مقدمة

منذ أربعة شهور، جلست في غرفتي أمام منضدة الكتابة، وأردت أن أكتب قصة، فقلت: ماذا أكتب؟ إني لا أرغب أن أقص قصة غرام طاهر وحب نقي وقلوب طيبة ووعود وزواج، هذه الأشياء ليست موجودة إلا في خيال المؤلفين، وبقيت أمل القلم، وكلما هممت بالكتابة أحس بيد قوية تعوقني حتى يجف القلم ويطير المداد في الهواء.

إن دماغي مملوءة بالآراء والقصص، ولكن كل ما يحيرني هو الانتقاء؛ أي قصة أنتقي؟ وأي فكر أختار؟ كثيرًا ما قرأت وكتبت قصصًا أبطالها: رجال ذوو همَّة وشجاعة وكرم وصداقة، وفتياتها جميلات ذوات عفة وطهر ونقاء، ولكن أي رجل الآن شجاع كريم صادق الوعد، وأي امرأة عفيفة نقية حافظة للعهد؟ اقلب كلامك، وضع يدك على من شئت، آن الآوان لأن نترك الخيال جانبًا، ونقف على الحقيقة، إذن فلنكتب قصة عن الناس الذين حولنا الذين نعيش بينهم ويعيشون بيننا.

نعم، إنني أعلم أني بذلك أحرك الماء الراكد الآسن، وأفضح معايب الهيئة الاجتماعية، ولكن أرى أن تصوير البشر كما هم أفضل بكثير من تصويرهم كما يجب أن يكونوا، إن جمهور القرَّاء يطلب قصة عن أميرة فتاة جملية غنية تقع في ورطة؛ فينجيها من الموت شاب جميل فقير شجاع فيتزوجها، ولكن أنا لا أطلب ذلك، أنا أطلب أن أنزل بالقرَّاء إلى ميدان الحياة الواسع، أرغب أن أنزل بهم إلى ملعب الحياة الذي يمثلون فيه أدوارهم وهم لا يحسون.

أرغب أن أصور لهم صورة يرون فيها معايبهم؛ فيصلحونها، ولا أرغب أن أغشهم بتصوير الناس صورة جملية، ولكنها مخالفة للحقيقة.

وليعلم القارئ الكريم، أن فن الروايات منقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يسمونه «رومانتيك»؛ أي روايات خيالية، والقسم الثاني يسمونه «ريالستيك»؛ أي روايات حقيقية، فالأولى هي التي تصور البشر كما يجب أن يكونوا، لا كما هم في الحقيقة، والثانية تمثل البشر كما هم بنقائصهم ومعايبهم ومخازيهم، وأشهر كتاب الخيال السير ولترسكوت القصصي الإنجليزي وإسكندر ديماس وماكس بمبرتون وغيرهم، وطريقة كتاب القصص الخيالية هي أن يجلس الكاتب في غرفته، ويتخيل الحقول الخضراء، والحدائق الغنَّاء، وغدران الماء، والطيور المغردة، والليالي المُقمرة، والأبطال الشجعان، والنساء الجميلات، والغزل والغرام، والشكوى والجفاء واللقاء، ثم يكتب قصته. وأما طريقة كتابة الروايات الحقيقية هي أن يلبس الكاتب ملابسه أو يتزيَّى بغير زيه، ويتجول في الطرق والأزقة، ويدخل المجتمعات والمحطات، ويرقب حركات الناس في ملاعب القمار والحانات والحدائق العمومية، ويبقى طول ليلته هائمًا في الطرق؛ يدرس الأخلاق والطبائع والعادات، وهو فيما بين تلك الأشياء يقيد ما يراه ويسمعه ويدرسه، ثم يجلس ويكتب قصته ويسبك فيها كل ما رآه وسمعه.

وكل الكُتَّاب في أوائل القرن التاسع عشر وما قبله، كانوا يميلون للطريقة الخيالية؛ لسهولتها ورواج رواياتها، وينفرون من الطريقة الثانية؛ لصعوبتها ونفور القراء منها. ومثلُ نفور القراء من الروايات الحقيقية؛ كمثل القبيح يقف أمام المرآة ويرى قبح وجهه فيكذب المرآة ويطلب غيرها تريه نفسه جميلًا.

وكان أول من هدم أساس الخيال وشاد صروح الروايات الحقيقية الكاتب القصصي الفرنسوي الشهير «هو نوردي بلزاك»، الذي ولد في أواخر القرن الثامن عشر، ومات في أوائل القرن التاسع عشر، وهو أول من بدأ بكتابة قصصه على الطريقة الحقيقية، وأول من بدأ بتحليل أخلاق البشر وقلوبهم تحليلًا فلسفيًّا، وكل ما كان يأخذه عليه أعداؤه هو تصريحه تصريحًا يخدش وجه الحياء، ولكن بلزاك لم يعبأ بهم، ولم يرغب أن يجر الذيل على المخازي، بل أراد أن يكشف أمرها ليراها الناس بأعينهم، لعلهم يرجعون عن غيهم، وقد كتب عددًا عظيمًا من القصص، وجمعها تحت عنوان «الكوميدية الإنسانية»؛ أي رواية الإنسانية المضحكة.

