الفصل العشرون

أيقظه من إغفاءته أول سرب طائرات مغيرة جاء عبر البحر كالعادة مبكرًا جدًّا مع نسمات الصباح، ومطلع يوم جديد من أيام الحصار والعدوان.

تحسس من فوره هويته، ولدهشته لم يعثر عليها في جيب سرواله الخلفي كما اعتاد على وضعها، بل عثر عليها في جيب سترته الأعلى، ولم يطل تفكيره فيما حدث، ذلك أنه رأى أناسًا يجرون مسرعين في اتجاهٍ واحد، فاندفع مجهدًا مؤرقًا في أثرهم لا يعرف له اتجاهًا بعينه، رابطًا بين قصف الطائرات المغيرة على الأحياء والبيوت التي لا تزال تغط في نومها، وبين أكداس المنشورات التي لا بد وأن محتواها كالعادة مطالبةً البقية الباقية من سكان بيروت بالفرار هربًا بالجلد وإنقاذًا له: ليخلو الجو لهم.

واصل عدوه مرهقًا: بيضوا واصفروا.

تداخل مع الفارين إلى حد أنه عاد فسبق الكثيرين منهم، خاصة النساء الثكالى والمسنين والمصابين.

انكفأ مراتٍ على الأسفلت حين لوى عنقه لتصدمه الطائرات في أثره تقذف بالحمم، وبدا له الأمر وكأنه في سبقٍ معها، مما أحاله إلى حمامة مهيضة، إلا أنها أخف حركة من كثيرين.

كتم من فوره رغبةً ملحةً في الضحك: منذ أن نزلت قدماي هذه المدينة المثقلة وأنا أعدو دون غاية.

غمغم: لعلني أصبحت مثلهم مهجرًا.

ردد متذكرًا كلام صديقه الرسام الملتحي: ما الفائدة؟

وأيقن بأن هذا أصبح حالنا على أرض هذه البقعة الموبوءة من العالم، أن نجري كثيرا هربًا بالجلد … ومنه.

لماذا نحن بالذات؟ ها هي القارات الخمس من حولنا، ها هي إفريقيا السوداء.

وأعاد إليه الأمر نقطة بدئه وكاره، نفايات القرى، العوامل المنقضية.

قال: السباحة المعاكسة.

– اللاهدف.

– أخيل.

– حرث البحر.

مضى يتأمل الوجوه بحثًا عنها بوجهها الأبيض البريء كشاةٍ ضالة.

وانضم الكثيرون للموكب، وتداخلت الأجساد وتقاربت أكثر، نساء وفتيات وأطفال وشيوخ وشبان وأمهات يحملن أو يجررن أطفالهن الرضع باكيات بالدموع.

ما من حارة أو شارع جانبي أو زقاق لم يُلق بدلوه في بحر الموكب الزاحف عدوًا بلا هدف واضح أو مستقر.

والطائرات في الأعقاب تفرغ حمولاتها من قنابل ودوي وحرائق، أصبح يحس وهجها الحارق فيتصبب منه العرق.

عصرًا يعصر عرق الجبين.

رأى نفسه مجهدًا إلى حد مغالبة السقوط أرضًا تحت الأقدام الفزعة المروعة.

كان الموكب ساعتها يعبر جاريًا من فوق كوبري علوي يفضي إلى ساحة الشهداء التي يعرفها.

تسنَّد بالدربزين الحديدي للكوبري في إعياءٍ واضح، ومضى يتلوى بجذعه النحيل فارع الطول، مجاهدًا في السيطرة على تنفسه … نبضه.

وقبل أن يأخذ راحته الكافية، راح يعدو في بطء فاكًّا عنه رباط عنقه ملقيًا به، حتى إذا ما انتهى به المقام وحيدًا تعبًا بعد أن انفض عنه الموكب، اتجه من فوره عابرًا الميدان الموحش الفارغ إلى شق لا يبين في الجدار المواجه، ودلف منه صاعدًا بضع سلمات حجرية متربة تسدها القاذورات والنفايات، إلا أنه تخطاها ليجد نفسه مشرفًا على ميدان صغير مسوَّر من جميع جهاته، ببعضه مقاهٍ وبارات شعبية فقيرة، وفي مداخلها تراصت مقاعد قصيرة من القش، وتمدد السكارى والشمامون متحلقين في ظل الجدران ورطوبة السقف.

