الفصل الثالث

الخزف

لا تزال دراسة الخزف الإسلامي صعبةً بما فيها من مسائل غامضة، وأخرى كَثُر حولها الجدل والخلاف ممَّا لا نريد أن نعرض له هنا، فإن أصول هذه الصناعة والتأثيرات المختلفة التي لعبَتْ في تطوُّرها دورًا هامًا، ولا سيَّما التأثير الساساني، وتأثير الشرق الأقصى، وكذلك موطن البريق اللامع المعدني lustre وأسرار صناعته، كل ذلك درسه مؤرِّخو الفنون كلٌّ على مذهبه، فنحن نريد الآن أن نقتصر على مصر؛ حيث كانت لحفائر دار الآثار العربية في الفسطاط نتائج باهرة، نشرها المرحوم علي بك بهجت والأستاذ فليكس ماسول FELIX MASSOUL في مؤلَّف عنوانه: La Céramique Musulmane de I’Egypte يُعتبر — بالرغم مما فيه من أخطاء — مجموعةً نفيسةً من الوثائق الدراسية.
وقد وصف لنا بهجت بك وزميله في كتابهما هذا نوعًا من الخزف أرجعاه إلى ما قبل العصر الطولوني، على أن المسحة الأوَّلِية في هذا الخزف، والأشكال غير الأنيقة التي تتخذها مصنوعاته، ثم بريقه المعدني غير الواضح، كل هذا يؤيِّد الذين يزعمون أن الفسطاط لم تكن لها صناعة خزفية حقَّة قبل العصر الطولوني.١
وليس هناك من شك في أن الخزف المصري في العصر القبطي كان أقلَّ جودةً من الخزف الإسلامي، ولن نبلغ من التعصُّب لمصر إلى أن نوافق الأستاذ بتلر BUTLER فيما ذهب إليه من أن صناعة الخزف ذي البريق المعدني lustre كان مهدها ضفاف النيل حيث نشأت، ثم نَمَت وترعرعت في العصر الإسلامي.
وقد عقد الأستاذ بتلر فصلًا شيِّقًا من كتابه: «الخزف الإسلامي» Islamie Pottery للكلام عن حالة الفنون المصرية، حين فتح العرب مصر في القرن السابع، وذهب إلى أن هذه الفنون كانت لا تزال حيةً في آخر العهد الروماني، وأن العرب أخذوا كثيرًا من تقاليدها، وختم بتلر الفصل المذكور بالعبارة الآتية:٢
Enough has been said to refute the general theory that towards the end of the roman dominion the fine arts in Egypt were utterly decated or dead. It has been shown, on the contrary, that as a whole they preserved much of their ancient vitality and several instances have been given of art in various forms transmitted in full vigour from the Roman to the Arab epoch.

بيدَ أنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ ضعف حُجَجه كلما تحدث عن الخزف في الفصل المُشار إليه، وترك بقية الفنون الفرعية الأخرى كالزجاج والنسج.

ومهما يكن من شيء فإننا لا نملك أي دليل على وجود خزف ذي بريق معدني في الفسطاط قبل القرن التاسع، ولا سيَّما قبل العصر الطولوني في نهاية هذا القرن، وليست هناك أي قطعة أثرية تُثبت يقينًا أن ذلك البريق المعدني كان معروفًا قبل الإسلام.٣

ويمتاز نوع الخشب الذي ينسبه إلى العهد الطولوني علي بك بهجت والمسيو ماسول في كتابهما سالف الذِّكر، بأنه أرق طينةً من النوع الذي ينسبانه إلى ما قبل العصر الطولوني، كما يمتاز بزخارفه ذات البريق المعدني ذي اللون الأصفر أو الزيتوني على أرضية بيضاء أو «كريم».

