الفصل السادس

الانتقال إلى النُّضج

(١) التَّحوُّل إلى الضدِّ

من المصطلحات التي كان يونج مغرمًا بها طول عمره مصطلح «التحول إلى الضد» وهو enantiodromia الذي يتكون اشتقاقًا من مقطعين يونانيين هما enantio بمعنى الضدِّ وdromos بمعنى الجاري، وهو يستعيره من هرقليطس Heraclitus الذي كان يعني به أن كل شيءٍ حتمًا منقلبٌ إلى ضدِّه، ولكن يونج يقول: «إنه المبدأ الذي يحكم جميع دورات الحياة الطبيعية من أصغرها إلى أكبرها» (يونج: المجلد ٦، الفقرة ٧٠٨) ويجعله صنوًا لقدرة اللاوعي على معارضة الأنا محدثًا ترجيحًا للعوامل اللاواعية التي تضرُّ بالسلامة النفسية، وهو ما يوحي به قوله «لا يستطيع شخصٌ النجاة من القانون الجهم للتحوُّل إلى الضدِّ إلا من يعرف كيف يفصل نفسه عن اللاوعي» (يونج: المجلد ٧، الفقرة ١١٢). والواقع أن يونج يستخدم هذا المصطلح في سياقاتٍ مختلفةٍ محددةٍ؛ بعضها إكلينيكي، وبعضها رمزيٌّ أو نظريٌّ، ودائمًا ما يؤكد أهميته للثبات المتزن homeostasis؛ إذ إن قيام اللاوعي باختزان أضداد العوامل الواعية يؤدي في الحالات المعتادة إلى التوازن بين الوعي واللاوعي الشخصي والجمعي؛ بمعنى أن اللاوعي يقدم التعويض اللازم عما يفتقده الوعي، ومن ثمَّ فإدراك وجوده ينبِّه الباحث أو المحلل النفسي إلى وجود التعويض باعتباره عاملًا فعَّالًا لدى الأسوياء والمرضى جميعًا.
ويقول بعض الشُّرَّاح إن إيمان يونج بهذا القانون كان يرجع إلى تأمُّل علاقته الشخصية بوالديه، فلقد كان يعاني الحرمان من رباط الأمومة بسبب غياب والدته للعلاج خارج المنزل، ومن إشفاقه على والده بسبب عجز هذا الوالد الذي كان كاهنًا عن التصريح بشكوكه الدينية وإصراره على أداء واجبه الكهنوتي وفق متطلبات الوظيفة وحسب، ولكن يونج يلخص العلاقة العامة بين الطفل وأبويه بأنها تتضمن الإسقاط والتعويض معًا؛ بمعنى أن الطفل يسقط على أبويه صورًا مثاليةً، ثم يتراجع في فترة المراهقة عنها ناشدًا أن يرسم لنفسه، صورةً مضادَّةً تعبِّر عما يرى أن والديه يفتقران إليه، أما إذا بدأ الوالدان بالعدول عن التأثير «الصحيِّ» في نمو الطفل، فإنه سوف يشعر، كما يقول يونج، بارتباطٍ قلقٍ بهما anxious attachment بحيث يعيش حياةً يشير إليها يونج بعبارة «العيش المؤقت» وهو ما يشار إليه في الدوائر اليونجية باسم الولد السرمدي puer aeternus أو البنت السرمدية puella aeterna وأمَّا الخطر الأكبر الذي يواجه الأولاد هنا فهو عكس ذلك تمامًا؛ أي التحوُّل إلى الضدِّ المشار إليه آنفًا، بحيث تتمثل نجاة الطفل من «ابتلاع» الأبوين له في صورٍ مشهورةٍ يجسِّدها الأدب والأساطير في كلِّ مكانٍ وكلِّ ثقافةٍ. وأكثرها شيوعًا قدرة اليافع على قتل وحشٍ يهدِّد بالتهام الناس، أو بالقضاء على عدوٍ لدودٍ يتربص بهم، وعمومًا في صور البطولة التي يتحدث عنها يونج باستفاضة في كتابه: «رموز التحوُّل» (١٩١١–١٩١٢م) الذي ترجم إلى الإنجليزية عام ١٩٥٢م، والطبعة المتاحة صدرت عام ١٩٦٨م.
ومن أهم من شرح التحوُّلات النفسية في مرحلة المراهقة دونالد وينيكوت الذي سبقت الإشارة إلى كتابه عن «عملية النضج» (١٩٧٧م) الذي يركز على وظائف الوالدين، بل يؤكد أهمية دورهما في «مساعدة» المراهق على تخطي عقبة الارتباط بهما، ويقول في أكثر من موقعٍ في كتابه إن دور الأبوين يمثل البيئة اللازمة للتحوُّل المنشود، مطالبًا إيَّاهما على قدم المساواة بتنفيذ ذلك الالتزام الأساسي، وهو يختلف في موقفه عن موقع عالم الاجتماع الأمريكيِّ طولكون بارسونز Parsons في الكتاب الذي وضعه مع ر. ف. بيلز Bales عام ١٩٥٥م بعنوان: «الأسرة والتكيف الاجتماعي وعملية التفاعل»؛ إذ يولي دورًا أكبر للأب واصفًا إيَّاه بأنه الجسر الذي يعبره الطفل من الأسرة إلى المجتمع الخارجي، وهو يصف دور الأب بأنه أداةٌ فاعلةٌ instrumental في حين أن دور الأم «تعبيري» expressive ما دام مقصورًا على المنزل والأسرة. ومدخل بارسونز الاجتماعي، ما دام عالم اجتماعٍ، يؤكد اختلاف دور الأب، واصفًا إيَّاه بأنه قوة طردٍ من المركز إلى الخارج centrifugal؛ أي قوة دفعٍ للأبناء نحو المجتمع الخارجي على عكس دور الأم الجاذب إلى الداخل centripetal؛ فحبُّ الأمِّ قوةٌ تربط الأبناء بما يعتبر اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ويوصف بأنه تعبيريٌّ؛ لأنه يعبِّر عن الرابطة الأسرية التي يراها يونج فطريةً، وأمَّا أداة التغيير الأبويِّ فتميل إلى إكساب الابن المهارات التي لا بدَّ له أن يتسلح بها حتى يواجه حياة النضج، كما يعتبر في الوقت نفسه — في رأي بارسونز — ممثلًا للقيم والأخلاق السائدة في مجتمع الكبار، وهي التي لا بدَّ للأبناء من بنين وبناتٍ أن يستوعبوها حتى يحققوا النجاح في المستقبل. والأب كما ذكرت من قبل رمز السلطة الاجتماعية وينهض بدور حاسم في الأسلوب الذي يستجيب الصغار به للسلطة على امتداد حياتهم، ويضيف بارسونز أن نجاح الأب في هذا الدور يساعد المراهقين على التحرر من التعلُّق بالأم، وعلى اكتساب الاستقلال اللازم للحياة بين الكبار. وهو يصف هذا الدور بأنه تدشينٌ initiatory في المقام الأول، في حين أن الأمَّ تظلُّ تمثل للمراهق القاعدة المأمونة التي ينطلق منها في حياته مع الكبار.
ويتفق بارسونز مع يونج إذن في اعتبار الأمِّ ممثلةً للحبِّ Eros والأب ممثلًا للعقل والحكمة logos. ويخصص يونج فصلًا كاملًا للعلاقة بين الأب والأم باعتبارها علاقةً بين زوجين؛ ففي فصلٍ عنوانه: «الزواج باعتباره علاقة سيكلوجية» (ص٣٢٤–٣٤٥) في المجلد ١٧ وعنوانه: «تطور الشخصية» (وكان قد نشر أولًا عام ١٩٢٥م) — ينتهي إلى أن نجاح العلاقة الزوجية نفسيًّا (أي على المستوى الواعي عند يونج — ص٣٢٤) تعتبر أهمَّ عاملٍ يكفل الانتقال الصالح للأطفال من المراهقة إلى النضج، وهو يشير إشارةً خاصةً إلى أنه «على الرغم من وجود الإمكانية الفطرية لسلوك المرء تجاه الجنس الآخر، ولسلوك الأبوين في ذاته — فإن درجة نجاح أيِّ إنسانٍ في تحقيق هذه الإمكانية في مرحلة الشباب الانتقالية — يتوقف على مدى نجاح الأبوين في التعامل فيما بينهما بقدر نجاحهما في التعامل معنا» (ص٣٤١).
ويتعرض يونج لعاملٍ آخر من عوامل الانتقال إلى مرحلة النضج المشار إليها، وهي المرحلة التي يصفها بأنها «الحرب بين الأجيال» the war of the generations وهو يركز هنا على النمط الفطريِّ للأبوة في اللاوعي، باعتباره العامل الفعال في مراحل نمو الطفل الأولى؛ ومن ثمَّ فهو يبرز من اللاوعي ويظهر في سلوك الأب حتى يبلغ الصغير سنَّ المراهقة الأولى، وكأنما يحسُّ الوالد إحساسًا حدسيًّا بالتغير الذي حدث للصغار؛ يعود ذلك النمط الفطريُّ إلى اللاوعي، ومن ثمَّ تتغير صورة الأب الشخصية؛ إذ تفقد سحر نمطها الفطريِّ، فتتبدَّى للمراهقين نقاط ضعفه البشرية، ويتعرض للحكم عليه، ومهما يكن ما يتمتع به من حبٍّ وتقديرٍ فإن أولاده يرون أنه ينتمي إلى طراز قديم، وأنه فات أوانه بل وربما رأوا أنه يمثِّل عقبةً معينةً. ولا يشترك يونج مع فرويد في اعتبار الأب منافسًا جنسيًّا، بل يرى أن أولاده يرونه حصنًا للنظام البائد، وأما البنات فهنَّ يرينه عقبةً أمام حريتهنَّ الشخصية (والجنسية). وكلما ازدادت صرامة القانون الذي يضعه، ازداد إحساس الأبناء بضرورة «قلب نظام حكمه» وإحلال نظام جديد مناسب للزمن في محله.
وما زلت أذكر مقولة أستاذ في جامعة لندن (يدعى كيرجنفن) Curgenven كان قد تخرج في جامعة أوكسفورد، وكان ينتهز كل فرصة لتذكيرنا في المحاضرات التمهيدية للماجيستير بأن مبدأ جامعة أوكسفورد هو أن الزمان يتغير ونحن نتغير معه، وكان يقولها باللاتينية: Tempora mutantur, nos et mutamur in illis في حين أن شعار جامعة كيمبريدج هو «دائمًا على نفس الحال» semper idem وقد ضرب لنا مثلًا من أقوال علماء البيولوجيا الذين يؤمنون بفكرة النشوء والارتقاء، قائلًا: إن هذه الفكرة (التي تنسب كما هو معروف إلى داروين) تقول: إن الثقافة في المجتمعات الحديثة أصبحت تقوم بالوظيفة التي تقوم بها الغرائز في مجتمعات الثدييات، معرِّفًا الثقافة بأنها الوسيلة التي تنتقل بها طرائق التكيُّف مع الواقع من جيلٍ إلى جيلٍ؛ فالبقاء — كما كان يقول — يعتمد على الطريقة التي ينتسب بها جيلٌ من الأجيال للتراث الثقافيِّ. وقد تذكرت ذلك كله بسبب ما قرأته بعد ذلك أثناء دراستي لفكر يونج من الشروح التي قدمها كونراد لورنز Konrad Lorenz المشار إليه آنفًا في كتابه: «العداء بين الأجيال وأسبابه المحتملة» (١٩٧٠م) لموقف يونج من الثقافة؛ إذ يقول لورنز إن الثقافة «موهبة» يكتسبها كل جيل، ولكنها ليست موهبةً «مجانيةً» بل يجب على كلِّ جيلٍ أن يجتهد حتى يكتسبها، وهذا المعنى للثقافة يتناقض مع ما درج جيلنا على اعتباره التعريف النهائيَّ الذي أتى به ت. س. إليوت؛ أي اعتبارها أسلوب حياةٍ، وكذلك ما كان ماثيو أرنولد يشير إليه باسم «الحلاوة والنور» مقتبسًا عبارة الأديب جوناثان سويفت Swift الشهيرة، وكانت أصلًا تشير إلى النحل الذي يمنحنا العسل (الحلاوة) والشمع (النور) وكان أرنولد يقصد بالحلاوة الاستقامة الخلقيَّة وبالنور القوة الذهنية والحقيقة. وعندما ترجمت موسوعة الهرمانيوطيقا وجدت أن بعض المفكرين الألمان يشيرون إلى الثقافة بكلمة Bildung التي اعتدنا ترجمتها بالبناء النفسي أو التربية الروحية، وأذكر أن الدكتور شكري عيَّاد قال في إحدى ندوات معرض الكتاب في التسعينيات إن الثقافة معيارها مدى تكيُّف الإنسان مع البيئة الطبيعية والبشرية، وأدركت عندها أنه يومئ إلى الدلالة العميقة للثقافة باعتبارها قوة بناء وائتلافٍ أو قوة تشتيتٍ وتفتيتٍ.
وكان فرويد، كما نعرف، يرى أن الجيل الأكبر سنًّا من الذكور يشعر بالحذر من الجيل الجديد بسبب ما يمثله هذا الأخير من تهديدٍ جنسيٍّ، ولكن ذلك لا يمثل إلا جزءًا محدودًا من الواقع؛ فالمعروف أن الذكور عندما يبلغون الحلم وتزداد نسبة هرمون التستسترون testostrone هرمون الذكورة) في الدم، تزداد شهيتهم الجنسية وتزداد ميولهم العدوانية؛ ولذلك فهم يطعنون في مكانة الكبار لا في امتيازاتهم الجنسية وحسب، والأهمُّ من ذلك، كما يقول لورنز، أنهم يتهددون تماسك المجموعة التي ينتمون إليها ويشكلون خطرًا على نجاحها؛ ولذلك فهو يؤكد أن هذا هو السبب الذي يدفع الكبار في كل مجتمع إلى «تأديب» الصغار وتوجيههم إلى خدمة مجتمعهم. ويطلق كونراد لورنز على فترة المراهقة «فترة التشكيل الرَّخو die Mauser أو moult؛ أي جسم الحلزون البحري الذي تشكَّل لتوِّه من دون قوقعةٍ صدفيةٍ صلبةٍ تحميه» مضيفًا أن الرَّخاوة تسمح بدخول أفكارٍ جديدةٍ، ولكنَّ الاتزان مع الأفكار القديمة في داخله — لن يتأتى إلا بالمحاولة الواعية للتوفيق بينهما، وهو يقتبس قولًا لأفلاطون الذي يقول: «أنت صغيرٌ يا بنيَّ، وعندما تمرُّ السنون سوف يتغير الزمان بل وسوف يؤدي إلى عكس مسار آرائك الراهنة. إذن عليك أن تكفَّ قليلًا عن اعتبار نفسك حكمًا على أعلى شئون الدنيا» (أفلاطون: القوانين ٨٨٨، في لورنز، ص٩٨).
ويتوسع جوزيف كامبل Campbell في كتابه الكلاسيكي: «البطل ذو الوجوه الألف» (١٩٤٩م) في رصد أشكال البطولة داخل اللاوعي، وهي التي أدت في نظره إلى توليد عددٍ هائلٍ من الأساطير التي تدور في جوهرها، كما سبق أن بينت، على قدرة البطل على تخطي عدة عقباتٍ وعراقيل قبل مواجهة العقبة الكبرى أو المحنة الفاصلة التي يرمز لها الصراع مع الوحش. وحين ينجح في هزيمة الوحش ينال الجائزة الكبرى أو الكنز الذي يشقُّ الحصول عليه، وهو عرش المملكة والأميرة الجميلة زوجًا له.

