المَدَائِحَ والتّهَاني

(١) تهنئة عبد الحليم عاصم باشا بإسناد إمارة الحجّ إليه (سنة ١٣١٣هـ)

حالَ بَيْنَ الجَفْنِ والوَسَنِ
حائِلُ لو شئتَ لمْ يَكُنِ
أنا والأيّامُ تَقْذِفُ بي
بَيْنَ مُشْتاقٍ ومُفْتَتِنِ
لي فُؤادُ فيكَ تُنْكِرُه
أضْلُعِي مِنْ شِدّة الوَهَنِ
وزَفيرُ لو عَلِمْتَ به
خِلْتَ نارَ الفُرْسِ في بَدَنِي
يا لَقَوْمي إنّني رَجُل
حِرْتُ في أمْرِي وفي زَمَني
أجَفاءً أشْتكي وشَقًا؟
إنّ هذا مُنْتَهى المِحَنِ
يا هُماما في الزّمان له
هِمّةٌ دَقَّتْ عَنِ الفِطَنِ
وفَتًى لو حَلَّ خاطِرُه
في ليالي الدَّهْرِ لَمْ تَخُنِ
يا أميرَ الحَجِّ أنتَ له
خَيْرُ واقٍ خَيْرُ مُؤْتَمَنِ
هَزَّكَ البَيْتُ الحرامُ له
هِزَّةَ المُشتاقِ للوَطَنِ
فَرِحَتْ أرضُ الحِجازِ بِكُمْ
فَرْحَها بالهاطِلِ الهتِنِ
وسَرَتْ بُشْرَى القُدومِ لهُمْ
بكَ من مِصْرٍ إلى عَدَنِ

(٢) تهنئة الأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده بمنصب الإفتاء (١٣١٧هـ–١٨٩٩م)

بَلَغْتُكَ لَمْ أنْسُبْ ولَمْ أتَغَزَّلِ
ولمّا أقِفْ بَيْنَ الهَوَى والتَّذَلُّلِ
ولمَّا أصِفْ كأسًا ولمْ أبْكِ مَنّزِلاً
ولمْ أنْتَحِلْ فَخْرًا ولمْ أتَنَبَّلِ
فَلَمْ يُبْقِ في قلبي مَديحُكَ مَوْضِعًا
تَجُولُ بِه ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
رأيتُكَ الأبصارُ حَوْلَكَ خُشَّعُ
فقُلْتُ (أبو حَفْصٍ) بُبْردَيْكَ أم (علي)
وخَفَّضْتُ مِنْ حُزْني على مَجْدِ أمّةٍ
تَدارَكْتَها والخَطْبُ للخَطْبِ يَعْتَلي
طَلَعْتَ بها باليُمْنِ من خَيْرِ مَطْلَعٍ
وكنتَ لها في الفَوْزِ قِدْحَ (ابنِ مُقْبِلِ)
وجَرَّدْتَ للفُتْيَا حُسامَ عَزِيمَةٍ
بَحَدَّيْهِ آياتُ الكِتابِ المُنَزَّلِ
مَحَوْتَ به في الدِّينِ كلَّ ضَلالَةٍ
وأثْبَتَّ ما أْثبَتَّ غَيْرَ مُضَلَّلِ
لئن ظَفِرَ الإفتاءُ منكَ بفاضِلٍ
لقد ظَفِرَ الإسلامُ منكَ بأفْضَلِ
فما حلَّ عَقْدَ المُشْكِلات بحِكْمَةٍ
سِواكَ ولا أرْبَى على كلِّ حُوَّلِ

وقال يمدحه ويصف حضرته:

قالوا صَدَقْتَ فكان الصِّدْقَ ما قالُوا
ما كُلُّ مُنْتَسِبٍ للقَوْلِ قَوّالُ
هذا قَريضي وهذا قَدْرُ مُمْتَدَحي
هل بَعْدَ هذيْنِ إحْكامُ وإجْلالُ
إنِّي لأبْصِرُ في أثْناءِ بُرْدَتِه
نُورًا به تَهْتدي للْحَقِّ ضُلاّلُ
حَلَلْتُ دارًا بها تُتْلَى مَناقِبُه
ببابِها ازدَحَمَتْ للنّاسِ آمالُ
رأيتُ فيها بساطًا جَلَّ ناسِجُه
عليه (فارُوقُ) هذا الوَقتِ يَخْتالُ
بِمشْيَةٍ بين صَفَّيْ حِكْمَةٍ وتُقًى
يُحِبُّها اللهُ لا تِيهٌ ولا خالُ
تَبَسَّمَ المصطفَى في قَبْرِهِ جَذَلاً
لمّا سَمَوْتَ إليها وهْيَ مِعْطالُ
فكان لَفْظُكَ دُرَّا حَوْلَ لَبَّتها
العَدْلُ يَنْظِمُ والتَّوفيقُ لَئَّالُ
لي كلَّ حَوْلٍ لَبيْتِ الجاهِ مُنْتَجَعٌ
كما تُشَدُّ لبَيْتِ اللهِ أرْحالُ
وزَهْرَةُ غَضَّةٌ ألقَى الإمامَ بها
لها على أُخْتِها في الرَّوْضِ إدْلالُ
تَفَتَّحَ الحَمْدُ عنها حينَ أسْعَدَها
مِنكَ القَبولُ وفيها نَوَّرَ القالُ
نَثَرْتُ مَنْظُومَ تِيجانِ المُلوكِ بها
فراحَ يَنْظِمُه في وَصْفِكَ البالُ
يا مَن تَيَمَّنَتِ الفُتْيَا بطَلْعَتِه
أدْرِكْ فَتاكَ فقد ضاقتْ به الحالُ

(٣) مدحة محمود سامي البارودي باشا (نشرت في ١٥ أكتوبر سنة ١٩٠٠م)

تعمَّدْتُ قَتْلي في الهَوَى وتَعمَّدا
فما أثِمَتْ عَيْني ولا لَحْظُه اعْتَدَى
كِلانَا له عُذْرُ فعُذْري شَبِيبَتِي
وعُذْرُكَ أنِّي هِجْتُ سَيْفًا مُجَرَّدَا
هَوِيَنا فما هُنَّا كما هانَ غَيْرُنا
ولكنّنا زِدْنا مع الحُبِّ سُؤْدَدَا
وما حَكَمَتْ أشْواقُنا في نُفُوسِنا
بأيْسَرَ مِنْ حُكْم السَّماحَةِ والنَّدَى
نُفوسُ لها بين الجُنُوبِ مَنازِلُ
بَناها التُّقى واختارَها الحُبُّ مَعْبَدا
وفَتّانَةٍ أوْحَى إلى القلْبِ لحْظُها
فَراحَ على الإيمانِ بالوَحْيِ واعْتَدَى
تَيَمَّمْتُها واللَّيْلُ في غيرِ زِيِّهِ
وحاسِدُها في الأفْقِ يُغْرِي بيَ العُدَا
سَرَيْتُ ولم أحْضِرْ وكانُوا بِمَرْصَدٍ
وهَلْ حَذِرَتْ قَبْلي الكواكِبُ رُصَّدَا
فلمّا رأوْني أبْصَرُوا المَوْتَ مُقْبِلاً
وما أبْصَروا إلاّ قَضاءً تجَسَّدَا
فقال كَبيرُ القَوْمِ قد ساءَ فألُنا
فإنّا نَرى حَتْفًا بحَتْفٍ تَقَلَّدَا
فليس لنا إلا اتِّقاءُ سَبيلِه
وإلاّ أعَلَّ السَّيْفَ مِنّا وأوْرَدَا
فغَطُّوا جميعا في المَنامِ ليَصْرِفوا
شَبَا صارِمِي عنهمْ وقد كان مُغْمَدَا
وخُضْتُ بأحْشاءِ الجَميعِ كأنّهم
نِيامُ سَقاهُمْ فاجِئ الرُّعْبِ مُرْقِدَا
ورُحْتُ إلى حيثُ المُنَى تَبْعَثُ المُنَى
وحيثُ حَدَا بي مِنْ هَوَى النَّفْسِ ما حَدَا
وحيثُ فتاةُ الخِدْرِ تَرْقُبُ زَوْرتي
وتسألُ عَنّي كلَّ طَيْرٍ تَغَرَّدَا
وتَرْجو رَجاءَ اللَِّصِّ لو أسْبَلَ الدُّجَى
على البَدْرِ سِتْرًا حالِكَ اللَّوْنِ أسْوَدَا
ولو أنّهم قَدُّوا غَدائِرَ فَرْعِها
فحاكُوا له منها نِقابًا إذا بَدَا
فلمّا رأتْني مُشْرِقَ الوَجْهِ مُقْبلاً
ولَمْ تَثْنِنِي عَنْ مَوْعِدي خَشْيَةُ الرَّدَى
تَنادَتْ وقد أعْجَبْتُها — كيف فُتَّهُمْ
ولم تَتَّخِذْ إلاّ الطّريقَ المُعَبَّدَا
فقلتُ: سَلي أحشاءَهُمْ كيف رُوِّعَتْ
وأسْيافَهم هل صافَحَتْ منهمُ يَدَا
فقالتْ: أخافُ القومَ والحِقْدُ قد بَرَى
صُدورَهُمُ أنْ يبْلُغوا منكَ مَقْصِدَا
فلا تَتَّخِذْ عند الرَّواحِ طَريقَهُمْ
فقد يُقْنَصُ البازي وإنْ كان أصْيَدَا
فقُلتُ: دَعِي ما تَحْذَرينَ فإنّني
أصاحِبُ قَلْبًا بين جَنْبَيَّ أيِّدَا
فمالَتْ لتُغْريني ومالأها الهَوى
فحدَّثْتُ نَفْسي والضَّميرُ تَرَدَّدَا
أهُمُّ كما هَمَّتْ فأذْكُرُ أنّني
فَتاكَ فَيَدْعُوني هُداكَ إلى الهُدَى
كذلكَ لم أذْكُرْكَ والخَطْبُ يَلْتَقي
به الخَطْبُ إلاّ كان ذِكْرُكَ مُسْعِدَا
أمِيرَ القَوافي، إن لي مُشْتَهامَةً
بِمَدْحٍ ومَنْ لي فيكَ أنْ أبْلُغَ المَدَى
أعِرْني لمَدْحِيكَ اليَراعَ الَّذي به
تَخُطُّ وأقْرِضْني القَريضَ المُسَدَّدَا
ومُرْ كُلَّ مَعْنًى فارسيٍّ بطاعَتي
وكلَّ نَفُورٍ منه أنْ يَتَوَدَّدَا
وهَبْنِيَ مِنْ أنوارِ عِلْمِكَ لَمْعَةً
على ضَوْئِها أسْري وأقْفُو مَن اهْتَدَى
وأرْبُو على ذاكَ الفَخُورِ بقَوْلِه:
(إذا قُلْتُ شِعْرًا أصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِدَا)
سَلَبْتَ بِحارَ الأرضِ دُرَّ كُنوزِها
فأمْسَتْ بِحارُ الشِّعْرِ للدُّرِّمَوْرِدَا
وصَيَّرْتَ مَنْثُورَ الكَواكِبِ في الدُّجَى
نَظِيمًا بأسْلاكِ المَعاني مُنَضَّدَا
وجِئتَ بأبياتٍ مِنَ الشِّعْرِ فُصِّلَتْ
إذا ما تَلَوْها أُلْقِيَ الناسُ سُجَّدَا
إذا ذَكَروا منه النَّسِيبَ رأيْتَنا
وَداعِي الهَوَى مِنّا أقامَ وأقْعَدا
وإنْ ذَكَروا منه الحَماس حَسِبْتَنا
نَرى الصّارِمَ المَخْضوب خَدًّا مُوَرَّدَا
ولو أنّني نافَرْتُ دَهْرِي وأهْلَه
بفَخْرِكَ ما أبْقَيْتُ في النّاس سَيِّدَا

(٤) تهنئة لسموّ الخديوي عبّاس الثاني بعيد الفطر (١٣١٨هـ–١٩٠١م)

مَطالِعُ سَعْدٍ أمْ مَطالِعُ أقْمارِ
تَجَلَّتْ بهذا العِيدِ أمْ تِلْكَ أشعارِي
إلى سُدَّةِ (العَبّاسِ) وَجَّهْتُ مِدْحَتي
بتَهْنِئةٍ شَوْقِيّةِ النَّسْجِ مِعْطارِ
مَليكٌ أباحَ العِيدُ لثْمَ يَميِنه
ويا لَيْت ذاكَ العِيدَ يَبْسُطُ أعْذارِي
ويَحْمِلُ عَنّي للعَزيزِ تَحيّةً
ويَذْكُرُ شيئًا مِن حَديثي وأخْبارِي
(لآلِ عَليٍّ) زينةِ المُلْكِ وُجْهَتي
وإنْ قيل شِيِعيُّ فقد نِلْتُ أوْطارِي
أَجِنُّ لذِكْراهُمْ وأشْدُو بمَدْحِهِمْ
كأنِّي بجَوْفِ اللَّيْلِ هاتِفُ أسْحارِ
وأُنْشِدُ أشعاري وإنْ قال حاسِدي
نَعَمْ شاعِرُ لكنّه غَيْرُ مِكْثارِ
فحَسْبي من الأشْعارِ بَيْتُ أزِينُه
بِذِكْرِكَ يا (عَبّاسُ) في رْفعِ مِقْداري
كذا فَلْيَكُنْ مَدْحُ المُلوكِ وهكذا
يَسُوسُ القَوافي شاعِرُ غَيْرُ ثَرْثارِ
ويَسْلُبُ أصْدافَ البِحار بناتِها
بنَفْثَةِ سِحْرٍ أو بخَطْرِة أفْكارِ
مَعانٍ وألفاظُ كما شاءَ (أحَمدُ)
طَوَتْ جَزْلَ (بَشّارٍ) ورقَّةَ مَهْيارِ
إذا نَظَرَتْ فيها العُيونُ حَسِبْنَها
لحُسْنِ انسجامِ القَوْلِ كالجَدْوَل الجاري
أمَوْلايَ هذا العِيدُ وافاكَ فاحْبُه
بحُلَّةِ إقْبالٍ ويُمْنٍ وإيثارِ
ويَمِّنْهُ وانْثُرْ مِنْ سُعُودِكَ فَوْقَه
وتَوِّجْهُ بالبُشْرى ومُرْهُ بإسْفَارِ
فلا زالتِ الأعْيادُ تَبْغي سُعودَها
لَدَى مَلِكٍ يَسْري على عَدْلِه السّاري
ولا زِلْتَ في دَسْت الجَلالِ مُؤيَّدًا
ولا زالَ هذا المُلْكُ في هذه الدّارِ

وقال أيضًا يمدحه ويهنّئه بعيد جلوسه في ٨ يناير سنة ١٩٠١م:

ماذا ادَّخَرْتَ لهذا العِيدِ مِنْ أدَبِ
فقد عَهِدْتُكَ رَبَّ السَّبْقِ والغَلَبِ
تَشْدُو وتُرْهِفُ بالأشعارِ مُرْتَجِلاً
وتُبْرِزُ القَوْلَ بين السِّحْرِ والعَجَبِ
وتَصْقُلُ اللَّفْظَ في عَيْنيِ فأحسِبُني
أرَى فِرِنْدَ سُيوفِ الهِندِ في الكُتُبِ
هذا هو العِيدُ قد لاحَتْ مَطالِعُهُ
وكلُّنا بين مُشْتاقٍ ومُرْتَقِبِ
فادْعُ البَيانَ ليومٍ لا تُطاوِلُه
يَدُ البَلاغةِ في الأشعارِ والخُطَبِ
إنّي دَعَوْتُ القَوافي حينَ أشْرَقَ لي
عِيدُ الأميرِ فلبَّتْ غُرَّةَ الطَّلَبِ
وأقْبَلَتْ كأيادِيه إذا انسَجَمَتْ
على الوَرَى وغَدَتْ منِّي على كَثَبِ
فقُمْتُ أخْتارُ منها كلَّ كاسِيَةٍ
تاهَتْ بنَضْرَتها في ثَوْبِها القَشِبِ
وحارَ فيه بَياني حينَ صِحْتُ به:
بالعِزِّ يَبْدَأ أمْ بالمَجْدِ والحَسَبِ؟
يا مَن تَنافَس في أوصافه كَلِمي
تنافُسَ العَرَبِ الأمْجادِ في النَّسَبِ
لَم يُبْقِ (أحمدُ) من قَوْلٍ أحاوِلُه
في مَدْحِ ذاتِكَ فاعذِرْني ولا تَعِبِ
فلَسْتُ ممّن سَمَتْ بالشِّعْرِ هِمّتُهُمْ
إلى الملوكِ ولا ذاكَ الفَتَى العَرَبي
لكنَ عِيدَكَ يا (عَبّاسُ) أنطَقَني
كالبَدْرِ أطلَقَ صَوْتَ البُلْبُلِ الطَّرِبِ
عِيدَ الجُلوسِ، لقد ذَكَّرْتَ أمّتَه
يومًا تأبَّهَ في الأيّام والحِقَبِ
اليُمْنُ أولُه والسَّعْدُ آخِرُه
وبين ذلكَ صَفْوُ العَيْشِ لمْ يُشَبِ
فالعرشُ في فَرَحٍ، والمُلْكُ في مَرَحٍ،
والخَلْقُ في مِنَحٍ، والدَّهْرُ في رَهَبِ
والمَلْكُ فوق سَريرِ المُلْكِ تَحْرُسُه
عَيْنُ الإله، وتَرْعَى أعْيُنُ الشُّهُبِ
الحِلْمُ حِلْيَتُهُ، والعَدْلُ قِبْلَتُهُ،
والسَّعْدُ لَمْحَتُهُ كشّافةَ الكُرَبِ
مَشيئةُ اللهِ في (العَبّاسِ) قد سَبَقَتْ
إلى الجُدودِ ومَن يأتي على العَقِبِ
فهو ابنُ أكْرمِ مَن سادُوا ومَن مَلَكُوا
وهو الأبُ المُفْتَدَى للسّادَةِ النُّجُبِ
يا مَن تَوَهَّمَ أنّ الشِّعْرَ أعذبُهُ
في الذَّوْقِ أكْذَبُه، أزْرَيْتَ بالأدَبِ
عَذْبُ القَرِيضِ قَريضُ بات يَعْصِمُه
ذِكْرُ (ابنِ توفيقَ) عن لَغْوٍ وعن كَذِبِ

(٥) تهنئة الأمير محمّد عبد المنعم (نشرت في ٣٠ يناير سنة ١٩٠١م)

وكان وليَّا لعهد أبيه الخديو عبّاس؛ قالها في ذكرى مولده لأوّل العام الثالث من عمره

في عِيدِ مَوْلانَا الصَّغيـ
ـرِ وعِيدِ مَوْلانَا الكَبيرِ
إشْراقُ عِيدِ الفِطْرِ والـ
ـأضْحَى على عَرْشِ الأميرِ

(٦) تهنئة السلطان عبد الحميد بعيد جلوسه (نشرت في ٢سبتمبر سنة ١٩٠١م)

لَمَحْتُ جَلالَ العِيدِ والقَوْمُ هُيَّبُ
فَعَلَّمَني آيَ العُلاَ كَيْفَ تُكْتَبُ
ومَثَّلَ لي عَرْشَ الخِلافَة خاطِرِي
فأرْهَبَ قَلْبي، والجَلالَةُ تُرْهِبُ
سَلُوا الفَلَكَ الدَّوّارَ هل لاحَ كَوْكَبُ
على مِثْلِ هذا العَرْشِ أو راحَ كَوْكَبُ؟
وهَلْ أشْرَقَتْ شَمْسُ على مِثْلِ ساحَةٍ
إلى ذلِكَ البَيْتِ (الحَمِيدِيِّ) تُنْسَبُ؟
وهَلْ قَرَّ في بُرْج السُّعُودِ مُتَوَّجُ
كما قَرَّ في (يَلْدِيزَ) ذاكَ المُعَصَّبُ؟
تَجَلّى على عَرْشِ الجَلالِ وتاجُه
يَهشُّ وأعْوادُ السَّريرِ تُرَحِّبُ
سَمَا فَوْقَه والشَّرْقُ جَذْلانُ شّيِّقُ
لطَلْعَتِه والغَرْبُ خَذْلانُ يَرْقُبُ
فقامَ بأمْرِ الله حتّى تَرَعْرَعَتْ
به دَوْحَةُ الإسلامِ والشِّرْكُ مُجْدِبُ
وقَرَّبَ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ تَقَرُّبًا
إلى المَلِكِ الأعْلَى فنِعْمَ المُقَرِّبُ
وكم حاوَلوا في الأرْضِ إطْفاءَ نُورِه
وإطفاءُ نُورِ الشَّمْسِ مِنْ ذاكَ أقْرَبُ
فراعَهُمُ منه بجَيْشٍ مُدَجَّجٍ
له في سَبيل اللهِ والحَقِّ مَذْهَبُ
يُداني شُخُوصَ المَوْتِ حتّى كأنّما
له بَيْنَ أظْفارِ المَنِيّةِ مَطْلَبُ
إذا ثارَ في يَوْمِ الوَغَى مالَ مَنْكِبُ
مِن الأرْضِ والأطْوادِ وانهالَ مَنْكِبُ
له مِنْ رُءوسِ الشُّمِّ في البَرِّ مَرْكَبُ
ومِنْ ثائِرِ الأمْواج في البَحْرِ مَرْكَبُ
فِدًى لك يا (عَبْدَ الحَمِيدِ) عِصابَةُ
عَصَتْ أمْرَ بارِيها وحِزْبٌ مُذَبْذَبُ
مَلَكْتَ عليهم كُلَّ فجٍّ ولُجّةٍ
فَليس لهمْ في البَرِّ والبَحْرِ مَهْرَبُ
تقاذَفُهُم أيْدي اللَّيالي كأنّهم
بها مَثَلُ للنّاس في القَوْمِ يُضْرَبُ
وكَمْ سألُوها لَثْمَ أذْيالِكَ التي
لها فَوْقَ أجْرامِ السَّموات مَسْحَبُ
فما بَلَغُوا سُؤْلاً ولا بَلَغُوا مُنًى
كذلكَ يَشْقَى الخائِنُ المُتَقَلِّبُ
فيا صاحِبَ العِيدَيْنِ لا زلْتَ سالِمًا
يُهَنِّيكَ بالعِيدَيْنِ شَرْقُ ومَغْرِبُ
ففي كلِّ رَوْضٍ مِنْكَ طيبُ ونَضْرَةُ
وفي كلِّ أرْضٍ منكَ عِيدُ ومَوْكِبُ
أرى مِصْرَ والأنوارُ: منها مُوَرَّدُ
ومنها لُجَيْنيُّ، ومنها مُذَهَّبُ
وأشكالُها شتّى فهذا مُنَظَّمُ
وذلك مَنْثُورُ وذاكَ مُقَبَّبُ
وبعضُ تَجَلَّى في مصابيحَ، زَيْتُها
يُضيءُ ولا نارُ وبَعْضُ مُكَهْرَبُ
وأنْظُرُ في بُستانِها النَّجْمَ مُشْرِقًا
فهل أنتَ يا بُسْتانُ أفْقٌ مُكَوْكَبُ
وأسْمَعُ في الدُّنيا دُعاءً بنَصْرِه
يُرَدِّدُه البَيْتُ العَتِيقُ ويَثْرِبُ

(٧) تهنئة جلالة إدوارد السابع بتتويجه (نشرت في ٩ أغسطس سنة ١٩٠٢م)

لَمَحْتُ مِنْ مِصْرَ ذاكَ التاجَ والقَمَرَا
فقُلْتُ للشِّعْرِ هذا يوْمُ مَنْ شَعَرَا
يا دَوْلَةً فوقَ أعْلامٍ لها أسَدٌ
تَخْشَى بَوادِرَه الدُّنْيا إذا زَأرا
بالأمْسِ كانتْ عليكِ الشمسُ ضاحِيَةً
واليومَ فَوْقَ ذُراكِ البَدْرُ قد سَفَرا
يَؤُولُ عَرْشُكِ مِنْ شَمْسٍ إلى قَمَرٍ
إنْ غابَتِ الشمسُ أوْلَتْ تاجَها القَمَرَا
إذا ابتَسَمْتِ لنا فالدَّهْرُ مُبْتَسِمُ
وإنْ كَشَرْتِ لنا عن نابِهِ كَثَرَا
لا تَعْجَبَنَّ لِمُلْكٍ عَزَّ جانِبُه
لولا التَّعاوُنُ لمْ تَنْظُرْ له أثَرا
ما ثَلَّ رَبُّك عَرْشًا بات يَحْرُسُهُ
عَدْلٌ، ولا مَدَّ في سُلْطانِ مَنْ غَدَرا
خَبَرْتُهُمْ فرأيْتُ القَوْمَ قد سَهِروا
على مَرافِقِهم والمَلْكُ قد سَهِرَا
تَشاوَرُوا في أمورِ المُلْكِ مِنْ مَلِك
إلى وَزيرٍ إلى مَنْ يَغْرِسُ الشَّجَرَا
وكان فارِسُهُمْ في الحَرْبِ صاعِقَةً
وذُو السِّياسَةِ منهم طائِرًا حَذِرَا
بالبَرِّ صافِنَةٌ داسَتْ سَنابكُها
مَناجِمَ التِّبْرِ لمّا عافَتِ المَدَرَا
وفي البِحارِ أساطيلٌ إذا غَضِبَتْ
تَرى البَراكينَ فيها تَقْذِفُ الشَّرَرا
وهُنَّ في السِّلْمِ والأيّامُ باسمَةُ
عَرائِسُ يَكْتَسين الدَّلَّ والخَفَرَا
حتّى إذا نَشِبَتْ حَرْبٌ رأيتَ بها
أغْوالَ قَفْرٍ ولكنْ تَنْهَشُ الحَجَرَا
اليومَ يُشْرِقُ «إدْوارٌ» على أمَمٍ
كأنّها البَحْرُ بالأذِيِّ قد زَخَرَا
لو أمْطَر الغَيْثُ أرضًا تَسْتَظِلُّ بهم
عَدَتْ رُءوسَهُمُ عن وَجْهِها المَطَرَا
اليومَ يَلْثِمُ تاجُ العِزِّ مُحْتَشِمًا
رَأْسًا يُدَبِّرُ مُلْكًا يَكْلأُ البَشَرَا
يُصَرِّفُ الأمْرَ من مِصْرٍ إلى عَدَنٍ
فالهِنْدِ فالكابِ حتّى يَعْبُرَ الجُزُرَا
قد سالَمَتْه اللَّيالي حينَ أعْجَزَها
عَقْدٌ لِما حَلَّ أو تَقويمُ ما أطَرَا
(إدْوارُ) دُمْتَ ودامَ المُلْكُ في رَغَدٍ
ودامَ جُنْدُكَ في الآفاقِ مُنْتَصِرَا
حَقَنْتَ بالصُّلْحِ والرَّأيِ السَّديد دَمًا
رَوَّى الشِّعابَ ورَوَّى الصارِمَ الذَّكَرَا
هُمْ يَذْكُرونَكَ إنْ عَدُّوا عُدُولَهُمُ
ونَحْنُ نَذْكُرُ إنْ عَدُّوا لنا (عُمَرَا)
كأنّما أنتَ تَجْري في طَريقَتِه
عَدْلاً وحِلْمًا وإيقاعًا بمَنْ أشِرَا