ولكن تلك المميزات نفسها هي مميزات خزف عُثر عليه في سامرَّا، وفي الرَّي، وفي سوزا Suse، وفي قلعة بني حمَّاد،٤ وفي مدينة الزهراء.٥ وقد يظهر كل ذلك غريبًا في بادئ الأمر، ولكنا قد نستطيع تحديد العلاقات بين هذه المراكز الصناعية المختلفة.
أمَّا سامرَّا فقد كانت — كما رأينا — عاصمةً للخلافة العباسية من سنة ٨٣٦ إلى سنة ٨٨٣، ويرى الدكتور زرَّة DR. SARRE، والدكتور كونل DR. KÜHNEL أن صناعة الخزف ذي البريق المعدني نشأَتْ في العراق، وذهب زرَّة إلى أن ذلك كان في سامرَّا نفسها، ولكن كونل لاحظ أننا لم نجد في أطلال سامرَّا بقايا أفران من خزف أو قطعًا أصابها التلف في الأفران، فضلًا عن أنه يوجد بين هذا النوع من الخزف الذي يُنسَب إلى سامرَّا قطع يرجع تاريخها إلى ما بعد تخريب هذه العاصمة، ومن ثَمَّ ذهب كونل إلى أن بغداد كانت موطن هذه الصناعة، ولا سيَّما أن المصادر التاريخية كثيرًا ما تتحدث عن مدينة المنصور كمركز هام لصناعة الخزف والفخار.٦
ولاحظ كونل أيضًا أن هناك بين ما نجده في الفسطاط من أنواع الخزف العديدة قِطَعًا لا شك في تبعيَّتها للنوع الذي يُنسَب إلى سامرَّا، واستُنبِط من ذلك أنها لا بد أن تكون قد استُوردَتْ من العراق، بينما نجد في أطلال الفسطاط قِطَعًا أخرى ذات بريق معدني، أكثرها ذو لون واحد، وتمتاز بطينتها التي تميل إلى الاحمرار، وبميناها الرقيقة، وأمَّا زخرفتها فمأخوذة عن زخارف القطع الواردة من العراق.٧
Unter den Tausenden von Lüster-Scherben, die in den Schutthügeln von Alt-Cairo zutage kamen, sondert sich der Samarra-Typus ohne Weiteres ab, Wenigstens für den, der für keramische Eigenart überhaupt Verständnis besitzt. Es gibt keine nachweislich ägyptische Ware, die auch nur annährend denselben Ton uud dieselben Glasuren zeigt, so dass auch hier Import vorliegen muss. Aber die Situation ist insofern von der in Persien verschieden, als hier sogleich eine heimische Fabrikation einsetzt, die die landfremdc Fayence bald verdrängt. Wir begegnen unter den ein wandfrei ägyptischen, stets einfarbig lüstrierten Fragmenten, die einen rötlichen Scherben und an den Ausscnseiten der Gefässe eine auffallend düun gestrichene Glasur zeigen, solchen, die in ihren Motiven unzweifelhaft der importierten Gattung nachgeahmt und allerfrühestens in IX Jahrb. entstanden sind.

وأكبر الظن أن الفضل في نقل هذه الصناعة من العراق إلى مصر راجع إلى ابن طولون، وليس بعيدًا أن يكون قد أتى معه من العراق بنماذج من الخزف العراقي، أو بصُنَّاع عملوا على إحياء صناعتهم في مصر.

على أن هناك فريقًا من العلماء — وعلى رأسهم فنييه VIGNIER، وبيزار PÉZARD، وكيكلان KOECHLIN٨ — يزعمون أن بلاد إيران — ولا سيَّما مدينة الرَّي — كانت موطن صناعة الخزف الإسلامية الأولى، وأن الخزف ذا البريق المعدني قد أخذه المصريون في العهد الطولوني عن إيران، إمَّا مباشرةً أو عن طريق سامرَّا، وهم يرَون كذلك أن هذا الخزف قد انتقل من العراق إلى شماليِّ أفريقية وإلى الأندلس، إمَّا مباشرةً أو عن طريق مصر.
أمَّا السبل إلى انتقال هذه الصناعة إلى الأنحاء المختلفة في الإمبراطورية الإسلامية فقد كانت طرق التجارة ورحلات الصُّنَّاع والفنانين.٩
ومهما يكن من شيء فإن الحجج التي يُدلي بها الدكتور كونل لإثبات نشأة البريق المعدني lustre في العراق أدمغ من حجج غيره من العلماء، حتى إن كثيرين من مؤرِّخي الفنون الإسلامية يميلون في الوقت الحاضر إلى الأخذ برأيه.١٠
ويعتقد علي بك بهجت والمسيو ماسول أنه بالرغم من أن أوجه الشبه كثيرة بين المنسوب إلى سامرَّا وبين الخزف الطولوني، فإن هذا الأخير له خصائصه، كما أن في زخارف الخزف العراقي شيئًا من التكلُّف، وفي ألوانه تناسُقًا وتناسبًا كبيرًا بين الذهبي والأُرجواني والبرونزي.١١

ولا ريب في أن هذا يؤيد ما يذهب إليه كونل من أن الخزف العراقي كان يَرِدْ من سامرَّا ويُقلَّد في مصر.

وليس خفيًّا ما يلاقيه الباحثون من صعوبة في سبيل الوقوف على أسرار صناعة الخزف، وقد حاول علي بك بهجت والمسيو ماسول أن يأتيا بمضمون ما يعرفانه من النصوص العربية في هذا الموضوع كمقدمة لأبحاثهما الخاصة في كتابهما سالف الذِّكر، على أن النصوص التي عثرا عليها كانت من الناحية الكيميائية الصناعية قليلة الأهمية، وقد علَّلا ذلك بأن الأصل في تعلُّم المهن في الشرق إنما كانت التجارب فقط، وأن أسرار الصناعات لم تكن تُدوَّن، بل كانت تُنقَل شفاهيًّا وعمليًّا، ومن ثَمَّ كانت نُدرة النصوص وتشتُّتها.

