الفصل الرابع

مراحل الحياة

(١) النُّظم العاطفيَّة

يقصُّ علينا يونج في سيرته الذاتية طرفًا مما يسميه «حكمة» الشعوب «البدائية» التي مكَّنته من إلقاء نظرةٍ أصدق على طبيعة «الحضارة» الأوروبية؛ أي من وجهة نظر الغريب عنها، وكانت «الحكمة» المقصودة هي العقيدة «الطاوية» التي يدين بها «الهنود الحمر» من سكان منطقة نيومكسيكو في أمريكا، واسمهم Taos Indians، والقبيلة اسمها بويبلو Pueblo على نحو ما أشرت إليه في الفصل الأول (انظر يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص246 وما بعدها). وكان من أهمِّ ما راعه في هذه «الحكمة» تمييز هؤلاء بين ما يسمَّى Yank [أي الذَّكر] وYan [أي الأنثى]، وهو يستخدم اللفظين في الإشارة إلى تمييزه بين الجنسين، منطلقًا من بعض الحقائق البيولوجية المعروفة عن تكوين الأجنَّة من إناثٍ وذكورٍ، مستمدًّا من علم البيولوجيا الحديث قدرًا لا بأس به من التعضيد لما يقول به الطاويون Taos من أن الأنثى هي الأصل، وأن الذَّكر يمثل تعديلًا معينًا في الجنين. ويؤكد شرَّاح يونج إيمانه بأن لهذه الفكرة آثارها النفسية لديه؛ فالتمييز الفسيولوجي بين الجنسين قد استتبع تقسيمًا معينًا للعمل بينهما في شتَّى ثقافات البشر في كل مكان على ظهر الأرض. ويقول ستيفنز — بعد أن يستعرض مظاهر «تقسيم العمل» على مرِّ التاريخ بين الجنسين: إن الاختلافات البيولوجية لا تتعلق «بالصور الثقافية النمطية» بالقدر الذي تريد بعض الأفكار المعاصرة ذات الطُّرز الجذابة أن تجعلنا نؤمن به، ويضيف قائلًا:

ما أغرب أن يتصور المرء أن أمثال هذه الاختلافات البيولوجية العميقة بين الذكور والإناث — ليست لها عواقب أو آثارٌ نفسيةٌ أو سلوكيةٌ في حياة الرجال والنساء في جميع المجتمعات! فإذا اطَّلع المرء على الأدلة اتَّضح له وجود هذه الآثار … والأرجح أن الذات التي نولد بها تتسم بأبنيةٍ فطريةٍ تختلف اختلافاتٍ مهمةً ما بين «ذات» الذَّكر و«ذات» الأنثى، وهي التي ترسي البناء الأساسيَّ الذي تبدأ العمل فوقه الصور النمطية للذَّكر والأنثى في الثقافة التي ولدنا في كنفها. وتقوم هذه بإخراج الطاقات الكامنة وتطويرها عند الذَّكر وعند الأنثى داخل الذات التي تتمتع بها فطريًّا.

إن الفكرة التي عفَّى عليها الزمن — والتي تقول: إن الاختلافات بين الجنسين ترجع كلُّها إلى الثقافة ولا علاقة لها بالبيولوجيا — لا تزال تتمتع بالرواج في مجتمعنا على نطاقٍ واسعٍ، لكنَّها تقوم على نظريةٍ فقدت مصداقيَّتها عن الصفحة البيضاء tabula rasa الخاصة بأصل الفرد وتطوُّره ontogeny [من اليونانية ont أي الوجود و genesis أي الميلاد]. فلقد أدت البحوث التي أُجْرِيَتْ في الثلاثينَ عامًا الأخيرة عن تطور الأطفال إلى إثبات صحة قول يونج إن الطفل البشريَّ لا يولدُ بنفسٍ كالصفحة البيضاء التي تخضع بصورةٍ سلبيةٍ لنقش دروس الحياة عليها. بل إن نفسه تشارك مشاركةً فعَّالةً في عملية التطوُّر. ومع أن يونج يتقبل بلا مراء التأثيرَ الهائلَ الذي تُحدِثه العوامل البيئية في التطوُّر النفسيِّ للفرد، فإنه يُصِرُّ على أنَّ ما تؤثر فيه هذه العواملُ هو الاستعداد الفطري السابق و«الطاقات الذاتية» التي يتمتعُ بها جميع الأطفال من لحظة مولدهم.
(ستيفنز، ١٩٩٠م، ص٥٦–٥٧)

ولقد سبق لي إيراد فقرةٍ ليونج في آخر القسم الخاص بالفطريِّ والمكتسب في الفصل السابق (من المجلد السابع، الفقرة ٣٠٠) (ص١٣٢–١٣٣ أعلاه)، وهي التي تدل على الهوَّة التي كانت تفصل نظرته للنفس البشرية عن نظريات دعاة تأثير البيئة، والسلوكيين، إلى جانب النظريات الثقافية التي سادت الدوائر الأكاديمية طيلة حياته. ويشير شرَّاح يونج إلى أن فقدان المذهب السلوكي لسلطانه القديم جعل أفكار يونج تبدو أقل غرابةً ممَّا كانت تتسم به عند نشرها؛ فالعلماء يقبلون اليوم فكرة مرور الكائن الحيِّ بمراحل نفسيةٍ وسلوكيةٍ في كلِّ مرحلةٍ من مراحل العمر؛ أي يقبلون وجود علاقة بين المرحلة العمريَّة والظواهر النفسية والسلوكية، فإذا قيل إن المراحل الظاهرة التي تشهد عليها الأجسام — تخضع لعوامل بيولوجية فمن المنطق افتراض أن المراحل النفسية تخضع لتأثير هذه العوامل أيضًا. ويقول شرَّاح يونج إن قضية المراحل لم تكن تقتصر على تعريفها بل تتطلب إبراز الثوابت المميِّزة لكلِّ مرحلةٍ. وقد شُغل العلماء آنذاك بما يقوله يونج، واهتمَّ علماء البيولوجيا — خصوصًا في مجال السلوك الحيواني — برصد المراحل المذكورة وأثمرت بحوث بعضهم عن عددٍ من الحقائق العلمية التي لم يتوانَ أنصار يونج عن تطبيقها على الإنسان.