(٨) إلى الأُستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده

قالها في سفر له إلى بعض بلاد الوجه البحري، وكان مصاحبًا له في هذا السفر

صَدَفْتُ عن الأهْواءِ والحُرُّ يَصْدِفُ
وأنْصَفْتُ مِنْ نَفْسِي وذُو اللُّبِّ يُنْصِفُ
صَحِبْتُ الهُدَى عِشْرينَ يوْمًا ولَيْلَةً
فَقَرَّ يَقيني بَعْدَ ما كان يَرْجُفُ
فرُحْتُ وفي نَفْسي من اليَأسِ صارمُ
وعُدْتُ وفي صَدْري من الحِلْمِ مُصْحَفُ
وكنتُ كما كان (ابنُ عِمْرانَ) ناشئًا
وكان كَمَنْ في (سورَةِ الكَهْفِ) يُوصَفُ
كأنّ فؤادي إبْرَةٌ قد تَمَغْطَسَتْ
بحُبِّك أنَّى حُرِّفَتْ عنكَ تَعْطِفُ
كأنّ يراعي في مَديحِكَ ساجدٌ
مَدامِعُه من خَشْيَةِ الله تَذْرِفُ
كأنّكَ والآمالُ حَوْلَكَ حُوَّمٌ
نَميرٌ على عِطْفَيْه طيْرٌ تُرَفْرِفُ
وأزْهَرَ في طِرْسي يَراعي وأنْمُلي
ولَفْظي فباتَ الطِّرْسُ يَجْني ويَقطفُ
وجَمَّعَ من أنْوارِ مَدْحِكَ طاقَةً
يُطالِعُها طَرْفُ الرَّبيعِ فيُطْرَفُ
تَهادَى بها الأرْواحُ في كلِّ سُحْرَةٍ
وتَمْشي على وَجْهِ الرِّياض فتَعْرُفُ
إمامَ الهُدى إنِّي أرى القَوْمَ أبْدَعُوا
لهم بِدَعًا عنها الشَّريعةُ تَعْزُِفُ
رَأوْا في قُبورِ المَيِّتِين حَياتَهُمْ
فقامُوا إلى تِلْكَ القُبورِ وطَوَّفوا
وباتُوا عليها جاثِمينَ كأنّهم
«على صَنَمٍ للجاهليّةِ عُكَّفُ»
فأشْرِق على تِلْكَ النُّفوسِ لَعَلَّها
تَرِقُّ إذا أشْرَقْتَ فيها وتَلْطُفُ
فأنْتَ بهمْ كالشَّمْسِ بالبَحْرِ إنّها
تَرُدُّ الأُجاجَ المِلْحَ عَذْبًا فيُرْشَفُ
كثيرُ الأيادي، حاضِرُ الصَّفْحِ، مُنْصِفٌ
كثيرُ الأعادي، غائِبُ الحِقْدِ، مُسْعِفُ
له كلَّ يومٍ في رِضَى اللهِ مَوْقِفُ
وفي ساحَةِ الإحسانِ والبرِّ مَوْقِفُ
تَجَلَّى (جَمالُ الدِّينِ) في نُورِ وَجْهِهِ
وأشْرَقَ في أثناء بُرْدَيْه (أحْنَفُ)
رأيْتُكَ في الإفْتاءِ لا تُغْضِبُ الحِجا
كأنّك في الإفْتاءِ والعِلْمِ (يُوسُفُ)
فأنتَ لها إنْ قام في الشَّرْقِ مُرْجِفُ
وأنتَ لها إنْ قامَ في الغَرْبِ مُرْجِفُ
كَمُلْتَ كمالاً لو تَناوَلَ كُفْرَه
لأصْبَحَ إيمانًا به يُتَحَنَّفُ

وقال يهنّئه بعودته من سياحته في بلاد الجزائر (نشرت في ٦ أكتوبر سنة ١٩٠٣م)

بَكِّرَا صاحِبَيَّ يومَ الإياب
وقِفا بي (بعَيْنِ شَمْسٍ) قِفا بي
إنّني والّذي يَرى ما بِنَفْسِي
لَمَشُوقٌ لظِلِّ تلكَ الرِّحابِ
يا أمينًا على الحقيقةِ والإفْـ
ـتاءِ والشَّرْعِ والهُدَى والكتابِ
أنتَ نِعْمَ الإمامُ في مَوْطِنِ الرَّأ
يِ ونِعْمَ الإمامُ في المِحْرابِ
خَشَعَ البَحَرُ إذْ رَكِبْتَ جَواريـ
ـهِ خُشوعَ القُلوبِ يومَ الحِسابِ
وبدا ماؤُه كخاطِرِكَ المَصـ
ـقُولِ أوكالفِرِنْدِ أو كالسَّرابِ
يَتَجَلَّى كأنه صُحُفُ الأبْـ
ـرارِ مَنْشورةً بيَوْمِ المَآبِ
عَلِمَتْ مَنْ تُقِلُّ فانبعَثَتْ لِلْـ
ـقَصْدِ مِثْلَ انبِعاثِه للثَّوابِ
فهي تَسْري كأنّها دَعْوَةُ المُضْـ
ـَطرِّ في مَسْبَحِ الدُّعاء المُجابِ
وضِياءُ (الإمامِ) يوضِحُ للرُّبّـ
ـانِ سُبْلَ النَّجاةِ فَوْقَ العُبابِ
باتَ يُغْنيه عن مُكافَحة البَحْـ
ـرِ ورُقْبَى النُّجومِ والأقْطابِ
وسَرَى البَرْقُ للجزائر بالبُشْـ
ـرَى بقُرْبِ المُطَهَّرِ الأوّابِ
فسَعَى أهْلُها إلى شاطئ البَحْـ
ـرِ وُفودًا بالبِشْرِ والتَّرحابِ
أدْرَكُوا قَدْرَ ضَيْفِهم فأقامُوا
يَرْقُبونَ (الإمامَ) فوقَ السَّحابِ
ليتَ مِصْرًا كَغَيْرِها تَعْرِفُ الفَضْـ
ـلَ لِذِي الفَضْلِ من ذَوي الألبابِ
إنّها لو دَرَتْ مكانَكَ في المَجْـ
ـدِ ومَرْماكَ في صُدورِ الصِّعابِ
وتَفانِيكَ في سَبيل (أبي حَفْـ
ـصٍ) ومَسْعاكَ عند دَفْعِ المُصابِ
لأظَلَّتْكَ بالقُلُوبِ مِنَ الشَّمْـ
ـسِ ووارَتْ عُِداكَ تَحْتَ التُّرابِ
أنتَ علَّمْتَنا الرُّجُوعَ إلى الحَـ
ـقِّ ورَدَّ الأمُورِ للأسبابِ
ثمّ أشْرَقْتَ في (المنارِ) عَلَيْنا
بَيْنَ نُورِ الهُدَى ونُورِ الصَّوابِ
فَقرَأْنا على ضِيائِكَ فيه
كَلماتِ المُهَيْمِنِ الوَهّابِ
وسَكَنّا إلى الّذي أنْزَلَ اللّـ
ـهُ وكُنّا من قَبْله في ارْتيابِ
أيُّهذا الإمامُ أكْثَرْتَ حُسّا
دي فباتَتْ نُفُوسُهُمْ في التِهابِ
أبْصَرُوا مَوْقِفي فعّزَّ عليهمْ
منكَ قُربي ومِنْ عُلاكَ انْتِسابي
أجْمَعوا أمْرَهُمْ عِشاءً وباتُوا
يُسْمِعُون الوَرَى طَنينَ الذُّبابِ
ونَسُوا رَبَّهُمْ وقالوا ضَمِنّا
بُعْدَه عن رِحابِ ذاكَ الجَنابِ
قُلْ لجَمْع المُنافِقينَ ومِنْهُمْ
خُصَّ بالقَوْلِ عَبْدَ أمِّ الحَبابِ
عَبْدَ تلكَ الّتي يُحرِّمُها اللّـ
ـهُ إزاءَ الأزْلامِ والأنْصابِ
إنّ نَفَسَ الإمامِ فوقَ مُناهُمْ
ما تَمَنَّوا وإنّني غيرُ صابي
شابَ فيهمْ ولاؤُهُمْ حينَ شابُوا
وَوَلائي في عُنْفوانِ الشَّبابِ

وقال فيه عند عودته من بعض أسفاره:

لو يَنْظِمُونَ الَّلآلي مِثْلَ ما نُظِمَتْ
مُذْ غِبْتَ عَنّا عُيونُ الفَضْلِ والأدَبِ
لأقْفَرَ الجيدُ من دُرٍّ يُحيطُ به
والثَّغْرُ من لُؤْلُؤٍ والكأسُ من حَبَبِ

وقال مدافعًا عنه أيضًا ضدّ مَنْ حمل عليه من أعدائه في الصحف ورسموا له صورًا تزري بقدره:

إنْ صَوَّرُوكَ فإنّما قد صَوَّروا
تاجَ الفَخَارِ ومَطْلَعَ الأنْوارِ
أو نَقَّصُوكَ فإنّما قد نَقَّصوا
دِينَ النَّبيِّ محمّدِ المُخْتارِ
سَخِروا من الفَضْلِ الّذي أوتِيته
واللهُ يَسْخَرُ منهُمُ في النَّارِ
لا تَجْزَعَنَّ فلسْتَ أوّلَ ماجِدٍ
كَذَبَتْ عليه صَحائِفُ الفُجّارِ
رَسَموا بِذاتِكَ للنَّواظِرِ جَنَّةً
مَحْفُوفَةً بمَكارِه الأشْعارِ
وتَقَوَّلوا عنكَ القَبيحَ وهكذا
يُمْنَى الكَريمُ بغارَةِ الأشْرارِ
لنْ يَحْجُبُوكَ عن الوَرَى أو يَحْجُبُوا
فَلَقَ الصَّباحِ ومَشْرِقَ الأقْمارِ
أو يَبْلُغُوا عَلْياكَ حتّى يَبْلُغوا
بَيْنَ الزَّواهِرِ صُورَةَ الجَبّارِ
ما أنْت ذَيّاكَ البَغِيضُ فَتَنْثَني
مُتَسَرْبِلاً بالعارِ فْوْقَ العارِ
لَعِبُوا به في صُورَةٍ قد أسْفَرَتْ
عن عَزْلِه فأقامَ جِلْسَ الدّارِ

(٩) تهنئة الخديوي عبّاس الثاني بعيد الأضحى سنة ١٣٢١هـ (نشرت في ٢٥ فبراير سنة ١٩٠٤م)

طُفْ بالأريكَةِ ذاتِ العِزِّ والشانِ
واقْضِ المَناسِكَ عَنْ قاصٍ وعَنْ داني
يا عِيدُ ليتَ الّذي أوْلاَكَ نِعْمَتَهُ
بقُرْبِ صاحِبِ مِصْرٍ كان أوْلاني
صُغْتُ القَريضَ فما غادَرْتُ لُؤْلُؤَةً
في تاجِ (كِسرى) ولا في عِقْدِ (بُورانِ)
أغْرَيْتُ بالغَوْصِ أقلامي فما تَرَكَتْ
في لُجّة البَحْرِ من دُرٍّ ومَرْجانِ
شَكا (عُمانُ) وضَجَّ الغائصون به
على اللآلي وضَجَّ الحاسِدُ الشّاني
كم رامَ شَأوي فلم يُدْرِكْ سوى صَدَفٍ
سامَحْتُ فيه لَنظّامٍ ووزّانِ
عابُوا سُكوتي ولْوْلاه لما نَطَقُوا
ولا جَرَتْ خَيْلُهُمْ شَوْطًا بمَيْدانِ
واليومَ أنْشِدُهُمْ شعْرًا يُعيدُ لهم
عَهْدَ (النُّواسِيِّ) أو أيّامَ (حَسَانِ)
أزُفُّ فيه إلى (العَبّاسِ) غانِيَةً
عَفيفةَ الخِدْرِ مِن آياتِ عَدْنانِ
من الأوانِسِ خَلاّها يَراعُ فتًى
صافي القَريحةِ صاحٍ غيرِ نَشْوانِ
ما ضاقَ أصْغَرُه عن مَدْحِ سَيِّده
ولا استعَانَ بمَدْحِ الراحِ والبانِ
ولا استَهَلَّ بذِكْرِ الغِيدِ مِدْحَتَه
في مَوْطِنٍ بجَلالِ المُلْكِ رَيّانِ
أغْلَيْتَ بالعَدْلِ مُلْكًا أنتَ حارِسُه
فأصبَحَتْ أرضُه تُشْرَى بِميزانِ
جَرَى بها الخِصْبُ حتّى أنْبَتَتْ ذَهَبًا
فلَيْتَ لي في ثَراها نصفَ فَدّانِ
نَظَرْتَ للنِّيلِ فاهتَزّتْ جَوانِبُه
وفاضَ بالخيْرِ في سَهْلٍ ووِدْيانِ
يَجْري على قَدَرٍ في كلِّ مُنْحَدَرٍ
لم يَجْفُ أرضًا ولم يَعْمِدْ لطُغْيانِ
كأنّه ورِجالُ الرِّيِّ تَحْرُسُهُ
مُمَلَّكُ سارَ في جُنْدٍ وأعْوانِ
قد كان يَشكو ضياعًا مُذ جرى طُلُقًا
حتّى أقَمْتَ له خَزَّانَ أسْوانِ
كم مِنْ يَدٍ لكَ في القُطْرَيْنِ صالحةٍ
فاضَتْ علينا بجودٍ منكَ هَتّانِ
رَدَدْتَ ما سَلَبَتْ أيدي الزّمان لنا
وما تَقَلَّصَ من ظِلِّ وسُلْطانِ
وما قَعَدْتَ عن السُّودانِ إذ قَعَدُوا
لكنْ أمَرْتَ فلبَّى الأمرَ جَيْشانِ
هذا من الغَرْبِ قد سالتْ مَراكِبُه
وذا من الشَّرْقِ قد أوْفَى بطُوفانِ
وَلاّكَ رَبُّكَ مُلْكًا في رِعايَتِه
ومَدَّهُ لكَ في خِصْبٍ وعُمْرانِ
من كُرْدُفانَ إلى مِصرٍ إلى جَبَلٍ
عليه كَلَّمَهُ (موسى بنُ عِمْرانِ)
فكُنْ بمُلْكِكَ بَنّاءَ الرَّجالِ ولا
تَجْعَلْ بِناءَكَ إلاّ كلَّ مِعْوانِ
وانظرْ إلى أمّةٍ لولاكَ ما طَلَبَتْ
حَقّا ولا شَعَرَتْ حُبَّا لأوْطانِ
لاذَتْ بسُدَّتِكَ العَلْياءِ واعْتَصَمَتْ
وأخْلَصَتْ لكَ في سِرٍّ وإعْلانِ
حَسْبُ الأريكَةِ أنّ اللهَ شَرَّفها
فأصبَحَتْ بكَ تَسْمُو فوقَ كِيوانِ
تاهَتْ بعَهْدِ مَليكٍ فوق مَفْرِقِهِ
لِمُلْكِ مِصْر وللسُّودانِ تاجانِ
هذا هُوَ المُلْكُ فَلْيَهْنئِ مُمَلَّكُه
وذا هُو الشِّعْرُ فلتُنْشِدْه أزْماني

وقال أيضًا يهنّئ سموّه بالعام الهجريّ: (نشرت في ١٩ مارس سنة ١٩٠٤)

قَصَرْتُ عَلَيْكَ العُمْرَ وهو قَصيرُ
وغالَبْتُ فيكَ الشَّوْقَ وهو قَدِيرُ
وأنْشَأْتُ في صَدْرِي لحُسْنِكَ دَوْلَةً
لها الحُبُّ جُنْدٌ والوَلاءُ سَفيرُ
فؤادي لها عَرْشٌ وأنتَ مَليكُه
ودُونَكَ من تلكَ الضُّلوعِ سُتورُ
وما انتقَضَتْ يومًا عليكَ جَوانِحِي
ولا حَلَّ في قَلْبي سِواكَ أمِيرُ
كَتَمْتُ فقالوا: شاعِرٌ يُنْكِرُ الهَوى
وهل غيرُ صَدْري بالغرامِ خَبيرُ
ولو شِئْتُ أذْهَلْتُ النجومَ عن السُّرَى
وعَطَّلْتُ أفلاكًا بهِنّ تَدُورُ
وأشْعَلْتُ جِلْدَ اللَّيْلِ مِنّي بزَفْرَةٍ
غَرامِيّةٍ منها الشَّرار يَطيرُ
ولكنّني أخْفَيْتُ ما بي وإنّما
لكلِّ غَرامٍ عاذِلٌ وعَذيرُ
أرى الحُبَّ ذُلاًّ والشِّكايَةَ ذِلَّةً
وإنّي بسَتْرِ الذِّلَّتَيْن، جَديرُ
ولي في الهَوَى شِعْران: شِعْرٌ أذيعُه
وآخَرُ في طَيِّ الفُؤاد سَتِيرُ
ولولا لَجاجُ الحاسِدينَ لما بَدا
لمَكْنونِ سِرِّي في الغَرامِ ضَمِيرُ
ولا شَرَعَتْ هذا اليَراعَ أنامِلي
لشَكْوَى ولكنّ اللَّجاجَ يُشيرُ
على أنّني لا أرْكَبُ اليَأسَ مَرْكَبًا
ولا أكْبِرُ البَأساءَ حين تُغِيرُ
فكَمْ حاد عَنّي الحَيْنُ والسُّيْفُ مُصْلَتُ
وهانَ عليَّ الأمْرُ وهْو عَسيرُ
وكم لَمْحَةٍ في غَفْلَةِ الدَّهْرِ نَفَّسَتْ
هُمومًا لها بَيْنَ الضُّلوعِ سَعيرُ
فقد يَشْتَفي الصَّبُّ السَّقيمُ بزَوْرَةٍ
ويَنْجُو بلَفْظٍ عاثِرٌ وأسيرُ
عَسَى ذلك العامُ الجَديدُ يَسُرُّني
ببُشْرى وهل للبائِسين بَشيرُ؟
ويَنْظُرُ لي ربُّ الأريكَةِ نَظْرةً
بها يَنْجَلي لَيْلُ الأسَى ويُنيرُ
مَليكُ إذا غَنَّى اليَراعُ بمَدْحِهِ
سَرَتْ بالمَعَالي هِزَّةٌ وسُرورُ
أمَوْلايَ إنّ الشَّرقَ قد لاح نَجْمُه
وآنَ له بَعْدَ المَماتِ نُشُورُ
تَفاءَلَ خَيرًا إذْ رآكَ مُمَلَّكًا
وفَوْقَكَ من نورِ المُهَيْمِنِ نُورُ
مَضى زَمَنٌ والغَرْبُ يَسْطُو بحَوْلِه
عليَّ ومالي في الأنَامِ ظَهِيرُ
إلى أنْ أتَاحَ اللهُ للصَّقْرِ نَهْضَةً
ففَلَّتْ غِرارَ الخَطْبِ وهو طَريرُ
جَرَتْ أمَّةُ اليابان شَوْطًا إلى العُلا
ومِصْرُ على آثارِها ستَسيرُ
ولا يُمْنَعُ المِصْرِيُّ إدْراكَ شأوِها
وأنتَ لطُلاّبِ العَلاءِ نَصيرُ
فقِفْ مَوْقِف (الفارُوقِ) وانظُرْ لأمّةٍ
إليكَ بحَبّاتِ القُلوبِ تُشيرُ
ولا تَسْتَشِرْ غيرَ العزيمَةِ في العُلا
فليس سواها ناصِحُ ومُشِيرُ
فعَرْشُك مَحْروسٌ ورَبُّكَ حارِسٌ
وأنتَ على مُلْكِ القُلوبِ أميرُ

(١٠) تهنئة إلى رفعت بك بوكالته لمصلحة السجون

أهَنِّيكَ أمْ أشْكو فِراقَكَ قائلاً
أيا لَيْتَني كُنْتُ السَّجينَ المُصَفَّدَا
فلو كنتَ في عهد (ابنِ يَعْقوبَ) لم يَقُلْ
لصاحِبِه: اذكُرَنِّي ولا تَنْسَني غَدَا

(١١) مدحة كتب بها إلى محمّد بك هلال

هَجَعْتَ يا طَيْرُ ولم أهْجَعِ
ما أنت إلاّ عاشِقٌُ مُدَّعي
لو كنتَ ممّن يَعْرِفون الجَوَى
قَضَيْتَ هذا اللَّيْلَ سُهْدًا مَعي
يا مَن تَحامَيْتُمْ سَبيلَ الهَوَى
أعِيذُكُمْ مِن قَلَقِ المَضْجَعِ
وحَسْرَةٍ في النَّفْسِ لو قُسِّمتْ
على ذَواتِ الطَّوْقِ لم تَسْجَعِ
ويا بَني الشَّوْقِ وأهْلَ الأسَى
ومَن قَضَوْا في هذه الأرْبُعِ
عليكُمُ من واجِدٍ مُغْرَمٍ
تحيّةُ المُوجَعِ للمُوجِعِ
للهِ ما أقْسى فؤادَ الدُّجَى
على فؤادِ العاشِقِ المُولَعِ
هذا غليظُ لم يَرُضْه الهَوَى
ما بَيْنَ جَنْبَيْ أسْوَدٍ أسْفَعِ
وذاكَ في جَنْبَيْ فتًى مُدْنَفٍ
على سِوَى الرِّقّةِ لم يُطْبَعِ
وأغْيَدٍ أسْكنْتُه في الحَشا
وقلتُ: يا نَفْسُ به فاقنَعِي
نِفارُه أسْرَعُ مِنْ خاطِري
وصّدُّه أقرَبُ مِنْ مَدْمَعي
وخَدُّه لا تَنْطَفي نارُه
كأنّما يَقْبِسُ مِنْ أضْلُعِي
تساءَلَتْ عنّي نُجومُ الدُّجَى
لمّا رأتْني دانِيَ المَصْرَعِ
قالت: نَرَى في الأرضِ ذا لَوْعَةٍ
قد باتَ بَيْنَ اليأسِ والمَطْمَعِ
يَئِنُّ كالمَفْئُودِ أو كالذي
أصابَه سَهْمُ ولم يُنْزَعِ
إنْ كان في بَدْرِ الدُّجى هائِمًا
أمَا لِهذا البَدْرِ مِنْ مَطْلَعِ؟
أو كانَ في ظَبْي الحِمى مُغْرمًا
أمَا لهذا الظَّبْي من مَرْتَعِ؟
هَيْهاتَ يا أنْجُمُ أنْ تَعْلَمي
مُثيرَ أشْجانيَ أو تَطْمَعي
إنِّي لَضَنّانٌ بذِكْرِ اسمِهِ
ضَنِّي بوُدِّ الكاتِب الألْمَعِي
الضارِبِ الجِزْيَةِ مُنْذ انْتَشَى
على يَراعِ الشَّاعِرِ المُبْدِعِ
والحامِلِ الأقلامِ مَشرُوعَةً
كأنّها بَعْضُ القَنا الشُّرَّعِ
إذا دَعَا القَوْلُ أتَى طائِعًا
وإنْ دَعاهُ العِيُّ لم يَسْمَعِ
صَحِبْتُه دَهْرًا فألفَيْتُهُ
فَتًى كَريمَ الأصْلِ والمَنْزعِ
مَوَدَّةٌ كالخَمْرِ إنْ عُتِّقَتْ
جادَتْ وفَضْلٌ باسِمُ المَشْرَعِ
وعَزْمَةٌ لو قُسِّمَتْ في الوَرَى
باتُوا من الشِّعْرَى على مَسْمَعِ

