ إقَامَتَهُ
في أَوْدِيَةٍ مُوحِشَةٍ مُتَّخِذًا مَسْكَنَهُ في البَرِّيَّةْ
حَتَّى اعْتَادَ حَمَامُ الرَّوْضَةِ وسَنَاجِبُهَا أَنْ تَأْتِيَ
لِيَدَيْهِ الآمِنَتَيْنِ لِتُشْرِكَهُ في بَعْضِ طَعَامٍ لا دَمَ فِيهِ
مُنْجَذِبَاتٍ لحَنَانِ النَّظَراتِ بِعَيْنَيْهِ
وانْظُرْ تِلْكَ الظَّبْيَةَ في البَرِّيَّةِ، مَنْ كانَتْ تَفْزَعُ إنْ سَمِعَتْ
صَوْتَ الخَشْخَشَةِ بأَوْرَاقِ الشَّجَرِ الجَافَّةِ في الأَشْوَاكْ
لكنْ هَا هي ذي تَتَخَلَّى عَنْ خُطُوَاتِ الذُّعْرِ وتَقِفُ لِتُبْصِرَ قَدًّا
أَرْشَقَ مِنْ قَدِّ الظَّبْيَةْ.
(شلي، ألاستور، ٩٨–١٠٦)

وأما الصورة المقابلة؛ أي أنيما، صورة المرأة المثالية أو الفطرية وحسب، فيصورُّها شلي أولًا بأسلوب قصصي لا يبعده عن الواقعية فيها إلا ألفاظ المشاعر الجيَّاشة والمبالغة الرومانسية المعهودة، ثم في حلمٍ من الأحلام التي تنبع عند يونج من اللاوعي حاملةً صورة المرأة المنشودة:

في هذي الفَتْرَةِ كَانَتْ عَذْرَاءُ مِنَ العَرَبِ تَجِيءُ لَهُ بِطَعَامِهْ
أوْ قُلْ وَجْبَتِهِ اليَوْمِيَّةِ مِنْ خَيْمَةِ وَالِدِهَا
كَانَتْ تَبْسُطُ بَعْضَ الحُصْرِ فِرَاشًا لَهْ
إذْ تَسْتَرِقُ الأَوْقَاتَ لِتَرْعَاهُ مَا بَيْنَ أَدَاءِ الوَاجِبِ والرَّاحَةْ.
كانَتْ تَعْشَقُهُ لكِنْ لَا تَجْرُؤُ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبَةِ أنْ تُعْرِبَ
عَنْ ذَاكَ الحُبِّ! كَانَتْ تَسْهَرُ أَثْنَاءَ رُقَادِ الشَّاعِرِ
فَتَبِيتُ اللَّيْلَ سُهَادًا لِتُحَدِّقَ في شَفَتَيْهِ
إذْ تَنْفَرِجَانِ خِلَالَ النَّوْمِ فَتَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِهَمَا
أَنْفَاسُ بَرَاءَةِ أَحْلَامِهْ! لكنْ حِينَ يَلُوحُ الصُّبْحُ الورديُّ
وَيَزْدَادُ شُحُوبُ القَمَرِ الشَّاحِبِ كَانَتْ تَرْجِعُ
ذَابِلَةً تَتَنَهَّدُ مِنْ فَرْطِ الوَلَهِ إلَى مَنْزِلِهَا البَارِدْ.
(شلي، ألاستور، ١٢٩–١٣٩)

ثم تجيء الصورة الكاملة للأنيما في الحلم:

… حَتَّى جَاءَ إلَى وَادِي كَشْمِيرَ بَأَقْصَى وَادٍ مَهْجُورٍ
… … … … … … …
وتَمَدَّدَ بِجِوَارِ نُهَيْرٍ بَرَّاقٍ لإِرَاحَةِ أَطْرَافِ الجَسَدِ المُرْهَقَةِ
ورَأَى في غَفْوَتِهِ حُلْمًا أو رُؤْيَا
مِنْ آمَالٍ لَمْ تَدْفَعْ بالدَّمِ مِنْ قَبْلُ إلَى خَدَّيْهِ
إذْ شَاهَدَ في رُؤْيَاهُ فَتَاةً تَضَعُ علَى الوَجْهِ لِثَامًا
تَجْلِسُ غَيْرَ بَعِيدٍ وتُحَادِثُهُ بِخَفِيضِ النَّبَرَاتِ الجَادَّةِ
وبِصَوْتٍ يُشْبِهُ صَوْتَ الرُّوحِ لَدَيْهِ
إذَا اسْتَمَعَ إلَيْهِ في هَدْأَةِ فِكْرِهْ، كانَتْ مُوسِيقَاهُ مَدِيدَةْ
مِثْلَ الأَصْوَاتِ المَنْسُوجَةِ مِنْ تَمْتَمَةِ جَدَاوِلَ ونَسَائِمَ
وبِذلِكَ أَلْقَتْ أَعْمَقَ حِسٍّ لِلشَّاعِرِ في شَبَكَتِهَا
كانَتْ ذَاتَ خُيُوطٍ مُتَعَدِّدَةِ الأَلْوَانِ وأَصْبَاغٍ مُتَغِّيرَةٍ.
كانَ حَدِيثُ العَذْرَاءِ عَنِ المَعْرِفَةِ وعَنْ مَعْنَى الحَقِّ لَنَا
وفَضِيلَةِ نَفْسِ الإنْسَانِ وأَسْمَى آمَالِ الحُرِّيَّةِ بِقَدَاسَتِهَا.
كانَتْ أَقَرَبَ أَفْكَارٍ لِفُؤَادِ الشَّاعِرِ ولِشِعْرِهْ
إذْ كَانَتْ تِلْكَ الغَادَةُ شَاعِرَةً.
(شلي، ألاستور، ١٤٥، ١٤٨–١٦١)
وأما سرُّ هذه الرؤيا فهو ما يسميه يونج تلاقي الأضداد enantiodromia أو التآلف harmony، وهما من الأنماط الفطرية؛ فإن شلي يضيف إلى هذا الحلم قدرة الفتاة على عزف الموسيقى، مثلما يصف كولريدج الفتاة الإثيوبية التي تعزف على المزهر في قصيدة: «قبلاي خان»، ولهذه القصيدة أهميةٌ خاصَّةٌ بسبب ما يسميه يونج «الثنائي المقترن» syzygy الذي أشرت إليه آنفًا ويعني اقتران الأنيما والأنيموس، وإلى جانب ذلك تعتبر القصيدة مثالًا لسيطرة اللاوعي على المخيِّلة الخلَّاقة عند الشاعر، فيقول إنه كان نائمًا، ورأى فيما يرى النائم تلك الصور التي انثالت إلى ذاكرته بالألفاظ التي يتذكرها بها، وكانت تبلغ كما يقول عددًا من السطور يتراوح ما بين مائتين وثلاثمائةٍ، بعد ثلاث ساعاتٍ من النوم العميق، وكان قد بدأ تسجيلها فعلًا حتى وصل إلى السطر ٥٤، حين استدعاه شخصٌ لأمرٍ ما في المنطقة التي يقيم فيها، وحين عاد وحاول استئناف «تسجيل» ما سمعه في منامه، خانته الذاكرة ولم يجد فيها شيئًا.
والقصيدة ذات شهرةٍ تجمع بين نقاد الأدب وأساتذة علم النفس، ويكفي أن اسم المكان الذي يقول كولريدج إنه موقع ما يرويه، وهو زانادو Xanadu قد دخل اللغة الإنجليزية للدلالة على أي مكانٍ مترفٍ ومزوَّدٍ بوسائل الراحة والمتعة، فأطلق الاسم على بعض الأفلام والأغاني، والاسم صورةٌ من اسم مدينة صينية هي شانجدو Shangdu التي كانت توصف بأنها واحةٌ في منغوليا، وكانت يومًا ما عاصمةً للصين قبل الانتقال إلى مدينة أخرى في موقع بيجينغ (بكين) الحالية. وسوف أقتطف الجزء الأخير من القصيدة؛ أي ابتداءً من السطر ٣١، حيث يتغير البحر ونظام القافية في ستة أسطر ثم تبدأ السطور الثمانية عشر التالية غير المقفَّاة، وأما قصر الملاذ الذي أمر ببنائه قبلاي خان فيسميه كولريدج «قبة الملاذ»:
لِقُبَّةِ المَلَاذِّ ظِلٌّ ذو رُوَاءْ
يَطْفُو على الأَمْوَاجِ في الهَوَاءْ
حَيْثُ الْتَقَتْ وتآلَفَتْ أَصْدَاءْ
مِمَّا تُرَدِّدُهُ الكُهوفُ لِنَبْعِ ذاكَ المَاءْ
بالحَقِّ كانْتَ تلكَ إحدى المعجزاتِ الرَّائِعَةْ ٣٥
فالشَّمْسُ فَوْقَ قُبَّةِ المَلَاذِّ سَاطِعَةْ
وبِهَا كُهُوفٌ مِنْ ثُلُوجٍ نَاصِعَةْ!
حَسْنَاءُ وفي يَدِهَا مِزْهَرْ
لَاحَتْ لي في حُلْمِي يَوْمًا مَا
كَانَتْ بِنْتًا حَبَشِيَّةْ
عَزَفَتْ في مِزْهَرِهَا أَنْغَامَا ٤٠
عَنْ جَبَلِ أَبُورَا
هَلْ أَقْدِرُ أنْ أبْعَثَ في نَفْسِي
أُغْنِيَّتَهَا والسِّيمْفُونِيَّةْ
كيْ تغمرَنِي أَعْمَاق الأَفْرَاحْ
فَإِذا بي بالمُوسِيقى العَالِيةِ المَمْدُودَةِ صَدَّاحْ ٤٥
وإِذَا بي أبْنِي وَسْطَ الأجْوَاءِ القُبَّةَ
والشَّمْسُ عَلَيْهَا تَسْطَعْ
وبِدَاخِلِهَا كُلُّ كُهوفٍ ثَلْجِيَّةْ
وبِحَيْثَ يَرَاهَا مَنْ يَسْمَعْ
ويَصِيحُ الحَشْدُ أنِ احْذَرْ! احْذَرْ!
وَمْضَ العَيْنَيْن البَارِقَتَيْنِ
واحْذَرْ خُصْلَاتِ الشَّعْرِ السَّبَّاحَةْ!
فَقِفُوا بِثَلَاثٍ مِنْ حَلْقَاتٍ حَوْلَهْ
ولْيُخْفِضْ كلٌّ جَفْنَيْهِ بِخُشُوعٍ لله
إذْ إنَّ طَعَامَ الشَّاعِرِ كانَ مِنَ العَسَلِ
وشَرَابُ الشَّاعِرِ مِنْ لَبَنِ الفِرْدَوْسِ.
(ديوان كولريدج، طبعة إفريمان، ١٩٦٦م)

فإذا عدنا لقضيتنا الرئيسية وهي المعنى الثاني للأنيما والأنيموس باعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من روح الرجل وروح المرأة على الترتيب، وجدنا أن يونج يعود إلى هذه القضية في كتابٍ متأخرٍ هو: «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي»؛ أولًا في سياق حديثه عن الأنماط الفطرية بصفة عامة قبل أن يضرب لها مثلًا من الأنيما في فقرتين متواليتين (١١٨–١١٩) على النحو الآتي:

من اللاوعي تنبثق مؤثراتٌ حاسمةٌ تكفل، بصورةٍ مستقلةٍ عن التقاليد، وجود خبراتٍ تتسم بالتماثل بل والتطابق في داخل كلِّ فردٍ، وكذلك بالطرائق التي تتمثل بها خياليًّا. ومن البراهين الرئيسية على هذا وجود توازٍ يكاد يكون عالميًّا بين هذه الموتيفات الأسطورية، وهي التي يدفعني طابعها الخاص، باعتبارها صورًا أزليةً، إلى أن أطلق عليها اسم «الأنماط الفطرية».

