الفصل الثاني عشر

قال محدثي: وفي يوم من أيام الصيف، أتى إبراهيم إلى الدار، وكان الهواء حارًّا جدًّا، فطلب ماءً باردًا غسل به جسمه، ولم يكن في الدار غير زبيدة وأبيها العجوز المريض، وفي الفرصة التي كان إبراهيم يغسل فيها بدنه كانت زبيدة متقدة جدًّا، وكان في ضميرها عراك شديد بين العفة والرذيلة، أتدخل عليه الحمام وتضم جسمه العاري إلى جسمها، أم تسأله قبلة كما سألها هو منذ أيام، أم تصبر على ضيم طبيعتها البشرية الهائجة؟! وأخيرًا خرج إبراهيم من الحمام، ولبس ملابسه، فأخذته زبيدة إلى قاعتها، وأجلسته على السرير، ثم قالت له: إنني متعبة جدًّا، وأرغب أن أنام، فأين أضع رأسي؟ فقال: ضعي رأسك فوق كتفي، فإن ذلك يجعلني أسعد رجل في الدنيا.

فأخذت زبيدة يده في يدها، وضغطت عليها ضغطًا شديدًا، وتغيَّر وجهها، وذهبت عنه نظرة الإنسانية، وصار حيوانيًّا محضًا — ويظهر من ذلك أنها لم تعد قادرة على كبح جماح شهوتها التي تغلبت عليها تغلبًا شديدًا — فدنت من إبراهيم وقبَّلته، فما كان منه إلا أنه قبَّلها؛ لأنه ظن أن قبلتها الأولى تحية، فردَّها بأحسن منها، ثم ضمها إلى صدره ضمًّا عنيفًا، فقالت له بخجل وحياء: إنك أتلفت ملابسي وهي جديدة، فدعني أفك أزرارها … وبعد أن فكت أزرارها، وبان نهداها وصدرها، ضمها إبراهيم ثانية إلى صدره، وعند ذلك صرخت وقالت: إنك حللت شعري، فقال لها: دعيه ينسدل على كتفيك، وعند ذلك تركت زبيدة شعرها القسطني الجميل، فانسدل على صدرها وظهرها، فقال لها إبراهيم: إن شعرك أجمل شعر في الدنيا، ثم أخذ منه خصلة وقبَّلها، وكانت زبيدة في ذلك الحين متكئة على ذراعها، فخانتها قواها ووقعت، فانحنى إبراهيم ليقيمها، فانتهزت هذه الفرصة وأخذت بوجهه بين يديها، ونظرت إليه نظرة مملوءة بالحب، ثم أغمضت عينيها، وعند ذلك قبَّلها إبراهيم، وتغلَّبت عليه شهوته؛ فأخذ الفتاة بين يديه …

•••

وفي هذه اللحظة كان الرجل العجوز أبو عزيزة قد لحقه ضيق شديد في صدره، وكانت خادمته خرجت لتزور قريبة لها، فكان المسكين يتأوه ويصرخ بصوته الضعيف، وينادي زوجته فلا تجيب، ثم ينادي عزيزة فلا تجيب، ثم ينادي زبيدة فلا تجيب، ثم نادى المسكين ابنه الصغير، ولكن الولد كان مع أمه خارج الدار، وأخيرًا تنهَّد العجوز المريض من قلبه، وقال: آه، وأظن تلك الآهة قد وصلت إلى أذن زبيدة فتجاهلتها، وظنت أنها لم تسمع تنهُّد أبيها، وكيف تبيع لذة الحياة الدنيا في مثل هذه الساعة، وتقوم لخدمة رجل عجوز ليس بينه وبين القبر إلا ساعات معدودة؟!

ويا ليت زبيدة قامت لتساعد أباها المريض؛ لأن عزيزة وصلت إلى الدار، وفتحت الباب بلا غاغة، ولا أدري ماذا حملها على ذلك، وربما حدثتها نفسها بالأمر، ودخلت عزيزة القاعة، فرأت زبيدة وثيابها ملوثة بدم عرضها، وهي صفراء ترتجف، وعيناها تنظران إلى الأرض، ورأت إبراهيم واقفًا كالسائل المحروم بعد أن كان شامخ الأنف …

وما أحرج ذلك الموقف! … وقد تغلَّبت غيرة عزيزة على حبها لأختها، وخافت على حبيبها أكثر من خوفها على عرض زبيدة، وبقيت صامتة أمدًا طويلًا، ثم تناولت كرسيًّا كان في القاعة قريبًا منها وضربت به إبراهيم، وقد هشَّم الكرسي وجه الشاب، واختلط دم جراحه بدم عرض الفتاة الذي أراقه، ونظن أن دم العرض أنقى وأشرف من دم وجه ذلك الخسيس الدنيء، وأمثال إبراهيم أقرب إلى النسوة منهم إلى الرجال، فإنه لما رأى تلك الإهانة من عزيزة هانت في عينيه فضيحة الفتاة، ولم يستح من عمله، وأخذ يسب عزيزة ويشتمها بأعلى صوته، وهمَّ بها يضربها، وقد بعثت الصدفة أم عزيزة ومعها الولد الصغير، أما الولد لما رأى أخته زبيدة ودم عرضها يجري، خاف عليها وظنها مريضة، وأنها ستموت، فأخذ يبكي عليها وهو يقبِّلها ويكلِّمها وهي لا ترد عليه، مسكين هذا الطفل الصغير الذي يدافع عن أخته بصوته الطاهر، فإن كل دموعه ونحيبه لا ترد ما حدث، ولا تنجي زبيدة من موتها الأدبي الذي ماتته بعد أن فرَّطت في عرضها، وأما الأم — وهي تلك المرأة الخبيثة — فقد فهمت كل شيء … وبدأت تهدئ روع إبراهيم، وتلوم عزيزة على تهورها واندفاعها.