ولكن حادثًا جديدًا في عالم البحث والتأليف يؤذن بتذليل كثير من الصعوبات التي تقف دون دراسة الخزف الإسلامي، ونعني بهذا الحادث: كشف الأستاذ الألماني ريتر RITTER مخطوطَين من كتاب ألَّفه بالفارسية في تبريز سنة ٧٠٠ﻫ / ١٣٠١م أبو القاسم عبد الله بن علي بن محمد أبي طاهر القاشاني، وسمَّاه: «جواهر العرايس وأطايب النفايس».

والكتاب المذكور قسمان: يبحَث الأول في الأحجار النفيسة والمعادِن، وخواص كلٍّ منها، وقيمته، ويبحث الثاني في العطور وتركيبها، ولكن ما يهمنا منه بنوعٍ خاص إنما هي خاتمته التي تبحث في صناعة الخزف.

ويزيد في أهمية هذه الخاتمة أن مؤلف الكتاب عالِم من قاشان، مركز صناعة الخزف في بلاد إيران، وأنه كتَبه في تبريز حيث ازدهرَتْ هذه الصناعة، ولا سيَّما في نفس العصر الذي صنَّف فيه الكتاب.

وقد فطن إلى فائدة الخاتمة المذكورة أربعة من العلماء الألمان المشتغلين بدراسة الفن الإسلامي؛ فطبعوها وترجموها إلى الألمانية، وعلَّقوا على نصوصها في منشورات القسم التُّركي من المعهد الألماني للآثار في سنة ١٩٣٥.١٢
نعود بعد هذا إلى الخزف الطولوني، فنذكر أن علي بك بهجت والمسيو ماسول يظنان أن في القطع التي يحسبانها طولونيةً أمارةً (ماركةً) تُميِّزها، وتتلخَّص في دوائر ثلاث ذات مركز واحد: في الدائرة الداخلية خطوط لولبيَّة وبُقع صغيرة مُثلَّثة الشكل، بينما الدائرة الوُسطى مُكوَّنة من خط سميك، والدائرة الخارجية من خط رفيع، وهذه الدوائر ذات المركز الواحد موزَّعة بطريقة نظامية زخرفية، وتفصلها أرضية تُزيِّنها خطوط صغيرة متوازية أو مُقوَّسة قليلًا، وفيها بقع صغيرة مستديرة.١٣
ولكن في اعتقادنا أن في اعتبار هذه الزخرفة أمارةً للخزف الطولوني شيئًا من الغُلُو؛ فإن هناك خزفًا طولونيًّا ليسَتْ فيه هذه الزخرفة، أو فيه زخارف أُخرى،١٤ أو عليه زخرفة كتابية،١٥ فضلًا عن أن علي بك بهجت والمسيو ماسول لاحظا أن هذه الزخارف التي يحسبانها إشارةً للخزف الطولوني موجودة على صُوَر قبطية بالمتحف المصري.١٦

أمَّا رسوم الحيوانات على الخزف الطولوني فتقليدية جدًّا، كما أن الرسوم الآدمية ليست إلا رسومًا أوَّليَّةً تُحدِّدها بضعة خطوط، والعيون فيها مستديرة أو لوزيَّة الشكل، بينما الأنف يمثلها خطَّان عموديَّان متوازيان ينتهيان بدائرة تُمثِّل الفم إن لم يكن هناك خط صغير يمثِّله، والزخرفة النباتية مكوَّنة من أغصان نخل وأوراق شجر مُدبَّبَة.

وفي أكثر القطع الخزفية الطولونية خط يحيط بالزخارف الرئيسية، فيُكوِّن منطقة تزيِّن ما يخرج عنها بقطع ثلاثية الشكل، أو دوائر صغيرة في وسط كل منها نقطة.١٧
وفي بعض القطع الطولونية زخارف تمثِّل أشخاصًا لهم قُبَّعات مُدبَّبة فارسية الأصل،١٨ وقد كتب الأستاذ بيزار M. PÉZARD عن قطعة عليها إنسان يحمل عَلَمًا.١٩
وفي دار الآثار العربية صحنان من خزف ذي بريق معدني قد يكونا استُوردا من العراق، أو صُنِعا في الفسطاط في أواخر القرن التاسع الميلادي تقليدًا للخزف العراقي في سامرَّا، أمَّا الصحن الأول؛ ففيه زخارف هندسية صفراء وسمراء، وعلى أرضيته البيضاء النقط المعروفة في زخرفة الخزف العراقي بسامرَّا،٢٠ بينما تمثِّل زخارف الصحن الثاني قاربًا صغيرًا بأدواته ومقاذيفه وأعلامه، وتحته رسوم ثلاث سمكات تجري في الماء (انظر اللوحتين رقمَي ٢٥ و٢٦).