ويقول كامبل إن هذه الأساطير تعبر بأشكال رمزية عن خبرة كل إنسانٍ؛ أي إن الانطلاق في مغامرة الحياة يتطلب تحرير المرء من أبويه، وترك منزله وعبور عتبة الطريق إلى الرجولة. وإذا كان يريد أن يظفر بعروسٍ فعليه أن يمرَّ بميلادٍ ثانٍ من أمِّه؛ يتمثل في قطع الحبل السُّرِّي. فكثيرًا ما تصوِّر الأساطير دخول الفرد بطن الوحش الذي يمثل الأمَّ، وأن يكافح بعد قضاء فترة للخروج من هذا الرحم النفسي الرمزيِّ بصورةٍ ما؛ لأن عدم الانتصار على الوحش — يعني البقاء إلى الأبد في بطنها، واستحالة ظفره بالأميرة (التي تمثلها الأنيما في اللاوعي عنده) بمعنى أنها تظل كامنةً «في رعاية مركَّب الأمِّ اليقظ» (كامبل ص٤٤).

ويفسر يونج ما نسميه حالة الشذوذ الجنسيِّ أو الميول الجنسية المثلية، وأيضًا حالة ممارسة الدونجوانية (أي إقامة علاقات عاطفية وجنسية مع عدد كبير من النساء) بأنهما نتيجة لوجود رابطٍ نفسيٍّ متين بين المرء وأمِّه، واستمرار هذا الرابط بعمقه نفسه إلى ما بعد بلوغه سنَّ الرشد. وهنا يتحدث يونج عن «مؤامرة سرية» بينهما، تؤدي إلى أن «يساعد كلٌّ منهما الآخر على خيانة الحياة» (المجلد ٩، الجزء الثاني، الفقرة ٢١) أمَّا هجره لأمِّه وكسر هذا الرابط فأمرٌ تعجز عنه قدرات الغلام، خصوصًا في وجود والدٍ قويٍّ ذي نفوذ فعال. فالتنكُّر لأمِّه «يعني حاجته إلى عاطفة خائنةٍ؛ أي رب حبٍّ قادرٍ على نسيان أمِّه والتخلي عن حبِّه الأول في الحياة» (المرجع نفسه، فقرة ٢٢).

ويقول يونج: إن من شأن هذه «المؤامرة السرية» أن تؤدي في العادة — من الناحية الجنسية — إما إلى ميولٍ مثليةٍ، وإما إلى ميولٍ دونجوانية؛ ففي الحالة الأولى يرجع السبب إلى أن طاقة اليافع النفسية [أو العاطفية] المتجهة بطبيعتها إلى الجنس الآخر، تظلُّ مقترنةً على نحوٍ ما بأمِّه؛ ومن ثمَّ لا تكون فيها مساحةٌ تسمح بدخول امرأةٍ أخرى، ويقول وينيكوت في كتابه المشار إليه آنفًا إن ذلك يرتبط في بعض الأحيان بالخلل في علاقة اليافع بأبيه؛ الأمر الذي يعيق الصبيَّ عن إدراك طبيعة ذكورته. ويقول المحلل أندرو صمويلز في كتاب حرره عام ١٩٨٥م بعنوان: «الأب: منظورات يونجية معاصرة»، إن ما يذكره وينيكوت صحيح إذا كان موقف الأب من أبنائه «قهَّارًا» أو «غلَّابًا» overwhelming إلى الحد الذي يدفع اليافع إلى طلب تحقيق ذاته مع ذكرٍ آخر يؤكِّد ذكورته، وطلب إقامة علاقة يعرف أنها لن تكتمل بسبب إحساسه «بالخيانة» التي يسميها يونج «خيانة الحياة» ما دام ارتباطه النفسي (العاطفي) بأمِّه قائمًا ومتينًا. ويستشهد صمويلز بحالات مرضى لم يكونوا يدركون طبيعة ما بهم، فتوافر هذين العاملين هنا مهمٌّ، في رأي هذا المحلل؛ أي تعرُّض المريض لقوة الرباط النفسي مع الأمِّ ونشدان تحقيق ذكورته مع ذكرٍ مثله. ويقول المحللون إن الوعي بهذا الازدواج يمهد الطريق للوعي؛ فهو يعمل على إيقاظ إدراك اليافع لكيانه؛ ومن ثمَّ يعتبر عاملًا من عوامل تحرُّر اليافع من الارتباط بالأمِّ؛ أي بالتحرر من «مركَّب الأمِّ» الكامن في اللاوعي، والانطلاق في طريق الجنس الآخر.

