الفصل الثالث

تذكر أنهم كانوا قد أخذوا الموسى بجرابه الأبنوسي من جيبه الخلفي حين ضبطوه معه، فتحفظوا عليه ووضعوه بعناية في خانة المضبوطات بجمارك عمان.

حين تجمهر حراس الحدود البدو قصار القامات بكاباتهم الزرقاء، فأحاطوه من كل جانب، وعاودوا التفتيش عبر جيوبه، حقائبه، واسته.

حاول إفهامهم في صمت مشيرًا إلى ذقنه ورقبته، استراب الركاب وبقية المسافرين، وتحسس أكثر من راكب بدوي مناطق عنقه بعيونهم في استرابة.

الناس عبر حواجز الحدود والجمارك لا يعرفون بعضهم البعض سوى أنهم يتبادلون الكلمات العجلى.

على طول الطريق الصحراوي تتراص شاحنات وقاطرات المازوت.

تزايد سوء وضعه، حين عثورهم على بعض حبات لأدوية مختلفة، وقدم صول وكاتب مدني بيده قلمه ليجري التحقيق حول الموسى وأوراقه الكثيرة المهترئة الصفراء، وشرح لهم الوضع في صعوبة وحكاية الحكايات.

قال بأن الأمر لا يعدو بضع حواديت ونكات عامية وخارجة بذيئة لبطات وشحارير وأبراص وعناكب وزواحف، من تلك التي على بطونها تزحف، وترابًا تأكل وتقتات.

هداهد لها هيئة الطواويس، ومن فصيلتها، رسل الحب بين بلقيس الملكة وسليمان الحكيم.

ضحك الجنود قصار القامات في حياء وكأن الأمر فاضح إلى هذا الحد، وربط الكاتب المحقق بملابسه المدنية بين الموسى الأبنوسي في جيب المهاجر وبين الأوراق والكراسات، الورق.

لماذا يكرهونه؟

كان له وجه طويل عظمي ناحل، وكان له «دقة» تركوازية لوشم ثلاث حبات هرمية لعنبات، أو تفاحات. يدخن بطريقة متواصلة، وبين وقت آخر يبصق في سلة بين قدميه، معاودًا الكتابة والتلصص.

وأجابه: بأن من السابق لأوانه الربط بين أوراق حكايات قديمة كان قد جمعها منذ زمن من أفواه العامة بنفس ما يحدث في حالات جني القطن وآفاته، وهو أمر عادي غير ضار بالدرجة التي يربط بينها وبين الموسى، الذي لم يفارق جيبه الخلفي منذ الإفراج عنه عبر صحاري مصر المحاطة إحاطة الرمل بالواحة، وعبر سلسلة متناهية من محاولات الإطباق عليها وجهًا لوجه من كل جانب، على عادة ما يحدث مع الحيوانات الضارية، التي أفضت به بدورها؛ لأن يصبح مثلهم ومن فصيلتهم ضاريًا.

دفع طاولة المحقق في الوقت الذي أطبقت عليه من كل جانب العساكر القصيرة في محاولة لمنعه من الوصول بمرفقه إلى طاولة المحقق، مجاهدًا في عنف حقيقي لمقاربة سلة الزبالة بين قدمي المحقق الموشوم؛ لينكفئ باصقًا مسعلًا في عنف أقرب إلى السعار الطويل المصاحب للإغماء وحالاته، مهوهوًا على عادة الكلاب الضالة: هو … هو.

ظل يسعل مهوهوًا منكفئًا عبر مساحة الصمت المطبق وقيام المحقق المدني الموشوم على كرسيه الخيزراني مبتعدًا، ووجوم العسكر، وذعر الصول السمين، إلى أن دفع له أحدهم بالسلة، وآخر بكوبة ماء، ثم شاي بالنعنع ولفائف، وانتهى الموقف بنجاحه في كبح ذلك البكاء الداخلي الملازم للسعال والسعار.

اعتذر للجميع وشدد عليهم مسلمًا، خاصةً الصول الذي أشار بجمع حاجياته، وحين عاد إلى السيارة رحب به الجميع، وانطلق السائق الفلسطيني من أريحا عبر حواري عمان المتعرجة المتصاعدة، بموازاة البيوت الواطئة والمتعالية على مدى التلال التي تعتليها المدينة.

تزايدت النار على المحاور.

قال: يبدو أنها بيئة ملائمة لأن ينبت فيها نبي الصبر أيوب الدمشقي، فالناس هنا سواء: الركاب الأربعة الذين لا يجمعهم سوى السيارة وسائقها يبدون مستسلمين، حتى عندما سرت إشاعة أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالجرافات والهيلوكوبتر لخروج سيول على المحاور.

أينما وجد الناس تستعر النيران على كل المحاور.

كان قد خلفها في القاهرة، لتطالعه هنا في بيروت هي هي، فلعله ذات الوهج، درجات التوتر، لزوجة الجلد الأصفر، الافتقاد داخل غابات المدن المعنية المحاصرة بالخوف والتربص، والتي تتحين في كل لحظاتها الغوص العمودي، الاختباء المصاحب للطرد، فهي في كل حالاتها وتواجدها طريدة، لا مكان لها في فلك القدماء ولا العائشين. إنها هي بعينها سليلة ذلك الحيوان أو الابن النوحي الطريد، لا مكان.

أجل هي حيوان الماموث الجليدي القطبي، الضال في طوفانات الحشرات وزواحف الأرض التي تفيض في سردها الحكايات القديمة، الغرق المحقق للابن أو الابنة الضالة … الخوارج.

المدن.

الضواري.

ولعلهم يتواجدون بكثرة حتى هنا، إنهم يتكاثرون بمعدلات أكبر بالطبع سنة أو محنة عقب أخرى، وهم كانوا سببًا دائمًا لهجرته … شتاتاته، رغم انقطاع كل صلة يمكن أن تقربه من طرقهم، مقاهيهم، أفكارهم الموصلة إلى حد التدمير.

قال: لعله الموسى.

تحسس جيبه الخلفي منزعجًا، في لحظة مشابهة لتلك التي أحاطت به فيها جند الملك سمر الوجوه والقفيان، وتذكر أنهم أخذوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