وقد سار على خطوات «بلزاك» تلميذه «إميل زولا» الكاتب الفرنسوي الشهير الذي انتقد «لويس أولباك» كتابه المسمى «تريزا راكن» بقوله: «إنه كتاب نتن؛ لأن مؤلفه صرح فيه بما يجب كتمانه.»

•••

وبعد أن جالت في رأسي تلك الآراء والأفكار، قمت فسرت في طرق القاهرة، ولم أترك بابًا حتى طرقته، وكنت في تلك الأثناء أقيد ما أراه في دفتر صغير، وأكتب ملحوظات عن كل كبيرة وصغيرة، وبقيت على هذه الحال ثلاثة شهور، ثم جلست أكتب قصة عن «الرجل والمرأة»، ولست أقصد بالرجل ذلك الإنسان الذي يعمل ويكد ليربح خبز يومه، إنما أقصد الرجل الساقط الذي أساءت إليه الهيئة الاجتماعية، وجنى عليه أبوه، فأتى يضرب في دَيْجور هذه الحياة، وما زالت تتهيأ له الأسباب حتى سقط في حضيض الفساد، ولا أقصد بالمرأة تلك المخلوقة التي تهز سرير طفلها وتطبخ لزوجها، إنما أقصد المرأة المسكينة المحتقرة المُهانة الظالمة المظلومة التي أجبرها الفقر وألزمتها الفاقة، فباعت عرضها لتأكل بثمنه رغيف خبز يابس!

وقد قصدت الكتابة عن المرأة والرجل؛ لأنه لم يهلني شيء في القاهرة مثل حال الرجل والمرأة وسقوطهما، ومن الغريب أن أفكار الأمة كلها كانت مهيأة لسماع ما يقال في هذا الموضوع، فإنَّه منذ قليل من الزمان قام «حافظ أفندي عوض» وأخذ يشرح على صفحات المؤيد حال الشاب المصري شرحًا وافيًا يدل على أننا في حاجة عظيمة إلى الإصلاح، وهاك نبذة مما كتب في المؤيد بهذا الشأن:

إن مثل هذا الموضوع «يعني سقوط الشبيبة واندفاعها مع تيار الفساد الأدبي» لا يصح أن يقال فيه إلا الحقيقة، لا يصح أن نسلك فيه سبيل عشاق الخيال ومحبي الأوهام، بل يجب أن ننهج فيه نهج التصريح بتصوير الحقائق على ما هي، وإن كان تصويرها كذلك غير مألوف على بعض الأذواق، وبذا يمكن أن يقال إننا أبرزنا صورة حالنا الحقيقية، حتى إذا ما ألقى الناظر إليها نظرة، صاح وإن كان جامدًا في إحساسه: «هلموا إلى الإصلاح! هلموا إلى الإصلاح!»

انتهى كلام المؤيد، فما أصدق هذا القول وما أجمله!
وبعد ذلك بقليل قرأنا مقالة في الجوائب المصرية في عددها الصادر يوم الأربعاء ١٧ مايو ١٩٠٥ تحت عنوان:

حبائل الشيطان

يمر رجل الأدب والتهذيب في شوارع الأزبكية، فيخيفه ما يرى أمامه من صنوف الخلاعة وأنواع الفجور، ومن تلك الأشراك المنصوبة عند كل خطوة لاصطياد المال وسلب الصحة والآداب، فيخطر في باله، وهو الأديب، أن يبحث عن أسباب هذا الداء المنتشر في القطر انتشارًا يقصر عنه انتشار الطاعون في بومباي منذ بضع سنين مضت، يمشي المرء من جهة قهوة الشيشة الوحيدة ليلًا إلى وجه البركة، فلا يصل لإلدورادو إلا ويعثر بمائة سبب من أسباب الفجور، فيصل إلى الإجبسيان فيرى جميع الأسباب مجتمعة معًا إن لم يكن فيها ففي جوارها، ثم يتقدم قليلًا في ذلك الشارع لجهة قهوة اللوفر، فيرى ما لا يجوز أن يخطه قلم، ثم ينظر إلى أكثر المباني فخامة وأشد المحال ازدحامًا وأجمل الحوانيت أثاثًا وأتمها زينة وأكثرها أجورًا، فيرى أن محال البغاء نائلة القدح المعلَّى ورافلة بلباس الزينة الأسنى؛ ذلك لأننا شباننا الكرام العواطف ينفقون الذهب الوضاح على مناضد مثل هذه المحال بلا عدد ولا حساب، مع أنهم يحاسبون مساح الحذاء على المليم، والعامل في حقولهم أو الخادم في بيوتهم على البارة أو على ما هو أقل منها.

كثر الويل فصار عامًّا، فسقط شباننا حتى في عدم تمييز الكلام المهذب من غيره، وصار بعضهم يقص أخبار زيارة البغايا كعمل شريف يفتخر به في أندية الخمر!»

انتهى كلام الجوائب.

وصوت الجوائب أيضًا صوت صارخ يستغيث صاحبه من حال الشبيبة الساقطة.