ويستدرك يونج قائلًا: إن هذا التفسير ليس صحيحًا في جميع الحالات، مؤكِّدًا وجود عنصرٍ وراثيٍّ (جينيٍّ) في حالاتٍ كثيرةٍ من المثلية الجنسية، وأن القول بوجود «مؤامرةٍ سرية» لا ينطبق على جميع الحالات، ويضيف قائلًا: إن الميل الوراثيَّ قد لا تصاحبه العوامل الاجتماعية المذكورة، وقد تصاحبه؛ أي إن الأمر معقَّدٌ، بخلاف حالة الدونجوانية؛ ففيها ينشد اليافع بديلًا مثاليًّا عن الأمِّ، فإذا عثر على ما يتصور أنه بغيته فربما أحس أنه أخطأ فحاول نشدان بديلٍ آخر وهلم جرًّا. ولكن يونج يقتصر على الحالات «المرَضيَّة» التي كان يدرسها ويعالجها في عيادته، وأمَّا خارج العيادة فالمجتمع زاخرٌ بأسوياء أصحاء قد لا يتسبب ارتباطهم الواعي بالأمِّ أو علاقتهم غير الواعية بالأب في أية مشكلات نفسية. والحقُّ أن علماء النفس المحدثين قد استفادوا من أبحاث علماء الاجتماع فوسَّعوا إطار النظرة (من جانب علم النفس العميق) إلى هذه الحالات التي ما نزال نعتبرها شذوذًا في مصر، وإن كانت نظرة الغربيين قد اختلفت وأصبحت قطاعاتٌ كبيرةٌ من المثقفين لا ترى فيها أدنى انحراف عن «الطبيعة». وأظن أن علماءنا العرب قد درسوا هاتين الظاهرتين درسًا عميقًا وشاملًا، كما جسدها الروائيون والشعراء في أدبهم ودواوينهم، بل ويشهد كلٌّ منا أمثلةً واضحةً لها في حياتنا اليومية؛ ومن ثمَّ فنحن نحسن الصنع إن أخذنا استدراك يونج مأخذ الجدِّ وسلَّمنا بأن الحالات المرَضية التي بنى عليها فرضياته قد تقتصر على أصحابها وترفض التعميم أو إطلاقها على أبناء البشر كافَّةً.

(٢) العلاقة الزَّوجيَّة

يقول يونج في الفصل المشار إليه آنفًا بعنوان: «الزواج باعتباره علاقةً سيكلوجية» إن نجاح الزواج يتوقف على درجة وعي الزوجين بالحقيقة النفسية لكلٍّ منهما، ويضيف قائلًا إن التقاليد التي درجنا عليها كانت (وما تزال) تميل إلى اعتبار الزواج رباطًا غريزيًّا يعتمد على اللاوعي إلى حدٍّ كبيرٍ، ويخضع لنظم العادات والأعراف الاجتماعية. وهو يصف هذا بأنه «زواج قروسطي»؛ أي [ينتمي للقرون الوسطى] قائلًا إنه كان آليةً فعالةً للحفاظ على الجنس البشري ودوام الاستقرار الاجتماعي، ولكنه لم يكن «علاقة سيكلوجية». ومع ذلك فهو يعترف بأن الزيجات القائمة على «الإسقاطات العمياء للأنيما والأنيموس يمكن أن تنجح»، ومعنى التعبير المذكور هو أن يرى الزوج في زوجته صورة الأنثى داخل نفسه، وترى الزوجة في الزوج صورة الرجل داخل نفسها من دون وعيٍ من جانب أيهما بذلك؛ إذ لا يدركان أن ما يراه كلاهما وهمٌ وحسب، ويضيف قائلًا: «وتوصف هذه الحالة بأنها حالة توافقٍ كاملٍ، وتتمتع برفع شأنها باعتبارها سعادةً غامرةً «قلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدةٌ»؛ ولذلك سبب وجيه؛ إذ إن العودة إلى الحالة الأصلية للوحدة اللاواعية تشبه العودة إلى الطفولة، «وهو ما يفسر لنا الحركات الطفولية لجميع العشاق» (المجلد ١٧ الفقرة ٣٣٠) ولكن أمثال هذه الحالات من نعيم التوحُّد — قد يصعب عليها البقاء في ظروف المجتمعات الحديثة.»

ونحن نفهم من الوصف بالحداثة عقد العشرينيات الذي كتب فيه يونج هذا الكلام؛ ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى كان الزواج قد ازداد بناؤه على الوعي، وابتعاده في الغرب عن الصورة النمطية القديمة، ولم يكن المجتمع في الوطن العربي — وخصوصًا في مصر — بعيدًا كل البعد عن التحولات الاجتماعية التي أثَّرت في العلاقات الزوجية، وأكاد أقول: إن الوعي الذي يتحدث عنه يونج قد ازداد لدينا باطراد حتى اليوم. وأما عيب ما يسميه يونج بالإسقاطات العمياء للأنيما والأنيموس فهو أنه يؤدي إلى الإحساس في بعض الحالات بما يشار إليه بخيبة الأمل، ويتضمن قدرًا من التضحية بالمثالية إلى حدٍّ ما، وإلى إطلاق التخيلات من الطرفين، والتعلُّق بآمال التغيير. ويشبِّه يونج هذه الحالة بفقدان اليافع لصورة الأبوين التي رسمتها الأنماط الفطرية. ولكن الزواج باعتباره «علاقة سيكلوجية» حقيقية — لا يتوافر إلا بعد التخلُّص من إسقاط النمطين الثابتين للأنثى والذكر، وكسر الإحساس الأصليِّ بالوحدة والتماهي. ويعلق يونج على ذلك قائلًا: إن ذلك لا يحدث (للأسف) كثيرًا (إذا حدث على الإطلاق) بسهولة ومن دون أزمات «فمولد الوعي في هذه الحالات لا بدَّ أن تصاحبه آلام المخاض» (المجلد ١٧، الفقرة ٣٣١)

ويقول يونج: إن كل زواج يتضمن قدرًا من التفاوت بين مستوى «التنمية الروحية» عند الزوجين، وهو ما يؤدي إلى «احتواء» أحدهما للآخر، ولكنَّه لا يقصد بالتنمية الروحية ما نسميه القداسة holiness أو الحرمة الدينية religious sanctity بل يقصد «تركيبًا معينًا للنفس أو للطبيعة، يشبه الجوهرة ذات الوجوه الكثيرة»، فإذا كان أحد الزوجين يتميز بتركيبٍ أكبر ووجوهٍ نفسيةٍ أكثر، فمن المحتمل أن «يحتوي» الطرف الآخر الذي يقلُّ عنه في هذه الخصيصة. ولا يتسبب ذلك في أية مشاكل ما دام الطرفان غارقين في إسقاطاتهما للأنيما والأنيموس، ولكنَّ نمو الوعي يأتي في أعقابه بخفض مستوى التوافق بل وقد يحدث الشقاق. ويقول يونج: يمكن للمرء أن يصف هذه المشكلة بأنها مشكلة «الطرف المحتوى» و«الطرف الذي يحتويه» (المرجع نفسه، الفقرة ٣٣١ج). ويشرح يونج ذلك قائلًا: إن المشكلة تنشأ حين يعيش الطرف المحتوى داخل حدود الزواج وحسب «فخارج الزواج لا توجد التزاماتٍ أساسيةٍ ولا مصالح ملزمةٌ»، وأما الطرف الذي يحتويه فيبدأ الإحساس بأن تلك الحدود تمثل قيودًا مزعجةً، «فالطبيعة البسيطة تتخذ صورة الغرفة الضيقة في نظر الطبيعة المركَّبة»؛ أي التي لا تهبها مساحةً كافيةً، «ولكن الطبيعة المركَّبة تقدم للطبيعة البسيطة غرفًا كثيرة»، وهذا يؤدي إلى الإحباط للأولى وإلى الإحساس بعدم الأمان للأخيرة، مما يؤدي إلى قلقلة الزواج، وكلما ازداد «إصرار الطرف الأول على موقفه، ازداد إحساس الطرف الأخير بأنه أخرج من هذه العلاقة … وفي هذه الفترة يمكن أن تقع أحداث تصعد بالصراع إلى ذروته» (المجلد ١٧، الفقرة ٣٣٣).
وأما الذي يشير إليه يونج بتعبير «الصراع» فيشير إليه باحثون آخرون بلفظة «الصدام» clash النابع من التفاوت فيما يسميه يونج «التنمية الروحية» بين الزوجين، وكثيرًا ما يتحطم الزواج هنا، وإن كان يمكن للزوجين أن يجتهدا لاكتساب الوعي بهذا التفاوت — وهو طريق صعب (مثل المفاوضات السياسية) — يتطلب من الطرف ذي الطبيعة الأكثر تركيبًا، رجلًا كان أو امرأةً، أن يبيِّن أنه في حاجة إلى قدر أكبر من احتواء الطرف الأقل تركيبًا له، ويتطلب من هذا الأخير أن يواجه المسئولية فلا يهرب إلى داخله؛ الأمر الذي يمكن أن يرغمه على الانفصال، بل عليه أن يجد في ذاته تلك القدرات المركَّبة التي كان قد أسقطها على شريك حياته في البداية. وأنا أقتبس هذا التفسير من أحد شارحي يونج وهو أدولف جوجنبول-كريج Guggenbühl-Craig في كتابٍ بعنوان: «الزواج حيًّا أو ميتًا» صدرت طبعته الأولى عام ١٩٧٧م (والطبعة الثانية ١٩٨١م) حيث يصف هذا «الطريق الصعب» بأنه «زواج التفرُّد»، والمقصود ارتفاع مستوى الوعي بواقع كلِّ طرفٍ في ذاته وفي ذات الآخر، وقبول الاختلاف في سبيل الوفاق؛ فالوعي بالواقع يعني إدراك ما هو أساسيٌّ وما هو هامشيٌّ. وقبول الاختلاف يعني الاستعداد للتنازل عن الهامشيِّ أو تعديله في سبيل الأساسيِّ، ومن هذه الزاوية يوحي المؤلَّف المشار إليه بأن التفرُّد الذي يقصده يعني «التكيُّف»، وهو من المعاني المرتبطة بهذا المبدأ عند يونج. ويختتم يونج مناقشته للموضوع قائلًا: «كثيرًا ما يحدث هذا في فترة منتصف العمر، وبهذا الأسلوب تقوم طبيعتنا البشرية بمعجزةٍ انتقاليةٍ؛ إذ ترغمنا على الانتقال من النصف الأوَّل للحياة إلى النصف الثاني؛ فهي تحوُّلٌ من حالةٍ يقتصر الإنسان فيها على كونه أداةً في أيدي الطبيعة الغريزية إلى حالةٍ أخرى لا يقوم فيها بدور الأداة بل يصبح ذاته: وهذا تحوُّلٌ من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الغريزة إلى الروح» (يونج المجلد ١٧، الفقرة ٣٣٥).
ويتجلَّى لنا «الصدام» المذكور بأنصع صوره في شعر د. ﻫ. لورنس D. H. Lawrence (١٨٨٥–١٩٣٠م) الذي كان معاصرًا ليونج، ومعاصرًا لما كانت تلك الحقبة من حقب التاريخ المعاصر تموج به من مذاهب فلسفيةٍ؛ أبرزها الوجودية (عند هايديجر) والمذهب الحيويُّ (المبنيُّ على فكر الفرنسي هنري برجسون) والتحليل النفسي (الذي كان فرويد قد أرسى أسسه) وعلم النفس التحليلي الذي كان يونج يجاهد في سبيل تثبيت دعائمه، مطوِّرًا من نظرة فرويد الرائدة إلى اللاوعي؛ وهي التي شارك يونج في دراستها وتطبيقاتها (مع فرويد وآدلر بعد بلويلر) Bleuler ثم طوَّرها بتقسيم اللاوعي إلى لا وعي شخصيٍّ ولاوعي جمعيٍّ فطريٍّ، إلى جانب الأنماط الفطرية وفكرة التفرُّد التي عرضت لها بكلمةٍ موجزةٍ في آخر الفقرة السابقة في إطار تعبير جوجنبول-كريج «زواج التفرد». وقد كتب الشاعر د. ﻫ. لورنس عدة قصائد يتجلى فيها تأثُّره بالمذاهب الفكرية الشائعة آنذاك، وهو في قصيدته: «مانيفستو» يقدم صورته الخاصة لعلاقة التفرُّد الزوجيِّ التي رسمها جوجنبول-كريج ويتفق فيها؛ أو قل إنه يستبق حديث يونج عن معنى «التفرُّد» عنده وعلاقته بالزواج الناجح؛ وبطبيعة الحال من المحال القول بالتأثير أو التأثُّر، خصوصًا بسبب «تغيير يونج لتأكيد بعض عناصر التفرُّد في كتاباته على مرِّ السنين وفقًا للمصدر الذي كان قريبًا منه في تلك اللحظة» (صمويلز وآخرون، معجم نقدي للتحليل عند يونج، ص٧٧).

