الفصل الثاني والعشرون

في ضحى اليوم التالي — على غير موعد — ودون جهد منه للبحث عنها.

التقيا هكذا داخل إحدى غرف عمليات مستشفى شاتيلا الذي لا يبعد عن بيت مضيفه محمود العريض أكثر من حارتين جانبيتين وثلاثة شوارع.

ذلك أن العريض أيقظه من نومه وغفوته التي ألمت به فجأة، معلنًا في أذنه بأعلى صوته الجهوري مدويًا: قوم قوم، البنت شادية استشهدت.

– شادية.

اندفع من فوره جالسًا ممسكًا برأسه بين كفتيه من أثر الصداع ورطوبة البلاط، محاولًا استرجاع الاسم وملامح تلك الفتاة الفلسطينية في زيها العسكري ومرحها العذب، وذلك الحنان الجارف الذي أحاطته به منذ أن التقيا أمس، حتى إنه نسي المعارك وأوجاعه واستسلم لنوم عميق أفاق منه على استشهادها.

– كيف؟

لم يمهله العريض، بل اندفع من فوره يحضر القهوة حاكيًا بصوته العالى وإيقاعاته المتلاحقة دون أثر لتندم، كيف أنها صممت وركبت رأسها على أن تلحق بصديقها الشاب اللبناني الذي لم تكن تكف عن الحديث عنه منذ التقيا، والذي يرابط مع زملائه مقاتلًا على أحد محاور المخيم، دفاعًا عنه.

غمغم المهاجر متذكرًا: بسام، بسام.

وفعلًا سحبت سلاحها وظلت تعدو إلى أن لحقت به، ولم يطل الأمر بهما، حتى جاءنا خبر الاثنين، إصابتهما معًا، ونقلهما إلى المستشفى القريب، جحيم.

وحين ذكر العريض تأهبه لزيارتها، والاستعداد للجنائز والدفن، لم يجد المهاجر منفذًا من أصحابه، برغم أن المضيف حاول ثنيه وإبقائه في المسكن ومواصلة النوم، حين أحس تهالكه ولونه الشاحب.

مسح وجهه بمنشفة مبللة، وعدل من هيئته أمام مرآة متربة، واندفع في أثره، إلى أن أشرفا على الميدان حيث تقع المستشفى التي تصدَّرتها وملأت أروقتها عائلات الجرحى والمصابين والشهداء.

وما إن دلف بنصف جسده داخل غرفة العمليات، وعيناه على جثمان شادية المسجاة، حين قاربها العريض وهو في أثره، حتى وجدها في أحضانه مقبلة.

في البداية لم يتعرفها تحت قناعها في زيها الأبيض، إلى أن قفزت عالية محتضنة متعلقة بعنقه مقبلة بلا صوت، وتشمم روائحها العذرية.

– معقول؟!

ودون أن يعي ما يحدث وهو يتأمل فتاته الجنوبية في صمتها المتفهم المفصح عن الكثير، وردائها الأبيض، اندفع نحوه العريض عائدًا من فوره، مقاربًا معلنًا انقضاء أجل الفتاة: ماتت.

– شادية!

انسحبوا ثلاثتهم خارجين من عنبر العمليات المشابه لجراج، ويدها الدقيقة تعمل في يده، قدَّمها إلى العريض الذي ابتسم: شيء مفرح في هذا الغم أن يلمع شيء، تلتقيا.

عرف منها بأسها بحثًا عنه، إلى أن تقدَّمت متطوعة للعمل بهذا المستشفى مع صديقة أخرى درزية تقيم هنا، تدعى ليلى، سبق له أن شاهدها معها مرارًا.

وأخبرها بدوره مسرعًا منفعلًا متوعكًا ما مر به وألمَّ من ظروف منذ تهدم البناية، وسد مدخلها، وهج سكانها عنها ذعرًا وافتراقهما.

قاطعته: أعرف، ومررت عليها ثلاث مرات آخرها أول أمس.

ابتسمت: وبالطبع لم أسأل عنك.

تساءل: كما هي؟

ضحكت: أكثر سوءًا، فالشارع بكامله أصبح شبه مهجور، وأصحابها رحلوا إلى الجبل والشمال.

قاربه العريض وهو يلكزه مُنَبِّهًا لمشهد الفتاة الفلسطينية شادية وحبيبها اللبناني، جسديهما المسجيين على نقالتين، وقد أحاط أهاليهما رأسيهما بالورود والزهور والصبار، وأحاطوا بالعجلتين حاملين سلاحهما المشهر.