وقد سببت تلك الحادثة الكراهية والبغضاء بين عزيزة وأختها وأمها، وبقيت العائلة في شقاق أمدًا طويلًا، ثم انفصلت عزيزة عن العائلة بمالها وثروتها.

وكان الحاج حسن أبو عزيزة قد ضيَّع أكثر أمواله، ولم يكن يملك غير الدار التي يسكن فيها هو وعائلته، فلما حدث ما حدث لم يخبره أحد بالأمر، ولم يبلغه خبر انفصال ابنته الكبرى وكونها تركته فقيرًا هو وابنه الصغير، وهما المظلومان بين الجماعة.

أما زبيدة وأمها والولد الصغير فبقوا في الدار وليس لديهم ما ينفقونه، فأخلوا جزءًا كبيرًا من الدار وعرضوه للسكنى، فسكنه بعض الإفرنج بعائلتهم، وكانوا يدفعون لهم في كل شهر شيئًا زهيدًا من المال يتعيَّشون به هم والرجل المريض المقعد، كل هذا وذلك المسكين لا يدري ماذا حل به وبعائلته.

وكان إبراهيم بعد هذه الحادثة يتخلَّف إلى دار زبيدة كل أسبوع مرة أو مرتين، ويجلس معها ساعة أو يبيت معها ليلة، وكان يعللها بالزواج، ويقول: إنه طلَّق أختها، وإنه استشار أباه فرضي بزواجه بزبيدة، وكانت المسكينة تحبه وتصدِّق كلامه، وتظنه غنيًّا كما كان يزعم، فتطلب منه مالًا فيراوغها ويعدها ويخلف وعدها، وأخيرًا لما رأى فقرها وفقر أمها، وعلم أنه لا يستطيع أن يسلب أكثر من عفتها، نفر منها، وغضب عليها، ثم اختفى مرة واحدة.

ولا ندري ماذا حل بعزيزة بعد أن تركت أهلها، ونظن أن إبراهيم عاد إليها وهي العاشقة المتمولة التي تعطيه المال، فاسترضاها وتاب إليها، فاشتغلت به واشتغل بها.

ولما وجدت زبيدة نفسها في ضيق شديد، وعلمت أن أباها هو العقبة الوحيدة في طريقها جالت برأسها فكرة شيطانية، ولكن الله أرحم من أن ينتقم من الرجل بأكثر من هذا، ولم يمكن الموت زبيدة من دس السم لأبيها، فإنها استشارت أمها وقبِلَت الملعونة، ولكن انتهى عذاب المسكين بلا سم، ومات وحوله زوجته وابنته وابنه، فنحن ندعو بالرحمة لنفس هذا المسكين المعذب الذي عاش مريضًا محزونًا متعبًا، ومات ملومًا محسورًا معذبًا.

•••

ومن الغريب أن عزيزة لم تحضر دفن أبيها، ونظنها لم تسمع بموته، ولما مات الرجل، ونظرت زبيدة حولها فلم تجد من يحكمها ولا من يصونها ولا من يعوقها، استشارت أمها في الخروج من حياة الذل والاستكانة إلى حياة فيها نعيم وغنى؛ فشجَّعتها أمها، فباعتا البيت، وأخذتا الولد الصغير، وكان لا يتجاوز السادسة من عمره — وليته مات — ورحلتا في «طلب العلا» إلى المدينة الفاسقة، بابل الفجور، مدينة القاهرة، الأم لتنظر في شأن الولد، والبنت لتتجر في عرضها.

وكان لقدوم زبيدة إلى مصر طنة ورنة عند أهل «الحياة السافلة»، فتسابق إليها أصحاب المراقص، ثم استأجرها أحدهم بعشرين جنيهًا في كل شهر، وعلَّمها كيف ترقص ببطنها، وتغني وتشرب وتطرب.

هذه هي الفتاة منيرة التي يحبها مختار، فإنها لما وفدت إلى القاهرة غيَّرت اسمها من زبيدة إلى منيرة؛ لتختفي وراء هذا الاسم الجديد.

ولما اشتهر أمر منيرة بين الشبان الساقطين، ذهب مختار مرة ليراها، فراقت في عينيه، وراق في عينها، واصطحبا، ومن الغريب أن منيرة كانت قد ماتت من قلبها كل العواطف، وعلمت أن كل الناس يطلبونها ويحبونها، فلم تعد تحب الناس حبًّا طاهرًا، إنما كانت تحبهم حبًّا صناعيًّا تستطيع به أن تملك قلوبهم وجيوبهم، وكذلك كان حبها لمختار، فإنها أظهرت له الميل الشديد لما رأته غنيًّا قادرًا ينفق في كل يوم عشرة جنيهات … ولا يبعد أن يكون شباب مختار وجماله قد أثَّرا في فكر تلك الفتاة، ووجدا من قلبها مكانًا لم يصل إليه الفساد، فأحبته قليلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