ففي عام ١٩٧٣م فاز بجائزة نوبل في «الفسيولوجيا أو الطب» ثلاثة علماء هم نيكولاس تينبرجن Tinbergen الهولندي الأصل (١٩٠٧–١٩٨٨م) وكونراد لورنز Lorenz النمسوي (١٩٠٣–١٩٩٩م) وكارل فون فريش Frisch النمسوي (١٨٨٦–١٩٨٢م) بسبب ما توصلُّوا إليه عن أنساق السلوك التي يتميز بها كل نوعٍ من أنواع الكائنات الحية في كل مرحلةٍ من مراحل الحياة، مثل الحصول على منطقةٍ خاصَّةٍ والدفاع عنها، واكتساب ودِّ الجنس الآخر، والتزاوج، والصيد، والإنجاب، وتربية الصغار، وما إلى هذا بسبيلٍ، وقد وضع هؤلاء العلماء مبادئ قائمةً على الملاحظة الدقيقة للسلوك وتحليله، واكتشفوا ما سبق أن أشرت إليه باسم آليات الإطلاق الفطرية (انظر قسم الفطري والمكتسب في الفصل السابق)، وهي التي تدفع الحيوان إلى اتخاذ سلوكٍ معينٍ حين يصادف العلامات المنبهة في البيئة من حوله. وكان بعض الباحثين الأمريكيين قد استخلصوا نتائج من تجاربهم الخاصة في مجال النظم العاطفية affectional systems عند الحيوان، وخصوصًا القرود من نوع ريسوس Rhesus [الاسم المألوف لدينا بسبب إطلاقه على متاعب خِلقية في القلب] وكان من أهمِّهم ﻫ. ف. هارلو Harlow وم. ك. هارلو اللذان انتهيا إلى وجود خمسة نظمٍ عاطفيةٍ متميزةٍ ينشط بعضها وراء بعض؛ أي في تتابعٍ يتفق مع مراحل وصول الحيوان إلى مرحلة النضج:
  • (١)
    نظام الرضيع والأم infant-mother system الذي يربط الرضيع بأمه.
  • (٢)
    نظام الأقران peer system وهو الذي يرعى تنمية المهارات الاجتماعية والحركية والقدرة الإنجابية من طريق الجنس، واستكشاف الصغار للبيئة.
  • (٣)
    نظام العلاقة بالجنس الآخر heterosexual system الذي يحكم التجاذب بين الجنسين والزواج والترابط الجنسي عند النضج.
  • (٤)
    النظام الأمِّيُّ/الأمويُّ maternal system الذي يحفز الأمَّ على رعاية طفلها وإمداده بالغذاء والأمن العاطفي.
  • (٥)
    النظام الأبوي paternal system الذي يضمن حماية الصغار من الافتراس ومن أفراد الجماعة العدوانيين.
(انظر لفينسون وآخرين: مواسم حياة الإنسان، ١٩٧٨م، نيويورك، المقدمة)
ويربط د. لفينسون (محرر الكتاب المذكور) بين هذه المراحل في حياة الثدييات العليا (أي القرود بصفة عامة) primates والمراحل التي يشير إليها يونج في المجلد الثامن، وعنوانه: «بناء النفس ودينامياتها»، والفصل المشار إليه مكتوب عام ١٩٣٠–١٩٣١م، ومن الطريف أن تجارب السلوكيين — وأشهرهم لدينا ب. ف. سكينر Skinner صاحب نظرية «تحديد الشروط الفاعلة» operant conditioning أي إيجاد الظروف القادرة على تحديد السلوك (وكان متأثرًا بالعلامة واطسون مؤسس المدرسة السلوكية)؛ أقول: إن تجاربهم كانت تقوم على استخدام الحيوان، ثم محاولة تطبيق ذلك على الإنسان، وكان من أهمِّ الكتب التي وضعها سكينر كتاب: «العلم والسلوك الإنساني» (١٩٥١م)، وذلك بعد كتابه الذي شقَّ الطريق في هذا المجال، وهو «السلوك والكائنات الحية» (١٩٣٨م) وأقول: إن في هذا طرافةً خاصةً تتجلى لنا في التضادِّ الظاهر بين المذهب السلوكي «الخارجي» ومذهب يونج النفسي «الباطني» على الرغم من استناد كلٍّ من المذهبين على البيولوجيا؛ فإن سكينر يقيم مذهبه في علم النفس على حقائق بيولوجية مثلما يوحي يونج أن حقائق النفس الإنسانية ذوات جذورٍ بيولوجية، ولم يكن العلماء قد اكتشفوا «حامض الخلية النووي» الذي يحمل المورِّثات (الجينات) آنذاك، ونشير إليه اليوم باسم DNA، وكان يشار إليه أولًا (أثناء مقامي في إنجلترا) باسم ribonucleic acid ثم عدَّله العلماء إلى deoxyribonucleic acid واشتهر بارتليت Bartlett (ت ١٩٦٩م) أحد علماء جامعة كيمبريدج آنذاك في كتابه: «علم النفس والثقافات البدائية» (١٩٢٣م) بأنه أسماه لغة الحياة، قائلًا: إن هذا هو الذي يجعل الثقافات الشعبية في بلدان لا تربط بينها أية علاقةٍ تشير إلى ما يحدث للإنسان في الدنيا بأنه مكتوبٌ، وأذكر أن أحد أنصار يونج استغل تلك الصيغة في الإشارة إلى ما يذكره يونج في المجلد الحادي عشر، وعنوانه: «علم النفس والدين بين الشرق والغرب» إذ يقول:

من وراء أفعال الإنسان لن تجد الرأي العام ولا القانون الأخلاقي، بل الشخصية التي لا مكان لها في وعيه. فكما أن الإنسان يظلُّ دائمًا مثلما كان، فإنه سلفًا ما سوف يصير إليه. فالذهن الواعي لا يتضمن الإنسان بكيانه الشامل؛ فهذا الكيان لا يضمُّ إلا جانبًا واحدًا من وعيه؛ فالوعي موجودٌ في هذا الكيان الشامل باعتباره دائرةً صغيرةً داخل دائرةٍ أكبر. (الفقرة ٣٩٠)

ومن اليسير أن نربط بين ما يقوله يونج هنا وما يقوله في المجلد الثامن عن مراحل الحياة وهي التي يشبِّهها بمسار الشمس الظاهريِّ أثناء النهار من المهد إلى اللحد، وإن كانت الشمس ذات إحساسٍ ووعي مجازيين، يقول يونج:

إنها تشرق في الصباح خارجةً من بحر اللاوعي الليليِّ وتلقي نظرةً على العالم العريض الوضَّاء الذي يمتدُّ أمامها في انفساحٍ يتسع باطرادٍ كلما ازداد ارتفاعها في السماء. ومن المحتوم أن تكتشف الشمس (في اتساع مجال عملها نتيجة صعودها) دلالتها الخاصة، وأن ترى أن تحقيق أعلى ارتفاعٍ ممكنٍ وأوسع نشرٍ ممكنٍ لبركاتها، يمثل غايتها الخاصة. وفي إطار هذه العقيدة تواصل الشمس حركتها حتى تبلغ السَّمت غير المنظور، وهو غير منظورٍ؛ لأن مسارها فريدٌ فرديٌّ؛ ومن ثمَّ فإن الذُّروة من المحال حسابها مقدَّمًا. وعند الزوال يبدأ الهبوط. والهبوط يعني عكس جميع القيم والمثل العليا التي كانت محل إعزازٍ في الصباح. وهكذا تقع الشمس في تناقض مع نفسها، فكأنما بات عليها أن تجمع أشعتها بدلًا من بثِّها، ويتناقص الضوء والدفء حتى ينطفئا آخر الأمر … ومن حسن الحظِّ أننا لسنا شموسًا تشرق وتغرب؛ لكنَّ في أعماقنا شيئًا يشبه الشمس، والحديث عن الإشراق والربيع، وعن مساء الحياة وخريفها ليس من قبيل المصطلح العاطفي.