ومن بين هذه الأنماط الفطرية … أذكر الأنيما. والمقصود بهذا التعبير اللاتيني أن يعني شيئًا ينبغي ألا نخلط بينه وبين أية عقيدةٍ مسيحيةٍ جامدةٍ عن الروح، أو بينه وبين أية تصورات فلسفية سابقة لها. وإذا أراد المرء تكوين ما يعتبر تصوُّرًا مجسِّدًا لهذا المصطلح فعليه أن يرجع إلى أحد المؤلفين الكلاسيكيين مثل ماكروبيوس Macrobius [ت: ٤٢٠] أو إلى الفلسفة الصينية الكلاسيكية، حيث تبرز صورة الأنيما (يو، أو كيوي) u o/Kuei باعتبارها الجزء الأنثوي الأصيل من الروح. وكلُّ موازاةٍ من هذا النوع دائمًا ما تخاطر بتقديم مذهب التجسيد الميتافيزيقي الذي أبذل قصارى جهدي لتجنبه، وإن كانت كلُّ محاولةٍ للوصف التصويري لا بدَّ أن تخضع له في وقتٍ ما؛ إذ إننا لا نتعامل هنا مع مفهوم تجريدي بل مع مفهوم عمليٍّ تجريبيٍّ، والشكل الذي يظهر به لا بدَّ أن يرتبط به بالضرورة، بحيث يستحيل أن يوصف على الإطلاق إلا في الصور المعينة التي يتجلى بها.
(يونج: الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي، المجلد ٩، الفقرتان ١١٨–١١٩، ص٥٨–٥٩)

ولكن يونج لا يكتفي بالإشارة المذكورة، بل يعود إلى الموضوع في فصلٍ جعل عنوانه «الوعي واللاوعي والشخصية» حيث يناقش إمكان وجود شخصيةٍ للفرد كامنةٍ خلف الشخصية الظاهرة، وهو ما سوف أعود إليه، وأما الذي يهمني هنا فهو صراحة تعبيره عن «المعنى الثاني» للأنيما والأنيموس، وفق الاسم الذي أطلقته عليه؛ إذ يقول:

أستهلُّ حديثي بمقولة موجزة: توجد في اللاوعي، لدى كل رجلٍ، شخصية أنثى خفية، وفي اللاوعي عند كلِّ امرأةٍ شخصية ذكرٍ خفيةٍ.

فمن الحقائق المشهورة أن الجنس تحدده غلبة الجينات المؤنثة أو المذكرة، حسبما تكون عليه الحال. ولكن الأقلية من الجينات المنتمية للجنس الآخر لا تختفي ببساطة وحسب. وهكذا فللرجل جانبٌ أنثويٌّ — أي كيانٌ أنثويٌّ قائمٌ في اللاوعي — وهذه حقيقة لا يدركها الرجال بصفة عامة. ولي أن أتصوَّر أن الناس تعرف أنني أطلقت على هذا الكيان لفظة «أنيما» وعلى نظيره في المرأة لفظة «أنيموس». وتحاشيًا لتكرار الحديث عن هذا لا بدَّ أن أحيل القارئ إلى ما سبق لي نشره [كتاب: «الأنماط السيكلوجية»، التعريف ٤٨؛ و«العلاقة بين الأنا واللا وعي» الفقرة ٢٩٦ وما بعدها، وكذلك كتاب: «علم النفس والخيمياء»، الجزء الثاني، وكذلك الفقرتان ١١٨ و١١٩ من هذا الكتاب]. وكثيرًا ما يظهر هذا الكيان في الأحلام حيث يمكن للمرء أن يلاحظ وجود جميع الصفات التي ذكرتها في مطبوعاتي السابقة.

(يونج: «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي»، الفقرتان ٥١١–٥١٢، ص٢٨٤)

وتعلِّق فريدا فوردام في كتابها: «مقدمة لعلم النفس عند يونج» قائلةً إن اللاوعي عند الرجل يتضمن العنصر الأنثوي المستكمل للنفس، وإن اللاوعي عند المرأة يتضمن العنصر الذكوري اللازم للنفس، باعتبار أن الكفَّتين تمثلان الأنيما والأنيموس مضيفةً أن: «أشد الرجال إظهارًا لسمات الذكورة» كثيرًا ما يتسم بالحنان الدافق والرِّقَّة واللطف أو إطلاق العنان للمشاعر المشبوبة، وكثيرًا ما يتسم الشجعان بالخوف ممَّا لا يدعو للخوف، أو بالقدرة على الحدس والتعاطف مع الآخرين، وكلُّها من الصفات التي تُنسب للمرأة، والعكس صحيح فيما يتعلق بالأنيموس؛ إذ كثيرًا ما نجد هذا العنصر في أعمق أعماق المرأة، وكثيرًا ما يحفزها إلى الغلظة والشدة والمنافسة والصراع وبرودة الإحساس؛ وهي من الصفات التي تشيع في عالم الرجال على مرِّ التاريخ، ونشهدها في السياسة وفي الحرب والقتال والاقتتال (١٩٨٢م [١٩٥٣م] ص٥٠).

وإذا كان من اليسير الاستشهاد بشعر يمثل المعنى الأول للأنيما والأنيموس، فليس من اليسير الاستشهاد بأعمالٍ أدبيةٍ تصوِّر وجود الأنيما في داخل ذات الذكر أو الأنيموس عند المرأة، ومع ذلك فقبل أن أقدم نبذًا من بعض هذه الأعمال — أريد أن أبيِّن أن الشاعر الغنائي (الذي يتحدث بلسانه؛ أي ينطق بضمير المتكلم) يمكنه «خداع» القارئ أو السامع إذا اتخذ لنفسه قناعًا؛ أي إذا ابتدع شخصيةً يتكلم بلسانها، وهو ما يسميه ت. س. إليوت «الصوت الثالث» للشعر، على نحو ما نجده فيما يسمَّى «المونولوج الدرامي» عند روبرت براوننج مثلًا، أو عندما ينسج الشاعر قصيدة يمزج فيها السرد بضمير الغائب مع أقوال الشخصية الرئيسية (أو أكثر من شخصية) فإذا كانت الشخصيات تجمع بين الذكر والأنثى فمن المحتمل أن يكشف الشاعر عما يدور في اللاوعي عند شخصية واحدة أو أكثر؛ فإذا الأنيما تتحدث من داخل أقوال أحد الرجال، وإذا الأنيموس يتحدث من داخل إحدى النساء. وقد اشتهر عن كولريدج وصفه لصديقه وردزورث بأنه يتميز بنفسية رجل كاملة he is all man وكان يعني بذلك أن صديقه ليس لديه عنصر أنوثةٍ في شعره (أو في شخصيته) فإنه حتى حين يتكلم بلسان امرأة أو طفل لا يبدي أية لمحةٍ تدلُّ على أنه يسمح للأنيما في اللاوعي بأن تظهر ذاتها. والمعروف عن وردزورث أنه لم يكتب شعرًا «غراميًّا» من باب الغزل أو التشبيب، ولن تجد سوى قصيدةٍ واحدةٍ أهداها إلى زوجته ماري هتشنسون، وجعل عنوانها (إلى م. ﻫ.) وقصيدة أخرى يمتدحها فيها (انظر: «مختارات من الشعر الرومانسي للشاعر وردزورث للمؤلف»)، ويفسر بعض النقاد ما اشتهر به من غلبة العقلانية أو التعقل level-headedness في شعره، على ضوء حرمانه من حنان الأبوين في طفولته (إذ مات أبواه وهو صغير السن) أو بسبب النساء اللاتي كن يعشن معه، وأهمهن أخته دوروثي، ثم زوجته ماري وأختها سارة! ويقول كولريدج إنك لا تستطيع فيما كتبه صديقه من شعر أن تشعر بدفء «المرأة» (يقصد دفء «الحب» للمرأة). وأما سيرته الذاتية الشعرية (المقدمة) فهو يهديها إلى كولريدج، وكانت زوجته تشير إليها بهذا العنوان [القصيدة المهداة إلى كولريدج] حتى توفِّي فجعلت عنوانها: «المقدمة». ونشرتها عام وفاته في ١٨٥٠م. وأما إذا كنت تريد أن تسمع وترى كيف تخرج الأنيما من أعماق اللاوعي عند الرجل لتصطدم بالأنيموس الخارج من لا وعي المرأة فعليك أن تلجأ إلى الدراما، ولتقصد شيكسبير؛ فإن جانبًا من عظمة هذا الشاعر يتمثل في قدرته على تصوير الأنيما والأنيموس خصوصًا في أحاديث الشخصيات المنفردة على المسرح (المونولوج/المناجاة/) وأحيانًا في الحوار، وهذه قطوفٌ من مسرحية «مكبث» المشهورة:
ليدي مكبث [وحدها على المسرح] (وبعد حوارٍ قصيرٍ تعرف منه أن الملك دنكان سَيحِّلُ ضيفًا على «مكبث» في داره تقول): :