ثم جاء تقرير جناب اللورد «كرومر»، وفيه نبذة طويلة عن «الرقيق الأبيض»، وقد قرأنا مقالة بقلم «قارئ ناقد» في صحيفة الإكسبريس التي تنشر في الإسكندرية في عددها الصادر يوم ١٤ مايو سنة ١٩٠٥، وهي تشرح كلام اللورد «كرومر» عن الرقيق الأبيض، قال الكاتب:

الرقيق الأبيض

جاء في تقرير اللورد «كرومر» عن مصر والسودان في سنة ١٩٠٤ ما يأتي: كتب إليَّ الماجور «هوبكنسون»، رئيس الشرطة في ثغر الإسكندرية عن الرقيق الأبيض، يقول:

إن جمعية الاتجار بالنساء لها أعضاء ومعضدون في كل مكان، فإن الفتيات يبعث بهن من مدينة إلى مدينة، ومن أرض إلى أخرى، ومن يد شرير إلى يد فاسق، والناس عنهن لاهون. وأكثر ما تكون تلك التجارة الخاسرة في بلاد الشرق، فمن شنجاهاي إلى بومباي وغيرها، وليس لهم إلى تلك البلاد من مخرج سوى بورت سعيد.

انتهى. كلام الماجور «هوبكنسون».
قال اللورد «كرومر»:

ولا أشك أن تلك التجارة قد راجت رواجًا شديدًا في مصر، لا سيما في ثغر الإسكندرية، وقد نُفِي كثيرون ممن كانوا يتناولون تلك البضاعة، وقد أثر نفيهم تأثيرًا نافعًا، واعتبر بهم غيرهم من أهل الشر والفساد، وقد قام الكونت «منسي» وبعض أفاضل الإفرنج بتأسيس ملجأٍ للفتيات المسكينات اللاتي يقذف بهن الدهر إلى الإسكندرية. انتهى.

قال «القارئ الناقدي»: ولم يكن يجول بخاطرنا يومًا أن ذلك السياسي العظيم يصل إليه صوت هؤلاء النسوة المسكينات اللاتي أوقعهن القضاء ورمى بهن القدر في مخالب ذئاب الهيأة الاجتماعية، ولو كانت أمم الأرض طرًّا تفتخر بأنها محت آثار الذل والاستعباد وهدمت أسواق الرقيق فإن ذنوب الفتيات اللاتي يؤتى بهن من بلاد بعيدة لتعرض أعراضهن في سوق الفساد لا تزال واقعة على رءوس تلك الأمم.

ولو قام الكونت منسي وإخوانه بتأسيس ملجأ يلجأ إليه هؤلاء النسوة المسكينات فأحرى بأغنياء المسلمين في ثغر الإسكندرية وغيره أن يؤسسوا جمعية تشبه جمعيتهم لمحاربة الذين يجرون النساء المصريات الجاهلات إلى الفحش والعار.

انتهى ما جاء في صحيفة الإكسبريس.

ونحن نضم صوتنا إلى صوت الإكسبريس، ونقول إن تأسيس ملجأ للنساء البائسات خير ألف مرة من تأسيس مستشفى للمجاذيب؛ لأنه إذا صلحت المرأة صلحت العائلة ولو صلحت العائلة صلح كل شيء.

المرأة! المرأة! تلك المخلوقة الضعيفة يجب إصلاحها؛ لأنها وا أسفى عليها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها أذى ذئاب المدنية، وإن قدرت فهي لا تريد، ولا أدري على رأس من يقع ذنبها؟ فإن المسكينة تسقط بسرعة، ولو سقطت فليس لها من يرفعها؛ فيدوس عليها الرجال وهي تستغيث بهم وهم لا ينجدونها، حتى تكتم في نفسها أنفاس الطهر وتبقى كالحيوان يأكل ويشرب وينام، وتموت من قلبها عواطف الحب والشرف. ومن العجيب أن الناس يحتقرون المرأة الساقطة وهي جديرة بالشفقة والحنان، وينظرون إليها بعين الإهانة وهي جديرة بالإكرام. وما أجمل كلمة فكتور هوجو التي قالها:

لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها؛ إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها.

وقد اختلفت آراء الناس في ذنب المرأة الساقطة، أيقع عليها أم على الهيئة الاجتماعية؟ وعندي لتلك المسألة ثلاثة أجوبة: الجواب الأول بقلم كاتب فاضل يكتب في مجلة «السيدات والبنات»، والجواب الثاني بقلم شيخ الفلاسفة الكونت تولستوي الروسي، والجواب الثالث من عندي. وهاك الجواب الأول:

منذ بضع سنوات كان في أحد المخازن بشارع شريف باشا فتاة أوروبية تدير شئون المخزن، ولا تسلني عن نوع البضائع والسلع التي كانت في المخزن؛ لأنني إذا ذكرتها وكنت إسكندريًّا خشيت أن تعرفه. وكنت أتردد على هذا المخزن لشراء شيء منه، فكلما دخلت وجدت الفتاة كسيدة حقيقية جالسة إلى مائدة جميلة تكتب وتأمر وتنهى والمستخدمون طوع أمرها، وكان الواحد منهم إذا خاطبها يخاطبها بكل احترام، ولا يكون خطابه إلا قوله باللغة الفرنساوية: «تحت أمرك يا مدموازل.» «نعم يا مدموازل.» «حاضر يا مدموازل.» أي إنها كانت سائدة في ذلك المخزن سيادتين: سيادة رئيس العمل وسيادة الجمال؛ ذلك لأنها كانت رائعة الجمال، وكان لها ابتسام ملائكي وجبين نقشت عليه الطهارة وثغر كزر الورد عند تفتحه، فكنت إذا دخلت لأبتاع شيئًا بفرنكين خرجت وقد ابتعت بأربعة؛ إذ أخجل من إضاعة وقتها بشيء قليل، وكنت في مخاطبتها أحترمها وأجلها كما أحترم أكبر سيدة؛ لِما رأيته من أدبها ورقتها وقوتها.

وفي ذات يوم دخلت المخزن على حسب العادة لأسأل عن شيء، فلم أجدها فيه، وقد مر على ذلك اليوم نحو ثلاث سنوات دون أن أراها، إلا أنني منذ أسبوعين شاهدتها في مركبة في شارع شريف باشا، والمركبة تسير بها مسرعة، فأول ما وقع نظري عليها علمت سر المسألة، علمت من مجرد نظري إليها أنها نزلت وا أسفاه في هاوية جهنم، فإنني فتشت في وجهها على آثار الطهارة الملائكية والجمال العذري وظواهر عدم الاكتراث الصبيانية التي كانت مرسومة على جبينها فلم أجد منها شيئًا فيه، ولما وقع نظرها عليَّ صدفةً واتفاقًا صرفت عينيها عني وزاد انقباضها، فلا ريب عندي في أنها ذكرت حينئذٍ الرجل الذي كان يعاملها باحترام عظيم في تردده على مخزنها، وأن تذكرها هذا الاحترام قد آلم نفسها حينئذٍ، ولعل كلمة «أخجلها» في هذا المقام أصح من كلمة «آلمها» …

فالراجح أن أحد الشبان اللئام أغوى هذه الفتاة وزين لها ترك عملها واتباعه ليعيشا سعيدين، وربما قال لها ليؤثر عليها: «مالك أيتها العزيزة وهذا العمل الشاق المضجر طول النهار لتكسبي مائة فرنك في الشهر، اتبعيني فأعطيك بلا تعب ولا ضجر ثلاثمائة وأربعمائة، ونعيش معًا بهناء وسعة.» فصدقت الفتاة الساذجة وعود الغشاش وتركت العمل لتتبعه، ومن هنا بدأت آلامها ومصائبها وأهوالها، وبعد أن كانت موضع الاحترام والإكرام؛ لرزانتها ونشاطها وعملها، أصبحت موضع الشفقة ممن يعرفها والاحتقار ممن لا يعرفها.

فأي ذنب هنا للهيئة الاجتماعية، أليس الذنب كل الذنب للفتاة التي انخدعت وحادت عن الصراط المستقيم اغترارًا بأقوال شاب لئيم؟

نعم أيتها الفتاة المسكينة إن الذنب ذنبك لا ذنب الذي غشك، فإنَّه متى أصاب الثعلب دجاجة وأكلها يكون اللوم بالأكثر على الدجاجة التي لم تقوَ على الفرار من الثعلب، وما كان أسهل فرارك من الثعلب، الوحش المفترس، لو بقيت متمسكة تمسك الغريق بخشبة في البحر، بذلك المبدأ الشريف، مبدأ العمل المقدس المشرف، المسلي الطارد الأفكار الرديئة، المقوي على احتمال الحياة والمعيشة فيها بشرف وعزة واستقلال.

هذه هي قصة الابنة التي أشرت إليها فيما تقدم، إلا أنني لما وصلت إلى هذا الموضع شعرت بأن الفتاة المذكورة آنفًا يمكنها أن تعترض على ما أعترض به عليها اعتراضًا خطيرًا قد يصعب الجواب عليه، وإنما يصعب هذا الجواب أولًا لارتباطه بأساس (المسألة الاجتماعية)، وثانيًا لأنني أكتب هنا في مجلة نسائية؛ ولذلك ألقيت القلم من يدي، وأنا آسف لأنني لم أكمل هذا الموضوع، على أن أسفي لعدم إكماله خير من إكماله؛ إذ ما الفائدة من انزعاج أدمغة الحسان اللطيفات الظريفات بالافتراضات والفلسفات وغيرها من الترهات؟

انتهى كلام الكاتب.
ونحن نشتم من هذا الكلام أسلوب «فرح أفندي أنطون» صاحب الجامعة ونفسه، وأنت ترى أنه وصل إلى غرضه، وإن كان تظاهر بعدم إكمال الموضوع، وزيادة على ذلك أنه رمى طيرين بحجر، فأوقع ذنب الفتاة الساقطة على رأسها، ثم عاد باللوم على الهيئة الاجتماعية، وقال: «إن الجواب يصعب لارتباطه بالمسألة الاجتماعية.» والمسألة الاجتماعية التي أشار إليها فرح أفندي أنطون هي التي ذكرت في مقدمة البؤساء، وكان لها شأن عظيم لقلة ألفاظها وكثرة معانيها، وهي:

ما دامت في العالم جهنم يشعل نارها النظام والعادة، وما دامت الفاقة تجبر الرجل على ذل السؤال، وما دام الجوع يلزم المرأة لبيع عرضها؛ لتأكل بثمنه، بل ما دام الجهل والفقر في هذه الحياة، فكتاب مثل كتاب البؤساء لا يستغنى عنه.