(يونج: المجلد الثامن، من الفقرتين ٧٧٨ و٧٨٠)

ويمكننا تلخيص تصوير يونج لدورة الحياة في الشكل التالي:

دورة حياة من كتاب ستود Staude بتصرف ١٩٨١م.

ويشرح يونج ما يعنيه قائلًا:

تنقسم الزاوية التي تبلغ ١٨٠° وتمثِّل قوس الحياة إلى أربعة أقسامٍ، فالربع الأوَّل الكائن في الشرق يمثل الطفولة؛ أي الحالة التي نمثل فيها مشكلةً للآخرين، من دون أن نكون قد اكتسبنا الوعي بعد بأيَّة مشاكل خاصَّةٍ بنا. وتملأ المشكلات الواعية الربعين الثاني والثالث، وأما في الربع الأخير، زمن الشيخوخة الأخيرة، فنحن نهبط من جديدٍ إلى حالةٍ معينةٍ نعود فيها، بغضِّ النَّظر عن حالة وعينا، إلى أن نتسبَّب في مشكلاتٍ من نوعٍ ما للآخرين. وتختلف الطفولة اختلافًا كاملًا، بطبيعة الحال، عن الشيخوخة الأخيرة، ومع ذلك فإنهما يشتركان في شيءٍ واحدٍ، ألا وهو الانغماس في أحداثٍ نفسيةٍ غير واعيةٍ. (يونج، المجلد الثامن، الفقرة ٤٠٣)

وكان يونج يرى أن مشكلات الرُّبع الأوَّل والرُّبع الثاني في جوهرها بيولوجية واجتماعيةٌ، وأن مشكلات الربعين الثالث والرابع ثقافيةٌ وروحيةٌ؛ إذ كتب يقول: «الإنسان له هدفان: الأوَّل الهدف الطبيعيُّ، وهو إنجاب الأطفال وحماية الذرية، وينتمي إلى هذه الغاية اكتساب المال والمكانة الاجتماعية.» ومن المحال تحقيق الهدف الأخير (أي الهدف الثقافي) إلا بعد تحقيق الهدف الأوَّل. (يونج، المجلد ٧، الفقرة ١١٤)

ويقول الفيلسوف الفرنسي أرنولد فان جينيب (Van Gennep (١٨٧٣–١٩٥٧م) إن كل انتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى في الحياة الإنسانية يشبه طقوس الانتقال؛ Les Rites de Passage وهو عنوان كتابه المنشور عام ١٩٠٩م، قائلًا: «إنها تتكون من ثلاث مراحل؛ هي الانفصال والانتقال والاندماج.» ويضيف الفيلسوف أن كل مرحلة من هذه المراحل تعتبر من طقوس الموت والميلاد الجديد، حيث «يموت» الفرد من وجهة نظر الظروف السابقة التي ينفصل عنها، ثم «يولد من جديد» داخل الحال الجديدة التي يندمج فيها. ولما كانت تلك الطقوس مقدسةً فإنها تضفي دلالةً ربانيةً على حياة الفرد، وذلك بأن تقيم رابطةً شخصيةً بينه وبين الأساطير والطوطمات والأرواح الخاصَّة بالقبيلة.

(٢) الانفصال والانتقال والاندماج

وخير ما يمثل فان جينيب في شعرنا العربي قصيدتان لصلاح عبد الصبور: الأولى هي «الخروج». يقول الشاعر:

أخْرُجُ مِنْ مدينتي، مِنْ موطني القَدِيمْ
مُطَّرِحًا أَثْقَالَ عَيْشِيَ الأَلِيمْ
فِيهَا، وتَحْتَ الثَّوْبِ قَدْ حَمَلْتُ سِرِّي
دَفَنْتُهُ بِبَابِهَا، ثُمَّ اشْتَمَلْتُ بالسَّماءِ والنُّجُومْ
أَنْسَلُّ تَحْتَ بَابِهَا بِلَيْل
لَا آمَنُ الدَّلِيلَ حَتَّى لَوْ تَشَابَهَتْ عَليَّ طَلْعَةُ الصَّحْرَاء
وظَهْرُهَا الكَتُومْ
أَخْرُجُ كالْيَتِيمْ
لَمْ أَتَخيَّرْ وَاحِدًا مِنَ الصِّحَابِ
لِكَي يُفَدِّينِي بِنَفْسِهِ، فَكُلُّ ما أُرِيدُ قَتْلَ نَفْسِيَ الثَّقِيلَةْ
ولَمْ أُغَادِرْ في الفِرَاشِ صَاحِبِي يُضَلِّلُ الطُّلَّابْ
فَلَيْسَ مَنْ يَطْلُبُنِي سِوَى أَنَا القَدِيمْ
حِجَارَةً أكونُ لَوْ نَظَرْتُ لِلْوَرَاءْ
حِجَارَةً أُصْبِحُ أوْ رُجُومْ
سُوخِي إِذَنْ في الرَّمْلِ سِيقَانَ النَّدَمْ
لا تَتْبَعِيني نَحْوَ مَهْجَرِي، نَشَدْتُكِ الجَحِيمْ
وانْطَفِئِي مَصَابِحَ السَّمَاءْ
كيْ لا تَرَى سَوَانِحُ الأَلَمْ
ثِيَابِيَ السَّوْدَاءْ
تَحَجَّرِي كَقَلْبِكِ الخَبِيء يا صَحْرَاءْ
ولْتُنْسِنِي آلَامُ رِحْلَتِكْ
تَذْكَارَ ما اطَّرَحْتُ مِنْ آلامْ
حَتَّى يَشِفَّ جِسْمِيَ السَّقِيمْ
إنَّ عَذَابَ رِحْلَتِي طَهَارَتِي
والمَوْتُ في الصَّحْرَاءِ بَعْثِيَ المُقِيمْ
لَوْ مُتُّ عِشْتُ ما أَشَاءُ في المَدِينَةِ المُنِيرَةْ
مَدِينَةِ الصَّحْوِ الذي يَزْخَرُ بالأَضْوَاءْ
والشَّمْسُ لا تُفَارِقُ الظَّهِيرَةْ
أُوَّاهُ يا مَدِينَتِي المُنِيرَةْ
مَدِينَةَ الرُّؤى الَّتي تَشْرَبُ ضَوْءًا
مَدِينَةَ الرُّؤَى الَّتي تَمُجُّ ضَوْءًا
هَلْ أَنْتِ وَهْمُ وَاهِمٍ تَقَطَّعَتْ بهِ السُّبُلْ
أمْ أَنْتِ حَقّْ؟
أمْ أَنْتِ حَقّْ؟
(ديوان صلاح عبد الصبور، بيروت، ١٩٧٢، ٢٣٥–٢٣٧)
القصيدة قائمة، كما هو واضح، على النمط الفطري للرحلة الذي ذكرته في المقدمة، ولكنها ليست أساسًا أو في البداية رحلة حجٍّ أو تكفيرٍ عن ذنبٍ، لكنَّها رحلة انتقالٍ؛ أي إنها تعتبر من طقوس الانتقال، والشاعر يستعين في تصويرها بصورة الهجرة النبوية بعد تطويعها لتصبح هجرةً داخليةً في النفس، وهو يفعل ذلك بتحويل الحادثة التاريخية إلى صورةٍ أو قصةٍ رمزيةٍ allegory حتى تتحول إلى أسطورةٍ تاريخيةٍ legend والفرق واضحٌ بينها وبين الأسطورة المطلقة myth [من اليونانية mythos بمعنى الحديث أو القصة]، وكلمة الأسطورة العربية تعني اشتقاقًا كلَّ ما يسطره القلم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (القلم: ١) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفرقان: ٥) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (الطور: ٢). ولكن الكلمة اكتسبت في الفصحى المعاصرة ظلال معانٍ مختلفة؛ أهمُّها الخرافة (fable) (fiction) بسبب أحد معاني كلمة myth الأجنبية؛ ولذلك لا بدَّ من التمييز بينها وبين الحقيقة التاريخية التي يضفي عليها الرواة أبعادًا جديدة بحيث تبتعد عن التاريخ الصادق وتغدو حافلةً بدلالاتٍ رمزيةٍ تكسبها جاذبيةً خاصَّةً، وهذا ما يفعله الشاعر حين يستخدم صورة الهجرة للتمييز بين ما يفعله وما فعله الرسول الكريم، فهو (أي الشاعر) مجرد إنسانٍ ترزح نفسه بأثقال عيش في الصبا ويحب أن «يقتل» تلك «النفس الثقيلة» بالانتقال إلى مدينة منيرة، وظلال الكلمات في القصيدة منتخبةٌ بعنايةٍ للإيحاء بالفرق بين هذه الرحلة الانتقالية المتخيَّلة والرحلة التاريخية الصادقة، أمَّا ظلال المعاني فنجدها في أنه يرحل وحيدًا، لا مع الصِّديق، وهو لم يختر أحدًا من «الصحاب» (ذات الجرس الذي يذكرنا بالصحابة) لكي يضلِّل الطلَّاب (والطُّلاب تومئ اشتقاقًا إلى ابن أبي طالب) ونداؤه: «سوخي إذن في الرمل سيقان الندم» يشير إلى محاولة سراقة بن مالكٍ اللحاق بالراحلَين، وكلما اقترب أشار الرسول الكريم بإصبعه فساخت في الرمل سيقان فرس سراقة، ثم إذا بالشاعر يضفي على الرحلة معنًى من تراث الأنماط الفطرية، وهو قدرة الرحلة بما بها من أهوالٍ على أن تطهِّره مما ذكره من الأثقال، وربما كانت آثامًا يريد التكفير عنها، فغاية التطهير راسخةٌ في ذلك النمط الفطريِّ الذي يعدِّل إلى حدٍّ ما من معنى الرحلة.
ثم تأتي نقطة التحوُّل عندما يقول لنا الشاعر إنه يكاد يعلم علم اليقين أنه لن يصل إلى مدينته المنيرة، فإنه لا يراها واقعًا بل خيالًا أبدعه وهمه بعد أن تاه في الصحراء؛ أي إننا ننتقل مع الشاعر فيما يشبه الحدث action الدرامي من افتراض الموت «لو مت» إلى ما يشبه التحقُّق من وقوعه؛ فهو لن يرى تلك المدينة المنيرة إلا إذا مات، «فالموت في الصحراء بعثٌ مقيمٌ»؛ أي إن الرحلة ليست رحلة من يرجو النجاة ويعرف أنه ناجٍ، بل رحلة من يرى في أضواء الآخرة نعيمًا يتمناه ويحفِّزه على السير؛ فالسطور الأخيرة تدلُّنا على أنه ضل السبيل بعد أن «تشابهت عليه طلعة الصحراء» ولم يعد في يده إلا وهم الواهم الذي ضل الطريق؛ أي تقطعت به السبل، فغدت رحلته رحلةً إلى مدينةٍ مستحيلةٍ، حيث الشمس لا تفارق الظهيرة، وحيث يعجز عن التمييز بين الحقيقة والخيال فيها، وبذا يتحوَّل الخروج إلى مأساةٍ ربما يعرفها كلُّ من حاول القيام بطقوس الانتقال المشار إليها؛ فهي تتضمن الموت والميلاد الجديد، ورمزية ذلك التي يشير فان جينيب إليها، ويقول (في طبعة ١٩٦٠م من كتابه المذكور) «إن النفس نصف المتحضرة — ترى في كل فعلٍ نوعًا من القداسة» (ص٣) والمقصود أن طقوس الانتقال مهما اختلفت مظاهرها توحي بإرادةٍ عليا؛ سمِّها إرادةً ربانيةً أو قدريَّةً أو كما يذكر المؤمنون بقدر الجينات وحامض الخلية النووي «مكتوبة»، ولكنها تنتمي في نهاية الأمر إلى أعمق أعماق الإنسان التي نحاول اكتناه أسرارها عبثًا.
وقبل أن أنتقل إلى ما يعتبره العلماء ثورةً في علم النفس تضارع الثورة التي أحدثها كوبرنيق في علم الفلك، ألا وهو توكيد الذات self عند يونج، رافضًا نظريات النموِّ التي تعتبر الأنا ego المحور الحقيقيَّ — أودُّ أن آتي بقصيدةٍ أخرى لصلاح عبد الصبور تمثل المرحلة الثالثة التي ينصُّ عليها فان جينيب وهي الاندماج التالي للانتقال، وهي تشبه «الخروج» في أنها تقدِّم الطرف الآخر للعلاقة مع النفس وهي «الدخول» أو الاندماج، وتصور مبدأ يونج عن الموت والميلاد الجديد معًا. وعنوان القصيدة هو «أغنية للقاهرة» (بعد شهرٍ من التَّجوال). يقول الشاعر:
لِقَاكِ يا مدينتي حَجِّي ومَبْكَايَا
لِقَاكِ يا مدينتي أَسَايَا
وحينَ رَأَيْتُ مِنْ خِلَالِ ظُلْمَةِ المَطَارْ
نُورَكِ يا مَدِينَتِي عَرَفْتُ أنَّني غُلِلْتُ
إلَى الشَّوَارِعِ المُسَفْلَتَةْ
إلى المَيَادِينِ التي تَمُوتُ في وَقْدَتِهَا
خُضْرَةُ أيَّامي
وأنَّ ما قُدِّرَ لي يا جُرْحِيَ النامي
لِقَاكِ كُلَّمَا اغْتَرَبْتُ عَنْك
بِرُوحِيَ الظَّامِيَ ١٠
وأنْ يكُوَنَ مَا وَهَبْتِ أوْ قَدَّرْتِ لِلْفُؤَادِ مِنْ عَذَابْ
يُنْبُوعَ إلهامي
وأنْ أَذُوبَ آخِرَ الزَّمَانِ فِيك
وأنْ يَضُمَّ النِّيلُ والجَزَائِرُ التي تَشُقُّهُ
والزَّيْتُ والأَوْشَابُ والحَجَرْ
عظاميَ المُفَتَّتَةْ
علَى الشَّوَارِعِ المُسَفْلَتَةْ
علَى ذُرَى الأَحْيَاءِ والسِّكَكْ
حِينَ يَلُمُّ شَمْلَهَا تابوتي المَنْحُوتُ مِنْ جُمَّيْزِ مِصْر.
لِقَاكِ يا مَدِينَتِي يَخْلَعُ قلبي ضَاغِطًا ثَقِيلًا ٢٠
كَأَنَّهُ الشَّهْوَةُ والرَّهْبَةُ والجُوع
لِقَاكِ يا مَدِينَتِي ينفضني
لِقَاكِ يا مَدِينَتِي دُمُوعْ
أَهْوَاكِ يا مَدِينَتِي الهَوَى الذي يَشرقُ بالبُكَاءْ
إذَا ارْتَوَتْ بِرُؤْيَةِ المَحْبُوبِ عَيْنَاه ٢٥
أَهْوَاكِ يا مَدِينَتِي الهَوَى الذي يُسَامِحْ
لأنَّ صَوْتَهُ الحَبِيسَ لَا يَقُولُ غَيْرَ كِلْمَتَيْنِ
إنْ أرادَ أنْ يُصَارِحْ
أَهْوَاكِ يا مدينتي …
أَهْوَاكِ رَغْمَ أَنَّنِي أُنْكِرْتُ في رِحَابِكْ ٣٠
وأنَّ طيري الألَيِفَ طارَ عَنِّي
وأنني أعودُ لَا مَأْوى ولا مُلَتَجأَ
أَعُودُ كي أَشْرُدَ في أَبْوَابِكْ
أعُودُ كي أَشْرَبَ مِنْ عَذَابِكْ
(ديوان صلاح عبد الصبور، بيروت، ١٩٧٢م، ص١٩٧–١٩٩)
كنت قدمت تحليلًا لهذه القصيدة من وجهة نظر الأسطورة المصرية القديمة عن إيزيس وأوزوريس، وكيف قامت إيزيس بجمع أشلاء أوزوريس من جميع أنحاء مصر حتى يبعث من جديدٍ، وذلك في كتابي: «الأدب وفنونه» (١٩٨٤م) ولكنني أستشهد بها هنا لإيضاح ما يقصده فان جينيب بالمرحلة الثالثة من مراحل النمو وهي الاندماج؛ أي incorporation وهو الذي يعبِّر عنه الشاعر قائلًا: «وأن أذوب آخر الزمان فيك» (السطر ١٣)، وللتدليل أيضًا على قدرة الشاعر على إبراز قوة القدَر التي تربطه بحبيبته التي يلقى بسببها ألمًا ما انفك يتزايد: «قدِّر لي يا جرحي النامي/لقاك كلما اغتربت عنك» وهذا قدرٌ لا يحاول الشاعر الإفلات من قبضته؛ لأنه قائمٌ على نمطٍ فطريٍّ أصيلٍ ذاتيِّ الطبع autochthonic هو انتماؤه للمكان، والشاعر يتيح للمفارقة في موقفه من المدينة أن تتخذ صورتين تلتقيان وتفترقان؛ لأنهما تتسمان بذلك التضادِّ بين الحب الذي لا يقبل التفسير العقلانيَّ، والعذاب الذي يفتتح القصيدة بالبكاء والأسى (السطران ١–٢)؛ ثمَّ العذاب (١١) الذي يتكرر في السطر (٣٤)؛ أي في السطر الأخير؛ فالقصيدة ترتبط بصور هذه المفارقة العميقة التي تتوسل بالعناصر التي رصدها إمبوديكليس، فنور المطار يتحول إلى نار حارقة، ثم يصبح العذاب ينبوعًا يتدفق ماؤه أوَّلًا في النيل، ثم في صورة الدموع (٢٣) التي تلمح إلى كلمة المبكى (السطر ١) في عبارة تجمع التضادَّ الثنائيَّ في «الهوى الذي يشرق بالبكاء» (٢٤) والارتواء (٢٥) ثم «أشرب من عذابك» (٣٤)، ومن الطبيعي أن الأرض تصبح حارقة في هذه المفارقة المديدة، وأن الاندماج، بتعبير فان جينيب، يحقق النمط الفطريَّ الأخير الذي حدده يونج في عرضه لمراحل التحوُّل أو التطور، وهو الموت، وأن الانتقال بكل طقوسه قد أسلم الشاعر إلى مفارقةٍ لا سبيل إلى فهمها من خلال التحليل المنطقي بل لا بدَّ من قبولها بكل ما فيها، كما يوصي أ. س. برادلي في كتابه: «محاضرات عن الشعر في أكسفورد» (١٩٢٦م) فيما يتعلق بمفارقات الشاعر وردزورث.
وتمثل هذه القصيدة ما أشرت إليه آنفًا عن النمط الفطري للموت والميلاد الجديد، وما دمنا قبلنا المفارقة فنحن نقبل ما يقبله الشاعر باعتباره «القدر» المكتوب عليه؛ إذ إن بعض الأنماط الفطرية تمثل أقدارًا محتومةً، ويصعب تفسيرها ناهيك بتحليلها، ولكننا إذا أنعمنا النظر في المفارقة المذكورة وجدنا أن يونج يقبل تقسيم نغمة tone هذه القصيدة إلى موقفين: الموقف الأوَّل تمثله الشخصية الحياتية للشاعر؛ أي الشخصية الواعية أو المعروفة للوعي، وقد تنحرف فتتخذ قناعًا أو تصبح هي قناعًا. والموقف الثاني تمثله الشخصية النابعة من اللاوعي، وهي دومًا صادقةٌ، والتوتر ما بين موقفَي الشخصيتين — وهو الذي نسميه المفارقة بلغة النقد الأدبي — هو المسئول عن تعقيد القصيدة التي لا تقبل التلخيص في مقولة نثرية. ولننظر فيما يقوله يونج عن إحساسه بالقدر وبالله سبحانه وتعالى. يقول يونج:
كان لديَّ منذ البداية إحساسٌ بالمصير destiny كأنما كلَّفني القدر fate بمهمة حياتي وكتب عليَّ الوفاء بها. وقد وهبني هذا أمنًا داخليًّا، وعلى الرغم من أنني لم أستطع قطُّ إثبات ذلك، فقد أثبت ذلك نفسه لي، بمعنى أنني لم أتولَّ بنفسي الحصول على هذا الأمن بل إنه هو الذي حصل عليَّ. لم يكن بوسع أحدٍ أن يسلبني الاعتقاد بأنني أمرت بأن أفعل ما يشاء الله لا ما أشاء أنا. وقد منحني ذلك القوة على السير في طريقي الخاص، وكثيرًا ما كان ينتابني الشعور بأنني لم أعد أعيش بين الناس كلما صادفت أمرًا حاسمًا بل أعيش وحدي مع الله، وعندما أكون «معه» ينتهي إحساسي بالوحدة وأجد نفسي خارج الزمن، منتميًا إلى القرون، وأما الذي كان يجيب فكان الباقي على الدوام، ذا الوجود السابق لمولدي. كان ذو الوجود الأزلي قائمًا قيُّومًا. وكانت محادثاتي المذكورة مع «الآخر» [أي مع شخصيتي الأخرى (الثانية)] أعمق خبراتٍ مررت بها؛ إذ كانت تجمع بين النضال الدامي والنشوة الفائقة.
(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص٤٨)