(وبعد حوارٍ قصيرٍ تعرف منه أن الملك دنكان سَيحِّلُ ضيفًا على «مكبث» في داره تقول):

قَدْ بُحَّ صَوْتُ ذلِكَ الغُرَابِ نَفْسِهِ الذي نَعَقْ
فقالَ دَنْكَان قَادِمٌ لحَتْفِهِ في ظِلِّ سُورِ قلعتي.
ويَا شَيَاطِينُ تَعَاليْ! يا رَاعِيَاتِ خَاطِرَاتِ التَّهْلُكَةْ
فلتنزعي أنوثتي مِنْ جسدي! وأَفْعِمِيني قَسْوَةً بَالِغَةً
مِنْ شَعْرِ ناصيتي … لِأَخْمَصِ القَدَمْ!
وأَغلِظِي قِوَامَ الدَّمْ
وأَغْلِقِي المَنَافِذَ التى تَقُودُ لِلنَّدَمْ
حَتَّى أَصُدَّ أيَّ نَازِعٍ لِفِطْرَةِ التراحُمْ
كَيْلَا يُزَلْزِلَ الذي اعْتَزَمْتُهُ مِنْ غَايَةٍ رَهِيبَةْ!
يا أيُّها الجَانُ الذي يَرْعَى مرامي الاغْتِيَال! أَقْدِمْ إليَّ!
يا ذَا كِيَانٍ لا تَرَاهُ العَيْنُ
مِنْ حَيْثُ كُنْتَ تَحِيكُ بَعْضَ كَوَارِثِ الفِطْرَةْ
أَقْبِلْ إِليَّ وفي مَكَانِ الدَّرِّ مِنْ ثديَيَّ صُبَّ مَرَارَةَ الصَّفْرَاءْ …
(١ / ٥ / ٣٦–٥٠)

(في المشهد السابع — حوار بين «مكبث وليدي مكبث» حول الجريمة المعتزمة.)

ليدي مكبث : أَتُرِيدُ الفَوْزَ بِزِينَةِ هذِي الدُّنْيَاوتَعِيشُ جَبَانًا في نَظَرِكَ أَيضًا، إذْ تَجْعَلُ نَقْصَ الجُرْأَةِيَمْنَعُ مِنْ تَحْقِيقِ مَرَامِكْ؟ …
مكبث : … إِنِّي أَجْرُؤُ أنْ أَفْعَلَ ما يَجْدُرُ حَقًّابالرَّجُلِ بأنْ يَفْعَلَهُ …
ليدي مكبث : … واتَتْكَ الجُرْأَةُ يَوْمًا مافَغَدَوْتَ بِعَزْمِكَ رَجُلًا … وزِيَادَةُ جُرْأَتِكَ بِفِعْلِكْتَرْفَعُ قَدْرَ رُجُولَتِكَ بحقٍّ …إِنِّي أَرْضَعْتُ الأَطْفَالَ وأَعْرِفُ رِقَّةَ حُبِّ رَضِيعٍأُرْضِعُهُ لَبَنِيلكِنِّي لَا أَتَردَّدُ في أَنْ أَنْزَعَ حَلَمَةَ ثَدْيِي مِنْ فَمِ ذاكَ الطِّفْلِولَمْ تَنْبُتْ في اللِّثَةِ الأَسْنَانُ وأَحْطِمَ رَأْسَهْوالبَسْمَةُ ما زَالَتْ في وَجْهِهْلوْ كُنْتُ عَزَمْتُ وأَقْسَمْتُ على أنْ أَفْعَلَ ذلِكْكَعَزِيمَتِكَ السَّالِفَةِ ومَا أَقْسَمْتَ عَلَيْهِ… … … … … … …
مكبث :
لا تَحْملِي غَيْرَ الذُّكُورْ!
فَلَنْ يَجِيءَ طَبْعُكِ الجَسُورُ
لِلْحَيَاةِ إلَّا بالذُّكُورْ
(١ / ٧ / ٤١ – ٤٣، ٤٥–٤٦، ٤٩–٥٠، ٥٤–٥٩، ٧٢–٧٣)

لا يكاد المشهد يحتاج إلى تعليق يوضح الصدام الدرامي بين المرأة والأنيموس في أعماقها؛ إذ يخرجه الشاعر بألفاظٍ صريحةٍ وصورٍ شعريةٍ حيَّةٍ إلى الوعي؛ ومن ثمَّ إلى أسماع الجمهور وأذهان القراء، فليدي مكبث تفسر جريمة القتل المعتزمة بأنها جرأة يتمتع بها الرجال، والنموذج الذي يبدو مقنعًا في نظرها هو الجندي الذي يرتكب القتل في الحرب بلا إحساس، أو فلنقل بدافع عقلاني يحول دون إحساسه بأنه يزهق روحًا بشرية؛ أي إنها لا ترى ما يراه شلي ويعبر عنه بلسان الأنثى بطلة قصيدته الملكة ماب عن الحرب:

الحَرْبُ لُعْبَةُ السِّيَاسِيِّ القَدِيرِ مُتْعَةٌ لِلْكَاهِنِ المَغْمُورْ
أُمْلُوحَةُ المُدَافِعِ الضَّليعِ صَنْعَةٌ لِقَاتِلٍ مُحَارِبٍ أَجِيرْ

فهذه رؤيا تأمُّلٍ أنثوية في نظرها، والأنيموس في داخلها لا يقبلها؛ فهي تقيس الإنسان بشدة البأس والقدرة على البطش، فها هو زوجها قد أبلى أحسن البلاء في الحرب؛ إذ وصفه أحد القواد قائلًا:

كانَ بِيَدِهِ سَيْفٌ مِنْ فُولَاذٍ يَصَّاعَدُ مِنْهُ بُخَارُ دَمٍ حَارٍّ
مِنْ طُولِ قِرَاعِ كَتَائِبِ تِلْكَ الأَعْدَاءْ!
… وتَوَقَّفَ لكنْ ما صَافَحَ خَصْمَهْ
بَلْ مَا وَدَّعَهُ حتى فَلَقَ الجَسَدَ بِضَرْبَتِهِ
مِنْ عِنْدِ السُّرَّةِ حتى الشِّدْقَيْن …
(مكبث ١ / ٢ / ١٧–١٨، ٢٠–٢٢)
ومقابل هذه الصورة الذكورية، وهي التي توصف بأنها استعارة «غاطسة» sunken metaphor بمعنى أنها تجري تحت سطح الحوار، ونشعر بوجودها من تكرار كلماتٍ معينةٍ؛ مثل الجرأة والرجولة وارتباطهما في فكر ليدي ماكبث من خلال عباراتٍ تومئ إلى ذلك بصورة غير مباشرة، بمعنى أنها تبني إطارًا نفسيًّا موحيًا بهذا الارتباط؛ إذ نراه يتصاعد من «نفثات الجَنَان» و«روح الشجاعة» إلى «خاطرات التهلكة» و«القسوة البالغة» و«الغاية الرهيبة» حتى نصل إلى التصريح بارتباط الرجولة بالجرأة في النصف الثاني من المشهد الحواري، وتكرار كلمة «العزم» و«الاعتزام» (١ / ٥ / ٤٦، ١ / ٧ / ٤٦، ١ / ٧ / ٥٩ و٦٠) وذلك مقابل الأنيما عند «مكبث»، التي تشير إليها ليدي مكبث في البداية؛ فهي مطلعة على طبيعة ذاته، والذات تضمُّ الوعي واللاوعي جميعًا، ونظرة المرأة الثاقبة لديها تجعلها تخشى الأنيما؛ أي نفس الأنثى في اللاوعي عند زوجها، وتعبر هي عنها بصورة اللَّبن الذي يرضعه الطفل (الدَّرِّ) ويرمز للحنان والتراحم، ولا تلبث هذه الصورة الابتدائية أن تتطور وتكبر حتى تدعو ليدي مكبث بعض الشياطين إلى نزع أنوثتها حتى تصدَّ أيَّ نازع لفطرة التراحم، مستخدمة صورة اللبن من جديد، داعية تلك الشياطين إلى استبدال الصفراء باللبن في صدرها (السطر ٥٠)، بعد أن استخدمت التعارضات الثنائية بين الشجاعة و«نقص الجرأة» (فهي لا تقول هنا الجبن) ثم تعود ليدي مكبث لإبراز قدرة الأنيموس في داخلها على تحطيم صورة الأنثى المرضع بحنانها الدافق، بحيث تتماهى مع صور الذكور الغلاظ الشداد حتى يدهش زوجها ويصرِّح لها بأن طبعها الجسور من صفات الرجال، وحتى عند انتهاء المشهد لا يشعر القارئ أو السامع بأن إحدى الكفتين قد رجحت، بمعنى أن المشهد يزداد توترًا في النهاية حتى يستمر الحدث في الفصل الثاني بالقوة نفسها، ما دام الشاعر قد أكدَّ لنا وجود صراعٍ داخليٍّ عند كلٍّ من «مكبث» وزوجه على الرغم مما يصرحان به.
وهذا المشهد القصير يتضمن مادة يمكن استخدامها لإيضاح الكثير من مبادئ علم النفس التحليلي عند يونج، إلى جانب الأنيما والأنيموس، مثل نمط الشخصية حيث يغلب الطبع الانبساطي على المرأة التي يحركها الأنيموس؛ فهي تدبر وتتعامل مع معطيات الواقع الظاهر طامحةً إلى أن تلبس التاج الملكي. وتعبيرها في المناجاة خالٍ من الإحساس بالدلالات الأخلاقية للجريمة المعتزمة، ويغلب الطابع الانطوائي على «مكبث» الذي يسرف في التأمل والتخيل والحياة الباطنة التي تقلقلت بما يعتزم فعله؛ فهو يفكر ويتردد ويخاف، وليدي مكبث تدرك أنها تواجه مركَّب الظلِّ the shadow complex؛ أي إنها تعرفه وتقبله وتخاطب زوجها في خيالها قائلة: «فإنك تسعى إلى العلياء … ولكن يعيبك عندي افتقار إلى ما يصاحب ذاك العلا من خبائث! تريد المعالي وتبغي نقاء الضمير معًا؟» (١ / ٥ / ١٧–١٩) وهي تنصح زوجها قائلة: «اظهر ببراءة زهر البستان/لكن كن خلف الزهرة ثعبان!» (١ / ٥ / ٦٣–٦٤). أي إنها تدرك وجود الظلِّ وتقبله، وأما «مكبث» فيبدي اقتناعه بما أوصته به من النفاق، مردِّدًا في آخر المشهد أنه سوف يستخدم القناع. قائلًا: «هيا، ولنخدع هذا الزمن بأبهى مظهر/فالوجه المشرق يخفي قلب خئونٍ وخبيث المخبر!» (١ / ٧ / ٨٠–٨١). وربما لاحظ القارئ فيما اخترته من سطور المشهد أن المسافة بين الوعي واللاوعي ليست شاسعة؛ إذ تنتقل ليدي مكبث من إطلاق العنان للظلِّ الذي كان كامنًا في اللاوعي إلى التدبير العقلاني بكل تفاصيله العملية، وتسخِّر زوجها برباطة جأشٍ نادرةٍ لتنفيذ الخطة. ويورد يونج في الفصل الثالث المشار إليه مقارنةً لمواجهة الظلِّ بمواجهة الأنيما والأنيموس قائلًا:

من الأيسر، كما سبق أن قلت، أن يفهم المرء معنى الظلِّ من أن يدرك طبيعة الأنيما أو الأنيموس، أما إزاء الظلِّ فنحن نتمتع بمزية أتاحها لنا التعليم؛ وهي الاستعداد بصورةٍ ما للإقرار بوجوده؛ فدائمًا ما يسعى التعليم جاهدًا لإقناع الناس بأن كيانهم لا يتكوَّن مائة في المائة من الذهب الإبريز. وهكذا يفهم كل فرد على الفور ما يقصد بتعبير «الظل» أو «الشخصية الأقل مكانة» وهلم جرًّا. فإذا نسي المرء ذلك أنعشت ذاكرته بيسرٍ موعظة يوم الأحد، أو زوجته، أو جامع الضرائب. وأما فيما يتعلق بالأنيما والأنيموس فليست الأمور بهذه البساطة؛ إذ نرى أوَّلًا أنه لا يوجد تعليمٌ خلقيٌّ في هذا الصدد، ونرى ثانيًا أن معظم الناس راضون بأنهم على حق ويفضلون تبادل الذمِّ والقدح (إن لم يكن ما هو أسوأ!) على إدراك ما يسقطونه من ذواتهم على غيرهم. فالواقع أننا لا نجد غرابةً على الإطلاق في أمزجة الرجال غير العقلانية وآراء النساء غير العقلانية. ومن المحتمل أن هذه الحال قائمة على الغريزة، ولا بدَّ أن تظلَّ كذلك حتى تضمن أن تستمر لعبة الحب والكراهية بين عناصر الطبيعة التي تصوَّرها إمبوديكليس قائمةً إلى أبد الآبدين. الطبيعة محافظة ولا تسمح بسهولة بتغيير مساراتها؛ فهي تدافع بكل صرامة عن المحميتين الطبيعتين اللتين تنطلق فيهما الأنيما والأنيموس وتحرِّم الدخول إليهما. ولذلك فإن الوعي بإسقاطات الأنيما والأنيموس أشقُّ كثيرًا من إدراك جانب الظلِّ في المرء. فعلى المرء بطبيعة الحال أن يتغلب على بعض العقبات الأخلاقية؛ مثل الخيلاء والطموح والغرور والنفور وما إلى ذلك بسبيلٍ، ولكننا نرى، فيما يتعلق بالإسقاطات، إضافة شتَّى أنواع الصعوبات الفكرية المحضة، وذلك بغضِّ النظر تمامًا عن مضمون الإسقاطات الذي لا يعرف المرء كيف يتعامل معه. وفوق كلِّ ذلك ينشأ خاطرٌ عميقٌ يقول: ألا يعتبر عملنا هذا تدخلًا إلى حدٍّ أكبر مما ينبغي في مسار الطبيعة ما دمنا نأتي إلى الوعي بأشياء لا تريد الطبيعة إيقاظها من سباتها؟ …

إن استقلال اللاوعي الجمعي يعبر عن نفسه في صورتَي الأنيما والأنيموس؛ فهما يجسِّدان بعض محتوياته التي إذا أخذت من الإسقاط أمكن إدماجها في الوعي. وفي حدود هذا يمثل الأنيما والأنيموس عاملَين يتوليان تمرير محتويات اللاوعي الجمعيِّ بعد تصفيتها إلى الذهن الواعي. ولكنهما لا يسلكان هذا السبيل، فيما يبدو، إلا إذا لم تكن الفجوة بين الوعي واللاوعي هائلة شاسعة. فإذا نشأ أيُّ توترٍ قام هذان العاملان، اللذان كانا مسالمين، بمواجهة الذهن الواعي وقد اتَّخذ صورةً مجسَّدةً وقاما بالعمل باعتبارهما «جهازين» انفصلا عن الشخصية، أو كأنهما قسمان من الروح … إنهما نمطان فطريان، وبهذه الصفة يعتبران من أحجار الأساس للبناء النفسي …

(يونج، الثنائي المقترن: الأنيما والأنيموس، من أيون Aion: ظاهريات الذات، المجلد ٩ / ٢ الفقرة ٤٢)

(١٠) الثَّبات المتَّزن والأحلام

يقول ستيفنز: لما كانت النفس جهازًا ديناميًّا يعمل وفق القوانين الطبيعية، كان على علم النفس أن يضع فرضياتٍ عمليةً تفسر أسلوب عمل هذا الجهاز، وكدأب علماء النفس الأوائل قام يونج باستعارة بعض الفرضيات من الفيزياء، وانتهى إلى رأي خلافي يقول إن الطاقة النفسية تخضع للقانونين الأول والثاني للديناميكا الحرارية (ثرموديناميكا – المجمع). والمعروف أن القانون الأول يقول: إن توليد الطاقة يحتاج إلى قوتين متضادتين، وأن القانون الثاني يقول: إن عزل الجهاز يؤدي إلى ما يسمَّى الاعتلاج؛ أي التلاشي التدريجي للطاقة فيه. ولكن هذا التوجُّه إلى الفيزياء لم يرُق ليونج، بل وجد مبادئ أقرب إلى منهجه في البيولوجيا، وأهمها مبدأ الثبات المتزن homeostasis أو التوازن الذي يحافظ على الثبات، ونشير إليه عمومًا باسم التكيُّف الذاتي self-regulation الذي يعني وجود وسائل يحافظ بها الجهاز الحي على اتزانه equilibrium حتى يكتب للكائن الحي البقاء. فالبيئات الطبيعية في كوكبنا تتغير باستمرار، ولولا هذه الوسائل ما بقي كائنٌ في قيد الحياة؛ فهذه الوسائل هي التي تكفل التكيف الذاتيَّ مع البيئة؛ ومن ثمَّ «حالة الثبات» steady state. ويضرب ستيفنز أمثلة على أهمية هذه الوسائل في عالم الطبيعة وفي حياتنا الاجتماعية وعمل أجهزة البدن، ثم يقول:

وكان يونج أيضًا مقتنعًا أن النفس جهازٌ مثل البدن يعتمد على التكيُّف الذاتيِّ؛ فهو يحاول جاهدًا على الدوام الحفاظ على التوازن بين الميول المتضادة، إلى جانب السعي في الوقت نفسه سعيًا حثيثًا لتحقيق التفرُّد، بإيجاد استقطاب ديناميٍّ بين الأنا والذات، وبين القناع والظل، وبين الوعي الذكوري والأنيما، وبين الوعي الأنثوي والأنيموس، وبين المواقف الانطوائية والمواقف الانبساطية، وبين وظائف التفكير والشعور، وبين الإحساس والحدس، وبين قوى الشر وقوى الخير.