هذا وقد كان في مصر بطبيعة الحال إلى جانب صناعة الخزف ذي البريق المعدني صناعة الفخار غير المطلي على النحو الذي عُرف على ضفاف النيل منذ قديم الزمان، والذي لا يزال معروفًا حتى اليوم.

ولن يفوتنا قبل أن نختم هذا الفصل أن نُشير إلى أن المسيو أولمير OLMER نَسَبَ إلى العصر الطولوني — في كتابه عن شبابيك القلل بدار الآثار العربية — نوعًا منها أسماه مؤقتًا: الطراز الأول، ويشمل شبابيك فتحاتها تُكوِّن زخارف تشبه الزخارف الطولونية على الخشب.٢١
١  قارن: M. PÉZARD: La céramique archäique de L’Islam، ص٤٤، وMIGEON Manuel، ج٢، ص١٧٢.
٢  انظر: BUTLER: Islamic Pottery، ص٣٣.
٣  انظر: HOBSON: A Guide to the Islamic pottery of the Near East، صxv. وC. J. LAMM: Mittelalterliche Gläser، ص١١١.
٤  راجع: G. MARÇAIS: Les Poteries et faïences de la qal’a des Beni Hammad.
٥  راجع: MIGEON: Manuel، ج٢، ص١٦٩–١٧٦ و١٨٣. وG. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٢٥٧ و٢٨٩. وR. KOECHLIN: A propos de la céramique de Samarra في مجلة Syria، سنة ١٩٢٦ ج٣، ص٢٣٨. وWIET: L’Exposition d’Art Persan à Londres في مجلة Syria سنة ١٩٣٢ ص٨٤ وما بعدها. وALY BEY BAHGAT ET F. MASSOUL: ibid، ص٤٧. وR. VELAZQUEZ BOSCO: Medina Azzahra y alamiriya (Madrid 1912). وR. VELAZQUEZ BOSCO: Excavaciones en Medina Azzahra (Madrid 1924). وF. SARRE: Die Keramik Von Samarra.
٦  راجع: KÜHNEL: Die Abbassiden Lusterfayencen، في مجلة: Ars Islamica، ج١، ص١٥٣. وHOBSON: ibid، ص٢.
٧  انظر: KÜHNEL: ibid، ص١٥٠-١٥١. وراجع: KÜHNEL: Islamiche Kleinkunst، ص٧٨. وDIMAND: Handbook، ص١٥٢ وما بعدها.
٨  راجع: الملخص الذي كتبه كيكلان KOECHLIN عن الجدال الذي يدور حول نشأة البريق المعدني في: La céramique musulmane du Musée du Louvre، ص٩٢–١٠٥. ومقال الدكتور كونل في مجلة Ars Islamica.
٩  انظر: إشارة الأستاذ بريجز BRIGGS إلى تنقُّل الصُّنَّاع بالأقطار الإسلامية المختلفة، في كتاب The Legacy of Islam، ص١٥٧. وراجع: كتاب البلدان لليعقوبي، ص٣٦٤.
١٠  قارن: DIMAND: Handbook، ص١٥٢.
١١  راجع: La céramique musulmane de l’Egypte، ص٤٧.
١٢  راجع: H. RITTER, J. RUSKA, F. SARRE, R. WINDERLICH: Orientalische Steinbücher und Persische Fayencetechnick (Istanbuler Mitteilungen Herausgegeben von der Abteilung Istanbul des Archäologischen Institutes des Deutschen Reiches, Heft 3).
١٣  انظر: ALY BEY BAUGAT ET F. MASSOUL: ibid، ص٤٣.
١٤  انظر: M. PÉZARD: ibid، اللوحة رقم ١٢٣، شكل ١.
١٥  انظر: PÉZARD: ibid، اللوحة رقم ١٢٦، شكل ٢.
١٦  قارن: رقم ١١٢٠ بالمتحف المصري.
١٧  راجع: ALY BEY BAHGAT ET F. MASSOUL: ibid، ص٤٣-٤٤.
١٨  انظر: PÉZARD: ibid، اللوحين رقم ١١٤ و١١٧.
١٩  انظر: PÉZARD، اللوحة رقم ١١٤.
٢٠  قارن: SARRE: Die Keramik von Samarra، من اللوحة ١٤ إلى ١٦.
٢١  راجع: P. OLMER: Catalogue Général du Musée arabe du Caire, les Filtres de gargoulettes، ص٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