وكان يونج قد شرح ما يعنيه بازدواج شخصيته قبل ذلك قائلًا:

كنت أعرف دائمًا أنني شخصان في مكانٍ ما عميقٍ في الخلفية، الأوَّل كان ابن والديَّ الذي يذهب إلى المدرسة … والثاني كان ناضجًا — بل شيخًا في الواقع — تتجاذبه الشكوك والرِّيب، بعيدٌ عن عالم الناس وقريبٌ من الطبيعة؛ من الأرض والشمس والقمر والجو وجميع الكائنات الحية، وقبل كلِّ شيءٍ قريبٌ من الليل، من الأحلام، ومن كلِّ ما يبدعه الله مباشرة داخله … كان يوجد إلى جانب عالم الشخص الأول الذي يعيش فيه عالمٌ آخر يشبه المعبد، وكان كلُّ من يدخله يتحول وتغشاه بغتةً رؤيةٌ للكون كله، بحيث ينحصر نشاطه في الدهشة والإعجاب، ناسيًا ذاته. هنا كان يحيا «الآخر» الذي يعرف الله … بل لم يكن يفصله عن الله أيُّ شيءٍ … وفي أمثال تلك اللحظات كنت أعرف أنني جديرٌ بذاتي، وأنني كنت ذاتي الحقَّة، وما إن أُصبح وحدي حتى أتمكن من الانتقال إلى هذه الحال. ومن ثمَّ كنت أطلب الاطمئنان والعزلة عند هذا «الآخر»؛ أي الشخصية الثانية.

(يونج، المرجع نفسه، ص٤٤–٤٥)

(٣) بين الأنا والذَّات

ويستدرك يونج في الفقرة التالية مباشرة قائلًا: إن التفاعل بين الشخصيتين؛ الأولى والثانية، والذي استمر طيلة حياته «لا علاقة له بالانقسام split أو الانفصال dissociation بالمعنى الطبي العادي، بل على العكس نجده في أفعاله عند كلِّ فرد» (المرجع نفسه ٤٥) إذ يؤكد يونج لنا أنه الكيان الروحيُّ العميق في اللاوعي، قائلًا: إن «فهم العقل الواعي عند معظم الناس لا يكفي لإطلاعهم على أنه هو نفسه الذي يمثل ذات كل فرد» (المرجع نفسه ٤٥). فإذا اعتبرنا أن حديث يونج عن الشخصية الثانية حديثٌ عن موقفٍ معينٍ نابعٍ من أعماق الوعي في ذاته، استطعنا أن نفهم كثيرًا من شعر الشعراء الذي يقوم على المفارقة طبقًا لتحليل العقل الواعي، خصوصًا إذا اعتبرنا أن ما يسميه يونج «شخصية» — يعتبر في خريطته العامة للنفس: «الذات» self التي تسعى للتكامل حتى تنجح وتصل إلى النضج الذي يسميه التفرُّد individuation. وعلى ضوء هذه النظرة نجد أن يونج يختلف عن علماء النفس الذين يرون أن «الأنا» تمثل قمة الإنجاز النفسي، في أنه يعتبر الأنا ego عنصرًا وحسب من عناصر الذات، فهي العنصر الذي يمثل الشرط المسبق اللازم لإدراك هوية الفرد؛ فالذات هي القوة الروحية المحركة، كما يقول يونج (المجلد ١١، الفقرة ٣٩١) والأنا هي وليدتها العاملة على الأرض؛ أي ذات الوجود المادي.
ويطلق إريك نويمان Neumann زميل يونج، على العلاقة بين الأنا والنفس صفة المحور axis؛ أي يقول بوجود محورٍ للأنا والنفس؛ أي an ego-self axis نستدل عليه بما يحدث من انفصالٍ تدريجيٍّ بينهما في غمار التحوُّل والانتقال إلى مرحلة النضج/التفرُّد، وهي التي تبلغ الذروة، كما يقول نويمان في كتابه «الطفل»: بناء الشخصية الوليدة وديناميتها (١٩٧٣م) عند انفصال الأنا عن الذات، ولكن ذلك المحور؛ أي الخطُّ العموديُّ الواصل بين الأنا والذات يضمن اكتمال الشخصية، أو كما يقول إدينجر Edinger في كتابه: «الأنا والنمط الفطري: التفرُّد والوظيفة الدينية للنفس» (١٩٧٢م) إنه يضمن حركة النفس نحو الاكتمال، أو ما نسميه الصيرورة، وهو يؤكد أن ذلك هو أساس عملية التفرُّد. ويورد إدينجر صورةً تشكيليةً رسمها لتطور هذا المحور، وينشرها ستيفنز (١٩٩٠م، ص٦٧) وها هي ذي:
رسمٌ بيانيٌّ يصور تطور خروج الأنا من الذات، من اليسار إلى اليمين.

ولنا إذن أن نحاكي مود بودكين في كتابها: «أنساق الأنماط الفطرية» في الشعر المشار إليه في المقدمة بأن نعتبر أن الشعر أمثلةٌ توضح لنا ما يعنيه يونج أولًا بنمط الرحلة الذي يتضمن الفراق والرحيل والعودة للاندماج، إلى جانب الدلالة على الموت والميلاد الجديد الذي يتخذ صورًا وموتيفات منوعةً في القصيدتين، ولنا أن نجمع هنا بين القصيدتين حتى نرى أيضًا ما يعنيه نويمان بالانفصال (بالخروج) والانتقال (بالرحلة) والاندماج (بالعودة) وهو نسقٌ واحدٌ يتضمن عدة موتيفات تساعد في تشكيل النمط الفطريِّ الأساسيِّ المذكور؛ فالشاعر يريد «قتل» ذاته الثقيلة، وهي ثقيلةٌ؛ لأنها وفق تفسير إدينجر ليونج تتضمن وجود الأنا داخلها؛ فالقتل أو موتيفة الموت عامل تحريرٍ للأنا من الذات، وقد يؤدي هذا التحرير وفق ما يتمناه الشاعر إلى تحقيق حلمه بالمدينة المنيرة؛ أي جنة التوافق بين الأنا التي تحررت (فهو يريد أن يحلَّ «أنا» الجديدٌ محلَّ «أنا» القديم؛ أي الغائص في الذات) وبين الذات التي تكتمل بالتفرُّد أو النضج، بل بالقوة القادرة على التعبير عن المشاعر المتفاوتة الممتزجة التي لا يستطيع العقل الواعي (أو الشخصية الأولى عند يونج) أن يتصورها مثل الحبِّ الذي يتكوَّن من مشاعر تشبه «الشهوة والرهبة والجوع»، وهكذا فإن صورة الموت («تموت في وقدتها خضرة أيامي») تؤدي إلى ميلاد جديد بعد أن تجمع إيزيس أشلاء الجسد المبعثرة لأوزوريس وتضعها في تابوتٍ يبعث ذلك الربَّ المصريَّ القديم حيًّا، ويربط قصيدة «العودة» بصورة «البعث المقيم» في قصيدة الخروج.