انحط من فوره على واحد من تلك المقاهي، وظل يلهث ويمسح عرقه الغزير، ويتطلع إلى السماء الملتهبة بالنيران والقذائف.

أعاد تأمل الوجوه من حوله، فوجدها ولدهشته غائبةً عن عالمها.

إما منكسة تتطلع إلى الأرض تحت أقدامها، أو مسبلة العيون لا تهزها شاردة أو دوي، ما الخبر؟ لماذا الناس هنا على هذا النحو من السكينة وروقان البال، وكأن الأمر لا يعنيهم في كثير أو قليل؟

فحتى أجهزة البث التي ترسل بأخبارها ومارشاتها الدافعة للحماس يبدو وكأنها لا تلامس آذانهم، تساءل: تراهم مستسلمين أم شامتين؟! سمع أحدهم يطرق كفًّا بكف وهو يُقعي إلى بعيد على صندوق ورنيشه بدلًا من كرسي المقهى: قلناها كثير.

كمل له آخر ضاحكًا، وقد بدا نصف أسنانه الفضية: ما بتفرق معاهم.

تساءل: من؟

– تجار هذا البلد … أصحاب البنوك والودائع.

وسرعان ما حل الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى دوي القذائف، وأخبار الراديو المزدحم وأصوات أحجار النرد داخل المقهى.

حلقت طائرتان معاديتان من فوق المكان من حول محيطه؛ حتى تيقن من أنهما لا محالة ستفرغان حمولتهما من نابالم وقنابل عنقودية فوق رأسه بالتحديد، ودون تفكير ثبت بصره عليهما طويلًا، تاركًا العنان لجذعه الأعلى بكامله راجعًا إلى الوراء إلى حد ملامسة الجدار والانبطاح أرضًا دفعة واحدة، حتى إنه سقط على آخرين من خلفه موقعًا بعض الكراسي والمشروبات، وظل هكذا مضطجعًا فترة إلى أن جاء الدوي والانفجار إلى بعيد.

عندئذٍ تسنَّد جالسًا من جديد ثم هب بقامته المديدة، ملقيًا نظرة خجلى على الموجودين، معتذرًا مطبطبًا على كتف من أوقع بهما: اعذرونى يا إخوتى، آسف جدًّا.

ولدهشته الكبرى أن الأمر بدا عاديًّا، فلم يلق له أحد بالًا، وكما لو أن عينًا لم تلحظه.

– ما الخبر؟

انحط جالسًا على كرسيه منزويًا، رأسه بين ساعديه ضاغطًا، إلى أن قاربه أحدهم بأسبرين وكوب ماء، فشكره المهاجر ممتنًّا، مستعيدًا من جديد ثباته، ماسحًا زجاج منظاره حين عاجله الرجل: انس.

– كيف؟

– مثلما نفعل جميعًا.

أشار بأصابعه الخمس المرصعة بالخواتم: الجميع.

وحين تفهَّم الموقف ابتسم في ود إلى محدثه مقاربًا، حتى إذا ما جاءت القهوة كان قد اتصل بينهما الود، مما حدا بالرجل — وكان قصيرًا ممتلئ الحركة — لأن يضع يده في جيبه مخرجًا، في قليل من الحذر، علبة نشوقه، مُقدمًا له جرعة تشممها بمنخاريه عاطسًا في البداية.

كان الغروب القاني قد بدأ يزحف.

ولعلها المرة الوحيدة، منذ العدوان المروع والحصار، التي ينسى فيها فتاته الجنوبية الضالة، متذكرًا من فوره العالية وأختها.

جاءته من فوره العالية الأخت الصغرى تزحف على أربع عبر الميدان المسور بمقاهي الشمامين والزعران، تبحث عن ماذا … فردوسهما المفقود الذي كان.

أحس من فوره براحة تسري في أعصابه، بدءًا من قدميه العطنتين داخل حذائه، مرورًا بساقيه وركبتيه ورأسه.