(١٢) تهنئة (عليّ حيدر بك) بعيد الأضحى

وكان مديرا لبني سويف إذ ذاك

للهِ عيدٌ كَبيرُ
يَزْهُو بنُورِ جَبيِنكْ
لمْ تَقْتَبِلُه
إلاّ لِلَثمِ يَميِنكْ

(١٣) تهنئة سليمان أباظة باشا بإبلاله من مرض ألمّ به، وبعرس نجله (عليّ بك)

تَراءَى لكَ الإقْبالُ حتّى شَهِدْناهُ
ودانَ لَكَ المِقْدارُ حتّى أمِنّاهُ
(سُليْمانُ) ذَكَّرْتَ الزَّمانَ وأهْلَه
بعِزِّ (سُلَيْمانٍ) وإقبالِ دُنْياهُ
إذا سِرْتَ يومًا حَذَّرَ النَّمْلُ بَعْضَهُ
مَخافَةَ جَيْشٍ من مَواليكَ يَغْشاهُ
وإنْ كنتَ في روْضٍ تَغَنَّتْ طُيورُه
وصاحَتْ على الأفْنانٍ: يَحْرُسُكَ اللهُ
وكان (ابنُ داوُدٍ) له الرِّيحُ خادِمُ
وتَخْدُمُكَ الأيّامُ والسَّعْدُ والجاهُ
تَحُلُّ بحيث المَجْدُ ألْقَى رِحالَه
«فطاهِرةٌ» والبيْتُ والقُدْسُ أشْباهُ
لَبِسْتَ الشِّفَا ثَوْبًا جَديدًا مُبَارَكًا
فألْبَسْتَنا ثوبًا من العِزِّ نَرْضاهُ
وكان عليكَ الدَّهْرُ يَخْفُقُ قَلْبُهُ
فلمّا شَفاكَ اللهُ أهْدَأْتَ أحْشاهُ
وهَنَّا جَديدَاهُ الزَّمانَ وأصْبَحَتْ
تَسُوقُ لنا الأيّامُ ما نَتَمَنّاهُ
وباتَ بَنوكَ الغُرُّ ما بَيْنَ رافِلٍ
بحُلَّة يُمْنٍ أو شَكورٍ لمَوْلاهُ
(سُليمانُ) دُمْ ما دامت الشُّهْبُ في الدجَى
وما دام يَسْري ذلكَ البَدْرُ مَسْراهُ
وكُنْ (لعَليٍّ) بَهْجَةَ العُرْس إنّه
بعِزِّكَ في الأفراحِ تَمَّتْ مَزاياهُ
ولا تَنْسَ مَنْ أمْسى يُقَلِّبُ طَرْفَهُ
فلمْ تَرَ إلاّ أنْتَ في النّاسِ عَيْناهُ

(١٤) فكتور هوغو (نُشرت سنة ١٩٠٧م)

أعْجَمِيٌّ كادَ يَعْلو نَجْمُهُ
في سَماء الشِّعْرِ نَجْمَ العَربي
صافَحَ العَلْياءَ فيها والْتَقَى
«بالمَعَرِّي» فوقَ هامِ الشُّهُبِ
ما ثُغورُ الزَّهْرِ في أكْمامِها
ضاحِكاتٍ من بُكاءِ السُّحُبِ
نَظَمَ الوَسْمِيُّ فيها لُؤْلُؤًا
كثَنايا الغِيدِ أو كالحَبَبِ
عند مَنْ يَقضي بأبْهَى مَنْظَرًا
مِن مَعانيه الّتي تَلْعَبُ بي
بَسَمَتْ للذِّهْنِ فاستَهْوَتْ نُهَى
مُغْرَمِ الفَضْلِ وصّبِّ الأدَبِ
وجَلَتْها حِكْمَةً بالِغَةً
أعْجَزَتْ أطواقَ أهْلِ المَغْرِبِ
سائِلُوا الطَّيْرَ إذا ما هاجَكُمْ
شَدْوُها بين الهَوَى والطَّرَبِ
هل تَغَنَّتْ أو أرَنَّتْ بِسوَى
(شِعْرِ هُوغُو) بعْدَ عَهْدِ العَرَبِ
كان مُرَّ النَّفْسِ أو تَرْضَى العُلا
تَظْمأ الأفْلاكُ إنْ لم يَشْرَبِ
عافَ في مَنْفاهُ أنْ يَدْنو به
عَفْوُ ذاكَ القاهِر المُغْتصِبِ
بَشَّروه بالتَّداني ونَسُوا
أنه ذاكَ العِصامِيُّ الأبي
كَتَبَ المَنْفيُّ سَطْرًا للّذي
جاءَه بالعَفوِ فاقْرأ وأعجَبِ
أبَريءٌ عنه يَعْفو مُذْنِبُ؟
كيف تُسْدي العَفْوَ كَفُّ المُذْنِبِ؟
جاءَ والأحلامُ في أصْفادِها
ما لَها في سِجْنِها مِنْ مَذْهَبِ
طَبَعَ الظُّلْمُ على أقْفالها
بِلَظاهُ خاتمًا مِن رَهَبِ
أمْعَنَ التَّقْليدُ فيها فَغَدَتْ
لا تَرَى إلاّ بعَيْنِ الكُتُبِ
أمَرَ التَّقْليدُ فيها ونَهَى
بجُيوشٍ من ظَلامِ الحُجُبِ
جاءَها (هوجو) بعَزْمٍ دونَه
عِزّةُ التّاجِ وزَهْوُ المَوْكِبِ
وانْبَرى يَصْدَعُ من أغْلالِها
بِاليَراعِ الحُرِّ لا بالقُضُبِ
هالَه ألاّ يَراها حُرّةً
تَمْتَطِي في البَحْثِ مَتْنَ الكَوْكَبِ
ساءَه ألاّ يَرَى في قَوْمِهِ
سِيرَةَ الإسْلامِ في عَهْدِ النَّبي
قُلْتَ عن نَفْسِكَ قَوْلاً صادِقًا
لم تَشُبْهُ شائِباتُ الكَذِبِ:
أنا كالمَنْجمِ تِبْرٌ وثَرى
فاطْرحوا تُرْبي وصُونوا ذَهَبي

(١٥) تهنئة سموّ الخديوي عبّاس الثاني بعيد الأضحى (١٣٢٥هـ–١٩٠٨م)

سَكَنَ الظلَّلامُ وباتَ قَلْبُكَ يَخْفِقُ
وسَطَا على جَنْبَيْكَ هَمُّ مُقْلِقُ
حارَ الفِراشُ وحِرْتَ فيه فأنتُما
تحْتَ الظَّلامِ مُعَذَّبٌ ومُؤَرَّقُ
دَرَجَ الزَّمانُ وأنتَ مَفْتُونُ المُنَى
ومَضى الشَّبابُ وأنتَ ساهٍ مُطْرِقُ
عَجَبًا يَلَذُّ لَكَ السُّكوتُ مع ا لهَوَى
وسِواكَ يَبْعَثُه الغَرامُ فيَنْطِقُ
خُلِقَ الغَرامُ لأصْغَرَيْكَ وطالَما
ظَنُّوا الظُّنونَ بأصْغَرَيْكَ وأغْرَقُوا
ورَمَوْكَ بالسَّلْوى ولو شَهِدُوا الّذي
تَطْويه في تِلْكَ الضُّلُوعِ لأشفَقُوا
أخْفَيْتَ أسرارَ الفُؤادِ وإنّما
سِرُّ الفؤادِ من النَّواظِرِ يُسْرَقُ
نَفِّسْ برَبِّكَ عنْ فؤادِكَ كَرْبَهُ
وارحَمْ حَشاكَ فإنّها تَتَمزَّقُ
واذكُرْ لنا عَهْدَ الّذين بِنأْيِهِم
جَمَعوا عليكَ هُمُومَهُمَ وتَفرَّقوا
ما لِلقَوافي أنكَرَتْكَ ولم تَكُنْ
لكسادِها في غَيْرِ سُوقِك تَنْفُقُ
ما للِبيانِ بغَيْر بابكَ واقِفًا
يَبْكي ويُعْجِلُه البُكاءُ فيَشْرَقُ
إنّي كَهَمِّكَ في الصَّبابةِ لم أزَلْ
ألْهُو وأرْتَجِلُ القَريضَ وأعْشَقُ
نَفْسي برَغْمِ الحادِثاتِ فتِيَّةٌ
عُودي على رَغْمِ الكَوارِثِ مُورِقُ
إنّ الّذي أغْرَى السُّهادَ بمُقْلَتي
مُتَعَنِّتٌ قَلْبي به مُتَعَلِّقُ
واثَقْتُهُ ألاّ أبُوحَ وإنّما
يَومَ الحِسابِ يُحَلُّ ذاكَ المَوْثِقُ
وشَقيتُ منه بقُربِه وبِعادِه
وأخُو الشَّقاءِ إلى الشَّقاءِ مُوَفَّقُ
صاحَبْتُ أسْبابَ الرِّضا لرُكُوبِه
مَتْنَ الخِلافِ لِما به أتَخَلَّقُ
وصَبَرْتُ مِنه على الّذي يَعْيا به
حِلْمُ الحَليمِ ويَتَّقِيهِ الأحْمَقُ
أصْبَحْتُ كالدَّهْرِيِّ أعبُدُ شَعْرَه
وجَبينَه وأنا الشَّريفُ المُعْرِقُ
وغَدَوْتُ أنْظِمُ من ثَنايا ثَغْرِه
دُرَرًا أقَلِّدُها المَهَا وأُطَوِّقُ
(صَبْري) استَثَرْتَ دفائني وهَزَزْتَني
وأرَيْتَني الإبداعَ كيفَ يُنَسَّقُ
فأبَحْتَ لي شَكْوَى الهَوَى وسَبَقْتَني
في مَدْحِ (عَبّاسٍ) ومِثْلُكَ يَسْبِقُ
قال الرئيسُ فما لقَوْلٍ بَعْدَهُ
باعُ تَطُولُ ولا لمَدْحٍ رَوْنَقُ
(شَوْقي) نَسَبْتَ فما مَلَكْتُ مَدامِعي
مِنْ أَنْ يَسيلَ بها النَّسِيبُ الشَّيِّقُ
أعْجَزْتَ أطْواقَ الأنامِ بمِدْحَةٍ
سَجَدَ البيانُ لرَبَّها والمَنْطِقُ
لم تَتْرُكا لي في المَدَائِح فَضْلةً
يَجري بها قَلَمي الضَّعِيفُ ويَلْحَقُ
نَفْسي على شَوْقٍ لمَدْحِ أميرِها
ويَراعَتي بين الأنامِلِ أشْوَقُ
ماذا أقولُ وأنتُما في مَدْحِهِ
بَحْرانِ باتَ كِلاهُما يَتَدَفَّقُ
العَجْزُ أقْعَدَني وإنَّ عَزائِمي
لَوْلاكُما فوقَ السِّماكِ تُحَلِّقُ
فليهْنِئ العَبّاسَ أنّ بكَفِّه
عَلَمَيْنِ هَزَّهُما الوَلاءُ المُطْلَقُ
ولْيَبْقَ ذُخْرًا للبلادِ وأهْلِها
يَعْفُو ويَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ويُعْتِقُ
(عبّاسُ) والعِيدُ الكبيرُ كِلاهُما
مُتَألِّقُ بإزائِه مُتَألِّقُ
هذا له تَجْرِي الدِّماءُ وذا لَه
تَجْري القَرائِحُ بالمَديح وتُعْنِقُ
صَدَقَ الّذي قد قال فيه وحَسْبُه
أنّ الزّمانَ لِما يَقُول مُصَدِّقُ:
(لك مِصْرُ ماضيها وحاضِرُها مَعًا
ولكَ الغَدُ المُتَحَتِّمُ المُتَحَقِّقُ)

(١٦) تهنئة السلطان عبد الحميد بعيد جلوسه (نشرت في أوّل سبتمبر سنة ١٩٠٨م)

أثْنَى الحَجيجُ عليكَ والحَرَمانِ
وأجَلَّ عيدَ جُلُوسِكَ الثَّقَلانِ
أرْضَيْتَ رَبَّكَ إذْ جَعَلْتَ طَريقَهُ
أمْنًا وفُزْتَ بنِعْمَةِ الرِّضْوانِ
وجَمَعْتَ بالدُّسْتُورِ حَوْلَكَ أمَّةً
شَتّى المَذاهِبِ جَمَّةَ الأضْغانِ
فَغَدَوْتَ تَسْكُنُ في القُلوبِ وتَرْتَعي
حَبّاتِها وتَحُلُّ في الوِجْدانِ
راعَيْتَهُمْ حتّى عَلِمْتَ بأنّهمْ
بَلَغوا أشُدَّهُمُ على الأزْمانِ
فَجَعَلْتَ أمْرَ النّاسِ شُورَى بَيْنَهُمْ
وأقَمْتَ شَرْعَ الواحِدِ الدَّيّانِ
لو أنّهم وَزَنُوا الجُيُوشَ بمَشْهَدٍ
رَجَحَتْ بجَيْشِكَ كِفّةُ الميزانِ
لو شاءَ زَلْزَلَها على أعْدائِه
أو شاءَ أذْهَلَها عن الدَّوَرانِ
يَمْشونَ في خَلَقِ الحَديدِ إلى العُِدا
وكأنّهمْ سَدُّ مِن الإنْسانِ
وكأنّ مَقْدِمَهُمْ إذا لَمَعَ الضُّحى
سَيْلٌ من الهِنْدِيِّ والمُرَّانِ
يَتَواقَعُونَ على الرَّدى وصُفوفُهُم
رَغْمَ الوُثُوب كَثابِتِ البُنْيانِ
فإذا المَدافِعُ في النِّزالِ تَجاوَبَتْ
بزَئيرِها وتَلاحَمَ الجَيْشانِ
وإذا القَنَابِلُ دَمْدَمَتْ وتَفَجَّرتْ
تحتَ الغُبارِ تَفَجُّرَ البُرْكانِ
وإذا البنَادِقُ أرْسَلَتْ نِيرانَها
طُلُقًا وأسبابُ الهَلاكِ دَواني
أبْصَرْتَ جِنًّا في مَسالِخِ فِتْيَةٍ
وشَهِدْتَ أفْئِدةً مِن الصِّوَانِ
مُرْهُمْ يَخوضوا الزَّاخِراتِ ويَنْسِفوا
شُمَّ الجِبالِ بقُوّةِ الإيمانِ
ثَلِجَتْ صُدورُهُمُ وقَرَّ قرارُهُمْ
لمّا حَلَفْتَ بأوْثَقِ الأيْمانِ
تاللهِ ما شَكُّوا بِصِدْقِكَ دُونها
هُمْ يَعْرِفون شَمائلَ السُّلْطانِ
لكنّهمْ دَرَجوا على سَنَنٍ به
لوِقايَةِ الدُّستورِ خَيْرُ ضَمانِ
يأيُّها الشَّعْبُ الكَريمُ تَماسَكُوا
وخُذُوا أُمورَكُمُ بغَيْرِ تَواني
مالي أذَكِّرُكُمْ وتِلْكَ رُبوعُكُمْ
مَرْعَى النُّهَى ومَنابِتُ الشُّجْعانِ
أدْرَكْتُم الدُّستورَ غيرَ مُلَوَّثٍ
بدمٍ ولا مُتَلَطِّخًا بهَوانِ
وفَعَلتُمُ فِعْلَ الرجالِ وكنتمُ
يومَ الفَخَارِ كأمّةِ اليابان
فَتَفيَّئوا ظِلَّ الهِلالِ فإنّه
جَمُّ المَبَرّةِ واسِعُ الإحْسانِ
يَرْعَى لمُوسَى والمَسيحِ وأحمدٍ
حَقَّ الوَلاءِ وحُرْمَةَ الأدْيانِ
فَخُذوا المَواثِقَ والعُهودَ على هُدى التـ
ـوْراةِ والإنجيلِ والفُرْقانِ
وتَذَوَّقوا مَعْنَى الحياةِ فإنّها
في مِصْرَ ألفاظٌ بغيرِ مَعاني
ودَعوا التَّقاطُعَ في المَذاهِبِ بينكمْ
إنّ التَّقاطُعَ آيةُ الخِذْلانِ
وتَسابَقُوا للباقِياتِ وأظْهِرُوا
للعالَمين دَفائِنَ الأذْهانِ
وَلَّى زَمانُ المُعْتَدين كما انطَوَتْ
حِيَلُ الشُيوخِ وإمْرَةُ الخِصْيانِ
لا الشَّكُّ يَذْهَبُ باليَقينِ ولا الرُّؤَى
تُجْدي المُسيءَ ولا رُقَى الشَّيْطانِ
وُضِعَ الكتابُ وَسِيقَ جَمْعُهُمُ إلى
يومِ الحِسابِ ومَوْقِفِ الإذْعانِ
وتَوَسَّموهُمْ في القُيودِ فقائِلُ
هذا فُلانٌ قد وَشَى بفُلانِ
ومَلَبّبٌ لغريِمِه ومُطالِبٌ
بدَمٍ أُريقَ بمَسْبَحِ الحِيتانِ
قد جاء يَوْمُهُمُ هُنا، وأمامَهُمْ
بعد النُشُورِ هُناكَ يومٌ ثاني
سُبْحانَ مَنْ دانَ القَضاءُ بأمْرِه
لِيَدِ الضَّعيفِ مِن القَويِّ الجاني
يا يومَ عادَ النّازِحونَ لأرْضِهِمْ
يَتَسابَقونَ لرُؤْيَة الأوْطانِ
للهِ كمْ أطْفأتَ مِن نارٍ ذَكَتْ
دَهْرًا وكَمْ هَدَّأتَ مِن أشْجانِ
هذا يَطيرُ إلى (فَرُوقَ) ومَن بها
شَوْقًا وذاكَ إلى رُبى لُبْنانِ
خَلَعوا الشَبابَ على البَشير وأخْلَقُوا
باللَّثْمِ عَهْدَ خَليفةِ الرَّحْمنِ
وتَعانَقُوا بَعْدَ النَّوى كخمائِلٍ
يَحْلو بهنّ تَعانُقُ الأغْصانِ
فَتَرى النِّساءَ مع الرِّجالِ سَوافِرًا
لا يَتَّقينَ عوادِيَ الأجْفانِ
عَجَبًا لهنّ وقد خُلِقْنَ أوانِسًا
يَبْرُزْنَ في فَرَحٍ وفي أحْزانِ
أهْلاً بحاسِرَةِ اللِّثامِ ومَنْ إذا
سَفَرَتْ عَنَا لجَمالِها القَمَرانِ
خَطَرَتْ فَعطَّرَت المشارِقَ عِنْدَما
هَبَّتْ نَسائِمُها مِن البَلْقانِ
يا لَيْتَها خَطَرَتْ بمِصْرَ وأشْرَقَتْ
في يومِ أسْعُدِها على طُهْرانِ
أضناهُمَا شَوْقٌ قد ابيَضَّتْ له
كَبِداهُما وتَصَدَّعَ القَلْبانِ
عَرَف الوَرَى مِيقاتَها فَتَرقَّبوا
(تَمُّوزَ) مِثْلَ تَرَقُّبِ الظَّمْآنِ
شَهْرٌ به بُعِثَ الرَّجاءُ وأنْشِرَتْ
أمَمٌ وبُدِّلَ خَوْفُها بأمانِ
فَله على الدُّنيا الجَديدَةِ نِعْمَةٌ
يَشْدو بذِكرِ صَنيِعها الفَتَيانِ
وعَلَى فَرَنْسيسِ الحَضارَةِ مِنَّةٌٍ
تُتْلَى أناشِيدٌ لها وأغاني
تَمُّوزُ أنتَ أبو الشُّهورِ جَلالةً
تمُّوزُ، أنتَ مُنَى الأسيرِ العاني
هَلاَّ جَعَلْتَ لنا نَصيبًا عَلَّنا
نَجْري مع الأحْياءِ في مَيْدانِ
أيَعُودُ مِنْكَ الآمِلونَ بما رَجَوْا
ونعودُ نحنُ بذلكَ الحِرْمانِ
تُّموزُ، إنَّ بنا إليكَ لحَاجَةً
فمَتَى الأوانُ وأنْتَ خَيْرُ أوانِ
مِنِّي على دارِ السَّلامِ تَحيّةٌ
وعلى الخَليفةِ مِن بَني عُثْمانِ
وعَلَى رِجالِ الجَيْشِ مِنْ ماشٍ به
أو راكِبٍ أو نازِحٍ أو داني
وعلى الألى سَكَنوا إلى الحُسْنى سِوَى
ذاكَ الّذي يَدْعُو إلى العِصْيانِ
وإلى الحِجاز الخارجِيِّ وما بهِ
إلاّ اقتِناصُ الأصْفَرِ الرَّنّانِ
ما للشَّريف المُنْتَمي حَسَبًا إلى
خَيْرِ البَرِيَّة من بَني عَدْنانِ
أمْسَى يُمالِئُه ويَنْصُرُ غَيَّه
وضَلالَه بحُثالَةِ العُرْبانِ
تاللهِ لو جَنَّدْتُما رَمْلَ النَّقا
ونَزَلْتُما بمَواطِنِ العِقْبانِ
وغَرَسْتُما أرْضَ الحِجازِ أسِنَّةً
وأسَلْتُمَا بَحْرًا مِن النِّيرانِ
وأقَمْتُما فيها المَعاقِلَ مَنْعَةً
مِن أرضِ نَجْدَ إلى خَليجِ عُمانِ
لَدَهاكُما ورَماكُمَا وذَراكُما
ماحي الحُصونِ وماسِح البُلْدانِ
إنْ تَأتِيَا طَوْعًا وإلاّ فأتِيَا
كَرْهًا بلا حَوْلٍ ولا سُلْطانِ
وإلَيْكَ يا فَرْعَ الخَلائِفِ مِدْحَةً
عَزَّتْ شَوارِدُها على (حَسّانِ)
من شاعِرٍ تَثبُ النُهى لقرِيضَهِ
وَثْبَ النُّفوسِ لرّنَّةِ العِيدانِ
يُهْدي المَديحَ إلى المَليكِ سَبائِكًا
تَعْنُو لَهُنَّ سَبائكُ العِقْيانِ
إنّ المُلوكَ إذا استَوَتْ ألبَسْتُها
بالمَدْحِ تيجانًا على تِيجانِ

(١٧) إلى أحمد شوقي بك

يهنّئه حين أُنعم عليه بالرتبة الأولى العلميّة

إنْ هنَّأوكَ بها فَلسْتُ مُهَنِّئًا
إنِّي عَهِدْتُكَ قَبْلَها مَحْسُودَا
قد كان قَدْرُكَ لا يُحَدُّ نَباهَةً
وسَعادةً فَغدا بها مَحْدُودَا

(١٨) تهنئة الخديوي عبّاس الثاني بقدومه من الحجّ (١٣٢٧هـ–١٩٠٩م)