(٤) الدَّائرة

ويقول فان جينيب في كتابه عن طقوس الانتقال المشار إليه آنفًا؛ إن يونج كان يؤمن بتلاقي الأضداد، معبِّرًا عن الفكرة بالعبارة التي قد نجد اختلافًا في تفسيرها وهي les extrêmes se touchent فقد ترجمها بعضهم بتلاقي الأطراف، وربما كان هذا أقرب للمعنى المراد؛ فالموت نهايةٌ تعني بدايةً أخرى، والميلاد بدايةٌ تتضمن حتمًا نهايةً، ويختلف يونج مع فرويد الذي كان يشير إلى نزعة الموت أو غريزة الموت؛ إذ كان يونج يؤمن بأن تلاقي الأطراف المشار إليه يمثل حلقة أو دائرة يرمز لها نمطٌ فطريٌّ أو صورةٌ أزليةٌ للثعبان الذي يضع ذيله في فمه كأنه يأكله، واسمه الشائع uroboros وأصل الاسم ouroboros [من اليونانية oura؛ أي الذيل، والفعل boraein؛ أي يأكل] وكان وجود الذيل في الفم حسبما صوَّره القدماء دليلًا على اكتمال حلقة أو دائرة أو الكمال:
figure
الثعبان الذي يأكل ذيله كما رسمه مارشيانوس في القرن ١١.
ويقول فان جينيب إن مارشيانوس Marcianus وصفه بأنه «رمز عمل لا أوَّل له ولا آخر» c’est le symbole de l’Œvre qui n’a ni commencement ni fin وكان يونج يرى في هذا الرمز الحلقة التي تجعل «الأنا» أثناء محاولة الخروج من الذات (وهو هنا جسم الثعبان) تعود إلى الذات؛ بمعنى أن الوعي قد يحاول التحرُّر من اللاوعي ولكنه يعود إليه فيتسبب فيما يسميه يونج بالمركَّب أو المركبات complexes. وكان يونج يستخدم في وصفها أيضًا كلمة الكوكبة constellation التي تشير إلى اجتماع أنماطٍ فطريةٍ في اللاوعي بعد أن عجزت عن الخروج إلى الوعي، وهو ما كان فرويد ينسبه إلى الكبت، ولم يعارضه يونج في هذا بل وجد له تفاسير أسطوريةً تعتمد على «صور أزلية» يولد بها المرء، مثل صورة الثعبان.
ويقول يونج في تحليله لأحد أحلام مرضاه إن المريض كان قد رأى في منامه ثعبانًا يلدغ عقبه؛ ومن ثمَّ — إلى جانب سائر الأعراض الأخرى وعللها المحتملة — فإن صورة الثعبان الذي يلدغ عقب حواء (في السطر ١٥ من سفر التكوين: «وأثير عداوةً دائمةً بينك وبين المرأة، وكذلك بين نسليكما. هو يسحق رأسك وأنت تلدغين عقبه» في الكتاب المقدس)؛ قد رسبت فيما نسيه من أقوال، في أعمق طبقة من طبقات اللاوعي، وهي طبقة النسيان cryptomnesia. ويضيف يونج أنها هي التي يعنيها باللاوعي الجمعي؛ قائلًا إنها تختلف عن «اللاوعي السطحي أو النسبي أو الشخصي» (ذكريات وأحلام وتأملات، ص٣٤). وبعد أن يقدم الآية المذكورة من الكتاب المقدس، يقول يونج: «إنها صدى لترنيمةٍ مصريةٍ أقدم كثيرًا، وكانت تلقى أو تنشد للعلاج من لدغة الثعبان»، وهي تقول:
الرَّجْفَةُ في فَمِ هذَا الرَّبِّ الطَّاعِنِ في السِّنِّ
أَلْقَتْ فَوْقَ الأَرْضِ رُوَالَا
يَسَّاقَطُ في التُّرْبَةِ مِنْ وَهَنِ
وهُنَا عَجَنَتْ إيزيسُ بأَيْدِيهَا
بَعْضَ تُرَابِ الأَرْضِ بما سَالَا
صَانِعَةً رُمْحًا كَالحَيَّةِ مُخْتَالَا
لَمْ تَضَعِ الحَيَّةَ حَوْلَ مُحَيَّاهَا
بَلْ أَلْقَتْها مُتَكَوِّرَةً في الدَّرْب
إذْ يَسْلُكُهُ في العَادَةِ أكْبَرُ رَبّْ
في أيِّ مَكَانٍ يُضْمِرُ في المملكتيْن الحُبّْ
وخَطَا الرَّبُّ الجَبَّارُ بكلِّ بَهَاءْ
وَسْطَ الأَرْبَابِ الخَادِمَةِ لِفِرْعَوْنَ بكلِّ الأَنْحَاءْ
لكنْ أَثْنَاءَ السَّيْرِ كَعَادتِهِ اليَوْمِيَّةْ
لَدَغَتْهُ أَنْيَابُ الحَيَّةْ
فاصْطَكَّتْ أَعْظُمُ فَكَّيْهِ
وارْتَعَدتْ أَطْرَافُ الجِسْمِ جَمِيعًا
إذْ يَغْزُو السُّمُّ البَدَنَ سَرِيعًا
كالنِّيلِ الغَازِي لأَرَاضِيهِ المِصْرِيَّةْ.
(المرجع نفسه، ص٣٢–٣٣)
 [من كتاب أدولف إرمان الحياة في مصر القديمة، ترجمة ﻫ. م. تيرار H. M. Tirar لندن ١٨٩٤م، ص٢٦٥–٢٦٧، بتصرف].
ويضيف يونج أن ظهور الأفاعي في الأحلام ليس مقصورًا على من رأوها رأي العين، بل إن سكان المدن الذين لا يعرفون شيئًا عنها تعتادهم هذه الأحلام. ويوحي كلامه بأنه يعتبرها موتيفة مولَّدةً عن نمطٍ فطريٍّ معينٍ، ولكن الذي يهمني في هذا السياق هو أهمية الكيان الدائريِّ للأوروبوروس Uroborus؛ أي صورة الدائرة التي ذكرت من قبل أنها صورة الكمال؛ لأنها صورة الاستمرار؛ والذات — كما يقول يونج — تعبِّر عن وجودها تلقائيًّا بأشكالٍ دائريةٍ ورباعيةٍ، وهذا تعبيرٌ أزليٌّ فيما يبدو؛ لأن الشكل الرباعيَّ يتكون من ثنائيتين متقابلتين، ويمكن أن يمثِّلا كفَّتي ميزانٍ متعادلتين، وقد سبق أن ذكرت رباعية عناصر الطبيعة (التراب والهواء والنار والماء) التي قال بها إمبوديكليس، الفيلسوف اليوناني، مؤكِّدًا أن نمطين فطريين عظيمين؛ هما الحب والصراع يمزجانها أو يفصلان بينها، ونحن نعرف من تراث القرون الوسطى تركة هيبوقراط الذي ذكر أخلاط البدن الأربعة (الدم والبلغم والصفراء السوداء والصفراء الفاقعة) التي أشار إليها ابن المقفع في مقدمة «كليلة ودمنة»، كما ورثت الحقبة القَرَوَسْطِيَّةُ تقسيم صفات العناصر الطبيعية إلى الحارِّ والبارد والجافِّ والرطب. ولعلنا نذكر قول جالينوس الذي عاش في القرن الثاني للميلاد عن علاقة عناصر الطبيعة بأخلاط البدن، ولم يتوقف هذا التقسيم الرباعيُّ عبر العصور؛ إذ نذكر منها في الجغرافيا الجهات الأربع، والرياح الأربعة، وأبراج النجوم المقسمة إلى أربعة أقسامٍ بكل منها ثلاثة، ويضيف شرَّاح الكتاب المقدس رباعياتٍ أخرى، مثل الأناجيل الأربعة، وأنهار الفردوس الأربعة، وأجيال البشر الأربعة (آدم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى)، والفكرة القائلة بأن عصور الإنسان أربعةٌ — مجرد امتدادٍ للفكرة القديمة عن الكون، ودارسو الأدب الإنجليزي يعرفون كتاب عصور الشعر الأربعة (١٨٢٠م) الذي وضعه توماس لف بيكوك Peacock ورد عليه شلي بكُتيِّبه: «دفاع عن الشعر» (كُتب عام ١٨٢١م ونشر بعد وفاته؛ أي في عام ١٨٤٠م).
كنت أشرت في الفصل الأول إشارةً عابرةً إلى اهتمام يونج برمزَي الدائرة والمربع، في القسم الخاص بالذات والعالم، أو العلاقة بين بناء الذات الداخلي وبناء العالم الخارجي، وكيف كان يهتمُّ بشكل المندلة عند الشعوب البدائية التي توحي بالنظام والحركة، وتوحي بالزمن السرمد؛ أي الخلود قبل أن أنتقل في الفصل الثاني إلى اللاوعي، ثم إلى صورة النفس في الفصل الثالث، ثم إلى مراحل الحياة في هذا الفصل (الرابع) الذي أستعين فيه بالشعر لإيضاح ما يعنيه يونج بالتطور أو المسير نحو النضج الذي يتمثل في استقلال الذات عن الأنا، والحفاظ على العلاقة بينهما أو محور الاتصال، كما يسميه إدينجر؛ أي التواصل بين الذات [الشاملة للوعي واللاوعي] وبين الأنا التي تمثل الوعي وحده، وهو التواصل الذي يبين اتصال أطراف حركة النفس في دائرةٍ يمثِّلها الثعبان الذي يأكل ذيله، وكيف أن الدائرة التي يمثلها تعيدنا إلى الشكل الرباعي الذي تنتمي إليه داخليًّا وخارجيًّا، واقتبست حديثه عن تشبيه حياة الإنسان بدورة الشمس الظاهرية حول الأرض، وكيف يقسم هذه الدائرة إلى أربعة أقسام وفق ما نعهده في المندلة، ولكن يونج لم يبتدع «التقسيم الرباعيَّ» بل اهتدى إليه بالصورة التي وضعها ذوو النفوس الحساسة أو الأرواح الشفافة في الشرق والغرب؛ إذ تورد الباحثة إليزابيث سيرز Sears في كتابها: «عصور الإنسان: تفسيرات قروسطية لدورة الحياة» (١٩٨٦م) مقتطفات من كتاب وضعه ألان دي ليل Alain de Lille عنوانه: De Planctu Naturae؛ أي شكوى الطبيعة، عام ١١٦٠م (تقريبًا) يجعل الطبيعة تتحدث فيه بلسانها قائلة:

عندما يبزغ فجر الإنسان، يبدأ الصباح المبكر لربيع الإنسان، وعندما يكمل أشواطًا أطول في مسار حياته يصل إلى وقت الهاجرة في صيف شبابه، وعندما تمتدُّ حياته حتى يكتمل له ما يمكن أن نسميه الساعة التاسعة من عمره، يبدأ الإنسان فترة رجولته في الخريف، وعندما يهبط نهاره في الغرب، وتنذر الشيخوخة بمقدم مساء الحياة، يأتي برد الشتاء فيرغم رأس الرجل على أن يصبح أبيض؛ إذ يكسوه صقيع الشيخوخة الناصع، وفي هذه الحالات [الأربع] جميعًا تتجلى آثار سلطاني إلى درجة تعجز الألفاظ عن التعبير عنها.

(سيرز، ١٩٨٦م، ص٣٧)
وكان يونج يتفق مع أصحاب الرؤى الذين قرأ أعمالهم في التراث الإنساني، وهم الذين كانوا يؤكدون استقلال الوعي (الأنا عند يونج) عن الوعي واللاوعي معًا (الذات عند يونج) فإذا كانت الطبيعة هي التي تشكل اللاوعي الجمعي؛ ومن ثمَّ تشكِّل الذات؛ فإن النفس psyche تتمتع باحتوائها الأنا الواعية المتصلة بمحورها مع الذات؛ فهي الوعي الذي ترى الطبيعة (بقوانينها الخالدة) صورتها فيه. وهكذا فإن الوعي لا غنى عنه في محاولتنا إدراك المعنى وتقدير القيمة، وهو (بفضل الأنا) يتمتع بالاستقلال وحرية الإرادة؛ فهو يساعدنا على فهم الطبيعة بموضوعية بل ومواجهة أوامرها مواجهة مستقلة؛ إذ يقول يونج:

لو كان الإنسان مجرد مخلوقٍ أتى إلى الوجود نتيجة شيءٍ لا واعٍ سلفًا، فلن تكون له حريةٌ ولن يكون للوعي معنى … فإذا تصورنا وجود وعيٍ سابقٍ بصورةٍ مطلقةٍ و«أنا» تابعةٌ له تبعيةً كاملةً؛ فإن ذلك يصبح هزلية، ما دام كلُّ شيءٍ يمكن أن يسير ويتحقق بل وربما بصورةٍ أفضل عن طريق اللاوعي. إنه لا يكون لوجود وعي الأنا معنًى إلا إذا كانت حرَّةً ومستقلَّةً.

(يونج، المجلد الحادي عشر، الفقرة ٣٩١)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