ومثلما يتمتع الجسد بآليات التحكم اللازمة للحفاظ على التوازن بين وظائفه الحيوية، تتمتع النفس بآليات التحكم التي تتمثل في النشاط التعويضي للأحلام. (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٤٩)

وهكذا فإن يونج يشير، وفق ما يقوله ستيفنز، إلى الأحلام باعتبارها مصدرًا «للتعويض»؛ أي إن اللاوعي يستخدم الأحلام لتقديم الكفَّة المقابلة لكفَّة الوعي، أو إن اللاوعي يقدم ما ينبغي للمرء أن يدركه إن أراد المصالحة بين القوى المتضادة في نفسه والمعادلة لنظائرها في العالم الخارجي. ويبدو لي من قراءة كتابات يونج المنوعة حول المعارضات الثنائية (التي ذكرت آنفًا أنها ترهص بمبدأ مهم من مبادئ البنيوية) أن يونج كان يؤمن إيمانًا حقيقيًّا بصورة الميزان المجازية، وبالكفتين اللتين أشرت إليهما في هذه الفقرة؛ فهو يقول في الكتاب الذي اقتبست منه بعض الفقرات عاليه (مقالتان عن علم النفس التحليلي) ما يلي:

النفس جهاز قائم على التكيف الذاتي حتى يحافظ على اتزانه مثلما يفعل الجسد. فكل نشاط يتجاوز حدوده يستدعي فورًا وحتمًا ما يعادله من تعويضات، ولولاها ما أصبح لدينا التمثيل الغذائي السوي أو النفس السوية. وبهذا المعنى يمكننا أن نجعل نظرية التعويض قانونًا أساسيًّا للسلوك النفسي. فإن اتِّصاف أحد الجانبين بقلة ما فيه قلة شديدة يؤدي إلى اتِّصاف الجانب الآخر بكثرة ما فيه كثرة شديدة. وعلى غرار ذلك تتسم العلاقة بين الوعي واللاوعي بالتعويض. وهذا من القواعد التي تتمتع بأفضل برهانٍ على صحتها في تفسير الأحلام. وعندما نشرع في تفسير حلمٍ ما فمن المفيد أن نطرح السؤال الآتي في كل حالة: ما الموقف الواعي الذي يعتبر الحلم تعويضًا عنه؟ (يونج: المجلد ٧ الفقرة ٣٣٠)

ويصادفنا في هذا الصدد مصطلحٌ لا يدلُّ أسلوب صوغه على معناه المقصود، ألا وهو «الوظيفة التعالية» the transcendent function التي يقوم بها اللاوعي فيما أسميته المصالحة آنفًا، وهي التي تعني وجود رموز في الأحلام تتمتع بالقدرة على توحيد الميول المتضاربة (أي المتضادة) في النفس، وهي التي يبدو التوفيق بينها محالًا على مستوى الوعي، ومعنى «التعالي» هنا هو تجاوز هذا التضارب أو التضادِّ؛ إذ يرى يونج أننا لن نستطيع مهما حاولنا أن نحلَّ أعقد مشاكل حياتنا، ولكننا إذا تحلينا بالصبر استطعنا أن نتجاوزها، وهو المعنى المقصود بالتعالي عليها، وأما أسلوب هذا التعالي أو التجاوز الذي يراه يونج — فهو إدراكٌ أن كلَّ تضاربٍ أو تضادٍّ له قطبان، قطب في الوعي وقطب في اللاوعي، فإذا حاولنا التوفيق بينهما معتمدين على الوعي فقط فسوف يشغلنا التضادُّ ويعرقل مسارنا الطبيعي؛ ولذلك ينتهي إلى التوصية بترك القطبين يتجاذبان تضادَّهما، مستأنفين مسارنا المعتاد حتى نتحرر بعد قليلٍ من ضغط التضَّادِّ الذي تنقشع سحبه تلقائيًّا بعد فترة من التجاوز له، وهو ما اهتدى إليه يونج أثناء علاجه أحد مرضاه، وهو يقدم لنا قصته في كتاب نشر بعد وفاته قائلًا:

كنت ألحظ بين الفينة والفينة أثناء عملي في عيادتي أن أحد المرضى قد نجح في تجاوز الإمكانات المدلهمَّة داخل نفسه، وكانت ملاحظة هذا التجاوز درسًا بالغ الأهمية لي. وكنت آنذاك قد تعلمت أن أدرك أن أهمَّ مشكلات الحياة وأعظمها جميعًا لا تقبل الحل أساسًا. وهذا أمرٌ محتومٌ؛ لأنها تعبر عن الاستقطاب الذي لا بدَّ منه في داخل كل جهاز للتكييف الذاتي. أقول إنها لا يمكن حلُّها أبدًا ولكن من الممكن تجاوزها … فالقدرة على التجاوز تمثل مستوًى رفيعًا من الجهد الذي يستطيع كل فرد أن يبذله، حتى ولو كانت تلك القدرة في صورة جنينٍ لم يكتمل نموه، فإذا توافرت الظروف المواتية استطاع الشخص تحقيق تلك الإمكانية. وعندما فحصت أسلوب تطور الأشخاص الذين استطاعوا أن يتجاوزوا أنفسهم بهدوء كأنما بلا وعي منهم، وجدت أن مصائرهم تشترك في عنصرٍ واحدٍ. وسواء كان العنصر نابعًا من الداخل أو من الخارج فإنه جاء إلى هؤلاء الأشخاص باعتباره عاملًا جديدًا خارجًا من كهف الإمكانات الحالك فقبلوه وازداد تطورهم بفضله … لكنه لم يكن شيئًا خارجًا من الداخل فقط أو قادمًا من الخارج فقط. فإذا كان قادمًا من خارج الفرد تحول إلى خبرة باطنة، وإذا كان قادمًا من داخله تغير فأصبح خبرة خارجية. ولكنه لم يكن في أية حالة مستحضرًا إلى الوجود عمدًا وبناءً على الإرادة الواعية، بل بدا لي جدولًا يتدفق من نهر الزمن.