أما شيخنا «تولستوي»، فقد أجاب بما يأتي، وهو الفصل الثاني من كتاب البعث الشهير، قال يصف حياة الفتاة السجينة «مسلوفا كاتوشا»:

وقصة تلك السجينة كانت مثل قصص كل البغيات، فإن أمها كانت امرأة غير متزوجة تخدم في إحدى الضياع، وكانت تلك المرأة تأتي في كل عام بطفل سفاحًا، ولما كانت فقيرة في حاجة إلى كسرة خبز وشربة ماء، كانت تهمل أمر أطفالها ثمرات الزنا، فيموتون من الجوع والبرد والمرض، أما الطفلة السادسة فقد كان أبوها من أبناء السبيل، وحدث أن إحدى صاحبتي الضيعة التي كانت فيها المرأة أتت إلى معمل اللبن، فرأت المرأة نائمة في إصطبل الأبقار مع مولودة جديدة عليها علائم الصحة والجمال، فأخذتها عليها شفقة ورحمة وشاءت أن تتبناها، فأعطت لأمها قليلًا من المال لتتغذى وتقوى على إرضاع الطفلة.

وحدث أنه لما بلغت البنت المتبناة الثالثة من عمرها، ماتت أمها وتركتها حملًا ثقيلًا على امرأة عجوز كانت تمت لها بحبل القرابة، فلما علمت صاحبتا الضيعة بذلك قربتا الطفلة إليهما وأدخلتاها دارهما، فعاشت بينهما ونمت وشبَّت وأصبحت صبية جميلة سوداء العينين خفيفة الروح، وكان اسمها «كاتوشا».

وصغرى الأختين صاحبتي الضيعة، واسمها «صوفيا» التي تبنت هذه البنت «كاتوشا»، كانت طيبة القلب كثيرة الشفقة والحنان، أما «ماري» وهي الأخت الكبيرة، فكانت قاسية القلب غليظة الطباع، فكانت «صوفيا» تنفق على ملابس «كاتوشا» وتعلمها القراءة والكتابة؛ وذلك لتكون في مستقبل الأيام سيدة حقيقية، أما «ماري» فكانت ترغب أن تكون «كاتوشا» في المستقبل خادمة أمينة، وكانت تعاقبها إذا هفت، وتضربها أحيانًا إذا عملت ذنبًا يستحق الضرب، وبهذه الحال أصبحت «كاتوشا» تحت تأثيرين مختلفين، فلذلك جاءت نصفها سيدة ونصفها خادمة أمينة، وكان شغلها الخياطة والاعتناء بتنظيف الغرف والقاعات وجلاء الأيقونات النحاسية، وما شابه ذلك من الأشغال البسيطة، وكانت بعض الأحيان تجلس وتقرأ للسيدتين، وقد عُرض عليها الزواج مرتين فلم تقبل؛ لأن الرجلين اللذين خطباها كانا من العملة، وعاشت «كاتوشا» هكذا حتى بلغت ستة عشرة عامًا، فأتى إلى الدار ابن أخي السيدتين، وهو صبي جميل غني وطالب علم في إحدى المدارس الجامعة؛ ليقضي بعض أيام مع عمتيه، فأحبته «كاتوشا» رغمًا عن نفسها، وبعد أربع سنين، عاد هذا الأمير ليقضي مع عمتيه أربعة أيام قبل أن يلحق بالجيش المحارب الذي عُين فيه ضابطًا، وفي اللية الأخيرة قبل سفره تمكن من «كاتوشا»، وأزال بكارتها وأعطاها ثمن عرضها مائة روبل، وبعد ذلك سافر، ولما مضى على هذه الحادثة المؤلمة خمسة أشهر علمت «كاتوشا» أنها حامل، فضاقت الدنيا في وجهها وكرهت كل شيء، وانحصرت أفكارها في البحث عن طريقة تتخلص بها من العار والفضيحة، وانكسر قلبها، وصارت تهمل في أشغالها، ومرة أهانت السيدتين بكلامها، ثم تابت واستغفرتهما وسألتهما أن تأذنا لها في الخروج فطردتاها، فانطلقت «كاتوشا» طريدة دهر جائر الأحكام، وخرجت تطلب رزقًا بعرق جبينها، فدخلت في خدمة ضابط من ضباط البوليس، ولكنها لم تبق عنده أكثر من ثلاثة شهور؛ وذلك أنه كان يبلغ الخمسين من عمره، وكان كثيرًا ما يغازلها، ومرة خرج عن حده في مزحه معها، فغضبت غضبًا شديدًا وشتمته قائلة: «أيها العفريت العجوز المجنون.» ثم لكمته في صدره فوقع على الأرض، فأخرجها للحال من بيته لسوء سلوكها.