وقصيدة «مانيفستو» طويلة (نحو ٢٠٠ سطرٍ) وسأقتطف منها الفقرة السابعة وبعض الثامنة للسبب نفسه الذي جعلني أقتبس أشعار الآخرين في هذا الكتاب، وهو إيضاح المفهوم المعقد للتفرُّد في صورته الحية عند الشعراء؛ أي إن السبب أقرب إلى تفهُّم المصطلح منه إلى تذوق الشعر أو نقده، فلذلك مكانٌ آخر. يختتم لورنس القسم السادس بالمشكلة النفسية التي عرضت له في زواجه بحبيبته وهي إدراكه اختلافه عن زوجته؛ أي إنه يواجه في الزواج ذاتًا أخرى، على الرغم من إيمانها بأنها تمثِّل وإياه كيانًا واحدًا. ثم يبدأ القسم السابع قائلًا:

أَقُولُ إنَّها تَمَسُّنِي كأنني بالحَقِّ ذَاتُها أَوْ نَفْسُهَا
إذْ إنَّهَا لِلْآنَ لَمْ تُدْرِكْ لُبَابَ ذلِكَ الأَمْرِ المُخِيفْ
أيْ إنني الآخَرْ
بَلْ إنَّهَا تَظُنُّ أنَّنَا كِيَانٌ وَاحِدٌ
وتِلْكَ كِذْبَةٌ مُؤْلِمَةٌ.

•••

أُرِيدُ مِنْهَا أنْ تَمَسَّنِي أنَا في آخِرِ المَطَافْ
أي أنْ تَمَسَّ جِذْرَ ظلمتي وصُلْبَهَا
وتَفْنَى في كِياني
مِثْلَمَا فَنَيْتُ في كِيَانِهَا
وعِنْدَهَا نَكُونُ كَائِنَيْنِ، مُنْفَصِلَيْنِ
وكُلُّ وَاحِدٍ لَهُ وُجُودُهُ المُعَيَّنُ المُنْفَصِلُ
فَذلِكَ الوُجُودُ يُصْبِحُ الوُجَودَ المَحْض
حُرِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةْ

•••

ورَيْثَمَا يَكُونُ هذَا سَوْفَ نَبْقَى في تَشَوُّشٍ خَلِيطًا دُونَ تَمْيِيز
بِدُونِ فَصْلِ بَعْضِنَا عَنْ بَعْض
حُرِّيَّةُ الإنْسَانِ لَا تَكُونُ إلَّا في تَمَيُّزِ الوُجُودِ المُفْرَدِ الخَالِصْ
ذَاكَ الذي يَمْتَازُ باسْتِقْلَالِهِ الذي لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْه
لا في اخْتِلَاطِهِ أو امْتِزَاجِهِ أو في تَمَاثُلِهْ
أيْ عِنْدَ مَسِّ أَكْثَرِ الذي لَدَيَّ مِنْ مَصَادِرٍ غُمُوضًا واخْتِفَاء
أيْ أَكْثَرُ الأَحْدَاثِ عنديَ اتِّصَافًا بالخَفَاءْ
أو قُلْ إذَا تَبَيَّنَتْ في لَحْظَةٍ كَأَنَّهَا الهَلَاكُ «أَنَّنِي أَنَا»
ودُونَ أنْ تكُونَ جُزْءًا مِنْ كِياني
وتُدْرِكُ اخْتِلَافَها المُطْلَقَ عَنِّي
وأنَّ لي وُجُودَ الآخَرِ الرَّهِيبْ
أيْ عِنْدَمَا تُحِيطُ بالجِسْمِ المُخِيفِ الآخَرْ
فَيَا لَهَا مِنْ ظُلْمَةٍ مُخِيفَةٍ مَجْهُولَةِ الأَعْمَاقِ قَدْ تَجسَّدَتْ
وأَصْبَحَتْ مُتَاخِمَةْ
وعِنْدَمَا تُقْتَلُ في قبالتي
وتَنْتَهي إلَى الرُّقَادِ كَوْمَةً كَأَنَّهَا
في خَارِجِ المَنْزِلْ
وعِنْدَمَا يَغِيبُ وَعْيُها كمَا أَغِيبُ عَنْ وعيي
إذَا الْتَحَمْتُ بالآخَرْ
وحِينَ ذَاكَ سَوْفَ أَعْرِفُ السُّرُورْ
ولَنْ أُكَابِدَ التَّشْوِيشَ في صُحْبَتِهَا
بَلْ سَوْفَ أَغْدُو صَافِيًا مُمَيَّزًا ومُفْرَدًا
كأنني صُقِلْتُ بالفِضَّةْ
فَلَيْسَ عنديَ الْتِزَامٌ لَا ولَا ارْتِبَاطٌ في مَكَانٍ مَا
بَلْ عُدْتُ فَرْدًا خَالِصَ الوُجُودِ مَصْقُولًا ومَعْزُولًا ومُنْفَرِدًا
كمَا تَعُودُ ذَاتُهَا إلَى الصَّفَاءِ في انْعِزَالِهَا وفي اكْتِمَالِهَا
وحِينَ يَغْدُو كُلُّ وَاحِدٍ مُمَيَّزًا تَمَيُّزًا لا يُوصَفُ
مُرْتَبِطًا بالآخَرِ ارْتِبَاطَهُ الذي لَا يُوصَفُ
وعِنْدَهَا نَنَالُ حُرِّيَّتَنَا
حُرِّيَّةً تَزِيدُ عَنْ حُرِّيَّةِ المَلَائِكَةْ
أَجَلْ! سَنَبْلُغُ الكَمَالْ.