مُنًى نِلْتَها يا لابِسَ المَجْدِ مُعْلَمَا
أدِينًا ودُنْيا؟ زادَكَ اللهُ أنْعُمَا
فللهِ ما أبْهاكَ في مِصْرَ حاليًا
وللهِ ما أتْقاكَ في البَيْتِ مُحْرِمَا
أقُولُ وقد شاهَدْتُ رَكْبَكَ مُشْرِقًا
وقد يَمَّمَ البَيْتَ العَتيقَ المُحَرَّما:
مَشَتْ كَعْبَةُ الدُّنْيا إلى كَعْبَةِ الهُدَى
يَفيضُ جَلالُ المُلْكِ والدِّينِ مِنْهُما
فيا لَيْتَني اسطَعْتُ السَّبيلَ ولَيْتَني
بَلَغْتُ مُنَى الدَّارَيْنِ رَحْبًا ومَغْنَما
وفي الرَّكْبِ شَمْسٌ أنْجَبَتْ أنْجَبَ الوَرَى
فَتى الشَّرْقِ مَوْلاَنَا الأميرَ المُعَظَّما
تَسيرُ إلى شَمسِ الهُدَى في حَفاوَةٍ
مِن العِزِّ تَحْدُوها الزَّواهِرُ أيْنَما
فلمْ أرَ أُفْقًا قَبْلَ رَكْبِكَ أطْلَعَتْ
جَوانِبُه بَدْرًا وشَمسًا وأنْجُما
ولو أنّني خُيِّرْتُ لاخْتَرْتُ أنْ أُرَى
لعِيسِكَ وَحْدِي حادِيًا مُتَرَنِّما
أسِيرُ خِلالَ الرَّكْبِ نحوَ حَظيرَةٍ
على رَبِّها صَلَّى الإلهُ وسَلَّما
إلى خَيْرِ خَلْقِ اللهِ مَنْ جاءَ ناطِقًا
بآياتِهِ إنْجيلُ عِيسى بنِ مَرْيَما
حَلَلْتَ بأكْنافِ الجَزيرة عابرًا
فأنْضَرْتَ واديها وكُنتَ لها سَمَا
وأشْرَقْتَ في بَطْحاءِ مَكَّةَ زائِرًا
فباتَ عَلَيْكَ النِّيلُ يَحْسُدُ زَمْزَما
وما ظَفِرَتْ من بَعْدِ (هارُونَ) أرْضُها
بمِثْلِكَ مَيْمُونَ النَّقيبَةِ مُنْعِمَا
ولا أبْصَرَ الحُجَّاجُ مِنْ بَعْدِ شَخْصِه
على عَرَفاتٍ مِثلَ شَخْصِكَ مُحْرِما
رَمَيْتَ فسَدَّدْتَ الجِمارَ فَلمْ تَكُنْ
جِمارًا على إبْليسَ بل كُنَّ أسْهُمَا
وإنّ الّذي تَرْميه وَقْفٌ على الرَّدَى
وإنْ لاذَ بالأفْلاكِ يا خيرَ مَنْ رَمَى
وبين الصَّفا والمَرْوَةِ ازدَدْتَ عِزَّةً
بسَعْيِكَ يا (عَبّاسُ) للهِ مُسْلِمَا
تُهَرْوِلُ للمَوْلَى الكَريمِ مُعَظِّمًا
وكَم هَرْوَلَ السّاعِي إليكَ وعَظَّما
وطُفْتَ وكم طافَتْ بسُدَّتِكَ المُنى
وكمْ أمْسَكَ الراجي بها وتَحَرَّما
ولمّا استَلَمْتَ الرُّكْنَ هاجَتْ شُجونُه
فلو أنّه اسطاعَ الكلامَ تَكَلَّما
تَذَكَّرَ (زَيْنَ العابِدينَ) وَجَدَّه
وما كانَ من قَوْلِ (الفَرَزْدَقِ) فيهما
فلو يَسْتَطيعُ الرُّكْنُ أمْسَكَ راحَةً
مَسَحْتَ بها يا أكرمَ الناسِ مَنْتَمَى
دَعَوْتَ لنا حيْثُ الدُّعاءُ إجابَةٌ
وأنتَ بدَعْوَى اللهِ أطْهَرُنا فَمَا
أمانيُّكَ الكُبْرى وهَمُّكَ أنْ تَرَى
بأرْجاءِ وادي النِّيلِ شَعْبًا مُنَعَّما
وأنْ تَبْنيَ المَجْدَ الّذي مالَ رُكْنُه
وأنْ تُرْهِفَ السَّيْفَ الّذي قد تَثَلّما
دَعَوْتَ لمِصْرٍ أنْ تَسُودَ وكَمْ دَعَتْ
لكَ اللهَ مِصْرٌ أنْ تَعيشَ وتَسْلَمَا
فليتَ مُلوكَ المُسْلِمين تَشَبَّهوا
بمَلْكٍ إذا ما أحْجَمَ الدَّهْرُ أقْدَمَا
سَليلِ مُلُوكٍ يَشْهَدُ اللهُ أنَّهمْ
أقامُوا عَمُودَ الدِّينِ لمّا تَهدَّما
لئن باتَ بالمَجْدِ المُؤَثِّلِ مُغْرَمًا
لقد كان (إبراهيمُ) بالمَجْدِ مُغْرَما
وإنْ تامَ حُبُّ المَكْرُماتِ فؤادَه
لقد كانَ (إسماعيلُ) فيها مُتَيَّما
وإنْ سكَنَتْ تَقْوى المُهَيْمِنِ قَلْبَه
فقد كان مِنْها قَلْبُ (تَوْفيقَ) مُفْعَما
وإنْ باتَ نَهّاضًا بمِصْرَ إلى الذُّرَا
فمِنْ جَدِّه الأعْلى (عَليَّ) تَعلَّما
حَوَى ما حَوَى مِنْ مَجْدِهِمْ ونِجارِهِمْ
وزادَ فأعْيا المادِحين وأفْحَما
دَعَوْا بِكَ واستَسْقَوْا فَلبَّى دُعاءَهُمْ
مِنَ الأفْقِ هَتّانٌ من المُزْنِ قد هَمَى
ألَحَّ على أوْعارِهِمْ وسُهُولِهِمْ
وحَيَّا عَبُوسَ القَفْرِ حتّى تَبَسَّما
ولمّا طَوَى بَطْحاءَ مَكَّةَ هَزَّهُ
إلى البَيْتِ شَوْقُ المُسْتَهامِ فَيَمَّما
أطافَ به ثمّ انثَنَى عن فِنائِه
ولَوْ عَبَّ منه (السَّامِريُّ) لأسْلَمَا
طَلَعْتَ عليهم أسْعَدَ الخَلْقِ مَطْلَعًا
وعُدْتَ إلينا أيْمَنَ الخَلْقِ مَقْدّما
رَجَعْتَ وقد دَاوَيْتَ بالجُودِ فَقْرَهُمْ
وكنتَ لهمْ في مَوْسِمِ الحَجِّ مَوْسِما
وأمَّنْتَ للبَيْتِ الحرامِ طَريقَهُ
وكان طَريقُ البَيْتِ مِنْ قَبْلِها دَما
ويَسَّرْتَه حتّى استَطاعَ رُكُوبَه
أخُو الفَقْر لا يَطْويه جُوعٌ ولا ظَما
وجُدْتَ وجادَتْ رَبَّةُ الطُّهْرِ والتُّقَى
على العامِ حتى أخْصَبَ العامُ مِنْكُما
فلم تُبْقِيَا فَوْقَ الجَزيرَةِ بائسًا
ولم تَتْرُكا في ساحَةِ البَيْتِ مُعْدِما
فأرْضَيْتُما الدَّيّانَ والدِّينَ كُلَّه
لقد رَضِيَ الدّيَانُ والدِّينُ عَنْكُما

(١٩) تحيّة محمّد سعيد باشا

بمناسبة عودته من أوربا في اليوم الحادي عشر من شهر شوّال سنة ١٣٣٠هـ وكان رئيسًا للحكومة إذ ذاك

فِيكِ السَّعيدانِ اللَّذانِ تَبارَيَا
يا مِصْرُ في الخَيْراتِ والبَرَكاتِ
نِيلٌ يَفيضُ على سُهُولِكِ رَحْمَةً
وفَتىً يَقيكِ غَوائِلَ العَثَراتِ
عادَ الرَّئيسُ فرَحِّبي بقُدومِهِ
وتَهَلَّلي بمُفَرِّجِ الأزَماتِ

(٢٠) إلى أمين واصف بك (نُشرا في ٩ مايو سنة ١٩١٢م)

قال هذين البيتين ليُكتبا في لوحة مهداة إليه من مدرسة طوخ الصناعيّة؛ إذ كان مديرًا للقليوبيّة

لمْ نَجِدْ ما يَفي بقَدْرِكَ في المَجْـ
ـدِ فيُهْدَى إلى حِماكَ الكَريمِ
فبَعَثْنا إليكَ باسْمِكَ مَكْتُو
بًا على صَفْحَةِ الوَلاءِ المُقيمِ

•••

وقال يودّعه: أنشدها في حفل أقامه كبار موظفّي مديريّة القليوبيّة؛ إذ كان مديرًا لمديريّتهم ونُقِل. (نشرت في ٩ مايو سنة ١٩١٢م)

إني دُعِيتُ إلى احْتِفالِكَ فجْأةً
فأجَبْتُ رَغْمَ شواغِلي وسَقامي
ودَعَوْتُ شِعْري يا (أمينُ) فخانَني
أدَبي ولمْ يَرْعَ القَريضُ ذِمامِي
فأتَيْتُ صِفْرَ الكَفِّ لمْ أمْلِكْ سِوَى
أمَلي بصَفْحِكَ عَنْ قُصُورِ كَلامي
واخَجْلَتي أيَكُونُ هذا مَوْقِفي
في حَفْلَة التَّوْديعِ والإكْرامِ
وأنَا الخَليقُ بأنْ أرَتِّلَ للوَرَى
آياتِ هذا المُصْلِحِ المِقْدامِ
وأقومُ عَنْ نَفْسي وعَنْ غَيْري بما
يَقضي الوَلاءُ وواجِبُ الإعْظامِ
(بنْها)، لقد وُفِّيتِ قِسْطَكِ مِنْ مُنىً
وسَعادةٍ ورِعايةٍ ونِظامِ
فدَعِي سِواكِ يَفُزْ بقرْبِ مُوَفَّقٍ
هُوَ في الحُكومَةِ نُخْبَةُ الحُكَامِ
لَبِسَ التَّواضُعَ حُلَّةً ومَشى إلى
رُتَبِ الجَلالِ مُسَدَّدِ الأقْدامِ
وغَدا بأبْراجِ العُلاَ مُتَنَقِّلاً
كالبَدْرِ يُسْعِدُه السُّرَى بتَمامِ

(٢١) تهنئة محمود سامي بك (باشا) (نشرت في ١٢ يوليه سنة ١٩١٢م)

قالها في حفل أقيم لتكريمه بفندق الكونتننتال لمناسبة ترقيته إلى منصب كبير في نِظارة الأشغال

رَبّاكَ والِدُكَ الكَريمُ على التُّقَى
وعلى النَّزاهَةِ والضَّميرِ الطّاهِرِ
فَنَشأتَ بين رِعايَةٍ وعِنايةٍ
ودَرَجْتَ بين مَحامِدٍ ومَفاخِرِ
وسَمَوْتَ يا (سامي) إلى أوْجِ العُلا
وبَرَعْتَ قَوْمَك بالذَّكاءِ النّادِرِ
رَبَّى أبُوكَ عُقولَنا ونُفوسَنا
فاهْنَأ بوالِدِكَ (الأمينِ) وفاخِرِ
واهْنَأ بما أوتِيتَه منْ نِعْمَةٍ
في عَهْدِ مَوْلانا الأميرِ الزّاهِرِ
يا مالئ الكُرْسِيِّ منه مَهابَةً
وكِفايَةً يا مِلْءَ عِيْنِ النّاظِرِ
إنّ الّتي قُلِّدْتها في حاجةٍ
لعَزيمَةٍ تَمْضِي ورَأْيٍ باتِرِ
فأفِضْ ضِياءَكَ في النظارَةِ كلِّها
واقْبِضْ على الأعْمالِ قَبْضَ القادِرِ
واخدُمْ بلادَكَ بالّذي أوتِيتَه
مِنْ فِطْنَةٍ وأقِلْ عِثارَ العاثِرِ
هَنَّأتُ مِصْرَ ونِيلَها ورِجالَها
لمّا رأيْتُكَ في ثيابِ الآمِرِ
ورَأيْتُ في الدِّيوانِ قَدْرَكَ عالِيًا
والناسُ تَهْتِفُ بالثَّناءِ العاطِرِ
ما بَيْنَ مُعْتَرِفٍ بفَضْلِكَ مُعْلِنٍ
أو ضارعٍ لكَ بالدُّعاءِ وشاكرِ
أمُهَنْدِسَ النِّيلِ السَّعيدِ تحِيّةً
مِنْ مِصْرَ تَحْدُوها تَحِيّةُ شاعِرِ
يَدْعُو إلهك أنْ يُكَثِّر بَيْنَنا
أمْثالَ (سامي) في الزّمانِ الحاضِرِ

(٢٢) إلى الدكتور علي إبراهيم بك (باشا) الجرّاح المعروف (نشرت في ١٥ سبتمبر سنة ١٩١٢م)

هل رَأيْتُمْ مُوَفَّقًا (كَعَليٍّ)
في الأطِبّاءِ يَسْتَحِقُّ الثَّناءَ
أوَدَعَ اللهُ صَدْرَه حِكْمَةَ العِلْـ
ـمِ وأجْرَى على يَدَيْهِ الشِّفاءَ
كم نُفُوسٍ قد سَلَّها مِنْ يَدِ المَوْ
تِ بلُطْفٍ منه وكَمْ سَلَّ داءَ
فأرانا (لُقْمانَ) في مِصْرَ حَيًّا
وحَبَانا لكلِّ داءٍ دَواءَ
حَفِظَ اللهُ مِبْضَعًا في يَدَيْه
قد أماتَ الأسَى وأحْيا الرَّجاءَ

(٢٣) تحيّة خليل مطران بك

أنشدها في حفل أقيم بدار الجامعة المصريّة لتكريمه بمناسبة الإنعام عليه بالنيشان المجيدي يوم ٢٤ أبريل سنة ١٩١٣م

جازَ بي عَرْفُها فهاجَ الغَرامَا
ودَعاني فزُرْتُها إلْمامَا
جَنَّةُ تَبْعثُ الحياةَ وتَجْلُو
صَدَأ النَّفْس رَوْنَقًا ونِظامَا
زُرْتُها مَوْهِنًا وفي طَيِّ نَفْسي
ذِلَّةُ الصَّبّ وانكسارُ اليَتامَى
وتَنقّلْتُ في خَمائِلها الخُضـْ
ـرِ يَمينًا ويَسْرةً وأماما
فإذا رَوْضَتان في ذلك الرَّوْ
ضِ تَمسيانِ تحت ريحِ الخُزَامَى
جاءَتا تَخْطِران والنجمُ ساهٍ
وعُيونُ الأزهارِ تَبْغِي المَناما
جازَتا مَوْضِعِي فهَبَّ نَسيمٌ
أذكى مِنِّي الأسى وهاجَ الهُيَاما
فترسَّمْتُ منهما أثَرَ الخطْ
ـوِ وخافَتُّ في المَسير احْتِشاما
وتَسمّعتُ عَلَّني أُطْفِئ الشَّوْ
قَ وأرْوي من الفُؤاد الأُواما
فإذا لَهْجَتانِ من لَهَجاتِ الشـ
ـرْق قد شاقَتا فُؤادي فَهاما
تلك سُوريَّةٌ تَفيض بَيانًا
تلك مِصرِيَّةُ تَسيل انسِجاما
فِطْنَةٌ عند رِقَّةٍ عند ظَرْفٍ
عند رَأيٍ تخالُه إلْهاما
مالَتَا نَحْو دَوْحةٍ تُرْسِل الأغْـ
ـصانَ واختارَتا لَدَيْها مُقامَا
ثمّ ألْقَتْ قِناعَها بنتُ مِصْرٍ
وأمَاطَتْ بنتُ الشَّآم اللِّثاما
فتوهَّمْتُ أنْ قدِ انفَلقَ البَدْ
رُ وقد كُنْتُ أنْكِرُ الأوْهاما
فتوارَيْتُ ثمّ علَّقتُ أنْفا
سِيَ ما اسْطَعْتُ وارتَدَيْتُ الظَّلاما
ظنَّتا ذلك المكانَ خلاءً
لا رَقيبًا يُخْشى ولا نَمَّاما
فجَرَى فيه ما جَرَى من حديثٍ
كان بَرْدًا على الحَشَا وسَلاَما
حين قالتْ لأخْتِها بنتُ مِصْرٍ:
إنّكمْ أمّةٌ أبَتْ أنْ تُضاما
صَدَق الشاعرُ الذي قال فيكم
كَلماتٍ نَبَّهنَ منّا النِّياما:
رَكِبوا البحرَ جاوَزُوا القُطْب فاتُوا
مَوْقِعَ النِّيِّرَيْن خاضُوا الظَّلاما
يَمْتَطون الخُطوب في طَلَب العَيْـ
ـشِ ويَبْرُون للنِّضال السِّهاما
فانبَرَتْ ظَبْيَةُ الشامِ وقالتْ:
بَعْضَ هذا فقد رَفَعْتِ الشَّآما
أنْتُمُ الأسْبَقون في كلِّ مَرْمًى
قد بلغتُم من كلِّ شيءٍ مَراما
إنّما الشّامُ والكِنانةُ صِنْوا
نِ رَغْم الخُطوب عاشَا لِزاما
أمُّكم أمُّنا وقد أرْضعَتْنا
مِن هَواها ونحنُ نأبى الفِطاما
قد نَزَلنا جِوارَكم فَحمِدْنا
منكُمُ الوُدَّ والنَّدَى والذِّماما
وحَلَلْنا في أرْضِكُم فأصَبْنا
مَنْزِلاً مُخْصِبًا وأهلاً كِراما
وغَشينا دِيارَكم حَيْثُ شِئْنا
فلَقِينا طَلاقةً وابتِساما
وشَرِبنا من نيلكم فنَسينا
ماءَ لُبنانَ سَلْسَلا والغَماما
وقَبَسْنا من نُوركم فَكَتَبْنا
وأجَدْنا نِثارنا والنِّظاما
وتَلَوْنا آياتِ شَوْقي وصَبْري
فرأيْنا ما يَبْهَر الأفْهاما
ملأَ الشرقَ حكمةً وأقاما
فرأيْنا ما يَبْهَر الأفْهاما
ملآ الشرقَ حكمةً وأقاما
في ثَنايا النُّفوس أنَّى أقاما
غَنَّيا المَشْرِقَيْنِ ما ترك الأفْـ
ـلاكَ حَيْرى وأذْهَل الأجْراما
وأعادا عَهْدَ الرَّشيد لعبّا
س فكانا يراعَه والحُساما
فأَشارَت فتاةُ مِصْر وقالت:
قَدْكِ، لم تَتْرُكي لِمصْر كَلاما
أنتم الناسُ قُدْرةً ومَضاءً
ونُهوضًا إلى العُلا واعتزاما
أطلعتْ أرضُكم على كلِّ أُفْقٍ
أنْجُما إثرَ أنْجُم تَتَرامى
تَركبُ الهَوْلَ لا تَفادَى وتَمشي
فوق هامِ الصِّعاب لا تَتحامَى
قد سَمعنا «خليلَكم» فسَمِعْنا
شاعرًا أقعد النُّهى وأقاما
وطَمعْنا في شأوِه فقَعَدْنا
وكَسَرْنا من عَجْزِنا الأقْلاما
نَظَمَ الشَامَ والعِراقَ ومِصْرًا
سِلْكُ آياته فكان الإمَاما
فمشى النَّثْر خاضِعًا ومشى الشـ
ـشعْرُ وألْقى إلى الخَليل الزِّماما
ورَأى فيه رَأيَنا صاحبُ النِّيـ
ـل فأهْدى إليه ذاك الوِسَاما
شارةً زانتِ القَريض فكانت
شارةَ النَّصْر زانت الأعلاما
فعَقَدْنا له اللِّواءَ عَلَيْنا
واحْتَفَلْنا نَزيده إكْراما
ذاك ما دار من حَديثٍ شهيٍّ
يَسْتَفِزّ النُّهى ويَشْجي النَّدامى
قد تَسَقَّطْتُه وخالفتُ فيه
مَنْ يرى النقلَ سُبَّةً واجْتِراما
فمِن النَّقل ما يكونُ حَلالاً
ومن النقلِ ما يكونُ حَراما
صَدَقَ الغادتان يا ليت قَوْمَيْـ
ـنا كما قالتا هَوًى والتِئاما
نحنُ في حاجةٍ إلى كلِّ ما يُنْـ
ـِمي قُوانا ويَرْبِطُ الأرْحاما
فاجعلُوا حَفْلة الخليل صفاءً
بين مِصْرٍ وأختها وسَلاما
واسألوا اللهَ أن يُديم عَلَينا
مُلك «عباس» ناضِرًا بَسّاما
هو آمالنا وحامِي حِمانا
أيَّد اللهُ مُلْكَه وأدَاما

(٢٤) تهنئة له أيضًا للإنعام عليه بالوِسام السابق ذكره (نشرت في أوّل أبريل سنة ١٩١٣م)

وَسِعَ الفَضْلَ كلَّه صَدْرُكَ الرَّحْـ
ـبُ فمَنْ شاءَ فليُهَنِّئْ وِسامَهْ
لَمْ يَزِدْكَ الوِسامُ قَدْرًا ولكِنْ
زادَ قَدْرَ العُلا وقَدْرَ الكَرامَهْ
كَمْ وِسامٍ كَمْ حِلْيَةٍ كم شِعارٍ
فيكَ كَمْ شارَةٍ وكَمْ مِنْ عَلامَه
لإباءٍ وحِكْمَةٍ وإخاءٍ
وصَفاءٍ وهِمّةٍ وشَهامَهْ

(٢٥) تحيّة إلى واصف غالي بك (باشا)

أنشدها في فندق شبرد في ٤ يونية سنة ١٩١٤ عندما نشر كتابه المعروف «بحديقة الأزهار» الذي ترجم فيه بعض الشعر العربي القديم إلى اللغة الفرنسيّة، وكان يُلقي محاضراتٍ وخطبًا في فرنسا ينوّه فيها بالعرب ومصر والشرق.

يا صاحِبَ الرَّوْضَةِ الغَنّاءِ هِجْتَ بنا
ذِكْرَى الأوائلِ منْ أهْلٍ وجِيرانٍ
نَشَرْتَ فَضْلَ كِرامٍ في مَضاجِعِهِمْ
جَرَّ الزَّمانُ عليهمْ ذَيْلَ نِسْيانِ
إنِّي أحَيِّيكَ عنهمْ في جَزيرَتِهِمْ
وفي العِراقِ وفي مِصْرٍ ولُبْنانِ
جَلَوْتَ للغَرْبِ حُسْنَ الشَّرقِ في حُلَلٍ
لا يُسْتَهانُ بها نَسّاجَ (هِرْناني)
ظَنُّوكَ مِنهمْ وقد أنْشأتَ تَخْطُبُهُمْ
بما عَنا لَكَ مِنْ سِحٍْ وتِبْيانِ
ما زِلْتَ تَبْهَرُنا طَوْرًا وتَبْهَرُهُمْ
حتّى ادَّعاكَ وحَيّاكَ الفَريقانِ
لولا اسمِرارُكَ فازوا في ادّعائِهِمُ
(بواصِفٍ) وخَسِرْنا أيَّ خُسْرانِ
غَرَسْتَ منْ زَهَراتِ الشَّرقِ طائفَةً
في أرضِ (هيجو) فجاءَتْ طُرْفَةَ الجاني
حَديقةً لكَ لم نَعْهَد لها شَبَهًا
بين الحَدائِقِ في زَهْرٍ وأفْنانِ
يُحْيِي شَذاها نُفوسَ الوافِدينَ وما
مَرُّوا بوَرْدٍ ولا طافُوا برَيْحانِ
لكنّها من أزاهير النُّهى جَمَعَتْ
ما لا تُنافِحُه أزهارُ بُسْتانِ
بالأمْسِ كان لها شَرْقٌ تَضُوعُ به
واليومَ صارَ لها بالغَرْبِ شَرْقانِ
أسْمَعْتَهُمْ مِنْ نَسيب القَوْمِ فانطَلَقَتْ
شُئونُ كلِّ شَجِيِّ القَلْبِ وَلْهانِ
وزِدْتَهُمْ من كلام (البُحْتُري) قِطَعًا
مِثْلَ الرِّياضِ كَسَتْها كفُّ (نَيْسانِ)
سَلْ (ألْفَريدَ) و(لامَرْتينَ) هَلْ جَرَيَا
مع (الوَليدِ) أو (الطّائي) بمَيْدانِ
وهَلْ هُمَا في سَماءِ الشِّعْرِ قد بَلَغا
شَأوَ (النُّواسِيِّ) في صَوْغٍ وإتْقانِ
ودَّا وقد شَهِدَا بالحَقِّ أنّهما
في بَيْتِ (أحمدَ) لو يَرْضَى نَديمانِ
أمْسَى كتابُكَ «كالسِّيما» يُعيدُ لهمْ
مَرأى الحوادِثِ مَرّتْ مُنْذُ أزمانِ
قد شاهَدَا فيه تَحْتَ النَّقْعِ عَنْتَرَةً
يُصارعُ المَوْتَ عن عَبْسٍ وذُبْيانِ
وشاهَدُوا أسَدًا يَمْشي إلى أسَدٍ
كِلاهُما غَيْرُ هَيّابٍ ولا وانِي
هذا مِنْ العُرْبِ لا يُلْوِي به فَزَعٌ
وذاكَ أرْوَعُ مِنْ آسادِ خَفَّانِ
للهِ دَرُّ يَراعٍ أنتَ حامِلُه
لو كانَ في أنْمُلي يومًا لأغْناني
وقَفْتَ تَدْفَعُ عن آدابنا تُهَمًا
كادَتْ تُقَوِّضُ منها كلَّ بُنْيانِ
فكنتَ أوّلَ مِصْرِيَّ أقامَ لهم
على نَبالَة مِصْرٍ ألْفَ بُرْهانِ
ما زِلْتَ تُلْقي على أسْماعِهِمُ حُجَجًا
في كلِّ نادٍ وتَأتيهِمْ بسُلطانِ
حتّى انثَنَيْتَ وما للعُرْبِ مُجْتَرِئٌ
على البِناءِ ولا زارٍ على الباني
مَحَوْتَ ما كَتَبوا عنَّا بقاطِعَةٍ
مِن البَراهينِ فَلَّتْ قولَ (رِينانِ)
أنْحَى على الأدَبِ الشَّرْقِيِّ مُفْتَرِيًا
عليهِ ما شاءَ مِنْ زُورٍ وبُهْتانِ
ظَنَّ الحقيقةَ في الأشْعارِ تَنْقُصُنا
واللَّفْظَ والقَصْدَ والتَّصْويرَ في آنِ
وأنّنا لم نَصِلْ فيها إلى مئةٍ
عدًّا وذاكَ لِعَيٍّ أو لنُقْصانِ
ولو رَأى (ابنَ جُرَيْحٍ) في قصائِدِه
لَقالَ آمَنْتُ في سِرِّي وإعْلاني
مالي أفاخِرُ بالمَوْتى وبَيْنَ يدي
مِنْ شِعْرِ أحيائنا ما ليسَ بالفاني
في شِعْرِ (شَوْقي) و(صَبْري) ما نَتِيهُ به
على نوابِغِهم دَعْ شِعْرَ (مُطْرانِ)
بُورِكْتَ يا بنَ الوَزيرِ الحُرِّ من رَجُلٍ
لم يَخْتَلِفْ فيه أو في فَضْلهِ اثنانِ
بَلِّغْ إذا جئتَ (باريزًا) أفاضِلَها
عنّا التّحيّاتِ واشفَعْها بشُكْرانِ
وخُصَّ كاتِبَهُمْ (زُولاَ) بأطْيَبِها
كَيْمَا يُقابَلُ إحْسانٌ بإحْسانِ
واجعَلْ لِسِفْرِكَ ذَيْلاً في شَواعِرِنا
وقِفْ لهنّ هُناكَ المَوْقِفَ الثاني
وانثُرْ على الغَرْبِ من تِلْكَ الحُلَى وأشِدْ
بكلِّ حُسّانَة فينا وحُسّانِ
وعُدْ إلى الشَّرْق عَوْدَ الفاتِحين له
وخُذْ مكانَكَ فيه فَوْق (كِيوانِ)
واشكرْ رعايَةَ عبّاسٍ ومِنّتَهُ
واشرَحْ وَلاءَكَ يا (غالي) (لعُثمانِ)
واضرَعْ إلى اللهِ أنْ يَرْعَى أريكَتَنا
مَرْفوعَةَ الشانِ ما مَرَّ الجَدِيدانِ