وبعد أن غادرته لم تبحث عن محل آخر للخدمة؛ لأن زمن وضعها قد حل، فقصدت منزل إحدى القوابل، وكان الوضع سهلًا، ولكن القابلة كانت مصابة بالحمى فنقلت العدوى منها إلى «كاتوشا»، فلزمت الفراش وبعثت بالمولود الصغير إلى ملجأ اللقطاء؛ حيث مات بعد وصوله بقليل، وقبل أن تذهب «كاتوشا» إلى دار القابلة كان معها مائة وسبعة وعشرون روبل، مائة دفعها لها الذي أزال بكارتها وسبعة وعشرون حصلت عليها من دار الضابط، فلما خرجت من دار القابلة كان كل ما معها ستة روبلات؛ لأنها المسكينة لم تكن تعرف فن الاقتصاد السياسي، فكانت تنفق على نفسها كما تشتهي وتعطي كل من يسألها، فأخذت منها القابلة أربعين روبل جزاء الولادة والنفاس، وأخذت المرأة التي نقلت المولود من دار القابلة إلى ملجأ اللقطاء خمسة وعشرين روبلًا، واقترضت المولدة أربعين روبلًا لتشتري بها بقرة، وأنفقت «كاتوشا» عشرين روبلًا في شراء بعض الملابس واللوازم، ولما فقدت «كاتوشا» كل شيء عمدت إلى الخدمة ثانية، ودخلت دار رجل غني فأحبها لأول وهلة، وبدأ يداعبها ويغازلها، وما زال بها حتى تمكن منها، فعلمت بذلك زوجته وكبسته هو و«كاتوشا» في سرير واحد، فضربت «كاتوشا» ضربًا مبرحًا، فدافعت «كاتوشا» عن نفسها ثم طردت بدون أن تأخذ أجرتها، ولما ضاقت الدنيا في وجهها مرة ثانية، ذهبت لتعيش مع خالة لها؛ لأنها كانت تعرف أن زوج خالتها قادر على وقته، ولكن للأسف كان هذا الزوج قد اعتاد شرب الخمر فافتقر؛ ففتحت زوجته مغسلًا تغسل فيه ملابس الناس لتعيش هي وأولادها وزوجها البائس، فلما نزلت «كاتوشا» بخالتها شاءت الخالة أن تعطيها وظيفة «غسالة»، ولكن «كاتوشا» خافت من التعب وبدأت تبحث عن مكان تخدم فيه، فوجدت مكانًا خاليًا في دار سيدة لها ابنان، وكان أكبرهما بالغًا، فلما رأى «كاتوشا» ترك كل دروسه وانتبه لها، وكان يطاردها من مكان إلى مكان ولا يتركها تستريح لحظة، فعادت أمه باللوم على «كاتوشا» وطردتها.

فعادت «كاتوشا» ثانية إلى «حانوت المخدم»، فرأت هناك امرأة سمينة مكشوفة الذراعين وفي يديها أساور من ذهب وفي أصابعها خواتم كثيرة، فلما علمت هذه المرأة أن «كاتوشا» في احتياج إلى الخدمة أعطتها عنوانها ودعتها إلى منزلها، فذهبت «كاتوشا»، فرحبت بها المرأة وقدمت لها فطيرًا ونبيذًا، ثم كتبت خطابًا وأعطته للخادم ليبلغه لأحد الناس، وفي المساء أتى إلى الدار رجل طويل أبيض الشعر له لحية طويلة، ودخل غرفة الجلوس، وجلس بجانب «كاتوشا»، وأخذ ينظر إليها برقة وانعطاف، وبدأ يمزح معها ويداعبها، فدعته صاحبة البيت إلى غرفة مجاورة، وسمعتها «كاتوشا» تقول له: «بنت جديدة من الأرياف.» ثم دعت «كاتوشا»، وقالت لها: «إن هذا الرجل مؤلف، وهو غني، ولو أحبك لا يبخل عليك بشيء؛ فاجتهدي في إرضائه.»

وقد أحب المؤلف «كاتوشا» وأعطاها خمسة وعشرين روبلًا، ووعدها بأن يقابلها كلما سنحت له الفرص، فدفعت «كاتوشا» بعض هذه النقود إلى خالتها أجرة سكنها، واشترت بالبعض الآخر قبعة.

وبعد ذلك بأيام قلائل بعث إليها المؤلف، فذهبت له؛ فأعطاها خمسة عشرين روبلًا أخرى، وأسكنها في منزل خاص بها، وكان بجوار المنزل الذي استأجره المؤلف ﻟ «كاتوشا» حانوت تاجر، وكان هذا التاجر جميلًا، فوقعت «كاتوشا» في حبائل غرامه، وباحت للمؤلف بسرها فأطلقها، واستأجرت لنفسها منزلًا منفردًا، كان التاجر يتردد عليها فيه.