(يونج: «تعليقٌ على سرِّ الزهرة الذهبية»، ترجمة بينز، ١٩٦٢م ص٩١–٩٢)
وربما أبدى القارئ عجبه من حديث يونج عن تجاوز التضاد أو التضارب، كأنما يناقض أسلوب العلاج النفسي الذي يشترك فيه مع فرويد ويتمثل في الوعي الكامل بما يعتبر تضادًّا بين الوعي واللاوعي، ولكنه لا يقول ذلك بل يقول: إن على المرء أن يواجه استحالة الحل الواعي للتضادِّ، وأن يلجأ إلى طاقته الروحية على التعالي، وهي التي يستمدها من قدرة اللاوعي على تقديم رموز جديدة كفيلة بتمكينه من ذلك التجاوز. ولا شك أن الفكرة غامضة بعض الشيء، ولكن الغموض يقل حين ندرك أن يونج يعلق هنا على تأملات صينية قدمها أحد الحكماء القدامى وهو لاو ناي صوان Law Nai Suan في كتابٍ ترجمه متخصصٌ في الدراسات الصينية هو العلامة الألماني ريتشارد فيلهلم (١٨٣٠–١٨٧٣م) وأصدره عام ١٩٢٩م بعد أن طلب من يونج كتابة تعليقه عليه، وما لبث أن ترجمه كاري ف. بينز Baynes إلى الإنجليزية، عام ١٩٣١م، وكان يتضمن شروحًا لطرائق التأمل الصينية، ومن بينها كيفية استخدام رموز اللاوعي في «تنشيط» الطاقة الروحية التي يوحي بها حديث يونج. والطبعة التي اقتطفتُ منها هذه السطور تمثِّل هذه الترجمة. وإزاء الغموض المحتوم في تفهُّم فلسفة الحياة الصينية، نُشرت للنص الأصلي ترجمةٌ جديدةٌ قام بها توماس كليري Cleary عام ١٩٩١م، وهو مؤلف ومترجم أمريكي يعمل أستاذًا في جامعة هارفارد، وترجماته تشمل نصوصًا بوذية وطاوية وكونفوشية وإسلامية (مولود عام ١٩٤٩م). ورغم الاختلافات بين هاتين الترجمتين؛ فإن كلام يونج يدل على التأثُّر بما أسميته طرائق التأمُّل الصينية المذكورة تأثُّرًا واضحًا.
وأهم ما يتضمنه تعليق يونج إشارته إلى إمكانية التصالح ولو كان تلقائيًّا، بفضل ما يسميه يونج التطور أو النمو development/growth وهو الذي يتخذ في فلسفة يونج صور التحول وبلوغ التفرد وتحقيق الذات. وأما التفرُّد فهو — كما سبق أن بيَّنت — لا يعني الانفراد بشيءٍ، بل يعني «ذروة العملية البيولوجية — بسيطةً كانت أو معقدةً — التي يصبح من طريقها كلُّ كائنٍ حيٍّ ما قدِّر له أن يكونه منذ البداية أصلًا» (علم النفس والدين: في الغرب والشرق، المجلد ١١، الفقرة ١٤٤).

والذات التي توجهنا أو ترشدنا خلال دورة الحياة هي التي تجعلنا نشعر بالصور والأفكار والرموز والأحاسيس التي أحس بها البشر منذ أن بدأ الجنس البشري حياته على ظهر هذا الكوكب؛ ولذلك فإن الفنَّ الذي يعبِّر عن حقيقة الأنماط الفطرية، ينقلنا إلى كل مكان نشأت فيه الحقيقة أو لا تزال ناشئة؛ فهو يخاطب المبادئ العالمية للوجود البشري، متجاوزًا الأمم والأعراق والعقائد (ستيفنز ٥٢–٥٣).

ويقول يونج في تصديره لسيرته الذاتية (ذكريات وأحلام وتأملات، ١٩٦١م):

إننا حركة نفسية لا نستطيع السيطرة عليها أو لا نستطيع توجيهها إلا من جانبٍ واحدٍ؛ ومن ثمَّ فلا نستطيع أن نصدر أية أحكام نهائية على أنفسنا أو على حياتنا، فإذا استطعنا ذلك أصبح في مقدورنا أن نعرف كل شيءٍ، ولكن ذلك لا يعدو كونه — في أحسن الأحوال — تظاهرًا وحسب.

فالواقع يقول: إننا لا نستطيع أن نعرف أبدًا كيف بدأت هذه الحياة. إذ إن قصة الحياة تبدأ في مكان ما، في بقعة معينة يتصادف أننا نذكرها، بل إنها، حتى في تلك البقعة، تتسم بالتعقيد الشديد. ونحن لا نعرف كيف ستصبح حياتنا. وهكذا فليس للقصة بداية، وأما النهاية فلا نستطيع أن نلمح منها غير لمحاتٍ غامضةٍ.

إن حياة الإنسان تجربة مريبة. وهي ظاهرة هائلة من حيث الأرقام وحسب، أما على المستوى الفردي فهي ذات سرعةٍ لاهثةٍ، وغير كافيةٍ إلى حدٍّ بعيدٍ، بل أكاد أقول: إن قدرة أي شيء على الوجود والتطور يعدُّ من المعجزات. لقد بهرتني تلك الحقيقة منذ زمنٍ بعيدٍ. وعندما كنت شابًّا أدرس الطب، ويبدو لي من المعجزات أنني لم أتعرض للفناء يومًا ما قبل أن يحين الأجل.

دائمًا ما كانت الحياة تبدو لي مثل نباتٍ يحيا ويتغذى على جذموره؛ أي إن حياته الحقيقية غير مرئيةٍ، تختفي في جذوره. وأمَّا الجزء الذي يظهر فوق التربة فلا يبقى إلا فصل صيفٍ واحدًا، ثم يذوي ويذبل، كأنه طيفٌ عابرٌ. وعندما نتأمل حالات النمو والتدهور التي لا تنتهي للحياة والحضارات، لا نستطيع أن نتجنب الإحساس بالعدم المطلق، ومع ذلك فلم أفقد قطُّ الإحساس بوجود شيءٍ يحيا ويصمد تحت الفيض السرمدي. إن ما نراه هو البرعم، والجذمور باقٍ للأبد. (ص٤)

ولنتخذنَّ من هذه الخاطرة نقطة انطلاقنا إلى الفصل التالي حيث التطور ومراحل الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