وبهذا يختتم القسم السابع، الذي لا يعيبه إلا الإطناب، وهو على أية حالٍ يشرح الأمر شرحًا وافيًا، ثم يعود للموضوع في القسم الثامن والأخير، مختتمًا القصيدة بهذه السطور من بحرٍ شعريٍّ آخر يلخص الأمل الذي عبَّر عنه شارح يونج المذكور:

لَنْ نَنْظُرَ للماضي أوْ لِلْمُسْتَقْبَلْ
بَلْ سَوْفَ نَكُونُ وُجودًا في الحَاضِرْ
وسَنَكْتَسِبُ المَعْرِفَةَ الكَامِلَةَ
فَنَحْنُ حُضُورٌ رُوحيٌّ
وقد يجد القارئ في هذه السطور الأخيرة إيماءً إلى استخدام يونج للفظ الروح نفسه في آخر مقتطفٍ منه (المجلد ١٧ فقرة ٣٣٥) وتعبير «التنمية الروحية» في المرجع نفسه، فإن يونج يقول إنه تركيبٌ معينٌ للنفس البشرية، كما سبق أن ذكرت؛ أي إن النفس البشرية في المقتطف المذكور — والتي يشبِّهها يونج بالجوهرة ذات الوجوه المتعددة — هي الذات التي يعود إليها في آخر الفقرة المشار إليها نفسها. وهذه من الحالات القليلة التي يتسرع فيها يونج بكتابة spirit ثم يتبين أن عليه أن يوضِّح المقصود بها وهو الذات self، ثم يعود في فقرةٍ تاليةٍ لاستخدام soul للدلالة على الذات (بدلًا من spirit.) وأقول عرضًا إن الشاعر على الرغم من حريته في استخدام المصطلحات (ورغم الرُّخص الشعرية التي يتمتع بها) نادرًا ما يستخدم ألفاظًا غامضةً، وأقصى ما يفعله بفضل الحرية المشار إليها — هو استخدام ألفاظٍ تحمل أكثر من معنًى، ثم العودة إليها لتحديد المعنى الذي يريده، وهذا ما راعيته في الترجمة؛ لأن التكرار مع التنويع repetition with variation وسيلةٌ موسيقيةٌ تتفق مع إيمانه بالوجود الزمني أو الزمن الوجودي عند هايديجر (انظر كتابي: «مصطلحات الفلسفة الوجودية عند هايدجر»، ٢٠١٧م، القاهرة، ص١٧٠).

(٣) لمحاتٌ من حياة فرويد ويونج

ويختلف يونج عن الكثير من علماء النفس في أنه يعتمد في دراساته ومنهجه التجريبي (إذ كان يجمع بين صفات الطبيب النفسي والمحلل وعالم النفس وفق التعريف الذي قدَّمته في مستهلِّ الفصل الأول) على حياته الشخصية، وهو العامل الذي دفعه إلى دراسة الطب النفسي بدايةً — كما قال في سيرته الذاتية؛ فهو يروي أحلامه ويحللها، ويعمل جاهدًا على الغوص في أعماق اللاوعي لديه، ويرتبط بالمرضى الذين يحللهم، شأن كلِّ محللٍ بارعٍ؛ ولذلك فإن انهياره النفسي الذي حدث عام ١٩١٣ — والذي قدَّمت له بعض التفسيرات من جانب عددٍ من شرَّاح يونج — كان يرتبط في رأي شرَّاحٍ آخرين بعلاقته الزوجية، ولم أكن أنتوي أن أعرض لهذا الموضوع من قريبٍ أو بعيدٍ بسبب أصدائه الأخلاقية التي شاعت في عالم اليوم، خصوصًا في الغرب منذ قيام ما يسمى «مجتمع الإباحة» permissive society بعد الحرب العالمية الثانية (هل لكلمة «الإباحة» علاقةٌ بالكلمة العامية «الأباحة»؟ أم أن الأخيرة هي النطق العاميُّ للفظ «القباحة» [من القبح]؟) إذ انتشر الاعتقاد بأن الأخلاق القويمة تقتضي الزواج بواحدةٍ فقط، واعتبار تعدد الزوجات جريمةً نكراء، كما شاع هروب الشباب من رباط الزواج والاكتفاء بما يسمى علاقة الشريك partner الذي يعيش مع صاحبته cohabitation من دون زواج، فذلك يتيح لكليهما تغيير الشريك حينما تتعذر الحياة المشتركة، دون مشكلات إلا فيما يتعلق بحضانة أطفال السِّفاح، كما اعتدنا أن نسمع عن مغبَّة الطلاق حتى من قبل إباحته قانونًا في بريطانيا مثلًا عام ١٩٦٩م بسبب تكاليفه المادية لا بسبب عواقبه النفسية الوخيمة؛ خصوصًا بالنسبة للأطفال، ولم يعد من النادر التغاضي عن نزوات أحد الزوجين خارج نطاق الزواج ما دامت تسمَّى عابرةً en passant وغير مؤثرةٍ في «مؤسسة الزواج» حيث البيت والأطفال في مجتمعاتٍ معينةٍ، واعتبارها في مجتمعات أخرى خيانةً تبرر القتل (بسبب الشرف) إن وقعت من جانب الزوجة لا الزوج. وأعتقد أن القراء يذكرون قصة الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون واتهامه بعلاقة ما مع إحدى الفتيات، وكيف أنكر، ثم اعترف واعتذر، وغفر الناس (مجتمع الرجال) ما كان ونسوه باعتباره هفوةً أو كبوةً أو نَبوةً أو نزوةً يتعرَّض لها جميع البشر، ومن منا بلا خطيئة؟ ومن الطريف أن الكلمة الإنجليزية التي تشير إلى أمثال تلك النزوات وهي affair تستخدم أيضًا في الإشارة إلى الفضيحة مثل فضيحة ووترجيت the Watergate affair على عكس عنوان رواية الكاتب جراهام جرين «نهاية العلاقة الغرامية» End of the Affair والمسكوت عنه في هذا العنوان أنها علاقة غير مشروعة خارج نطاق الزواج (أي بين اثنين أحدهما متزوج).
ولذلك لم أكن أنتوي الإشارة إلى هذه المسألة، لولا أن أحداث حياة فرويد ويونج كانت لها آثارها المؤكَّدة في الأفكار التي نشراها على الناس، وأصبح من حق الناس أن تطلع على ما وراءها. وأما القصة فقد أماط اللثام عنها أستاذٌ في علم النفس في أمريكا يدعى الدكتور جون م. بيلينسكي Billinsky في مقال نشره عام ١٩٦٩م في دورية علمية أمريكية، يتعلق بحياة فرويد وحياة يونج أيضًا أثناء صداقتهما الوطيدة وفترة انهيارها، وهي التي يروي ملخصها العلامة جوزيف كامبل في مقدمة «مختارات من كتابات يونج»؛ إذ يقول بيلينسكي إن يونج قال له ما يلي عام ١٩٥٧م:

عندما وصلت إلى فيينا مع زوجتي الشابة السعيدة، جاء فرويد لزيارتي في الفندق حاملًا بعض الأزهار لزوجتي، وكان يحاول التلطف الشديد معي، فقال أثناء الحديث: «يؤسفني عجزي عن إبداء كرم الضيافة الحقيقي؛ فلا شيء لديَّ في المنزل إلا زوجةٌ عجوزٌ». وعندما سمعته زوجتي يقول ذلك بدا عليها الحرج والحيرة. وحاولت ونحن جلوس إلى مائدة العشاء في مساء ذلك اليوم أن أتحدث مع فرويد وزوجته عن التحليل النفسي، وعن أنشطة فرويد، ولكنني سرعان ما اكتشفت أن زوجة فرويد لم تكن تدري أي شيءٍ إطلاقًا عما يفعله فرويد. وكان من الواضح وضوحًا تامًّا أن العلاقة بين الزوجين كانت سطحيةً إلى حدٍّ بعيد.

وما لبثت أن قابلت الأخت الصغرى لزوجة فرويد. كانت باهرة الجمال، وكانت تحيط بكل شيءٍ لا عن التحليل النفسي فقط بل عن كل ما يفعله فرويد. وعندما قمت بعد بضعة أيام بزيارة مختبر فرويد طلبت منِّي أخت زوجته أن أحادثها على انفراد. وعندها قالت لي إنها مهمومةٌ همًّا كبيرًا بسبب علاقتها بفرويد وتشعر بالذنب إزاءها. وعلمت منها أن فرويد كان يحبُّها، وأن صداقتهما كانت بالفعل حميمةً إلى أقصى حدٍّ. وقد صدمني هذا الاكتشاف صدمةً أليمةً ما زلت إلى الآن أشعر بعمق آلامها.

(كامبل، مقدمة المختار من كتابات يونج (١٩٧٦م) ص١٦)

ويواصل بيلينسكي تقديم القصة التي قصَّها عليه يونج، مضيفًا إن يونج كان يعجب من استمساك فرويد بفكرة «الأبوة» الرمزية أو العلمية له، وإصراره على تفسير بعض أحلام يونج بأنها تمثل رغبته الدفينة (في اللاوعي) في قتل فرويد وفقًا لإيمانه الذي لا يتزعزع بما كان يطلق عليه «المركَّب الأوديبيَّ» (أو ما يسميه الناس «عقدة أوديب») ما دام فرويد يمثل له «والدًا بديلًا»، وإن يونج لاحظ أن حالات الإغماء التي كانت تصيب فرويد كانت ترتبط بعوامل في اللاوعي تنبع من العلاقة الثلاثية بينه وبين زوجته وأختها، وكان الرجلان قد اعتادا منذ بداية رحلتهما إلى أمريكا تبادل تفسير أحلامهما. وقال يونج لبيلينسكي:

كان فرويد يرى أحلامًا تقضُّ مضجعه، وتسبب له همًّا وغمًّا، وكانت تتعلق بالرابطة المثلثة بينه وبين زوجته وأختها، ولم يكن فرويد يدري أنني على علم بها، أو على علم بالصلة الحميمة التي تربطه بأخت زوجته. وهكذا فعندما قصَّ عليَّ حلمًا تلعب فيه زوجته وأختها دورًا مهمًّا، طلبت منه أن يروي لي بعض المسائل الشخصية المرتبطة بالحلم، فنظر إليَّ نظرةً مريرةً وقال: «أستطيع أن أقول المزيد لك، ولكنني لا أستطيع المخاطرة بسلطتي». وأدَّى ذلك، بطبيعة الحال، إلى إنهاء أية محاولة من جانبي لدراسة أحلامه … لو كان فرويد قد حاول فهم العلاقة الثلاثية على مستوى الوعي لأفاده ذلك فائدةً كبرى. (كامبل، المرجع نفسه، ص١٨)

ويحكي يونج في سيرته الذاتية حادثةً أخرى تعرَّض فيها فرويد للإغماء قائلًا:

ووقعت حادثةٌ أخرى تعرَّض فيها فرويد للإغماء في حضوري، وذلك أثناء انعقاد مؤتمر التحليل النفسي في ميونيخ عام ١٩١٢م. كان أحد الحاضرين قد أدار دفة الحديث حتى وصل إلى الملك المصري القديم أمينوفيس الرابع (إخناتون). وقيل آنذاك إن إخناتون كان ذا موقفٍ سلبيٍّ تجاه والده، وإنه قام لهذا السبب بمحو اسم والده من الخراطيش التي نقش فيها، وإن وراء دين التوحيد العظيم الذي كان يدعو إليه يكمن «مركَّبٌ أبويٌّ» [أي الرغبة الأوديبية في اللاوعي في قتل أبيه]. وكان مثل هذا الكلام يسبِّب لي إزعاجًا وضيقًا، فحاولت أن أسوق الحجة على أن الملك أمينوفيس كان شخصًا مبدعًا، ولديه إيمانٌ دينيٌّ عميقٌ، وعلى أن أفعاله لا يمكن تفسيرها بزعم أنها كانت تمثل معارضةً لأبيه. وقلت إن الأمر كان على عكس ذلك تمامًا؛ إذ كان الملك المذكور يكرِّم ذكرى والده، وأمَّا الحماس الذي أدَّى إلى طمس بعض النقوش فكان موجَّهًا ضدَّ الربِّ آمون؛ إذ محا اسمه من كل مكان، وأزال ذلك الاسم أيضًا من اسم أبيه آمون حوتب (أمنحتب). ويضاف إلى ذلك أن بعض الملوك الآخرين قد استبدلوا أسماءهم ببعض أسماء أسلافهم الحقيقيين أو الربانيين على المعابد والتماثيل؛ إذ شعروا أن من حقِّهم أن يفعلوا ذلك ما داموا يجسدون الرب نفسه، على الرغم من أنهم لم يبتدعوا أسلوبًا جديدًا أو يأتوا بدينٍ جديدٍ.

وفي تلك اللحظة سقط فرويد من كرسيه منزلقًا في نوبة إغماء. وتجمع الحاضرون حوله دون أن يدروا ما يصنعون، فتقدمت أنا وحملته إلى الغرفة المجاورة ووضعته على أريكةٍ. وعاد إلى رشده هنيهةً أثناء حملي إيَّاه، ولن أنسى ما حييت النظرة التي حدجني بها؛ إذ نظر إليَّ في ضعفه كأنني كنت أباه. ومهما تكن الأسباب الأخرى التي أدَّت إلى إغمائه — فالجوُّ كان بالغ التوتر — فإن تخيُّل قتل الأب كان عاملًا مشتركًا في الحالتين.

(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، [١٩٦١م] ١٩٨٩م، ص١٥٦–١٥٧)
لا أعتقد أن نسبة كبيرة من القراء الذين يرددون اسم فرويد ويستشهدون بنظرياته، في داخل الوطن العربي أو خارجه، تشغلهم هذه اللمحات الشخصية عن حياته، ولا أعتقد كذلك أن نسبة كبيرة من القراء — خارج المتخصصين في علم النفس بفروعه التي ما فتئت تزداد — يهتمون بنظرة يونج إلى العلاقة الزوجية التي شرحتها آنفًا، خصوصًا بعدما سادت الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الجنسين، إلى الحدِّ الذي يغدو فيه من يقول بأي اختلافات بينهما متهمًا بالتخلف عن روح العصر أو عن «الحقيقة» التي أصبح أرباب وربَّات هذه الدعوة يعتبرونها «عقيدة إيمانية» creed تعلو على النقاش والجدل، معتبرين أن أيَّ تشكيكٍ فيها يرمي إلى الحفاظ على سيادة الرجل في المجتمع، أو الإبقاء على المجتمع الأبوي الظالم للمرأة الذي ورثه العصر الحديث من عصور الهمجية، حيث ساد الرجال المجتمع بقوة العضلات لا بقوة الذهن أو النفس.
ولكن القارئ الذي يقرأ ما كتبته عن العلاقة الزوجية حسبما وصفها يونج، من دون تحيزٍ؛ أي بأقصى ما يمكنه من الموضوعية، سيرى أن حديث يونج عن الطرفين؛ الزوج والزوجة، يفترض تفاوتًا في التنمية النفسية [وهو يسميها «التنمية الروحية»] فذلك هو الشائع في الواقع الاجتماعي، بمعنى أن الزوج والزوجة نادرًا ما يتساويان في درجة النضج النفسي لأسبابٍ لا علاقة لها بالأنوثة أو الذكورة، بل لأسبابٍ اجتماعيةٍ أو تربويةٍ صرفةٍ، فقد تجد أن أحد الطرفين قد نما وتطور نفسيًّا في سنٍّ مبكرةٍ، واقترب من الاكتمال wholeness الذي يرادف التفرُّد قبل الطرف الآخر، وبذلك أصبح ذا وجوهٍ متعددةٍ (كالجوهرة ذات الوجوه المتعددة في وصف يونج) واتسعت مداركه (أصبحت لديه غرفٌ كثيرةٌ لا غرفةٌ واحدةٌ) وبذلك «يحتوي» الطرف الأقل نموًّا (نفسيًّا) فتصبح العلاقة الزوجية في بدايتها عملية تكيُّفٍ وتطويعٍ حتى يأتي التوافق وإلا انهارت العلاقة. وفي مجتمعنا العربي كثيرًا ما تنضج الفتاة نفسيًّا قبل الفتى، ولأخاطر بإبداء رأيي الشخصي القائم على الملاحظة في الريف والأقاليم حيث نشأت، فأقول: إنني عرفت فتياتٍ استطعن احتواء أزواجهن، ومنهن من سادت الأسرة وهيمنت هيمنةً لا حدَّ لها على أقدار أفراد الأسرة، وذلك بقدرٍ هائلٍ من الحصافة والذكاء، مثلما عرفت رجالًا كان منهم من «يحتوي» زوجته في البداية، وربما في تصوُّره وحسب، فإذا به يغدو «محتوًى» داخل غرفها الكثيرة من دون أن يلمح أحد أية آثار للصراع أو حتى للتكيف.
وإذن فإن حديث يونج لا يناقش قضية المرأة في المجتمع أو في الحياة العامة بل يناقشها على مستوى العلاقة النفسية وحسب، وأدق مثال لها د. ﻫ. لورنس، وقصيدة «مانيفستو» التي اقتبست منها بعض السطور تقدم لمحة واضحة عما يعنيه يونج بعلاقة المرأة بالرجل في إطار ما يسميه التفرُّد؛ ويعني به الاستقلال والاكتمال النفسي. وسقوط فرويد في هوة العلاقة غير المشروعة مع أخت زوجته أورثه — كما يقول يونج — همًّا وغمًّا وتسبب، فيما يُروى، في حالات الإغماء التي كانت تنتابه. وعلى غرار ذلك تعرَّض يونج لتجربةٍ مريرةٍ من الانهيار النفسي يختلف الدارسون في رصد أسبابها، وهي التي امتدَّت من ١٩١٣م حتى ١٩١٨م، وسبق لي الحديث عنها، ولكن ستيفنز يحلِّلها بأسلوب يونج نفسه، فيقول ما معناه (١٩٩٠م، ص١٥٨–١٦٢) إن الأنيما لديه (بالمعنى الأول؛ أي صورة المرأة في اللاوعي عنده) كانت معقدةً؛ إذ وجد نفسه عام ١٩٠٧م (وكان في الثانية والثلاثين من عمره؛ أي قبل أزمة منتصف العمر) مفتونًا بفتاة أثناء عطلة كان يقضيها مع زوجته في المجر، فانزعج، فكتب إلى فرويد يصف له ما حدث ويقول إنه يشعر في داخله بميول إلى «تعدد الزوجات» polygamy، وسرعان ما اكتشف أنه مفتون بمريضةٍ موهوبةٍ ذكيةٍ تدعى سابينا شبيلراين Spielrein وأدرك ما كان في العلاقة من أخطار فطلب من فرويد أن يتدخل «لإنقاذه».
ولكن ذلك لم يمنعه، كما يقول ستيفنز، من إجراء تحليل نفسي لزوجته، اعتبارًا من عام ١٩٠٩م، ولكن المحاولة أخفقت بسبب غضب الزوجة وقلقها وغيرتها، فكتب إلى فرويد خطابًا يذكر فيه أن زوجته تشاجرت معه عدة مرات بدافع الغيرة، قائلًا: إن تحليل الزوجة من أصعب الأشياء إلا إذا كان الزوجان يتمتعان بحريةٍ متبادلةٍ، «ويبدو لي أن الشرط الأساسيَّ المسبق للزواج الناجح هو الترخيص بعدم الإخلاص [الخيانة]». ونحن ندهش من قوله هذا في الخطاب الذي أرسله إلى فرويد عام ١٩١٠م، ولكنه يذكر في سيرته الذاتية أن الرجل عادة ما يواجه نوعين من النساء: الأولى هي الزوجة والأم، والثانية هي «المرأة الملهمة» la femme inspiratrice. ويقول ستيفنز إن بعض الرجال يعانون تعقيدًا في صورة المرأة في أعماقهم نتيجة خبرات الطفولة المبكرة خصوصًا؛ إذ كانت لدى أسرة يونج مربية أجنبية سمراء في مقتبل العمر، ويصف حملها للطفل [يونج] على صدرها واضعةً رأسه على كتفها، ويعزو إلى ذلك تدخُّلها في تعديل صورة الأنيما عنده. ولأخاطر مرَّةً أخرى بأن أقول: إنني شهدت أكثر من حالة كانت صورة الخادمة فيها تتدخل في تعديل طبيعة الأنيما عند الصبي. ويقص علينا يونج كيف حاول جاهدًا رفع مستوى العلاقة مع زوجته إلى مستوى الوعي، ولكنَّ طبيعة عمله والأنيما المنقسمة في داخله حالا دون نجاحه.