وبعد أن قضى التاجر من «كاتوشا» حاجته وعدها بالزواج، ثم سافر بدون أن يخبرها، وتركها وحيدة، فأرادت أن تبقى في المنزل، فأنذرها البوليس وأعلمها بأنه يجب عليها أن تسحب «رخصة»، وأن تكون مستعدة للكشف الطبي في أيام معلومة، فعادت إلى خالتها، فلما رأتها خالتها ورأت ملابسها وقبعتها خافت أن تعرض عليها صناعة الغسل، وكذلك «كاتوشا» لم يخطر ببالها أن تصير غسالة؛ لأنها كانت تنظر بحزن شديد إلى الغسالات المسكينات اللاتي أصابهن مرض السل من صناعتهن الشاقة التي تعرضهن للبرد والحر والتعب.

وفي تلك الأثناء لم يبعث الله ببطل كأبطال الروايات الخيالية؛ لينجد «كاتوشا» من فقرها وعارها، ووقعت المسكينة في يد امرأة لها بيت عمومي، وكانت «كاتوشا» قد اعتادت التدخين وشرب الخمر، ولم تكن تحب الخمرة لطعمها، إنما كانت تنسيها همومها وأحزانها، لأنها في حال الصحو كانت تحس بالعار والحزن.

وقد خيرتها صاحبة البيت العمومي بين أمرين، وهما: إما أن تبقى فقيرة تخدم في بيوت الناس، وتطرد من بيت إلى آخر، أو تعيش في بيت عمومي مصرح بفتحه من الحكومة، فيصير لها مركز ثابت وتكسب كثيرًا بدون تعب، فاختارت «كاتوشا» البيت العمومي بما فيه من الراحة والنعيم، وخطر ببالها أنها بوجودها فيه يمكنها الانتقام من الذي أزال بكارتها، ومن التاجر الذي أحبته وأخلف وعده معها، ومما زاد في رغبتها في المعيشة في البيت العمومي هو أن صاحبته قالت لها إنه يمكنها أن تلبس الحرير والمخمل، ويمكنها أن تأمر الخياطة بتجهيز كل الملابس كيفما شاءت، فمن الثوب ذي الذيل الطويل إلى الثوب الذي يظهر الأكتاف والصدر، فقالت «كاتوشا» في عقلها: ما أجملني إذا لبست ثوبًا من الحرير الأصفر المحلى بالقطيفة السوداء! ثم سلَّمت نفسها إلى صاحبة البيت العمومي. وفي هذا اليوم نفسه دخلت ذلك البيت الذي صاحبته «كارولين البرتوفنا كتيافا»، ومن ساعة لمست قدم «كاتوشا» عتبة هذا البيت، ابتدأت تعيش عيشة فظيعة ضد الشرائع والآداب الإنسانية، تلك حياة البغيات التي يعيشها مئات الألوف من النساء، وتصرح بها الحكومات، حياة أقل ما فيها أنها تقصف غصن شباب المسكينات اللاتي يقعن في حبائلها، وتنتهي بالعلل والأمراض والموت المعيب، فإن إحدى هؤلاء المسكينات تتيقظ من نومها في الساعة الرابعة بعد الظهر، فتهب من فراش قذر فيأتي إليها بالقهوة، وهي تائهة فاقدة الرشد، ولا تزال في ملابس نومها، فتمشي من مكان إلى مكان في غرفتها أو تطل من النافذة بكسل شديد حتى يخيم الظلام، فتبتدئ المشاجرات بينها وبين شريكاتها في الشقاء، ثم تغسل وجهها، وتعطر جسمها، وتصلح شعرها، وتقيس الملابس الجديدة، وتنظر إلى نفسها في المرآة، ثم تنقش وجهها بالصبغات البيضاء والحمراء، ثم تأكل ثم تلبس الحرير والمخمل، وتنزل إلى غرفة الاستقبال الكبيرة، فيأتي الضيوف وتبتدئ الموسيقى والرقص والسكر والتدخين، ويبتدئ الصراخ والضحك والمشاجرات والتدخين والسكر والموسيقى والصراخ والضحك، ثم الاختلاط برجال مختلفين حتى الصباح، فتنام الواحدة نومًا ثقيلًا، فتتيقظ الساعة الرابعة بعد الظهر، وهكذا في كل يوم حتى ينتهي الأسبوع، فيذهب كل النسوة إلى مركز البوليس؛ حيث يكشف عليهن أطباء معينون من الحكومة ويصرحون لهن بالمداومة على هذه الحال باسم الحكومة وإذنها، وهكذا في كل أسبوع وكل شهر وكل صيف وشتاء وخريف وربيع وكل سنة.

وهكذا عاشت «مسلوفا كاتوشا» سبع سنين، وقد انتقلت من البيت الأول إلى بيوت غيره، وحُجزت في المستشفى مرة.