تقدم العريض من رأس الفتاة مصلحًا، مختلسًا نظرة أسية أخيرة من تحت خباء وجهها السمح الطفولي المبتسم دومًا.

وعاد كالمذعور فشدد عزاءه للأم الهرمة الثكلى وفتاتَي الأمس، اللتين قاربتا المهاجر مسلمتين في حزنهما، فقدمهما لصديقته التي رمقتهما بنظرة فاحصة يعرفها عنها سائلة: من البنتان؟

حكى لها مكملًا ما ألم به عقب افتقاده لها ولبيته وكتبه ومخطوطاته، لحين التقائه بالعريض والإقامة عنده، ثم كيف التقى بفتيات العمارة الثلاث عنده بمسكنه لحين استشهاد إحداهن.

بدا أنها تفهمت الموقف، خالعة عنها معطف المستشفى، دافعة برأسها وخصلات شعرها الذهبية إلى الوراء كمثل جواد عربي فتي.

– شوب.

ومن فورها رافقت الموكب المستعد لرحلة الدفن في حديقة شاتيلا، التي أصبحت حديقة الشهداء.

كانت الهدنة المزعومة قد استقرت عقب اتصالات ما بين عواصم الشرق الأوسط والأمريكتين وغرب أوروبا.

الشوارع بدت قليلًا مزهوة بأناسها الشاحبين المكدودين من أثر ثقل عدوان الأمس، الذي امتد طيلة النهار، وحلول المساء بطوله، حتى مطلع هذا اليوم التالي، وغارات الطائرات القاذفة بكل أنواع الدمار وحممه، مضافًا إليها البوارج والزوارق البحرية، ناهيك عن الدبابات والمدرعات، وقنابل الإضاءة، وكل أنواع المدفعية لم يتوقف لها عدوان.

بدا ما تبقى من نساء بيروت ورجالها وهم يروحون ويعدون من أمام عتبات بيوتهم، أو أمام المخابز والأفران، متحلقين في طوابير مستكينة للحصول على الخبز والماء وعربات الخضراوات والفاكهة «البايتة»، والبحث عن شموع الإضاءة والكيروسين والدواء، وهم يتبادلون النظرات والتهاني بالتواجد — حتى الآن — داخل أجسادهم.

وحين تراصوا متقابلين داخل عربة نقل الموتى السوداء، جاءت الأم والفتيات بفستان العروس المحترقة شادية الأبيض، ونصبوه قائمًا في موقع الرأس من تابوتها.

تلمست بيدها الدقيقة يده في رقه سرت عبر عظامه والسيارة تمرق بهما الطرقات المفرغة من الناس.

قال العريض: أعمار.

سالت دموع الفتاتين من رفيقات الشهيدة في صمت، شمل أيضا إيماءات الأم الفلسطينية السمراء التي راحت تلطم مقبلة أطراف كفن الابنة: ظلم ظلم.

تسندت الأم في محاولة منها للوقوف على قدميها والاقتراب من جثمان الابنة المسجى، في ذات اللحظة التي حاول فيها العريض معاودة إجلاسها على مقعدها، دون تراجع منها، انتهى بالعريض إلى أن تعنف حركته أكثر، ذاكرًا مرة بأن الأمر لا يعدو: أعمار.

وأخرى بأن الشهيد أبدًا لا يموت، ولا داعي لمزيد من الإزعاج.

هنا تبادل جميع المتواجدين داخل سيارة نقل الموتى النظرات المتسائلة.

إلا أن إصرار العريض على عدم السماح للأم بالاقتراب من الجثة، أهاج عواطفها أكثر فأكثر.

– بنتى … حبيبتي … أبوسها.

هنا لكز العريض المهاجر كمن يطلب عونه، دافعًا بجسد الأم إلى الوراء.

وغطت الفتاة الجنوبية في ذعر وجهها بكفة يدها، في ذات اللحظة التي جاشت فيها مشاعر الأم إلى ابنتها، إلى حد مقاومتها للعريض وشابين آخرين مسلحين، وانتصبت من فورها واقفة منحنية على النعش، كاشفة في رقة أم تهدهد صغيرتها … طفلتها، ولدهشتها … صرختها، لم تجد شيئًا سوى خصلة شعر محترقة تعلو مطلع جمجمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