أصبح المكان الغاص بالرجال أكثر شاعرية، بل لقد انفتحت أكثر من شرفة، وبالكون أطلت منها نساء متحررات من معظم ملابسهن.

يبدو أنه لم يكن يلحظهن منذ أن دلف إلى هنا لاهثًا متشويًّا: ياه.

أخرج من فوره مائة ليرة متحسسًا، ودسها خلسةً في جيب محدثه، الذي رفض في البداية مصرًّا على رد المبلغ، إلا أنه أصرَّ بدوره وعيناه على فتيات الشرفات أعلى بدلًا من الطائرات.

وحين رضخ الرجل اللبناني القصير إلى القبول، قدم إليه من جديد جرعة ضعف سابقتها، وأكثر من سيجارة، وتجددت القهوة السادة، وصفا الجو.

ويبدو أن أخبار الراديو بدورها جاءت بالجديد المشجع: هدنة.

ذلك أن التصفيق جاء مدويًا من داخل المقهى وبقية المقاهي المواجهة، وعربة بائع السجق الساخن وزبائنه، وتعالت الضحكات والتعليقات: إفراج.

– نشم فقط نفسنا.

– إلهي يهد حيلهم.

– عصابات.

– ريجن وبيجن.

– بيجن وبيجن.

– بيجن وشريكه.

أحس بالجوع المفاجئ عقب الجرعة الثانية، فهب من فوره مادًّا الخُطى إلى بائع السجق، وعاد محملًا بستة ساندوتشات وسلاطات، اقتسمها مع الرجل وجرسون المقهى، ورجل آخر عجوز يرتدي شورتًا ملونًا كان قد أوقع به حين انبطاحه.

علت ضحكات نساء الشرفات، وعرف فيهن فتاة سمراء رقيقة التقاطيع مصرية.

وعرف من صديقه اللبناني أن اسمه محمود العريض، وأنه تقلب في عدة مهن، منها خباز، وبائع عرقسوس، وسمسار، وصاحب محل فليبرز.

مختتمًا خبراته ومهنه بأنه صحفي.

قال: صحفي، أمال.

أما هو ففاض وزاد معه في الحديث عن فتاته الصورية المصابة التي أضاعتها الحرب وأعياه البحث عنها: لم أترك مستشفى واحد في بيروت، شارعًا، ساحة تحت القصف، ولم أعثر لها على أثر.

غمغم محمود: العدوان، الحرب، أولاد الرمم «خاربين البيوت». أين نذهب ونفلت من ظلمهم؟ لا مهرب سوى النسيان.

وعاد يعزم بجرعة جديدة، فشكره المهاجر ممتنًّا، معتذرًا بأنه لم يسبق له.

وما إن تطلع العريض إلى ساعته متحينًا لحظة انسحابه حتى طالبه المهاجر بإيصاله إلى أقرب فندق. هنا أشار العريض من فوره إلى سيارته «البويك» المستهلكة، البلا طلاء، وكانت مركونة في أقصى الطرف المقابل للميدان، حتى إذا ما استقلاها وبذل العريض جهودًا مضنية في تسخينها وإدارة محركها، اقترح عليه من فوره الإقامة معه بمسكنه الذي يقيم به وحده، بعد أن رحَّل أسرته وأبعدها عن الحرب والأخطار، زوجته وبناته الثلاث وأمه المقعدة وعمتين دفعة واحدة منذ الشهر الأول للحرب إلى دمشق.

فنحن الرجال نحتمل، أما النساء الحرمات، فعبء ما بعده عبء في هذه الأيام السوداء التي لن تنتهي.

وحين وصل محرك السيارة إلى درجة التنقل بتكاسل عبر الظلام الكثيف ثم الأسرع، أخبره بأن منزله يقع في منطقة أكثر خطورة من الحمراء، وحيث كان المهاجر يقيم ضحك وهو يتطلع إلى الطرقات الخاوية مُهوِّنًا: لكن لا يهم؛ فأنا أعرف كيفية التسلل ليلًا، ومثلنا مثل الناس في شاتيلا.

غمغم المهاجر مأخوذًا: شاتيلا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