وفي السنة السابعة من تلك الحياة السوداء؛ أي لما بلغت «كاتوشا» ثمانية وعشرين سنة، حدثت في البيت الذي كانت فيه جريمة هائلة، فاتُّهمت مع المتهمين وسُجنت ثلاثة شهور مع اللصوص والقتلة والمجرمين قبل المحاكمة التي تنتهي بنفيها إلى سيبريا.

انتهى الفصل الثاني من كتاب البعث، تأليف تولستوي.

ويرى القارئ أن تولستوي أيضًا قسَّم الذنب إلى قسمين: قسم يسقط على رأس «كاتوشا»؛ لأنها رفضت العمل كغسالة وخافت من الخدمة، ولأنها اختارت حياة الراحة والنعيم على حياة التعب الشريف، والقسم الثاني — وهو أكبر القسمين — على الهيئة الاجتماعية التي أساءت إليها؛ لأنه لو لم يزل الأمير بكارتها ما تركت السيدتين، ولو لم يداعبها الضابط ما تركت داره، ولو لم يطاردها التلميذ الكبير الذي خدمت في بيت أمه ما خرجت مجروحة الفؤاد، إذن الذنب واقع على الناس أكثر من وقوعه على «كاتوشا» المسكينة الحزينة السجينة.

أما الجواب الذي من عندي، فهو بسيط صغير، وهو أن الذنب كله واقع على رأس الرجل أولًا وعلى الهيئة الاجتماعية ثانيًا؛ لأن الرجل هو الذي يهجر زوجته، وهو الذي يغري الفتاة فتصير امرأة، وهو الذي يغازل الحرة ويطارحها الغرام، وهو الذي يترك زوجته حاملًا وابنه في أحشائها ولا يسأل عنها، فيجبرها الفقر على بيع العرض، وهو الذي يعلمها التدخين وشرب الخمر، وهو الذي وضع القوانين وسن الشرائع، فلم ينصف المرأة وظلمها … الرجل هو الذي يقع على رأسه ذنب المرأة، ولا تكفير لسيئاته نحو تلك المخلوقة الضعيفة إلا تهذيبها وتعليمها ومنع نفسه عنها منعًا باتًّا إلا بطريقة شرعية، أليس لنا بالحيوان الأعجم أسوة، وكل ذكر منه مكتفٍ بأنثاه؟

إني أعتقد بأن المرأة تصلح لأن تكون ملكًا طاهرًا أو ملكة عادلة أو أمًّا شفيقة أو زوجة فاضلة ومدبرة عاقلة، أو بغيًّا ساقطة أو مجرمة قاتلة، وكل ذلك في يد الرجل، فليجعلها كما يشاء، والذنب ساقط على الهيئة الاجتماعية ثانيًا؛ لأنها ترى كل تلك الأمور ولا تمد يدها للمرأة، وتساويها بالرجل في كل شيء، فإنه عار على عصر العلم والمدنية والحرية والفلسفة أن تبقى فيه المرأة تزني لتأكل.

ولو بُعث المسيح الآن حيًّا، وسُئل عن رأيه في سقوط المرأة لأعاد الكلمة التي قالها منذ تسعة عشر قرنًا، وهي: «من كان منكم طاهر الذيل فليرمها بحجر.» وقد يقول بعض الجاهلين بأن الكتابة في هذا الموضوع في مصر لم يأنِ أوانها، أو هي من قبيل وضع الشيء في غير محله، وقد فرضنا هذا القول من قبل وهزأنا به؛ لأنَّا نكتب للعقلاء، فإن لم يرض العقلاء بما نكتب فإنما نحن نكتب لنطرح عن قلبنا حملًا ثقيلًا ولنؤدي للإنسانية خدمة صغيرة، ونحن نتمثل بكلمة «جول سيمون» التي قالها في أول كتابه «المرأة في القرن العشرين»: «ولا أطمع بأن أبدي رأيًا جديدًا، ولكن إذا لم يكن لكلامي تأثير إلا في تعزيز بعض المبادئ التي أُهملت، فإنني أعتبر عملي جديرًا بالتعب.» ونحن إذا لم نبدِ رأيًا جديدًا، إنما نؤيد آراء أكابر الكتاب الذين كتبوا في «ذلك الموضوع»؛ مثل فيكتور هوجو وألفرد موسيه وروبرت هيتشنز وشيخنا تولستوي، وﻟ «طانيوس عبده» رأي في ذلك الموضوع نجعل به ختام المقدمة مسكًا:

المومس والشمس

غادةٌ لو تجملت بجمال النـْ
ـنفس كانت آلهة الجلاس
طلعت مطلع الغزالة تختا
ل ازدهاءً بقدها المياس
بين قومٍ دروا «قياس ابن سينا»
فاستجازوا عريض ذاك القياس
طلعت بينهم وقالت الأشا
عر فيكم مطيب الأنفاس
عربيًّا يشبه الوجه بالشـْ
ـشَمس وتلك القدود بالأغراس
فانبرى بينهم فتى عرفوه
قبلها أنه من الأكياس
تصدى لها وقال وقد تا
ه من السكر بين ورد وآس
أنت كالشمس غير أنك مثل الشـْ
ـشَمس في كونها لكل الناس
حديقة الحلمية ١٤يونيو سنة ١٩٠٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