وفي نوفمبر ١٩١١م أرسلت إيما، زوجة يونج، خطابًا إلى فرويد تقول فيه:

يعذبني الآن الصراع لتحقيق ذاتي واستقلالها في مواجهة كارل [يونج]؛ إذ اكتشفت أنني بلا أصدقاء، وجميع المرتبطين بنا لا يريدون في الحقيقة إلا رؤية كارل، باستثناء عددٍ قليلٍ من الثُّقلاء الذين لا يثيرون عندي أدنى اهتمامٍ.

وجميع النساء بطبيعة الحال يحببنه … ومع ذلك فعندي حاجةٌ ماسَّةٌ إلى الاختلاط بالناس، ويقول كارل أيضًا إنني يجب أن أكفَّ عن التركيز عليه وعلى الأطفال، ولكن ماذا أستطيع أن أفعل؟ … الأمر صعب لأنني لا أستطيع منافسة كارل يومًا ما. وتأكيدًا لذلك عادة ما أتحدث حديثًا ينمُّ على بلاهة زائدة عندما أكون في أية صحبة. (في ستيفنز ١٩٩٠م، ص١٦٠)

وكانت حال «إيما» قد تدهورت بسبب وصول مريضةٍ تدعى أنطونيا وولف، وكانت شابَّةً متوترةً وتتسم بغموض يخلب اللُّبَّ، والتحقت للعلاج في عيادة يونج، في أواخر عام ١٩١٠م، من صدمة شديدة بسبب وفاة والدها، وسرعان ما ساعدها يونج على الشفاء وإن كانت قد وجدت فيه بديلًا (لاواعيًا) لوالدها، كما أنه انجذب إلى ذكائها وغموضها، وكتب عنها رسالةً فيَّاضةً بالثناء أرسلها إلى فرويد. وأحس يونج بأن وجودها يساعده على التغلب على الأزمة النفسية التي بدأت في عام ١٩١٣م بعد انفصاله عن فرويد وتركيزه على العمل في عيادته على نحو ما سبق أن ذكرت، ويقول بعض النقاد إن يونج قد وجد «المرأة الملهمة»، ولكنه كان ما يزال مرتبطًا عاطفيًّا ونفسيًّا بزوجته وأولاده، وكان على زوجته أن تقبل وجود هذه «الغريبة» في حياة الأسرة، ولكن ستيفنز يقول: إن الضغط الذي تعرض له يونج وزوجته بسبب هذه الفتاة كان شديدًا «ومن المحتمل أنه كان من العوامل الرئيسية في الانهيار النفسي الذي تعرَّض له يونج في آخر عام ١٩١٣م» (ص١٦١). كان الكفاح الذي خاضه للتغلب على الأزمة المذكورة كفاحًا في سبيل التفرُّد وهو ما نناقشه الآن.

(٤) التَّفرُّد والمذهب الفردي

يعتبر مفهوم التفرُّد individuation عند يونج من المفاهيم الرئيسية التي أسهم بها في وضع نظريات تطور الشخصية، وأمَّا المذهب الفرديُّ individualism فقد جرى العرف عند الأدباء والنقاد على تفسيره على ضوء الاتجاهات الأدبية التي ترتكز على الفرد، لا على الجماعة أو المجتمع، وهو أوضح ما يكون في الشعر الغنائي الذي يتحدث فيه الشاعر بلسانه؛ إمَّا عن نفسه وإمَّا عن شواغله الخاصة، كما جرى العرف على اعتبار المذهب الفردي عمومًا مضادًّا للمذهب الجمعي أو الجماعي في العمل أو في السياسة أو فيما يعتبره الناس نشاطًا جماعيًّا بطبيعته؛ ولذلك يحرص يونج في كتابٍ مبكرٍ له (١٩١٧م) على التمييز بين المفهومين المذكورين، قائلًا:
تعني الفردية [المذهب الفردي individualism] التوكيد المقصود والإبراز المتعمد لبعض خصيصة فردية مفترضة، لا لتوكيد بعض الاعتبارات والالتزامات الجمعية. ولكن التفرُّد individuation يعني، على وجه الدقة، أفضل تحقيقٍ وأكمله للخصائص الإنسانية الجمعية.
(يونج: «مقالان عن علم النفس التحليلي»، المجلد ٧، الفقرة ٢٦٧)

وكان قد قال في الفقرة السابقة لهذه الفقرة:

التفرُّد يعني أن يصبح المرء كيانًا مفردًا متجانس العناصر، ولمَّا كانت صفة الفردية individuality تتضمن أعمق دخائلنا وآخرها، وهي التي لا نظير لها؛ فهي تعني ضمنًا أيضًا أن يصبح المرء ذاته. ومن ثمَّ نستطيع ترجمة التفرُّد بتعبير «الوصول إلى الكيان الذاتيِّ» أو «تحقيق الذات» [coming to selfhood or self-realization].
(يونج: «مقالان عن علم النفس التحليلي»، المجلد ٧، الفقرة ٢٦٦)

ويقول في فقرة لاحقة على التي أوردتها أولًا:

لا يقل هدف التفرُّد عن تخليص الذات من الأغلفة الزائفة التي يحيطها بها القناع من ناحية، وتخليصها أيضًا من سلطة الإيحاء التي تبثُّها فيها الصور الأزلية من ناحية أخرى. (المرجع نفسه، الفقرة ٢٦٩)

ثم يشير في كتابٍ لاحقٍ (١٩٢٧م) إلى الصعوبة التي ظلَّت قائمةً، فيما يبدو، في التمييز ما بين التكامل integration والتفرُّد individuation قائلًا:

ما أفتأ أكرر الإشارة إلى أن عملية التفرُّد تختلط في بعض الأذهان بدخول الأنا إلى الوعي، وإلى أن الأنا تتماهى، من ثمَّ، مع كيان الذات، ومن شأن ذلك أن يؤدي بطبيعة الحال إلى تخليطٍ لا رجاء فيه؛ لأن القول بهذا يعني أن التفرُّد معناه التركيز على الأنا والنرجسية. ولكن الذات تتضمن ما يزيد عن مجرد الأنا زيادةً لا نهاية لها؛ فهي ذات المرء وجميع الذوات الأخرى، مثل الأنا … فالحقيقة أن التفرُّد لا يعزل المرء عن العالم، بل يجمع العالم داخل المرء.

(يونج: «بناء النفس ودينامياتها»، المجلد ٨، الفقرة ٢٢٦)
والمتابع لتطور فكر يونج يلاحظ أن الاختلافات البادية بين التعريفات السابقة، اختلافاتٌ في الصَّوغ أكثر منها في الدلالة؛ أي إن يونج يشير إلى معنًى معينٍ يزداد تحديده على ضوء خبراته الجديدة ودراساته العملية والعلمية اللاحقة، وهكذا فبعد كلِّ ما كتبه على مدى عقودٍ طويلةٍ عن تصوُّره لعملية التفرُّد [وأحد فصول كتابه عن «الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي» (١٩٥٩م) يحمل عنوان: «دراسة لعملية التفرُّد» ويقع في ٦٠ صفحةً إلى جانب ٢٤ لوحةً ملونةً رسمتها السيدة التي أجرى عليها يونج تجربة الوصول إلى التفرُّد ومن ثمَّ الشفاء من علَّتها النفسية] أعتقد أننا إن أردنا مصطلحًا عربيًّا قادرًا على نقل معنى المصطلح الأجنبي (المشترك بين الألمانية والإنجليزية) فمن المستحسن أن نعامله معاملة أهله له؛ أي أن نستخدمه بصورته المعجمية بعد أن نضفي عليه الدلالة التي أضفاها صاحبه عليه؛ أي بمعناه الذي يريده يونج. ومن حسن الحظ أن يونج يقدمه لنا في فصل كتبه أصلًا بالإنجليزية بعنوان: «معنى التفرُّد»، ويقع في ١٥ صفحةً، باعتباره الفصل الأول في كتابٍ عنوانه: «تكامل الشخصية»، نشر في نيويورك عام ١٩٣٩م وفي لندن عام ١٩٤٠م، والطريف أن يونج أعاد كتابة هذا الفصل مع تنقيحه بالألمانية ووضع له عنوانًا جديدًا هو «الوعي واللاوعي والتفرُّد» Bewusstsein, Unbewusstes und Individuation والنَّصُّ المنشور في الكتاب المذكور عاليه (١٩٥٩م) يعتمد على النَّصِّ الذي كتبه يونج بالإنجليزية، والترجمة للنَّصِّ الألماني التي قام بها ستانلي دل Dell. يقول يونج:
أستعمل لفظ «التفرُّد» للدلالة على العملية التي يستطيع الشخص بها أن يصبح «فردًا» سيكلوجيًّا؛ أي أن يصبح كيانًا «كلِّيًّا» whole منفصلًا ووحدةً لا تقبل التقسيم. فمن المفترض عمومًا أن الوعي يمثل الفرد السيكلوجي كله؛ ولكنَّ المعرفة بالظواهر التي لا يمكن شرحها إلا استنادًا إلى افتراض وجود عمليات نفسية لا واعية، تثير الشك فيما إذا كانت «الأنا» ومحتوياتها معادلةً للكيان «الكليِّ». فإذا كانت العمليات اللاواعية موجودةً على الإطلاق فلا بدَّ أن تنتمي قطعًا إلى الكيان الكليِّ للفرد، حتى ولو لم تكن من مكونات الأنا الواعية. فإذا كانت جزءًا من الأنا فلا بدَّ أن تكون بالضرورة واعيةً، لأن كل ما يتعلق مباشرة بالأنا ينتمي للوعي: ولنا أن نقول: إن الوعي معادلٌ للعلاقة بين الأنا ومحتويات النفس. ولكن الظواهر اللاواعية لا تتصل بالأنا إلا بصلاتٍ ضئيلةٍ تكاد لا تذكر، إلى الحدِّ الذي يجعل معظم الناس ينكرون وجودها دون ترددٍ. ومع ذلك فهي تفصح عن وجودها في سلوك الفرد. فالملاحظ المنتبه يستطيع إدراكها بسهولة حتى ولو كان صاحبها لا يدري أنه يكشف عن أعمق أسرار فكره أو عن أمور لم تدُر بذهنه الواعي على الإطلاق. ولكنه من التعصب الشديد أن نفترض أن الشيء الذي لم يخطر ببالنا ونحن واعون به — لا وجود له في النفس. فلقد تكاثرت الأدلة على أن الوعي أبعد ما يكون عن احتواء الكيان الكامل للنفس؛ إذ تحدث أشياء كثيرةٌ على مستوى نصف الوعي semiconsciously وتظل أشياء أكثر كثيرًا خارج نطاق الوعي تمامًا. فلقد أدَّى البحث المحكم في ظواهر الشخصية المزدوجة والمتعددة، على سبيل المثال، إلى الكشف عن كميةٍ هائلةٍ من المادة والملاحظات التي تثبت صحة هذه المسألة.
(يونج: الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي، الفقرة ٤٩٠، ص٢٧٥–٢٧٦)

وقبل أن ينتهي يونج إلى النتيجة التي تقول: إن التفرد يعني نمو الشخصية وتكاملها من خلال الصراع والتصالح في الوقت نفسه بين الوعي واللاوعي — يقدِّم تمهيدًا منطقيًّا في أربع فقرات أقدِّم مقتطفاتٍ منها هنا استكمالًا لهذا الحديث عن التفرُّد بمعناه الخاصِّ عند يونج؛ يقول يونج:

نحن نؤمن بالوعي بالأنا وبما نسميه الواقع reality. [والواقع في مناخ الزمهرير في شمال أوروبا يغرينا بنسيانه وهذا خطأ]، وهكذا فإن الوعي بالأنا الأوروبي يميل إلى ابتلاع اللاوعي، فإذا لم نتمكن من ذلك لجأنا إلى كبته. لكننا إذا فهمنا اللاوعي حقًّا أدركنا أنه لا يمكن ابتلاعه، كما أننا ندرك أيضًا أن كبته أمرٌ خطرٌ؛ لأن اللاوعي هو الحياة، ولأن هذه الحياة تنقلب علينا إذا كبتناها كما يحدث في العصاب.

والوعي واللاوعي لا يشكِّلان كيانًا كليًّا عندما يكبت أحدهما الآخر ويضرُّه، فإذا لم يكن من صراعهما بدٌّ، فلنُتِح لهما الفرصة للاشتباك في صراعٍ عادلٍ، تتساوى فيه حقوق الطرفين؛ فهما يمثلان جانبَي الحياة، فعلى الوعي أن يدافع عن منطقه ويحمي نفسه، ومن حق حياة الفوضى في اللاوعي أن تمنح فرصة فعل ما تريد، أو بقدر ما نستطيع أن نتحمَّله منها. وهذا يعني صراعًا صريحًا وتعاونًا صريحًا. وهذا بوضوح ما ينبغي للحياة الإنسانية أن تكون عليه. إنها اللعبة القديمة للمطرقة والسِّندان، فبينهما يتشكَّل الحديد المطروق فيصبح كيانًا صلبًا لا يمكن تدميره، ألا وهو «الفرد».

هذا — بصفةٍ عامَّةٍ — ما أعنيه بعملية التفرُّد؛ فهي — كما يعني اسمها — عملية تنموية أو مسار تنموي ينشأ من الصراع بين الحقيقتين النفسيتين الأساسيتين …

أما كيف يمكن التوفيق بين بيانات الوعي واللاوعي فلا يمكن وضع أسلوبٍ محدِّدٍ له؛ فهو نشاطٌ حيويٌّ لا عقلانيٌّ يعبر عن نفسه برموز محددة … وعندما تتوحد هذه البيانات تنشأ حالاتٌ جديدةٌ ومواقف واعيةٌ جديدةٌ. وهكذا أطلقت على توحيد الأضداد المذكورة مصطلح «الوظيفة التعالية» transcendent function.
(يونج: الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي، الفقرات ٥٢٢–٥٢٤، ص٢٨٨–٢٨٩)

وأما الفصل الذي يسميه يونج «دراسة في عملية التفرُّد» فيقدم فيه رصدًا لخطوات شفاء سيدةٍ أمريكيةٍ مثقفةٍ — تتمتع بموهبة الرسم بالألوان — من أزمةٍ نفسيةٍ أصابتها نتيجة تعلُّقها الشديد بوالدها (ووالدتها) وجاءت إلى أوروبا في عام ١٩٢٨م تنشد العلاج، بعد أن درست علم النفس تسع سنوات كاملة. والفصل يحلل التصاوير التي أبدعتها، ويقدم التصاوير نفسها وشروحًا وافية لها، ولكنني لن أتعرض هنا لهذه أو تلك بل لبعض المصطلحات التي يكرر يونج الإشارة إليها، وقد تكون مفهومةً في سياقها، ولكنَّ القارئ قد يصادفها في غير سياقها وربما لم يهتد إلى معناها.

أمَّا المصطلح الأول فهو الكلمة الصينية طاو Tao أو داو Dao والنسبة إليها بالمذهب الطَّاوي Taoism أو الدَّاوي Daoism التي تعني «الطريق»؛ بمعنى الطريق القويم، وهو طريق الروح، أو الطريق الباطني في الإنسان. وكان يونج مغرمًا بالأوصاف التي ينسبها الكتَّاب إلى هذا الطريق، وكثيرًا ما قرأته مترجمًا إلى «الطريق» The Way وحسب، دون شرحٍ أو إيضاحٍ، وأما المعنى الكامل للمصطلح فنجده في العبارة الصينية «لاو-تزو» Lao-Tzu أو طاو-تي شنج Tao-Te Ching ومعناها طريق القوة (حرفيًّا) والمقصود طريق الروح، وأما الفلسفة الطاوية فتكاد تنحصر فيما يسمَّى القبول والتسليم، وتتجلى ظواهرها في المرح والبهجة والإقبال على الحياة في الشخصية الصينية. ولذلك فهي تختلف عن الكونفوشية التي تتسم بالصرامة الأخلاقية والارتباط بالواجب والابتعاد عن الملاذ إلى درجة التقشف. كما تختلف الطاوية عنها بأنها تهتمُّ بعالم الأسرار والكيانات الخفية والنظريات الميتافيزيقية، وهي التي تعتبرها الكونفوشية هامشيةً وإن لم تنكر أهميتها.

ويقتبس يونج ترنيمةً طاوية يفتتح بها هذا الفصل الخاص بدراسة عملية التفرُّد والمفترض أنها مترجمةٌ عن الصينية وتقول:

الطَّاوُ يُدَبِّرُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا بِغُمُوضٍ وبإبْهَامْ
ذاكَ المُبْهَمُ! كمْ هُوَ غَامِضْ!
في دَاخِلهِ صُوَرٌ
غَامِضَةٌ كمْ هي مُبْهَمَةٌ!
في دَاخِلهِ أَشْيَاءْ
ما أَعْمقَهَا! ما أَحْلَكَها!
في دَاخِلهِ البِذْرَةْ
والبِذْرَةُ تِلْكَ حَقِيقَتُنَا الحَقَّةْ
وبِدَاخِلِهِ مِصْدَاقُ ثِقَةْ
مِنْ أَوَّلِ بَدْءٍ حَتَّى اليَوْمِ الحَاضِرِ
لا يُفْتَقَدُ اسْمُهْ
إذْ تُسْبَرُ بالإسم الأَغْوَارُ الأُولَى
لِبِدَايَةِ كُلِّ الأَشْيَاءْ
كَيْفَ إذَنْ أَعْرِفُ أنَّ الطَّاوَ بِدَايَةُ كُلِّ الأَشْيَاءْ؟
أَعْرِفُهَا مِنْهُ وخِلَالَهْ.
(لاو تزو: طاو-ته-شينج، الفصل ٢١)

وكأنما يطبق يونج فكرة «الطاوية» حتى من قبل تقديم تفاصيل الحالة؛ فيقول لنا إن المرأة المذكورة «لم تتزوج بل اتخذت شريك حياة بشريًّا يتمثل في اللاوعي عندها في الأنيموس (أي التجسيد لكلِّ شيءٍ ذكريٍّ في المرأة) وهي الصفة التي كثيرًا ما نصادفها في المرأة التي تلقَّت تعليمًا أكاديميًّا».

(يونج: الأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي، فقرة ٥٢٥، ص٢٩٠–٢٩١)
وقد اقتبست هذه السطور لأدلِّل على المعنى الخاص الذي يضفيه يونج على مصطلح الرمز؛ فهو كما ذكرت آنفًا، يختلف في نظره عن الصورة؛ فالصورة لديه ترتبط بما تصوِّره، وأمَّا الرمز فقد لا يرتبط بشيءٍ على الإطلاق في العالم المحسوس بل يرتبط بما يرى القارئ أو السامع أو المشاهد أنه يشير إليه. ولذلك فالترنيمة الطاوية تفرِّق أو تميز بين الصورة وبين البذرة؛ فالبذرة في مفهوم الخيميائيين الذين درسهم يونج ترمز للأصل؛ أي لأصل أي شيءٍ، لا لأصل شيءٍ معيَّنٍ بل للأصل باعتباره مفهومًا مجردًا؛ ولذلك فهي تعادل الرمز عند يونج، على نحو ما جعل المندلة mandala — والتي تعني الدائرة أصلًا في اللغة السنسكريتية — رمزًا للروح، وللنمو الروحي، وللاتصال الروحي، ولخلود الروح جميعًا، وهذه فكرةٌ طاوية تربط بين الصور البصرية أو الأشكال الهندسية وما يوجد داخل الكيان الروحيِّ للإنسان من مجاهل لا سبيل إلى التعبير عنها إلا بالرموز. وأظن أن هذه الفكرة تمهيدٌ طبيعيٌّ للحديث عن اهتمامات يونج في مرحلة النضج خصوصًا، بالخيمياء ودلالة هذا الاهتمام الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