(٢٦) تهنئة المغفور له السلطان حسين كامل بالسلطنة (نشرت في أوّل يناير سنة ١٩١٥م)

هَنيئًا أيُّها المَلِكُ الأجَلُّ
لَكَ العَرْشُ الجديدُ وما يُظِلُّ
تَسَنَّمْ عَرْشَ (إسماعيلَ) رَحْبًا
فأنتَ لصَوْلَجانِ المُلْكِ أهْلُ
وحَسِّنْه بإحسانٍ وعَدْلٍ
فحِصْنُ المُلْكِ إحسانُ وعَدْلُ
وجَدِّدْ سيرَةَ العُمَرَيْنِ فينا
فإنَّك بَيْنَنا للهِ ظِلُّ
لقد عَزَّ السِّريرُ وتاهَ لمّا
تَبَوَّأهُ المَليكُ المُسْتَقِلُّ
وهَشَّ التاجُ حينَ عَلا جَبينًا
عليه مَهابةُ وعَلّيْه نُبْلُ
تَمَنَّى لو يَقَرَّ على أبيَّ
تَذِلُّ له الخُطوبُ ولا يَذِلُّ
وقد نالَ المَرامَ وطابَ نَفْسًا
فها هُوَ ذا بلابِسِه يُدِلُّ
وما كنتَ الغريبَ عن المَعالي
ولا التاجُ الّذي بكَ باتَ يَعْلو
وإنّكَ منذ كنتَ ولا أغالي
حُسامٌ للأريكَةِ لا يُفَلُّ
فكمْ نَهْنَهْتَ من غَرْبِ العوادي
وكمْ لَكَ في رُبوعِ النِّيلِ فَضْلُ
وما مِن مَجْمَعٍ للخَير إلاّ
ومِنْ كَفَّيْكَ سَحَّ عليه وَبْلُ
فقد عَرَفَ الفَقيرُ نَداكَ قِدْمًا
وقد عَرَف الكَبيرُ عُلاكَ قَبْلُ
لكَ العَرْشانِ: هذا عَرْشُ مِصْرٍ،
وهذا في القُلوبِ له مَحَلُّ
فألِّفْ ذاتَ بَيْنِهِما برَأيٍ
وعَزْمٍ لا يَكِلُّ ولا يَمَلُّ
فعَرْشٌ لا تَحُفُّ به قُلوبٌ
تَحُفُّ به الخُطوبُ ويَضمَحِلُّ
(أبا الفلاّحِ) كم لك من أيادٍ
على ما فيك من كَرَمٍ تَدُلُّ
وآلاءٍ وإنْ أطْنَبْتُ فيها
وفي أوْصافها فأنا المُقِلُّ
عُنِيتَ بحالَة الفلاّح حتّى
تَهَيَّبَ أنْ يَزورَ الأرضَ مَحْلُ
وكيفَ يَزورُ أرْضًا سِرْتَ فيها
وأنتَ الغَيْثُ لم يُمْسِكْه بُخْلُ
وكم أحْيَيْتَ من أرْضٍ مَواتٍ
فأضْحَتْ تُسْتَراد وتُسْتَغَلُّ
وأخْصَبَ أهْلُها من بَعْدِ جَدْبٍ
وفاض عليهمُ رَغَدُ ونَفْلُ
وكم أسْعَفْتَ في مِصْرٍ جريحًا
عليه الموتُ مِن كَثَبٍ يُطِلُّ
وكنتَ لكلِّ مِسْكينٍ وِقاءً
وأهْلاً حينَ لم تَنْفَعْه أهْلُ
وكنتَ فتىً بعَهْدِ أبيكَ نَدْبًا
له رأيٌ يُسَدِّده وفِعْلُ
لكلِّ عظيمةٍ تُدْعى فتُبْلي
بَلاءَ مُجَرِّبٍ يَحْدُوهُ عَقْلُ
تَوَلَّيْتَ الأمورَ فتىً وكَهْلاً
فلم يَبْلُغ مَداكَ فتىً وكَهْلُ
وجَرَّبْتَ الحَوادِثَ منْ قديمٍ
ومِثْلُكَ مَنْ يَجَرِّبُها ويَبْلُو
وكنتَ لمَجْلِس الشُّورى حياةً
ونِبْراسًا إذا ما القومُ ضَلُّوا
فلمْ يُلْمِمْ بساحَتِه جَحُودٌ
ولم يَجْلِس به عُضْوٌ أشَلُّ
وما غادَرْتَه حتّى أفاقُوا
ومِن أمْراضِ عَيْشِهِمُ أبَلُّوا
فعِشْ للنِّيلِ سُلْطانًا أبِيًّا
له في مُلْكِهِ عَقْدٌ وحَلُّ
ووالِ القَوْمَ إنّهُمُ كِرامٌ
مَيامينُ النَّقيبةِ أيْنَ حَلُّوا
لهم مُلْكٌ على التّامِيزِ أضْحَتْ
ذُراهُ على المَعالي تَسْتَهِلُّ
وليس كقَوْمِهِمْ في الغَرْبِ قَوْمٌ
مِنَ الأخْلاق قد نَهِلُوا وعَلُّوا
فإنْ صادَقْتَهُمْ صَدَقوك وُدَّا
وليس لهم إذا فَتَّشْتَ مِثْلُ
وإنْ شاوَرْتَهُمْ والأمْرُ جِدٌّ
ظَفِرْتَ لهم برأيٍ لا يَزِلُّ
وإنْ نادَيْتَهُمْ لبّاكَ مِنْهُمْ
أساطيلٌ وأسْيافٌ تُسَلُّ
فمادِدْهُمْ حِبالَ الوُدِّ وانهضْ
بنا فقِيادُنا للخَيْرِ سَهْلُ
وخَفِّفْ من مُصابِ الشَّرقِ فينا
فنحنُ على رِجالِ الغَرْبِ ثِقْلُ
إذا نَزَلَتْ هُناكَ بهم خُطوبٌ
ألَمَّ بنا هُنا قَلَقٌ وشُغْلُ
حَيارَى لا يَقِرُّ لنا قَرارٌ
تُنازِلُنا الخُطوبُ ونحنُ عُزْلُ
فأهْلاً بالدَّليلِ إلى المَعالي
ألا سِرْ يا (حُسَيْنُ) ونحن نَتْلُو
وأسْعِدْنا بعَهْدِكَ خَيْرَ عَهْدٍ
به أيَّامُنا تَصْفو وتَحْلُو
فأمرُكَ طاعَةٌ ورِضاكَ غُنْمٌ
وسَيْفُكَ قاطِعٌ ونَداكَ جَزْلُ

(٢٧) إلى الطبيبة (لونا) (نشرت في ١٥ فبراير سنة ١٩١٦م)

قال هذين البيتين فيها بمناسبة طفلة رُزِقها صديقُه محمّد بك بدر وكانت (لونا) هي المولّدة

(لِلُونا) شُهْرَةٌ في الطِّبِّ تاهَتْ
بها مِصْرٌ وتاهَ بها مَديحي
ومن عَجَبٍ تَدينُ بدينِ (مُوسى)
وتَأتينَا بمُعْجِزَةِ (المَسيحِ)

(٢٨) ذكرى شكسبير (نشرت في ١ مارس سنة ١٩١٦م)

قالها تلبية لدعوة المجمع العلميّ بإنجلترا الذي أقام احتفالاً بذكرى شكسبير لمرور ثلثمائة عام على وفاته

يُحَيِّيكَ مِنْ أرْضِ الكِنانَةِ شاعِرٌ
شَغُوفٌ بقَوْلِ العَبْقَريِّين مُغْرَمُ
ويُطْرِبُه في يَوْمِ ذِكْراكَ أنْ مَشَتْ
وفي كلِّ عَصْرٍ ثم أنْشأتَ تَحْكُمُ
فلم تُخْطئ المَرْمَى ولا غَرْوَ أنْ دَنَتْ
لكَ الغايَةُ القُصْوَى فإنّك مُلْهَمُ
أفِقْ ساعةً وانظُرْ إلى الخَلْقِ نَظرَةً
تَجِدْهُم — وإنْ راقَ الطِّلاءُ — هُمُ هُمُ
على ظَهْرِها من شَرِّ أطْماعِهِمْ دَمٌ
وفَوْقَ عُبابِ البَحْرِ مِنْ صُنْعِهِمْ دَمُ
تَفانَوْا على دُنْيا تَغْرُّ وباطلٍ
يَزُولُ إلى أنْ ضَجَّتِ الأرضُ مِنْهُمُ
فلَيْتَكَ تَحْيَا يا أبا الشِّعْرِ ساعةً
لتَنْظرَ ما يُصْمِي ويُدْمي ويُؤلمُ
وقائِعَ حَرْب أجَّجَ العِلْمُ نارَها
فكادَ بها عَهْدُ الحَضارةِ يُخْتَمُ
وتَعْلم أنّ الطَّبْعَ لا زال غالِبًا
سَواء جَهُول القَوْمِ والمُتَعَلِّم
فما بَلَغَت منه الحَضارة مأْرَبًا
ولا نال منه العِلْمُ ما كان يَزْعُمُ
أهَبْتَ بهذا من قُرونٍ ثلاثةٍ
وكُنْتَ على تلك الطَّبائِع تَنْقِمُ
وما هَدَم التَّجْريبُ رأْيًا بَنَيْتَه
ولا زالت الآراءُ تُبْنَى وتُهْدَمُ
ألا أنّ ذِكْرى شٍكْسبيرَ بَدَتْ لنا
بَشيرَ سلامٍ ثَغْرُهُ يَتَبَسَّمُ
فلو أنْصفوا أبطالَهُمْ لتهادَنُوا
قليلاً وحَيَّوْا شِعْرَه وتَرَنَّمُوا
ولم يُطْلِقوا في يَوْمِ ذِكراهُ مِدْفَعًا
ولم يُزْهِقُوا نَفْسًا ولم يَتَقَحَّموا
له قَلَمٌ ماضِي الشَّباةِ كأنّما
أقامَ بشِقَّيْه القَضاءُ المُحَتَّمُ
طَهُورٌ إذا ما دُنِّسَتْ كفُّ كاتبٍ
وَثُوبٌ إذا ما قرَّ في الطِّرس مِرْقَمُ
وَلُوعٌ بتَصْويرِ الطِّباعِ فلم يَجُزْ
بعاطِفَةٍ إلاّ حَسِبْناه يَرْسُمُ
أرانِيَ في (ماكْبِيثَ) للحِقْدِ صورَةً
تَكادُ بها أحْشاؤُه تَتَضَرَّمُ
ومَثَّلَ في (شَيْلُوكَ) للبُخْل سِجْنَةً
عليها غُبارُ الهُونِ والوَجْهُ أقْنَمُ
وأقْعَدَني عن وَصْفِ (هَمْليتَ) حُسْنُها
وفي مِثْلها تَعْيَا اليَراعةُ والفَمُ
دَعِ السِّحْرَ في (رُمْيُو) و(جُوليتَ) إنّما
يُحسُّ بما فيها الأديبُ المُتَيَّمُ
أتاهُمْ بشِعْرٍ عَبْقَريٍّ كأنّه
سُطورٌ مِنَ الإنجيلِ تُتْلى وتُكْرَمُ
نَديٍّ على الأيّامِ يَزْدادُ نَضْرةً
ويَزْدادُ فيها جِدَّةً وهْو يَقْدُمُ
يُؤَتيِّ إلى قُرّائه أنَّ نَسْجَه
ليَوْمٍ وأنَّ الحائِك اليومَ فيهمُ
تكِلْكَ النُّقوشِ الزّاهياتِ بمَعْبَدٍ
لِفرْعَوْنَ لا زالت على الدَّهْرِ تَسْلَمُ
فلم يَدْنُ مِنْ إحْسانِه مُتَأخِّرُ
ولم يَجْرِ في مَيْدانِه مُتَقدِّمُ
أطَلَّ عَلَيهمْ مِنْ سماءِ خَيالِه
وحَلَّق حَيْثُ الوَهْمُ لا يَتَجَشَّمُ
وجاءَ بما فَوْقَ الطَّبيعةِ وَقْعُه
فأكْبَرَ قَوْمٌ ما أتاهُ وأعْظَمُوا
وقالوا تَحَدّانا بما يُعْجِزُ النُّهى
فلَسْنا إذَنْ آثارَه نَتَرَسَّمُ
ولم يَتَحَدَّ الناسَ لكنَّه امرُؤُ
بما كانَ في مَقْدورِه يَتَكَلَّم
لقد جَهِلوه حِقْبةً ثمّ ردَّهُمْ
إليه الهُدى فاستغْفَروا وتَرَحَّموا
كذاكَ رِجالُ الشَّرْقِ لو يُنْصِفونَهُمْ
لقامَ لهم في الشَّرْقِ والغَرْبِ مَوْسِمُ
أضاءَ بهمْ بَطْنُ الثَّرى بعْدَ مَوْتِهِمْ
وأعْقابُهُمْ عنْ نورِ آياتِهم عَمُوا
فقُلْ لبَني التّاميزِ والجَمْعُ حافِلٌ
به يُنْثَرُ الدُّرُّ الثَّمينُ ويُنْظَمُ
لئن كان في ضَخْمِ الأساطيل فَخْرُكُمْ
لَفَخْرُكُمُ بالشاعر الفَرْدِ أعْظَمُ

(٢٩) إلى عظمة السلطان حسين كامل (نشرت في ٦ مايو سنة ١٩١٦م)

ألقاها بين يديه أثناء زيارته لمدينة طنطا في السرادق الذي أقيم له هناك

في ساحة (البَدَويِّ) حَلَّتْ ساحَةٌ
عِزُّ البِلادِ بعِزِّها مُوْصولُ
وأتى (الحُسَيْنُ) يَزورُ قُطْبَ زَمانِه
يَرْعى ويَحْرُسُ رَكْبَهُ (جِبْريلُ)
زادَتْ مَواسِمُنا (بطَنْطا) مَوْسِمًا
لمَليكه التَّقْديسُ والتَّبْجيلُ
بالساحَتَيْنِ لكلِّ راجٍ مَوْئِلُ
ولكلِّ عافٍ مَرْبَعٌ ومَقِيلُ
قُلْ للفَقير إذا سألْتَ فلا تَخَفْ
ردًّا فما في السّاحَتَيْن بَخيلُ
بَرَكاتُ هذي لا يَغيضُ مَعينُها
نَفَحاتُ تِلكَ كثيرُها مَأمُولُ
قد أخْصَبَ الإقليمُ حينَ حَلَلْتَه
والغَيْث لا يَبْقَى عليه مُحُولُ
وبدا يَموجُ بساكِنيه وعِطْفُه
قد كادَ من طَرَبِ اللِّقاء يَميلُ
ذَكَروا بمَقْدَمِكَ المُبارَكِ مَوْقِفًا
قد قامَ فيه أبوكَ (إسْماعيلُ)
في مِثْل هذا اليومِ خَلَّدَ ذِكْرَه
أثَرٌ له بيْنَ العِبادِ جَليلُ
نَثَر السُّعودَ على الوُفُودِ وحَوْلَه
يَتَجاوَبُ التَّكبيرُ والتَّهْليلُ
دامَتْ مآثِرُه ومَنْ يَكُ صُنْعُه
كأبيكَ إسماعيلَ كَيْفَ يَزولُ؟
فاهْنَأ بُملْكِكَ يا (حُسَيْنُ) فعهْدُه
عهْدٌ بتحقيق الرَّجاءِ كَفيلُ
وانهَضْ بشَعْبِكَ في الشُّعوبِ فإنّما
لكَ بَعْدَ ربِّكَ أمْرُهُ مَوْكُولُ
وليَهْنئِ البَدَويَّ أنّ صديقَه
عَنْ وُدِّه المَعْهُودِ ليس يَحُولُ
قد جاءَه يَسْعى إليه وحَوْلَه
أعْلى وأكْرَمُ مَنْ سَقاهُ النِّيلُ

(٣٠) عمر بن الخطَّاب

أنشدها في الحفل الذي أُقيم لسماع هذه القصيدة بمدرج وزارة المعارف بدرب الجماميز مساء الجمعة ٨ فبراير سنة ١٩١٨م

حَسْبُ القَوافي وحَسْبي حين أُلْقيها
أنِّي إلى ساحَةِ (الفارُوقِ) أُهْديها
لا هُمَّ، هَبْ لي بَيانًا أسْتَعينُ به
على قَضاءِ حُقوقٍ نامَ قاضيها
قد نازَعَتْني نَفسي أنْ أوَفِّيَها
وليسَ في طَوْقِ مِثلي أنْ يُوَفِّيها
فمُرْ سَرِيَّ المَعاني أنْ يُواتيني
فيها فإنِّي ضعيفُ الحالِ واهيها

مقتل عمر

مَوْلَى المُغِيرَةِ، لا جادَتْكَ غادِيَةٌ
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ما جادَتْ غَواديها
مَزَّقْتَ منه أديمًا حَشْوُه هِمَمُ
في ذِمّة اللهِ عاليها وماضِيها
طَعَنْتَ خاصِرَةَ (الفارُوقِ) مُنتْقِمًا
مِن الحَنيفَةِ في أعْلى مَجاليها
فأصْبَحَتْ دَوْلَةُ الإسلامِ حائِرةً
تَشكو الوَجيعةَ لمّا ماتَ آسيها
مَضَى وخَلَّفَها كالطَّوْدِ راسِخَةً
وزَانَ بالعَدْلِ والتٌَّقْوى مَغانيها
تَنْبو المَعاوِلُ عنها وهي قائِمةُ
والهادِمُونَ كثيرٌ في نَواحيها
حتّى إذا ما تَولاّها مُهَدِّمُها
صاحَ الزَّوالُ بها فاندَكَّ عاليها
واهًأ على دَوْلَةٍ بالأمْسِ قد مَلأتْ
جوانِبَ الشَّرْقِ رَغْدًا من أياديها
كم ظَللَّتْها وحاطَتْها بأجْنِحةٍ
عنْ أعْيُنِ الدَّهْرِ قد كانت تُواريها
مِنَ العِناية قد رِيشَتْ قَوادِمُها
ومِنْ صَميم التُّقى رِيشَتْ خَوافيها
واللهِ ما غالَها قِدْمًا وكادَ لها
واجتَثَّ دَوْحَتَها إلاَّ مَواليها
لو أنّها في صميم العُرْب قد بَقِيَتْ
لما نَعاها على الأيامِ ناعِيها
يا لَيْتَهُمْ سَمِعوا ما قاله (عُمَرُ)
والرُّوحُ قد بَلَغَتْ منه تَراقيها:
لا تُكْثِروا من مَواليكُمْ فإنّ لهمْ
مَطامِعًا بَسَمَاتُ الضَّعْفِ تُخْفيها

إسلام عمر

رأيتَ في الدِّين آراءً مُوَفَّقةً
فأنزَلَ اللهُ قرآنًا يُزَكِّيها
وكنتَ أوّلَ مَنْ قَرَّتْ بصُحْبَتِه
عَيْنُ الحَنيفَةِ واجتازَتْ أمانيها
قد كنتَ أعْدَى أعاديها فصِرْتَ لها
بنِعْمَةِ اللهِ حِصنًا من أعاديها
خَرَجْتَ تَبْغي أذاها في (محمَّدِها)
ولِلحَنيفَةِ جَبّارٌ يُوالِيها
فلم تَكَدْ تَسْمَعُ الآياتِ بالِغةً
حتّى انكفَأْتَ تُناوي مَنْ يُناويها
سَمِعْتَ (سُورَةَ طه) مِنْ مُرَتِّلِها
فَزَلْزَلَتْ نِيَّةً قد كنتَ تَنْويها
وقُلْتَ فيها مَقالاً لا يُطاوِلُه
قَوْلُ المُحِبِّ الّذي قد بات يُطْريها
ويوم أسْلَمْتَ عَزَّ الحَقُّ وارتَفَعَتْ
عن كاهِلِ الدِّينِ أثْقالُ يُعانيها
وصاحَ فيه (بِلالٌ) صَيْحَةً خَشَعَتْ
لها القُلوبُ ولَبَّتْ أمْرَ باريها
فأنتَ في زَمَن (المُخْتارِ) مُنْجِدُها
وأنتَ في زَمَنِ (الصِّدِّيقِ) مُنْجِيها
كم استَراكَ رَسولُ اللهِ مُغْتَبِطًا
بحِكْمَةٍ لَكَ عند الرَّأْي يُلْفيها

عمر وبيعة أبي بكر

ومَوْقِفٍ لك بعْدَ (المُصْطَفى) افتَرَقَتْ
فيه الصَّحابةُ لمّا غابَ هاديها
بايَعْتَ فيه (أبا بَكْرٍ) فبايَعَهُ
على الخِلافَةِ قاصيها ودانيها
وأُطْفِئَتْ فِتْنَةٌ لولاكَ لاستَعَرَتْ
بين القبائل وانسابَتْ أفاعيها
باتَ النبيُّ مُسَجًّى في حَظيرته
وأنتَ مُسْتَعِرُ الأحشاءِ داميها
تَهيمُ بين عَجيجِ الناسِ في دَهَشٍ
مِنْ نَبْأةٍ قد سَرَى في الأرضِ سارِيها
تَصيحُ: مَنْ قال نَفْسُ المصطفى قُبِضَتْ
عَلَوْتُ هامَتَه بالسَّيفِ أبْريها
أنْساكَ حُبُّكَ طَه أنّه بَشَرٌ
يُجْري عليه شُئونَ الكَوْنِ مُجْريها
وأنّه وارِدٌ لا بدّ مَوْرِدَه
مِنَ المَنِيَّةِ لا يُعْفيه ساقِيها
نَسيتَ في حَقِّ طَه آيةً نَزَلَتْ
وقد يُذَكَّرُ بالآياتِ ناسِيها
ذَهِلْتَ يومًا فكانت فِتْنَةٌ عَمَمُ
وثابَ رُشْدُكَ فانجابَتْ دَياجِيها
فلِلسَّقيفةِ يومٌ أنتَ صاحِبُه
فيه الخِلافةُ قد شِيدَتْ أواسيها
مَدَّتْ لها (الأوْسُ) كَفًّا كَيْ تَناوَلها
فَمدَّت (الخَزْرَجُ) الأيْدي تُباريها
وظَنَّ كلُّ فريقٍ أنّ صاحِبَهُمْ
أوْلى بها وأتَى الشَّحْنَاءَ آتِيها
حتّى انبَرَيْتَ لهم فارتدّ طامِعُهُمْ
عنها وأخَّى (أبو بكْرٍ) أواخِيها

عُمَر وعليّ

وقَوْلَةٍ (لعليٍّ) قالها (عُمَرُ)
أكْرِمْ بسامِعِها أعْظِمْ بمُلْقِيها!
حَرَقْتُ دارَكَ لا أُبْقي عليكَ بها
إنْ لم تُبايِعْ وبِنْتُ المصطفى فيها
ما كان غيرُ (أبي حَفْصٍ) يَفُوهُ بها
أمامَ فارِسِ (عَدْنانٍ) وحاميها
كلاهُمَا في سبيل الحَقِّ عَزْمَتُه
لا تَنْثَني أو يكونَ الحقُّ ثانيها
فاذْكُرْهُما وتَرحَّمْ كُلَّما ذَكّروا
أعاظِمًا أُلِّهُوا في الكَوْنِ تَأليها

عمر وجَبلة بن الأيهم

كَمْ خِفْتَ في اللهِ مَضْعوفًا دعاكَ به
وكَمْ أخَفْتَ قويًّا يَنْثني تِيها
وفي حديثِ فتى غَسّانَ مَوْعِظَةٌ
لكلِّ ذي نَعْرَةٍ يَأبَى تَناسِيها
فما القَويُّ قَوِيًّا رَغْمَ عِزَّته
عند الخُصومَةِ (والفارُوقُ) قاضيها
وما الضّعيفُ ضعيفًا بعد حُجَّته
وإنْ تخاصَمَ وَالِيها ورَاعِيها

عمر وأبو سفيان

وما أقَلْتَ (أبا سُفيانَ) حين طَوَى
عنكَ الهَدِيّةَ مُعْتَزًّا بمُهْديها
لم يُغْنِ عنه وقد حاسَبْتَه حَسَبٌ
ولا (مُعاوِيةٌ) بالشامِ يَجْبِيها
قَيَّدْتَ منه جَليلاً شاب مَفْرِقُه
في عِزّةٍ ليس من عِزٍّ يُدانِيها
قد نَوَّهُوا باسمِه في جاهِليّته
وزادَه سيِّدُ الكَوْنَيْنِ تَنْوِيها
في فَتْحِ مَكّة كانت دارُه حَرَمًا
قد أمَّنَ اللهُ بعدَ البيتِ غاشِيها
وكلُّ ذلك لم يَشْفَعْ لدى (عُمَرٍ)
في هَفْوَةٍ (لأبي سُفْيانَ) يأْتيها
تاللهِ لو فَعَل (الخَطّابُ) فَعْلَتُه
لمَا تَرَخَّصَ فيها أو يُجازيها
فلا الحَسابَةُ في حَقٍّ يُجامِلُها
ولا القَرابةُ في بُطْلٍ يُجابيها
وتِلْك قَوّةُ نَفْسٍ لو أرادَ بها
شُمَّ الجبالِ لمَا قَرّتْ رَواسِيها

عُمر وخالد بن الوليد

سَلْ قاهِرَ الفُرْسِ والرُّومانِ هل شَفَعَتْ
له الفُتوحُ وهل أغْنَى تَواليها
غَزَى فأبْلى وخَيْلُ اللهِ قد عُقِدتْ
باليُمْنِ والنَّصْرِ والبُشْرَى نَواصِيها
يَرمي الأعادي بآراءٍ مُسدَّدَةٍ
وبالفَوارِسِ قد سالَتْ مَذاكيها
ما واقَعَ الرُّومَ إلاّ فَرَّ قارِحُها
ولا رَمَى الفُرْسَ إلاّ طاشَ رامِيها
ولم يَجُزْ بَلْدَةً إلاّ سَمِعْتَ بها
«اللهُ أكبرُ» تَدْوي في نَواحيها
عِشْرونَ مَوْقِعَةً مَرّتْ مُحَجَّلَةً
مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ بَنانُ الفَتْحِ تُحْصيها
و(خالِدٌ) في سبيل الله مُوقِدُها
و(خالِدٌ) في سبيل اللهِ صالِيها
أتاهُ أمْرُ (أبي حَفْصِ) فَقبَّلَه
كما يُقَبِّلُ آيَ اللهِ تالِيها
واستَقْبَلَ العَزْلَ في إبّانِ سَطْوَته
ومَجْدِه مُسْتَريحَ النَّفْسِ هاديها
فاعْجَبْ لسّيِّدِ مَخْزومٍ وفارِسِها
يومَ النِّزال إذا نادَى مُنادِيها
يَقُودُه حَبَشِيُّ في عِمامَتِه
ولا تُحرِّكُ مَخْزومٌ عَواليها
ألْقَى القيادَ إلى الجَرّاحِ مُمْتَثِلاً
وعِزّةُ النَّفْسِ لم تُجْرَحْ حَواشيها
وانضَمَّ للجُنْد يَمشي تحتَ رايَتِه
وبالحياةِ إذا مالَتْ يُفَدِّيها
وما عَرَتْه شُكوكٌ في خَليفَتِه
ولا ارتَضَى إمْرَةَ الجَرّاحِ تَمْويها
(فخالِدٌ) كان يَدْري أنّ صاحِبَه
قد وَجَّه النَّفْسَ نحو اللهِ تَوْجيها
فما يُعالِجُ مِنْ قَوْلٍ ولا عَمَلٍ
إلاّ أرادَ به للنّاسِ تَرْفيها
لِذاكَ أوْصَى بأوْلادٍ له (عُمَرًا)
لمّا دَعاهُ إلى الفِرْدَوْسِ داعِيها
وما نَهَى (عُمَرٌ) في يومِ مَصْرَعِه
نساء مَخْزومَ أنْ تَبكي بَواكِيها
وقيل: خالَفْتَ يا (فاروقُ) صاحِبنَا
فيه وقد كان أعْطَى القَوْسَ باريها
فقال: خِفْتُ افِتتانَ المُسِلِمين به
وفِتْنَةُ النَّفْسِ أعْيَتْ مَنْ يُداويها
هَبوه أخْطَأَ في تَأْويلِ مَقْصِدِه
وأنّها سَقْطَةُ في عَيْنِ ناعِيها
فَلنْ تَعيبَ حَصيفَ الرأي زَلّتُه
حتّى يَعيبَ سُيوفَ الهِنْدِ نابيها
تاللهِ لم يَتَّبِعْ في (ابنِ الوَليدِ) هَوًى
ولا شَفَى غُلَّةً في الصَّدْرِ يَطويها
لكنّه قد رأى رَأْيًا فأتْبعَه
عَزيمةً منه لم تُثْلَمْ مَواضيها
لَمْ يَرْعَ في طاعَةِ المَولَى خُؤُولَتَه
ولا رَعَى غيرَها فيما يُنافيها
وما أصابَ ابنُه والسَّوْطُ يَأخُذُه
لَدَيْه مِنْ رَأفَةٍ في الحَدِّ يُبْديها
إنّ الّذي بَرَأ (الفارُوقَ) نَزَّهَه
عن النَّقائِصِ والأغْراضِ تَنْزيها
فذاكَ خُلْقٌ مِنْ الفِرْدَوْسِ طِينَتُه
اللهُ أوْدَعَ فيها ما يُنَقِّيها
لا الكِبْرُ يَسْكُنُها، لا الظَّلْمُ يَصْحَبُها
لا الحِقْدُ يَعْرِفُها، لا الحِرْصُ يُغْويها

عُمَر وعَمْرو بن العاص

شاطَرْتَ داهِيَةَ السُّوّاس ثَرْوَتَه
ولَمْ تَخَفْه بمِصْرٍ وهْوَ واليها
وأنتَ تَعْرِفُ (عَمْرًا) في حَواضِرِها
ولستَ تَجْهَلُ (عَمْرًا) في بَواديها
لم تُنْبِت الأرضُ كابن العاصِ داهِيَةً
يَرْمي الخُطوبَ برأيٍ ليسَ يُخْطيها
فلَمْ يُرِغ حِيلةً فيما أمَرْتَ به
وقامَ (عَمْرُو) إلى الأجْمالِ يُزْجيها
ولْم تُقِلْ عامِلاً منها وقد كَثُرَتْ
أمْوالُه وفَشَا في الأرْضِ فاشيها

عمر وولده عبد الله

وما وَقَى ابنُكَ (عَبدُ اللهِ) أيْنُقَه
لمّا اطَّلَعْتَ عليها في مَراعيها
رأيْتَها في حِماهُ وهي سارِحةٌ
مِثلَ القُصور قد اهتَزَّت أعاليها
فقلتَ: ما كان (عبدُ اللهِ) يُشْبِعُها
لو لم يَكُنْ وَلَدِي أو كان يُرْويها
قد استعانَ بجاهي في تِجارَته
وباتَ باسمِ (أبي حَفْصٍ) يُنَمِّيها
رُدّوا النِّيَاقَ لَبيْتِ المالِ إنّ له
حَقَّ الزِّيادةِ فيها قَبْل شاريها
وهذه خُطّةٌ للهِ واضِعُها
رَدَّتْ حُقوقًا فأغْنَتْ مُسْتَميحِيها
ما الاشتراكيّةُ المَنْشُودُ جانِبُها
بينَ الوَرَى غيرْ مَبْنى من مَبانيها
فإنْ نكنْ نَحْنُ أهْليها ومَنْبِتَها
فإنّهمْ عَرَفوها قبلَ أهْليها

عمر ونصر بن حجاج

جَنَى الجَمالُ على (نَصْرٍ) فغرَّبَه
عنِ المدينةِ تَبْكيه ويَبْكِيها
وكَمْ رَمَتْ قَسِماتُ الحُسْنِ صاحِبَها
وأتْعَبَتْ قَصَباتُ السَّبْقِ حاوِيها
وزَهْرَةُ الرَّوْضِ لولا حُسْنُ رَوْنَقِها
لما استطالَتْ عليها كفُّ جانِيها
كانت له لِمَّةٌ فَيْنانَةٌ عَجَبُ
على جَبينٍ خليق أنْ يُحَلِّيها
وكان أنَّى مَشى مالَتْ عَقائِلُها
شَوْقًا إليه وكاد الحُسْنُ يَسْبيها
هَتَفْنَ تحتَ اللَّيالي باسمِه شَغَفًا
ولِلْحِسان تَمَنٍّ في لَياليها
جَزَرْتَ لمَّتَه لمّا أتَيْتَ به
ففاقَ عاطِلُها في الحُسْنِ حاليها
فَصِحْتَ فيه تَحَوَّلْ عن مَدينَتِهمْ
فإنّها فِتْنَةٌ أخْشى تَماديها
وفِتْنةُ الحُسْنِ إنّ هَبَّتْ نَوافِحُها
كفِتْنَةِ الحَرْبِ إنْ هَبَّتْ سَوافيها

عُمَر ورسول كسرى

وراعَ صاحِبَ (كِسْرى) أنْ رأى عُمَرًا
بينَ الرَّعِيّةِ عُطْلاً وهو راعِيها
وعَهْدُه بمُلوكِ الفُرْسِ أنّ لها
سورًا من الجُنْدِ والأحراسِ يَحميها
رآه مُسْتَغْرِقًا في نَوْمِه فرأى
فيه الجَلالةَ في أسْمى مَعانيها
فوقَ الثَّرى تحتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلاً
ببُرْدَةٍ كادَ طُولُ العَهْدِ يُبْليها
فهانَ في عَيْنِه ما كان يُكْبِرُه
مِنَ الأكاسِرِ والدّنيا بأيْديها
وقال قَوْلَةَ حَقٍّ أصْبَحَتْ مَثَلاً
وأصْبَحَ الجيلُ بَعْدَ الجيل يَرْويها:
أمِنْتَ لمّا أقَمْتَ العَدْلَ بَينَهُمُ
فنِمْتَ نَوْمَ قريرِ العَيْنِ هانيها

عُمَر والشورى

يا رافِعًا رايةَ الشُّورى وحارِسَها
جَزاكَ رَبُّكَ خَيْرًا عن مُحِبِّيها
لم يُلْهِكَ النَّزْعُ عن تأييدٍ دَوْلَتِها
وللمَنِيّةِ آلامٌ تُعانيها
لم أنْسَ أمْرَكَ للمِقْدادِ يَحْمِلُه
إلى الجَماعةِ إنذارًا وتَنْبيها
إنْ ظَلَّ بَعْدَ ثَلاثٍ رأْيُها شُعَبًا
فجَرِّدِ السَّيْفَ واضرِبْ في هَواديها
فاعجَبْ لقوّةِ نَفْسٍ ليس يَصْرِفُها
طَعْمُ المَنِيّةِ مُرًّا عن مَراميها
دَرَى عيِدُ بَني الشُّورى بمَوْضِعها
فعاشَ ما عاشَ يَبْنيها ويُعْليها
رأيُ الجماعِة لا تَشْقى البِلادُ به
رَغْمَ الخِلافِ ورأيُ الفَرْدِ يُشْقيها

مِثالُ من زُهدِه

يا مَنْ صَدَفْتَ عن الدُّنيا وزِينَتها
فلم يَغُرَّكَ من دُنياكَ مُغْريها
ماذا رأيتَ بباب الشامِ حين رَأْوا
أنْ يُلْبِسُوكَ من الأثْوابِ زاهِيها
ويُرْكِبُوكَ على البِرْذَوْنِ تَقْدُمُه
خَيْلٌ مُطَهَّمَةٌ تَحْلُو مَرائيها
مَشى فَهَمْلَجَ مُختالاً براكبِه
وفي البَراذينِ ما تُزْهى بِعَاليها
فصِحْتَ: يا قومُ، كادَ الزَّهْوُ يَقْتُلُني
وداخَلَتْني حالٌ لستُ أدْريها
وكاد يَصْبو إلى دُنْياكُمُ (عُمَرُ)
ويَرْتَضي بيْعَ باقيهِ بفانِيها
رُدُّوا رِكابي فلا أبْغي به بَدَلاً
رُدُّوا ثِيابي فَحَسْبي اليومَ بالِيها

مِثالٌ مِن رَحْمَته

ومَنْ رآهُ أمامَ القِدْرِ مُنْبَطِحًا
والنارُ تَأْخُذُ منه وهْوَ يُذْكيها
وقد تَخلَّل في أثْناء لِحْيَتِهِ
منها الدُّخانُ وفُوهُ غابَ في فيها
رأى هُناكَ أميرَ المُؤْمنينَ على
حالٍ تَرُوعُ — لَعَمْرُ اللهِ — رائيها
يَسْتَقْبلُ النارَ خَوْفَ النارِ في غَدِهِ
والعَيْنُ مِنْ خَشْيَةٍ سالَتْ مَآقِيها

مِثالُ من تَقَشُّفِه ووَرَعِه

إنْ جاعَ في شِدَّةٍ قَوْمٌ شَرِكْتَهُمُ
في الجُوعِ أو تَنجلي عنهم غَواشيها
جُوعُ الخَليفةِ — والدُّنيا بقَبْضَتِه —
في الزُّهْد مَنْزِلَةٌ سُبْحانَ مُوليها
فمَنْ يُباري (أبا حَفْصٍ) وسيرَتَه
أوْ مَنْ يُحاوِلُ (للفارُوقِ) تَشْبِيها
يومَ اشتَهَتْ زَوْجُه الحَلْوى فقالَ لها:
مِنْ أيْنَ لي ثَمَنُ الحَلْوى فأشْرِيها
لا تَمْتَطي شَهَواتِ النَّفْسِ جامِحَةً
فكِسْرَةُ الخُبْز عَنْ حَلْواكِ تَجْزيها
وهَلْ يَفي بَيْتُ مالِ المُسْلِمين بما
تُوحِي إليكِ إذا طاوَعْتِ مُوحِيها
قالت: لَكَ اللهُ إنِّي لَسْتُ أرْزَؤُهُ
مالاً لحاجَةِ نَفْسٍ كنتُ أبْغيها
لكِنْ أجَنِّبُ شيْئًا من وَظِيفَتِنا
في كلِّ يَوْمٍ على حالٍ أسَوِّيها
حتّى إذا ما مَلَكْنا ما يُكافئُها
شَرَيْتُها ثُمّ إنِّي لا أثنِّيها
قال: اذهبي واعلَمي إنْ كنتِ جاهَلةً
أنَّ القناعةَ تُغْني نَفْسَ كاسِيها
وأقْبَلَتْ بَعْد خَمْسٍ وهي حامِلَةٌ
دُرَيْهِماتٍ لتَقْضي مِنْ تَشَهِّيها
فقال: نَبَّهْتِ مِنِّي غافِلاً فَدعِي
هذي الدَّراهمَ إذ لا حَقَّ لي فيها
وَيْلي على عُمَرٍ يَرضَى بمُوفِيَةٍ
على الكَفافِ ويَنْهَى مُسْتَزيديها
ما زاد عَنْ قُوتنا فالمُسْلِمُونَ به
أوْلى فقُومي لبَيْتِ المالِ رُدِّيها
كذاكَ أخْلاقُه كانت وما عُهِدَتْ
بعد النُّبُوّةِ أخْلاقُ تُحاكيها

مِثالٌ من هَيْبَته

في الجاهليّة والإسلامِ هَيْبَتُه
تَثْني الخُطوبَ فلا تَعْدُو عَواديها
في طَيِّ شِدَّته أسْرارُ مَرْحَمَةٍ
للعالَمين ولكنْ ليسَ يُفْشيها
وبيْنَ جَنْبَيْه في أوْفَى صَرامَته
فُؤادُ والدةٍ تَرْعَى ذَراريها
أغْنَتْ عن الصَّارِمِ المَصْقولِ دِرّتُه
فكمْ أخَافَتْ غَويَّ النَّفْسِ عاتِيها
كانت له كعَصَا (موسى) لصاحِبِها
لا يَنْزِلُ البُطْلُ مُجتازًا بِواديها
أخافَ حتَّى الذَّراري في مَلاعِبِها
وراعَ حتّى الغَواني في مَلاهيها
أرَيْتَ تِلْكَ الّتي للهِ قد نَذَرَتْ
أنْشودةً لرَسولِ اللهِ تُهْدِيها
قالتْ: نَذَرْتُ لئن عادَ النَّبيُّ لنا
من غَزْوَةٍ لَعَلَى دُفِّي أغْنِّيها
ويَمَّمَتْ حَضْرَةَ الهادي وقد مَلأتْ
أنْوارُ طَلْعَتِه أرْجاءَ نادِيها
واستأذَنَتْ ومَشَتْ بالدُّفِّ واندَفَعَتْ
تُشْجي بألحانها ما شاءَ مُشْجِيها
(والمصطفى) (وأبو بَكْرٍ) بجانِبه
لا يُنكِرانِ عَليها مِنْ أغانيها
حتى إذا لاحَ مِنْ بُعْدٍ لها (عُمَر)
خارَتْ قُواها وكادَ الخَوْفُ يُرْدِيها
وخَبَّأتْ دُفَّها في ثَوْبِها فَرَقًا
مِنْهُ وَوَدَّتْ لو انّ الأرْضَ تَطْويها
قد كانَ حِلْمُ رسولِ اللهِ يُؤْنِسُها
فجاءَ بَطْشُ (أبي حَفْص) يُخَشِّيها
فقالَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ مُبْتَسِمًا
وفي ابتِسامَتِه مَعْنًى يُواسيها
قد فَرَّ شَيْطانُها، لمّا رأى عُمَرًا
إنّ الشياطينَ تَخْشَى بأسَ مُخْزِيها

مِثالُ من رُجوعِه إلى الحقّ

وفِتَْيةٍ وَلِعُوا بالرَّاحِ فانتَبَذُوا
لهمْ مَكانًا وجَدُّوا في تَعاطيها
ظَهَرْتَ حائِطَهُمْ لمّا عَلِمْتَ بهمْ
والليلُ مُعْتَكِرٌ الأرْجاءِ ساجِيها
حتّى تَبَيَّنتَهُمْ والخَمْرُ قد أخَذَتْ
تَعْلُو ذُؤابَةَ ساقِيها وحاسِيها
سَفَّهْتَ آراءَهُم فيها فما لَبِثُوا
أنْ أوْسَعُوكَ على ما جِئْتَ تَسْفِيها
ورُمْتَ تَفْقيهَهُمْ في دينهِمْ فإذا
بالشَّرْبِ قد بَرَعُوا (الفارُوقَ) تَفْقِيها
قالوا: مكانَكَ قد جِئْنا بواحِدَةٍ
وجِئْتَنا بثلاثِ لا تُباليها
فأْتِ البُيوتَ من الأبْوابِ (يا عُمَرُ)
فقد يُزَنُّ من الحِيطانِ آتِيها
واستأذِن الناسَ أنْ تَغْشَى بُيوتَهُمُ
ولا تُلِمّ بدارٍ أو تَحَيِّيها
ولا تَجَسَّسْ فهذي الآيُ قد نَزَلَتْ
بالنَّهْي عنه فلمْ تَذْكُرْ نَواهِيها
فعُدْتَ عنهم وقد أكْبَرْتَ حُجَّتَهُمْ
لمّا رأيْتَ كِتابَ اللهِ يُمْلِيها
وما أنِفْتَ وإنْ كانوا على حَرَجٍ
مِنْ أنْ يَحُجَّكَ بالآياتِ عاصِيها

عُمَرُ وشَجَرَةُ الرِّضْوان

وسَرْحَةٍ في سماءِ السَّرْحِ قد رَفَعَتْ
بَبْيَعةِ المُصْطفى من رَأْسِها تِيها
أزَلْتَها حينَ غالَوْا في الطَّوافِ بها
وكانَ تَطْوافُهُمْ للدِّينِ تَشْوِيها

الخاتمة

هذي مَناقِبُه في عَهْدِ دَوْلَتِهِ
للشّاهِدينَ وللأعْقابِ أحْكِيها
في كلِّ واحِدةٍ منهنَ نابِلَةٌ
مِن الطبائع تَغْدُو نَفْسَ واعِيها
لَعَلَّ في أمّةِ الإسْلامِ نابِتَةً
تَجْلُو لحاضِرِها مِرْآةَ ماضِيها
حتّى تَرَى بَعْضَ ما شادَتْ أوائِلُها
من الصُّروحِ وما عانَاهُ بانِيها
وحَسْبُها أنْ تَرَى ما كانَ مِنْ (عُمَرٍ)
حتّى يُنّبِّه منها عَيْنَ غافِيها

(٣١) تحيّة محمّد عسران عبد الكريم

أنشدها في الحفل الذي أقيم لتكريمه في فندق شبرد في ٧ يوليو سنة ١٩١٩م حين استقال من الحكومة أوّل مرّة، وهي على لسان تجّار الغلال

لقد عاشَرْتَنا فَلَبِثْتَ فينا
مِثالاً للنَّزاهَةِ والكَمالِ
بحِلْمٍ كان مَحْمُودَ المَزايا
وعَدْلٍ كان مَمْدُودَ الظِّلالِ
فإنْ كُنْتَ اعتَزَلْتَ إباءَ ضَيْمٍ
فمِثْلُكَ بالوظائِفِ لا يُبالي
فحَبّاتُ القُلوبِ تَسُوقُ شُكْرًا
إليكَ بقَدْرِ حَبّاتِ الغِلالِ

(٣٢) تحيّة أحمد شوقي بك (نشرت في ١٤ أغسطس سنة ١٩١٩م)

وكان حافظ قد أعدّها ليستقبله بها عند قدومه إلى مصر من منفاه بالأندلس، ولكنّه عجّل بنشرها قبل قدومه مخافة أن يلحقه القدر المحتوم، كما قال في رسالته إلى الأهرام

وَرَدَ الكِنانَةَ عَبْقَرِيُّ زَمانِهِ
فَتَنظَّرِي يا مِصْرُ سِحْرَ بَيانِهِ
وأتى الحُسانُ فهَنِّئوا مُلْكَ النُّهَى
بقيامِ دَوْلَتِه وعَوْدِ حُسانِه
النِّيلُ قد ألْقَى إليه بسَمْعِهِ
والماءُ أمْسَكَ فيه عن جَرَيانِهِ
والزَّهْرُ مُصْغٍ والخَمائِلُ خُشَّعٌ
والطيرُ مُسْتَمِعٌ على أفْنانِهِ
والقُطْرُ في شَوْقٍ لأنْدَلُسِيَّةٍ
شَوْقِيَّةٍ تَشْفيه مِنْ أشْجانِهِ
يُصْغِي لأحْمَدَ إنْ شَدا مُتَرَنِّمًا
إصْغاءَ أمَّةِ أحْمَدٍ لأذانِهِ
فاصدَحْ وغَنِّ النِّيلَ واهزُزْ عِطْفَه
يَكْفِيه ما عاناهُ مِنْ أحْزانِهِ
واذكر لنا الحَمْراء كيف رَأيْتَها
والقَصْرَ ماذا كان مِنْ بُنْيانِهِ
ماذا تحَطَّمَ مِنْ ذُراهُ وما الّذي
أبْقَتْ صُرُوفُ الدَّهْرِ من أرْكانِهِ
واهًا عليه وأهْلِه وبُناتِه
أيّامَ كان النَّجْمُ من سُكّانِهِ
إذْ مُلْكُ أنْدَلُسٍ عَريضٌ جاهُه
وشَبابُه المَبْكِيُّ في رَيْعانِهِ
الفَتْحُ والعُمْرانُ آيةُ عَهْدِه
وكتائِبُ الأقْدارِ من أعْوانِهِ
لَبِسَتْ به الدُّنيا لِباسَ حَضارَةٍ
قد كانَ يَخْلَعُه على جِيرانِهِ
زالَتْ بشاشَتُه وزالَ وأقْفَرَتْ
منْ أنْسِه الدُّنيا ومن إنْسانِهِ
وطَوَى الثَّرَى سِرَّ الزَّوالِ فيا تُرَى
هل ضاقَ صَدْرُ الأرْضِ عن كِتمانِهِ
فتَكلَّمَتْ تلكَ الطُّلولُ وأفْصَحَتْ
لمّا وَقَفْتَ مُسائِلاً عن شانِهِ
ولَعلَّ نَكْبَتَه هُناكَ تَفَرُّقٌ
وتَعَدُّدُ قد كان في تِيجانِهِ
عِبَرٌ رأيْناها على أيّامنا
قد هَوَّنَتْ ما نابَه في آنِهِ
وحَوادِثٌ في الكَوْنِ إثْرَ حوادِثٍ
جاءَتْ مُشمِّرَةً لهَدِّ كِيانِهِ
سُبْحانَ جَبّارِ السَّمواتِ العُلا
ومُقَلِّبِ الأكْوانِ في أكْوانِهِ
أهْلاً بِشَمْسِ المَشْرِقَيْنِ ومَرْحَبًا
بالأبْلَجِ المَرْجُوِّ مِنْ إخْوانِهِ
أشْكُو إليكَ من الزّمانِ وزُمْرَةٍ
جَرَحَتْ فُؤادَ الشِّعْرِ في أعْيانِهِ
كم خارجٍ عن أفْقِه حَصَبَ الوَرَى
بقَريضه والعُجْبُ مِلْءُ جَنانِهِ
يَخْتالُ بين النّاسِ مُتَّئدَ الخُطا
ريحُ الغُرورِ تَهُبُّ مِنْ أرْدانِهِ
كم صَكَّ مَسْمَعَنا بجَنْدَلِ لَفْظِه
وأطالَ مِحْنَتَنا بطولِ لسانِهِ
ما زالَ يُعْلِنُ بَيْنَنا عن نَفْسِهِ
حتّى استغاث الصُّمُّ من إعْلانِهِ
نَصَحَ الهُداةُ لهم فزادَ غُرورُهُمْ
واشتَدَّ ذاكَ السَّيْلُ في طُغْيانِهِ
أو لم تَرَ الفُرْقانَ وهْو مُفَصَّلٌ
لم يَلْفِتِ البُوذِيَّ عن أوْثانِهِ
قُلْ للّذي قد قام يَشْئُو أحْمَدًا
خَلِّ القَريضَ فلَسْتَ منْ فُرْسانِهِ
الشِّعرُ في أوْزانِهِ لو قِسْتَه
لظَلَمْتَه بالدُّرِّ في ميزانِهِ
هذا أمْرُؤُ قد جاء قَبْلَ أوانِهِ
إنْ لم يَكُنْ قد جاء بَعْدَ أوانِهِ
إنْ قال شِعرًا أو تَسنَّمَ مِنْبَرًا
فتَعَوُّذًا باللهِ من شَيْطانِهِ
تَخِذَ الخَيالَ له بُراقًا فاعْتَلى
فوقَ السُّها يَسْتَنُّ في طَيرَانِهِ
ما كان يأمَنُ عَثْرَةً لو لم يَكُنْ
رُوحُ الحَقيقةٍ مُمْسِكًا بعنانِهِ
فأتى بما لم يَأْتِهِ مُتَقَدِّمُ
أو تَطْمَعُ الأذْهانُ في إتيانِهِ
هل للخَيالِ وللحقيقةِ مَنْهَلٌ
لم يَبْغِه الرُّوّادُ في دِيوانِهِ
إنّا لَنَلْهُو إذْ نَجِدُّ وإنّه
ليَجِدُّ إذْ يَلْهُو بنَظْمِ جُمانِهِ
أقْلامُه لو شاءَ شكَّ قَصيرُها
هامَ الثُّرَيّا والسُّها بسِنانِهِ
يُمْلي عليها عَقْلُه وجَنانُه
ما ليسَ يُنْكِرُه هَوَى وِجْدانِهِ
بَسْلٌ على شُعرائِنا أنْ يَنْطِقُوا
قَبْلَ المُثولِ لَدَيْه واستِئْذانِهِ
عافَ القديمَ وقد كَسَتْه يدُ البِلَى
خَلَقَ الأديمِ فهانَ في خُلْقانِهِ
وأبَى الجديدَ وقد تَأنَّقَ أهْلُهُ
في الرَّقْشِ حتّى غَرَّ في ألوانِهِ
فجديدُه بَعَثَ القديمَ منَ البِلَى
وأعادَ سُؤْدَدَه إلى إبّانِهِ
ورَمى جَديدَهُمُ فَخر بِناؤُه
برُواءِ زُخْرُفِه وبَرْقِ دِهانِه
شُعراءُ نَفْحِ الطِّيبِ أنْشَرَ ذِكْرَهُمْ
في أرْضِ أندَلُسٍ أديبُ زَمانِهِ
وَدَّ (ابنُ هانِئ) (وابنُ عَمّارٍ) بها
لو يَظْفَرانِ معًا بلَثْمِ بَنانِهِ
ولو استَطاعا فوْقَ ذاكَ لأقْبَلا
رَغْمَ البِلَى والقَبْرِ يَسْتَبِقانِهِ
يا كَرْمَةَ (المَطَرِيّةِ) ابتَهجي به
واستَقْبِلي الظَّمْآنَ مِنْ أخْدانِهِ
مُدِّي الظِّلال على الوُفودِ وجَدِّدي
عَهْدًا طَواهُ الدَّهْرُ في بُستانِهِ
كم مَجْلسٍ للَّهْوِ فيه شَهِدْتُه
فسَكِرْتُ مِنْ ديوانِه ودِنانِهِ
غنَّى مُغَنِّيه فهاجَ غِناؤُهُ
شَجْوَ الحَمامِ على ذَوائِبِ بانِه
فتَرَنَّحَتْ أشجارُه وتَمايَلَتْ
أعْوادُها طَرَبًا على عيدانِهِ
فكأنَّ مَجْلِسَنا هناكَ قصيدةٌ
مِنْ نَظْمِه طَلَعَتْ على عُبْدانِهِ
فالحمدُ للهِ الّذي قد رَدَّه
من بَعْدِ غُرْبَتِه إلى أوْطانِهِ
فتَنَظَّروا آياته وتَسَمَّعوا
قد قامَ بُلْبُلُكُمْ على أغْصانِهِ

(٣٣) في حفل عُكاظ

أنشد هذه القصيدة في حفل من الأدباء والشعراء برآسة أحمد شوقي بك بدار التمثيل العربي؛ لتحيّة جريدة عكاظ يوم ٣ ديسمبر سنة ١٩٢٠، وقد سمّى صاحب الجريدة هذا الحفل: «سوق عكاظ». وهي تتضمّن مدحا لشوقي بك رئيس الحفل، ونعيًا على المصريِّين امتهانهم لجثث ملوكهم الأقدمين:

أتَيْتُ سوقَ عُكاظٍ
أسْعى بأمْر الرَّئيسِ
أزْجِي إليه قوافٍ
مُنَكَّساتِ الرُّءوسِ
لَيْسَتْ بذاتِ رُواءٍ
تُزْهَى به في الطُّروسِ
ولا بذاتِ جَمالٍ
يَسْرِي بها في النُّفوسِ
لَم يَحْبُها فضْلُ شَوْقي
بقيَّةً من نَسيسِ
فهنّ قَفْرٌ خَوال
من كُلِّ مَعنًى نَفيسِ
وهنّ جُهْدُ مُقِلٍّ
حَلِيفِ هَمٍّ وبُوسِ
قال الرئيسُ ومَن ذا
يقولُ بعد الرَّئيسِ
سَقى الحُضورَ شَرابًا
يُنْسي شرابَ القُسوسِ
مُعَتَّقًا قبل عادٍ
في مُظْلِمات الحُبُوسِ
تُذْكِي الدِّياراتُ منه
نارًا كنارِ المَجوسِ
يُريكَ والليلُ داجٍ
شُموسَه في الكُؤوسِ
بنات أفكارِ شَوْقي
في جَلْوة كالعَروسِ
تُزْهَى بمعنًى سَريٍّ
أتى بمعنًى شَمُوسِ
وليلة من «عُكاظٍ»
ضَمَّت حُماة الوَطيسِ
أحْيا بها ذِكْرَ عَهْدٍ
آثارُه في الطُرُوسِ
عهدٌ سما الشِّعرُ فيه
إلى مَجالي الشُّموس
وَوِرْدُه كان أصْفَى
من مَوْرِد القامُوسِ
فجِئْتُها بحديثٍ
أسُوقُه للجُلوسِ
قد زُرْتُ مُتْحَف مِصْرٍ
في ظُهْرِ يوْمِ الخميسِ
في زُمْرةٍ من رِفاقٍ
غُرِّ الشمائل شُوسِ
فضِقْتُ ذَرْعًا بأمرٍ
على النُّفوسِ بَئيسِ
وكِدْتُ أصْرَع غمًّا
لحظِّها المَعْكُوسِ
وصَرْعَةُ الغَمِّ أدْهى
من صَرْعَةِ الخَنْدَريسِ
رأيتُ جُثَّةَ (خُوفُو)
بقُرْب (سيزُوسْتَرِيسِ)
فقُلْتُ يا قومُ هذا
صُنْع العَقُوقِ الخَسِيسِ
أجسادُ أمْلاكِ مِصْرٍ
وشائدي مَنْفِيسِ
من بعد خَمْسين قَرْنًا
لم تَسْتَرِح في الرُّمُوسِ
أرَى فراعينَ مِصْرٍ
في ذِلَّةٍ ونُحوسِ
مَعْروضةً للبَرايا
أجْسادُهُمْ بالفُلوسِ
عَنْهمْ نَبَشْنا زَمانًا
في مُظْلِمات الدُّروسِ
فَديسَ ظُلْمًا حِماهُمْ
وكان غيرَ مَدوسِ
لعلَّهم حَصَّنوهم
من هادِمات الفُئوسِ
علْمًا بأنْ سوْفَ يُمْنى
بيومِ شَرٍّ عَبُوسِ
لو أنّ أمثال (مينا)
في الغرب أو (رمسيسِ)
بَنوا عليهم وخطُّوا
حَظائرَ التقديسِ

(٣٤) مدحة للمغفور له (فؤاد الأوّل)

أنشدها بين يدي جلالته حين زيارته مدرسة فؤاد الأوّل بقصر الزعفران في ديسمبر سنة ١٩٢٢م

أقَصْرَ الزَّعْفَرانِ لأنْتَ قَصْرٌ
خَليقٌ أنْ يَتيهَ على النُّجومِ
كِلا عَهْدَيْكَ للأجْيالِ فخْرٌ
وزَهْوٌ للحَديثِ وللقديمِ
ثَوَى بالأمْسِ فيكَ عُلا ومَجْدٌ
وأنتَ اليومَ مَثْوًى للعُلومِ
فمِنْ نُبْلٍ، إلى مَجْدٍ أثيلٍ،
إلى عِلْم، إلى نَفْعٍ عَميمِ
أضَفْتَ إلى صُروحِ العِلْمِ صَرْحًا
بزَوْرَةِ ذلكَ المَلِكِ الحَكيمِ
فيا لَكَ مَنْزِلاً رَحْبًا سَرِيًّا
بَنَتْهُ أنامِلُ الذَّوْقِ السَّليمِ
وحاطَتْه ببُسْتانٍ أنِيقٍ
يُريكَ جمالُه وَجْهَ النَّعيمِ
(أبا فارُوقَ) أنتَ وَهَبْتَ هذا
لمِصْر وهكذا مَنْحُ الكريمِ
ولا عَجَبٌ فمِصْرُ على وَلاءٍ
ومالِكُها على خُلُقٍ عظيمِ
يُطالعُها ببرٍّ كلَّ يوْمٍ
ويَرعاها بعَيْنِ أبٍ رَحِيمِ
ويُرهِفُ من عَزائِمِ آلِ مصرٍ
إذا خارَتْ لدى الخَطْبِ الجَسيمِ
كَسَوْتَ الأزْهَرَ المَعْمُورَ ثَوْبًا
مِنَ الإجْلال والعِزِّ المُقيمِ
قَضَيْتَ به الصَّلاةَ فكاد يُزْهى
بزائِرِه على رُكْنِ الحَطيمِ
رأى فيكَ (المُعِزَّ) زمانَ أعْلى
قواعِدَه على ظَهْرِ الأديمِ
فَهشَّ وهَزَّه طَرَبٌ وشَوْقٌ
كما هَشَّ الحميمُ إلى الحَميمِ
وهَلَّلَ كُلُّ مَنْ فيه ودَوَّتْ
به أصواتُ شَعْبِكَ كالهَزِيمِ
كذا فليَحْمِل التَّاجَيْنِ مَلْكُ
يُعِزُّ شعائِرَ الدِّين القَويمِ
ويَخْشى رَبَّه ويُطيعُ مَوْلًى
هَداهُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقيمِ
أيأذَنُ لي المَليكُ البّرُّ أنِّي
أهَنِّئُ مِصْرَ بالأمْرِ الكَريمِ
فيا مِصْرُ اسْجُدِي للهِ شُكْرًا
وتيهي واقعُدي طَرَبًا وقُومي
فقَدْ تَمَّ البِناءُ وعَنْ قَريبٍ
تُزَفُّ لكِ البشائِرُ مِنْ «نَسيمِ»
فَدارُ (البَرْلمانِ) أعَزُّ دارٍ
تُشادُ لطالب المَجْدِ العَمِيمِ
بها يَتَجَمَّلُ العَرْشُ المُفَدَّى
وتَحْيا مِصْرُ في عَيْشٍ رَخيمِ
فشَرِّفْها بربِّكَ واخْتَتِمْها
وأسْعِدها بدُسْتورٍ تميمِ
بآيِ (مُحَمَّدٍ) وبآيِ (عِيسى)
فعَوِّدْهُ وآياتِ (الكَليم)
(أبا فارُوقَ) خُذْ بيَدِ الأماني
وحَقِّقْها على رَغْمِ الخَصيمِ
أفَقْنا بَعْدَ نَوْمٍ فَوْقَ نَوْمٍ
على نَوْمٍ كأصْحابِ الرَّقيمِ
وأصْبَحْنا بيُمْنِكَ في نُهُوضٍ
يُكافئُ نَهْضَةَ النَّبْتِ الجَميمِ
فحُطْنا بالرِّعايَةِ كلَّ يَوْمٍ
نَحُفُّكَ بالوَلاءِ المُسْتَديمِ

(٣٥) تهنئة المغفور له سعد زغلول باشا بالنجاة (نشرت في ١٣ يولية سنة ١٩٢٤م)

قالها على أثر الاعتداء عليه بإطلاق النار في محطّة القاهرة، إذ كان مسافرًا إلى الإسكندريّة

أحْمَدُ اللهَ إذْ سَلِمْتَ لمِصْرٍ
قد رَماها في قَلْبها مَنْ رَماكا
أحْمَدُ اللهَ إذْ سَلِمْتَ لمِصْرٍ
ليس فيها ليَوْمِ جِدٍّ سِواكَا
أحْمَدُ اللهَ إذْ سَلِمْتَ لمِصْرٍ
ووَقاها بلُطْفِه مَنْ وقَاكَا
قد شُغِلْنا يا (سَعْدُ) عَنْ كُلِّ شيءٍ
وشُغِلْنا بأنْ يَتِمَّ شِفاكَا
في سَبيلِ الجِهادِ والوَطَن المَحْـ
ـبُوبِ ما سالَ أحْمَرًا من دِماكَا
قلْ لِذاكَ الأثيمِ والفاتِكِ المَفْـ
ـتُونِ: لا كنتَ، كيْفَ تَرْمي السِّماكَا؟
إنَّما قد رَمَيْتَ في شَخْصِ (سَعْدٍ)
أمّةً حُرّةً فَشَلَّتْ يَداكَا

وقال فيه أيضًا: أنشدها في الحفل الذي أقامه أعضاء البرلمان يوم الخميس ٢٤ يولية سنة ١٩٢٤ بكازينو سان استفانو بالإسكندرية؛ تكريمًا لسعد، وابتهاجًا بنجاته من حادث الاعتداء عليه:

الشَّعْبُ يدْعُو اللهَ يا زَغْلُولُ
أنْ يَسْتَقِلَّ على يَدَيْكَ النِّيلُ
إنَّ الّذي اندَسَّ الأثيمُ لقَتْلِه
قد كانَ يَحْرُسُه لنا جِبْريلُ
أيَمُوتُ (سَعْدٌ) قبلَ أنْ نَحْيا به؟
خَطْبٌ على أبْناءِ مِصْرَ جَليلُ
يا (سَعْدُ) إنّك أنتَ أعْظَمُ عُدّةٍ
ذُخِرَتْ لنا نَسْطُو بها ونَصولُ
ولأنْتَ أمْضى نَبْلَةٍ نَرْمي بها
فانفُذْ وأقْصِد فالنِّبالُ قليلُ
النَّسْرُ يَطْمَعُ أنْ يَصِيدَ بأرْضِنا
سَنُريه كَيْفَ يَصيدُه زُغْلولُ
إنّا رَمَيْناهُمْ بنَدب حُوَّلٍ
عن قَصْدِ وادي النِّيلِ لَيْسَ يَحُولُ
بأشَدِّنا بأسًا وأقْدَمِنا على
خَوْض الشَّدائِد والخُطوبُ مُثولُ
بفَتًى جميعِ القَلْبِ غير مُشَتَّتٍ
إنْ مالَتِ الأهْرامُ لَيْسَ يَميلُ
فاوِضْ ولا تَخْفِضْ جَناحَكَ ذِلَّةً
إنّ العَدُوَّ سِلاحَه مَفْلُولُ
فاوِضْ وأنتَ على المَجَرَّةِ جالِسٌ
لمقامِكَ الإعْظامُ والتَّبْجيلُ
فاوِضْ فخَلْفَكَ أمّةٌ قد أقسَمَتْ
ألا تَنام وفي البلادِ دَخيلُ
عُزْلٌ ولكنْ في الجِهاد ضَراغِمٌ
لا الجَيْشُ يُفْزِعُها ولا الأسطُولُ
أسطولُنا الحقُّ الصُّراحُ وجَيْشُنا الـ
ـحُجَجُ الفِصاحُ وحَرْبُنا التَّدْليلُ
ما الحَرْبُ تُذْكيها قَنًا وصَوارِمٌ
كالحَرْبِ تُذْكيها نُهًى وعُقولُ
خُضْها هُنالِكَ باليقينِ مُدَرَّعا
واللهُ بالنَّصْرِ المُبينِ كَفيلُ
أزَعيمُهُمْ شاكي السِّلاحِ مُدَجَّجٌ
وزَعيمُنا في كَفِّه مِنْديلُ؟
وكذلكَ المِنْديلُ أبلَغُ ضَرْبةً
من صارِمٍ في حَدِّه التَّضْليلُ
لكَ وَقْفَةٌ في الشَّرْقِ تعرِفُها العُلا
ويَحُفُّها التكبيرُ والتَّهليلُ
زَلْزِلْ بها في الغَرْبِ كلَّ مُكابِرٍ
ليرى ويَعْلَمَ ما حَواهُ الغِيلُ
لا تَقْرَبِ (التَّاميزَ) واحذَرْ وِرْدَه
مَهْما بدا لكَ أنّه مَعْسولُ
الكَيْدُ مَمْزوجٌ بأصفى مائِه
والخَتْلُ فيه مُذَوَّبٌ مَصْقُولُ
كم وارِدٍ يا (سَعْدُ) قبْلَكَ ماءَه
قد عادَ عنه وفي الفُؤادِ غَليلُ
القومُ قد مَلَكُوا عِنانَ زَمانِهمْ
ولَهُمْ رِواياتٌ به وفُصولُ
ولهمْ أحابيلٌ إذا ألقَوْا بها
قَنَصُوا النُّهى فأسيرُهُمْ مَخْبولُ
فاحْذرْ سياسَتَهُمْ وكُنْ في يَقْظَةٍ
سَعْدِيَّةٍ إنّ السِّياسةَ غُولُ
إنْ مَثَّلوا فَدَعِ الخيالَ فإنّما
عند الحقيقةِ يَسْقُطُ التَّمْثيلُ
الشِّبْرُ في عُرْفِ السِّياسَةِ فَرْسَخٌ
واليومُ في فَلَكِ السِّياسَةِ جِيلُ
ولكلِّ لَفْظٍ في المَعاجِمِ عِنْدَهُمْ
مَعْنًى يُقالُ بأنّه مَعْقولُ
نَصَلَتْ سياسَتُهُمْ وحالَ صِباغُها
ولكلِّ كاذِبَةِ الخِضابِ نُصولُ
جَمَعُوا عَقاقيرَ الدَّهاءِ ورَكّبوا
ما رَكَّبوه وعِنْدكَ التَّحليلُ
يا (سَعْدُ) أنتَ زَعيمُنا ووكيلُنا
وعليكَ عِنْد مَليِكنا التَّعْويلُ
فادفَعْ وناضِلْ عَنْ مطَالِبِ أمّةٍ
يا (سعْدُ) أنتَ أمامَها مَسْئولُ
النِّيلُ مَنْبَعُه لنا ومَصَبُّه
ما إنْ له عن أرضِها تحويلُ
وثِقَتْ بكَ الثِّقةَ التي لم يَنْفَرِجْ
للرَّيب فيها والشُّكوكِ سَبيلُ
جَعَلَتْ مَكانَكَ في القُلوبِ مَحبَّةً
أو بَعْد ذاكَ على الوَلاءِ دَليلُ
كادَتْ تُجَنُّ وقد جُرِحْتَ وخانَها
صَبْرٌ على حَمْلِ الخُطوبِ جَميلُ
لم يَبْقَ فيها ناطقٌ إلاّ دَعا
لكَ رَبَّه ودُعاؤُه مَقْبولُ
يا سَعْدُ كادَ العيدُ يُصبحُ مأتمًا
الدمعُ فيه أسًى عليكَ يَسيلُ
لولا دِفاعُ اللهِ لانطَوَتِ المُنَى
عند انطوائِكَ وانقضى التَّأميلُ
شَلَّتْ أنامِلُ مَنْ رَمَى، فلِكَفِّه
حَزُّ المُدى ولكفِّكَ التَّقْبيلُ
هذا وِسامُكَ فوقَ صَدْرِكَ مالَه
مِنْ بَيْن أوْسِمَةِ الفَخارِ مَثيلُ
حَلَّيْتَه بدمٍ زكيَّ طاهِرٍ
في حُبِّ مِصْرَ مَصونُه مَبْذولُ
في كلِّ عَصْرٍ للجُناةِ جَريرَةٌ
لَيْسَتْ على مَرِّ الزَّمان تَزولُ
جاروا على (الفارُوقِ) أعْدَلَ مَنْ قَضَى
فينا وزكَّى رأيَه التَّنْزيلُ
وعَلَى (عَليَّ) وهو أطْهَرُنا فَمًا
ويدًا وسيفُ نبيِّنا المَسْلولُ
قِفْ يا خَطيبَ الشَّرْقِ جَدِّدْ عَهْدنا
قَبْلَ الرَّحيلِ ليُقْطَعَ التَّأويلُ
فاوِضْ فإنْ أوْجَسْتَ شرًّا فاعتَزِمْ
واقْطَعْ فحَبْلُكَ بالهُدى مَوْصولُ
وارجِعْ إلينا بالكرامَةِ كاسِيًا
وعليكَ مِن زَهَراتها إكْليلُ
إنّا سَنَعْمَلُ للخَلاص ولا نَنِي
واللهُ يَقضي بينَنا ويُديلُ
كم دَوْلةٍ شَهِدَ الصَّباحُ جَلالها
وأتَى عليها الليلُ وهي فُلولُ
وقُصورِ قَوْمٍ زاهِراتٍ في الدُّجَى
طَلَعتْ عليها الشمسُ وهي طُلُولُ
يأيّها النَّشْءُ الكِرامُ تَحِيّةً
كالرَّوْض قد خَطَرتْ عليه قَبُولُ
يا زَهْرَ مِصْرَ وزَيْنَها وحُماتَها
مَدْحِي لكُمْ بعد الرئيسِ فُضولُ
جُدْتُمْ لها بالنَّفْسِ في وَرْدِ الصِّبا
والوَرْدُ لمْ يُنْظَرْ إليه ذُبُولُ
كَمْ مِنْ سَجينٍ دُونَها ومُجاهِدٍ
دَمُه على عَرَصاتِها مَطْلُولُ
سِيروا على سَنَنِ الرئيس وحَقِّقوا
أمَلَ البلادِ فكُلُّكُمْ مأمُولُ
أنتم رجالُ غَدٍ وقد أوْفى غَدٌ
فاستَقْبِلوه وحَجِّلوه وطُولُوا

(٣٦) إلى الأستاذ أحمد لطفي السيّد بك (باشا)

وجَهها إليه حين ترجم كتاب الأخلاق لأرسطو سنة ١٩٢٤م

يا كاسِيَ الأخْلاق في
بَلَدٍ عن الأخْلاقِ عارِي
لم يَبْقَ فينا مَن يُجا
دِلُ في مَقامِكَ أو يُماري
بالأمْسِ قد عَلَّمْتَنا
أدَبَ الكِتابَةِ والحِوارِ
واليومَ قد ألْطَفْتَنا
بالطَّيِّباتِ من الثِّمارِ
بكتابِ رَسْطاليسَ تا
ج نَوادِرِ الفَلَكِ المُدارِ
جاهَدْتَ في تَفْصيله
ووَصَلْتَ لَيْلَكَ بالنَّهارِ
تَزِن الكلامَ كأنه
ماسٌ بميزانِ التِّجارِ
وتَصونُ مَعْنَى رَبِّه
صَوْنَ اللآلئ في المَحارِ
وتَضنُّ دُِهقانَ الكَلا
مِ كَضنِّ دُِهْقان النُّضارِ
حتّى حَسِبْتُكَ في الأنا
ةِ والاْختِبار والاْختِيارِ
صَنْعًا يُصوِّرُ في الفُصُو
صِ لدى الفَراعِنةِ الكِبارِ
إنّي قَرَأتُ كتابَهُ
بين الخُشُوعِ والاعتبارِ
فإذا المُتَرجِمُ ماثلٌ
جَنْبَ المُؤلِّفِ في إطارِ
وعَلَيْهما نورٌ يَفيـ
ـضُ من المَهابَةِ والوَقارِ
قالوا: لقد هَجرَ السِّيا
سةَ وانْزَوى في عُقْرِ دارِ
تَرَك المَجالَ لغَيْرهِ
ورأى النَّجاةَ مع الفِرارِ
لا تَظْلِمُوا رَبَّ النُّهى
وحَذارِ من خَطَلٍ حَذارِ
هَجَرَ السِّياسَةَ للسِّيا
سةِ لا لنَوْمٍ أو قَرارِ
لو أنَّهم عَلِمُوا الذي
يَبْني لهمْ خَلْفَ السِّتارِ
لَسَعوْا إلى حامي الفَضيـ
ـلة والحقيقة والذِّمارِ
وافاهُمُ بدعائم الـ
ـأخْلاقِ والحِكَم السَّواري
أسِّ السِّياسَةِ والنَّجا
حِ وحِصْنِ سَيِّدَةِ البِحارِ
كَلِفَتْ بها وتَمسَّكَتْ
قَبْلَ الفيالِقِ والجواري
يا عاشِقَ الخُلُق الصَّريـ
ـحِ وشانئ الخُلُق المُوارِي
إنِّي اخْتَبَرْتُكَ في الكُهُو
لَة والصِّبا حقَّ اختِبارِ
لم يَجْرِ في ناديكَ هُجْـ
ـرُ القَوْلِ أو خَلْعُ العِذارِ
حُلْوُ التواضُعِ والتَّوا
ضُعُ آيةُ القَوْمِ الخِيارِ
مُرُّ التكبُّر حينَ يَدْ
عُوكَ التَّواضُعُ للصِّغار
سِرْ في طريقِكَ وادِعًا
فلأنْتَ مأمونُ العِثارِ
واجعَلْ على لُقَمِ الطَّريـ
ـقِ صُوًى تَلُوحَ لكلِّ سارِي
إنّا إلى (كُتْب السِّيا
سَةِ) يا حَكيمُ على أوارِ
عَجِّلْ بها قبلَ (الفسا
دِ) وقَبلَ عادِيَةِ البَوارِ
إنّا نُناضِلُ أمّةً
أقْطابها أُسْدٌ ضَواري
عَرَكوا الزَّمانَ وأهْلَه
وتَحَصَّنوا من كلِّ طارِي
أمْسَتْ سياسَتُهُم كطَلْـ
ـَسْمٍ يُحَيِّرُ كلَّ قارِي
إنْ يُنْكِروا بعضَ الغُمو
ضِ على أديبٍ ذي اقتِدارِ
فلأنّهم لم يَذْكُرُوا
أنّ المُتَرْجِمَ في إسارِ
لم يَعْيَ أحْمَدُ أنْ يَجي
ءَ بآيِ قَيْسٍ أو نِزارِ
وهو المُجَلِّي في أسا
ليبِ الفصاحَةِ والمُباري
لُغَةُ العُلومِ حَقائِقٌ
هِيَ عَنْ زخارِفنا غَواري
تَأبى الغُلُوَّ وتَحْسَبُ الـ
ـإغْراقَ كالثوبِ المُعارِ
والنَّقْلُ إنْ عَدِمَ الأما
نَةَ كان عُنْوانَ الخسارِ

(٣٧) إلى حفني بك محمود (نشرت في ١١ مايو سنة ١٩٢٦م)

قالها حين رشّحه الوفد لعضويّة البرلمان عن بندر الجيزة

يا كاسِيَ الخُلُقِ الرَّضيِّ وصاحِبَ الـ
ـأدَبِ السَّرِيِّ ويا فَتَى الفِتْيانِ
إنْ رَشَّحوكَ فأنتَ من بَيْتٍ رَمَى
بسِهامِه عنْ حَوْزَةِ الأوْطانِ
زَكّاكَ إقْدامٌ ورأيٌ شاهِدٌ
ونَقيُّ إيمانٍ وحُسْنُ بَيَانِ
لو كنتَ بَيْنَ النّاخبينَ لأدْرَكوا
ما فيكَ يا (حفْنيُّ) من رِضْوانِ

(٣٨) إلى سعد زغلول باشا (نشرت في ٧ نوفمبر سنة ١٩٢٦م)

أنشدها بين يديه على أثر قدومه من مسجد وصيف إلى العاصمة على الباخرة دندرة

ما بالُ (دَنْدَرَةٍ) تَميسُ تَهاديًا
مَيْسَ العَرُوسِ مَشَتْ على إسْتَبْرَقِ
والنِّيلُ يَجري تَحْتَها مُتَهَلِّلاً
والمَوْجُ بين مُهَلِّلٍ ومُصَفِّقِ
ألَعَلَّها والتِّيهُ يَثْني عِطْفَها
حَمَلَتْ رِكابَ زعيم قَلْب المَشْرِق
إنّي أَرَى نُورًا يَفيضُ وطَلْعةً
قد زانَها وضَحُ الجَبينِ المُشْرِقِ
هذا زَعيمُ النِّيلِ حَلَّ عَرينَه
بَعْدَ الغِيابِ فيا وُفُودُ تَدَفَّقي
وتَيَمَّني بقُدومِه وتَرفَّقي
عند الزِّحامِ فسَلِّمي وتَفَرَّقي
وتَنَظَّري إنّ الخَلاصَ مُحَتَّمٌ
فاللهُ أسْلَمَ أمْرَنَا لمُوَفَّقِ
كم أزمَةٍ مَرّت بنا فاجتاحَها
(سعْدٌ) بسَيْلِ بَيانِه المُتَدفِّقِ
يأيُّها السَّبّاقُ في طَلَبِ العُلا
ها قد أتَيْتَ مُجَلِّيًا لم تُسْبَقِ
سَبَق البشيرَ رِكابُ سَعْدٍ جاريًا
ورِكابُ سَعْدٍ وانِيًا لم يُلْحَقِ

(٣٩) تهنئة أحمد شوقي بك

أنشدها في المهرجان الذي أقيم لتكريمه بالأوبرا في ٢٩ أبريل سنة ١٩٢٧م وقد اشترك فيه بعض شعراء الأقطار الشرقيّة

بَلابِلَ وادي النِّيل بالمَشْرِق اسْجَعِي
بشِعْرِ أمير الدَّوْلَتَيْنِ ورَجِّعي
أعيدي على الأسْماع ما غَرَّدَتْ به
يَراعَةُ شَوْقي في ابتداءٍ ومَقْطَعِ
بَراها له الباري فلم يَنْبُ سِنُّها
إذا ما نَبَا العَسَّالُ في كَفِّ أرْوَعِ
مَواقِعُها في الشَّرْقِ والشَّرْقُ مُجْدِبٌ
مَواقِعُ صَيبِ الغَيْثِ في كلِّ بَلْقَعِ
لدَيْها وُفُودُ اللَّفْظِ تَنْساقُ خَلْفَها
وُفُودُ المَعاني خُشَّعًا عِنْدَ خُشَّعِ
إذا رَضِيَتْ جاءتْ بأنْفاسِ رَوْضَةٍ
وإنْ غَضِبَتْ جاءتْ بنَكْباءَ زَعْزَعِ
أحَنُّ على المَكْدودِ من ظِلِّ دَوْحَةٍ
وأحْنَى على المَوْلودِ من ثَدْيِ مُرْضِعِ
على سِنِّها رِفْقٌ يَسيلُ ورَحْمَةٌ
ورَوْحُ لمَنْ يَأسَى وذِكْرى لمَنْ يَعي
تَسابَقُ فوقَ الطِّرْسِ أفكارُ رَبِّها
سِباقَ جِيادٍ في مَجالٍ مُرَبَّعِ
تَطيرُ بُروقُ الفِكْرِ خَلْفَ بُروقِها
تُناشِدُها باللهِ لا تَتَسَرَّعِي
تُحاوِلُ فَوْتَ الفِكْرِ لوْ لم تَكُفَّها
أنامِلُه كَفَّ الجَموحِ المُرَوَّعِ
ألَمْ تَعْلَموا أنّا بذُخْرَيْ نَباغَةٍ
نُفاخرُ أهْلَ الشَّرْقِ في أيِّ مَجْمَعِ
نُفاخِرُ مِنْ (شَوْقِيِّنا) بيراعَةٍ
ونَزْدادُ فخرًا من (عليٍّ) بمِبْضَعِ
فذاكَ شفاءُ الجِسْمِ تَدْمَى جِراحُه
وتلكَ شفاءُ الوالِهِ المُتَوَجِّعِ
نَمَتْكَ ظِلالٌ وارِفاتٌ وأنْعُمٌ
وليِّنُ عَيْش في مَصيفٍ ومَرْبَعِ
ومَنْ كان في بَيْتِ المُلوكِ ثَواؤُه
يُنَشَّأ على النُّعْمَى ويَمْرَحْ ويَرْتَعِ
لئن عَجِبُوا أنْ شابَ (شَوْقي) ولمْ يَزَلْ
فَتيَّ الهَوى والقَلْبِ جَمَّ التَّمَتُّعِ
لقد شابَ من هَوْلِ القوافي ووَقْعِها
وإتْيانِه بالمُعْجِزِ المُتَمَنِّعِ
كما شَيَّبَتْ هُودٌ ذُؤابةَ أحْمَدٍ
وشيَّبَتِ الهَيْجاءُ رأْسَ المُدَرَّعِ
يَعيبونَ (شَوْقي) أن يُرى غَيْرَ مُنْشِدٍ
وما ذاكَ عنْ عِيٍّ به أو تَرَفُّعِ
وما كانَ عابًا أنْ يَجيء بمُنْشِدٍ
لآياته أو أنْ يَجيءَ بمُسْمِعِ
فهذا (كَليمُ اللهِ) قد جاء قَبلَه
(بهارونَ) ما يأْمُرْه بالوَحْيِ يَصْدَعِ
بلَغْتَ بوَصْفِ النِّيلِ منْ وَصْفِكَ المَدَى
وأيّامَ (فِرْعَوْنٍ) ومَعْبودِه (رَعِ)
وما سُقْتَ من عَادِ البلادِ وأهْلِها
وما قُلْتَ في أهْرامِ (خُوفُو) و(خَفْرَعِ)
فأطْلَعْتَها شَوقيّةً لو تَنَسَّقَتْ
مع النَّيِّراتِ الزُّهْرِ خُصَّتْ بمَطْلَعِ
أ(مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرى) قد تَفجَّرتَ
ينابيعُ هذا الفِكْر أمْ (أخْتُ يُوشَعِ)
وفي (تُوتَ) ما أعْيا ابتِكارَ مُوَفَّقٍ
وفي (ناشِئٌ في الوَرْدِ) إلهامُ مُبْدِعِ
أسالَتْ (سَلا قَلْبي) شُئوني تَذكُّرا
كما نَثَرَتْ (رِيمٌ على القاعِ) أدْمُعي
و(سَلْ يَلْدِزًا) إنِّي رأيْتُ جَمالَها
على الدَّهْرِ قد أنْسَى جَمالَ (المُقَنَّعِ)
أطَلَّتْ علينا (أخْتُ أنْدَلُسٍ) بما
أطَلَّتْ فكانت للنُّهى خيرَ مَسْرَعِ
وفي نَسجِ (صُدَّاحٍ) أَتْيتَ بآيةٍ
من السَّهْلِ لا تَنْقادُ (لابنِ المُقَفَّعِ)
ورائعِ وصْفٍ في (أبي الهَوْلِ) سُقْتَه
كبُسْتانِ نَوْرٍ قَبْلَ رَعْيِكَ ما رُعِي
خَرَجْتَ به عن طَوْقِ كلِّ مُصَوِّرٍ
يُجيدُ دقيقَ الفنِّ في جَوْفِ مَصْنَعِ
وفي (انظُرْ إلى الأقمارِ) زَفْرَةُ واجِدٍ
وأنّةُ مَقروحِ الفُؤادِ مُوَزَّعِ
بَكَيْتَ على سِرِّ السَّماء وطُهْرِها
وما ابتَذَلوا من خِدْرِها المُتَرَفِّعِ
شياطينُ إنْسٍ تَسْرِقُ السَّمْعَ خُلْسَةً
ولا تَحْذَر المَخْبوء للمُتَسَمِّعِ
وسِينيَّةٍ (للبُحْتُريِّ) نَسَخْتَها
بسِينيَّةٍ قد أخْرَسَتْ كلَّ مُدَّعِي
أتى لك فيها طائعًا كلُّ ما عَصى
على كلِّ جبَّارِ القريحَةِ ألْمَعِي
شَجَا (البُحْتُري) إيوانُ (كِسْرى) وهاجَه
وهاجَتْ بكَ (الحَمْراءُ) أشجانَ مُوجَعِ
وَقَفْتَ بها تَبكي الرُّبوعَ كما بَكَى
فيا لَكُما من واقِفَيْن بأرْبُعِ
فَنسْجُكَ كالدِّيباجِ حَلاّه وَشيُه
وفي النَّسْجِ ما يَأتي بثَوْبٍ مُرَقَّعِ
وشِعْرُكَ ماءُ النَّهْرِ يَجْري مُجَدَّدا
وشِعْرُ سَوادِ النّاسِ ماءٌ بمَنْقَعِ
أ(أفْضى إلى خَتْمِ الزَّمانِ ففضَّه)
من الوَحْي والإلهامِ أمْ قَوْلُ لَوْذَعي
و(قلبي ادَّكَرْتَ اليومَ غَيْرَ مُوَفَّقٍ)
رُقَى السِّحْرِ أمْ أناتُ أسْوانَ مُولَعِ
تَمَلَّكتَ من مُلْكِ القَريضِ فَسيحَه
فلم تُبقِ يا (شوْقي) لنا قَيدَ إصْبَعِ
فباللهِ دَعْ للنّاثرين وسيلةً
تُفيءُ عليهم واتَّقِ اللهَ واقْنَعِ
عَمِلْتَ على نَيْلِ الخلودِ فنِلْتَه
فقُلْ في مَقامِ الشُّكْرِ يا رَبِّ أوْزِعِ
جَلا شِعْرُه للنّاس مِرآةَ عَصْرِه
ومِرْآةَ عَهْدِ الشِّعْرِ منْ عَهْدِ (تُبَّعِ)
يَجيءُ لنا آنًا (بأحْمَدَ) ماثِلاً
وآوِنَةً (بالبُحْتُريِّ) المُرَصِّعِ
ويَشْئُو رُقَى (هُوجُو) ويأتي نَسيبُه
لنا مِنْ ليالي (ألْفَريدَ) بأرْبَعِ
وإن خَطَرتْ ذِكرَى الفُحولِ بفارِسٍ
وما خَلَّفوا في القَوْلِ من كلِّ مُشْبِعِ
أتانا بروْضِ مُزْهِرٍ من رِياضِهِمْ
و(حافِظُهُمْ) فيه يُغَنِّي ويَرْتَعي
فقُلْ للّذي يَبْغي مَداهُ مُنافِسًا
طَمِعْتَ لَعَمْرُ اللهِ في غَيْرِ مَطْمَعِ
فذلِكَ سَيْفٌ سَلَّهُ اللهُ قاطِعٌ
فأيّانَ يَضْرِبْ يَفْرِ دِرْعًا ويَقطَعِ
وهَلْ تَدْفَعُ الدِّرْعُ المَنيعَةُ صارِمًا
به يَضْرِبُ المِقْدارُ في كَفِّ سَلْفَعِ
نُفيتَ فلم تَجْزَعْ ولم تَكُ ضارِعًا
ومَنْ تَرْمِه الأيّامُ يَجْزَعْ ويَضْرَعِ
وأخْصَبْتَ في المَنْفى وما كنتَ مُجْدِبًا
وفي النَّفْيِ خِصْبُ العَبْقَرِيِّ السَّمَيْذَعِ
لقد زادَ (هُوجُو) فيه خِصْبَ قريحَةٍ
وآبَ إلى أوطانِهِ جِدَّ مُمْرعِ
وأدْرَكَ (سامي) بالجَزيرَةِ غايَةً
إليها مُلوكُ القَوْلِ لم تَتَطَلَّعِ
تَذَكَّرْتَ عَذْبَ النِّيلِ والنَّفْسُ صَبَّةٌ
إلى نَهْلَةٍ من كُِوبِ ماءٍ مُشَعْشَعِ
وأرْسَلْتَ تَسْتَسْقي بَني مِصْرَ شَرْبَةً
فقطَّعْتَ أحْشائي وأضْرَمْتَ أضْلُعي
أنَرْوَى ولا تَرْوَى وأنتَ أحَقُّنا
برِيٍّ فيا قَلْبَ النُّبوغِ تَقَطَّعِ
وإنْ شِئْتِ عنّا يا سماءُ فأقْلِعي
ويا ماءَها فاكفُف ويا أرْضُ فابْلَعِي
حَرامٌ عَليْنا أن نَلَذَّ بنَهْلَةٍ
وأنتَ تُنادينا ونحنُ بمَسْمَعِ
أبَى اللهُ إلاّ أنْ يَرُدَّكَ سالمًا
ومَنْ يَرْعَهُ يَسْلَمْ ويَغْنَمْ ويَرْجِعِ
وعُدْتَ فَقَرَّتْ عَيْنُ مِصْرٍ وأصْبَحَتْ
رِياضُ القوافي في ربيعٍ مُوَشَّعِ
وأدْرَكْتَ ما تَبْغي وشَيَّدْتَ آيةً
على الشاطئ الغَرْبيِّ في خير مَوْقِعِ
يَحُفُّ بها رَوْضٌ يُحَيِّي بُدورَها
بُكُورًا بِرَيَّا عَرْفِه المُتَضَوِّعِ
حِمًى يَتهادى النِّيلُ تحتَ ظلاله
تهادِيَ خَوْدٍ في رداءٍ مُجَزَّعِ
لقد كنتَ تَرْجُو منه بالأمسِ قَطْرَةً
فدُونَكَه فابرُدْ غَليلَكَ وانْقَعِ
أميرَ القوافي قد أتَيْتُ مُبايِعًا
وهذي وُفودُ الشَّرْقِ قد بايَعَتْ معي
فغَنِّ رُبوعَ النِّيل واعطِفْ بنَظْرَةٍ
على ساكني النَّهْرَيْن واصدَحْ وأبْدِعِ
ولا تَنْسَ (نَجْدًا) إنّها مَنْبِتُ الهُوَى
ومَرْعَى المَها مِنْ سارِحاتٍ ورُتَّعِ
وحَيِّ ذُرَا (لُبنانَ) واجعل (لِتُونُسٍ)
نَصيبًا من السَّلْوى وقَسِّمْ ووَزِّعِ
ففي الشِّعْرِ حَثُّ الطامِحِين إلى العُلا
وفي الشِّعْرِ زُهْدُ الناسِكِ المُتَوَرِّعِ
وفي الشِّعْرِ ما يُغْني عن السَّيْفِ وَقْعُه
كما رَوَّعَ الأعْداءَ بيْتٌ (لأشْجَعِ)
وفي الشِّعْر إحياءُ النُّفوسِ ورِيُّها
وأنتَ لرِيِّ النَّفْسِ أعْذَبُ مَنْبَعِ
فنِّبهْ عُقولاً طال عَهْدُ رُقادِها
وأفئدةً شُدَّتْ إليها بأنْسُعِ
فقد غَمَرَتْها مِحْنَةٌ فوقَ مِحْنَةٍ
وأنتَ لها يا شاعِرَ الشَّرْقِ فادْفَعِ
وأنتَ بحَمْدِ اللهِ ما زِلْتَ قادِرًا
على النَّفْعِ فاستَنْهِضْ بيانَكَ وانْقَعِ
وخُذْ بزِمامِ القَوْمِ وانزعْ بأهْله
إلى المَجْدِ والعَلْياءِ أكرَمَ مَنْزعِ
وقِفْنا على النَّهْجِ القَويمِ فإنّنا
سَلَكْنا طريقًا للهُدى غيرَ مَهْيَعِ
مَلأنا طِباقَ الأرْضِ وَجْدًا ولَوْعَةً
بهِنْدٍ ودَعْدٍ والرَّبابِ وبَوْزَعِ
ومَلَّتْ بناتُ الشِّعْر منّا مَواقِفًا
بسِقْطِ اللِّوَى (والرَّقْمَتَيْن) (ولَعْلَعِ)
وأقْوامُنا في الشَّرْق قد طال نَوْمُهُمْ
وما كانَ نَوْمُ الشِّعْرِ بالمُتَوَقَّعِ
تَغَيَّرَت الدُّنيا وقد كان أهْلُها
يرَوْنَ مُتُونَ العِيسِ ألْيَنَ مَضْجَعِ
وكان بريدُ العِلْمِ عِيرًا وأيْنُقًا
مَتَى يُعْيِها الإيجافُ في البِيد تَظْلَعِ
فأصْبَحَ لا يَرْضى البُخارَ مَطِيَّةً
ولا السِّلْكَ في تَيّارِه المُتدَفِّعِ
وقد كان كلَّ الأمْرِ تصويبُ نَبْلَةٍ
فأصبَحَ بَعضَ الأمْرِ تَصْويبُ مِدْفَعِ
ونحنُ كما غَنَّى الأوائلُ لم نَزلْ
نَغَنِّي بأرْماحٍ وبيضٍ وأدْرُعِ
عَرَفْنا مَدى الشيء القديمِ فهلْ مَدًى
لشيءٍ جديدٍ حاضِرِ النَّفْعِ مُمتِعِ
لدى كلِّ شَعْب في الحَوادِثِ عُدَّةٌ
وعُدَّتُنا نَدْبُ التُّراثِ المُضَيَّعِ
فيا ضَيْعَةَ الأقْلامِ إنْ لم نُقِمْ بها
دِعامَةَ رُكْنِ المَشْرِقِ المُتَزَعْزعِ
أتَمْشي به شُمَ الأنوفِ عُداتُه
ورَبُّ الحِمَى يَمْشي بأنْفٍ مُجَدَّعِ
عَزيزٌ عليه يا بَني الشَّرْقِ أنْ تُرى
كَواكِبُه في أفْقِه غيرَ طُلَّعِ
وأعْلامُه مِنْ فَوْقِه غَيرَ خُفَّقٍ
وأقْلامُه من تَحْتِها غيرَ شُرَّعِ
وكيف يُوَقَّى الشَّرّ أو يَبْلُغُ المُنَى
على ما نَرَى من شَمْلِه المُتَصَدِّعِ
فإنْ كنتَ قوالاً كَريمًا مَقالُه
فقُلْ في سَبيل النِّيل والشَّرْق أوْ دَعِ

(٤٠) إلى المحتفلين بتكريم حافظ (نشرت في ٣١ يناير سنة ١٩٢٨م)

بيتان قالهما في المأدُبة التي أقامها بعض أدباء الغرب في (جروبي) لتكريمه هو (وشوقي) (ومطران)

قد قَرَأناكُمُ فهَشَّتْ نُهانَا
فاقْتَبَسْنا نُورًا يُضيءُ السَّبِيلاَ
فاقْرَءونا ومَنْ لنا أنْ تُصيبُوا
بَيْنَ أفْكارِنا شُعاعًا ضَئيلاَ

(٤١) تحيّة لجمعيّة المرأة الجديدة (نشرت في ١٢ أبريل سنة ١٩٢٨م)

إليكُنَّ يُهْدي النِّيلُ ألفَ تَحيَّةٍ
مُعَطَّرَةٍ في أسْطُرٍ عَطِراتِ
ويُثْني على أعْمالِكُنّ مُوَكِّلي
بإطْراءِ أهْل البرِّ والحَسَناتِ
أقَمْتُنّ بالأمْسِ الأساسَ مُبارَكًا
وجِئْتُنَّ يومَ الفَتْحِ مُغْتَبِطاتِ
صَنَعْتُنّ ما يُعْيي الرجالَ صنيعُهُ
فزِدْتُنّ في الخَيْراتِ والبَرَكاتِ
يقولون: نِصْفُ النّاسِ في الشَّرقِ عاطلٌ
نِساءٌ قَضَيْنَ العُمْرَ في الحُجُراتِ
وهذي بَناتُ النِّيلِ يَعْمَلْنَ للنُّهى
ويَغْرِسْنَ غَرْسًا دانِيَ الثَّمَراتِ
وفي السَّنَةِ السَّوْداء كنتنَّ قُدْوَةً
لنا حينَ سالَ المَوْتُ بالمُهُجاتِ
وقَفْتُنَّ في وَجْهِ الخَميسِ مُدَجَّجًا
وكُنْتُنَّ بالإيمانِ مُعْتَصِماتِ
وما هالَكُنَّ الرُّمْحُ والسَّيْفُ مُصْلَتًا
ولا المِدْفَعُ الرَّشَّاشُ في الطُّرُقاتِ
تَعَلَّمَ منكنّ الرجالُ فأصْبَحُوا
على غَمَراتِ المَوْتِ أهْلَ ثَباتِ
(صَفيّةُ) قادَتْكُنّ للمَجْدِ والعُلاَ
كما كان (سَعْدٌ) قائدَ السَّرَوات
عَرَفْنا لها في مَجْدِ (سَعْدٍ) نَصيبَها
مِنَ الحَزْمِ والإقْدامِ في الأزَماتِ
تُهَوِّنُ للشَّيْخِ الجَليل هُجُومَه
على الهَوْلِ بالتشجيعِ والبَسَماتِ
وتَدْفَعُه للمَوْتِ والثَّغْرُ باسِمٌ
وفي صَدْرها نَوْءٌ مِنَ الزَّفَراتِ
كذا فَلْيَكُنْ صُنْعُ الكريمِ وصَبْرُه
على دَهْرِه والدَّهْرُ غيرُ مُواتي
لتَحْيَ الغَواني في ظِلالِ مَليكَةٍ
سَمَتْ في مَعاليها على المَلِكاتِ
وظَلَّ (فُؤادٌ) مَفْخَرَ الشَّرْقِ كلِّهِ
كثيرَ الأيادي صادِقَ العَزَماتِ

(٤٢) إلى محمّد حُسين هيكل بك وخليل مطران بك (نُشرت في ١٨ أبريل سنة ١٩٢٨م)

قالها في مناظرة كانت بين هيكل ومطرانَ في مدرّج كلّيّة الآداب، موضوعها: «هل الأدب العربي — قديمه وحديثه — يكفي وحده لتكوين الأديب؟»

سَما الخَطيبانِ في المَعالي
وجازَ شَأْوَاهُما السِّماكَا
جالاَ فلمْ يَتْرُكا مَجالاً
واعْتَرَكَا بالنُّهى عِراكَا
فَلسْتُ أدْري على اخْتِباري
مَنْ مِنْهُما جَلَّ أنْ يُحاكَى
فوَحْيُ عَقْلي يقولُ: هذا
ووَحْيُ قلبي يقولُ: ذاكَا
وَدِدْتُ لو كلُّ ذي غُرورٍ
أمْسَى لنَعْلَيْهِمَا شِراكَا

(٤٣) تحيّة الشأم (نشرت في ٢ يونيه سنة ١٩٢٩م)

أنشدها في الحفل الذي أقيم لسماع هذه القصيدة بالجامعة الأميركيّة ببيروت

حَيَّا بَكُورُ الحَيا أرْباعَ لُبْنانِ
وطالَعَ اليُمْنُ مَنْ بالشَّأمِ حَيّاني
أهْلَ الشَّآمِ لقد طوَّقْتُمُ عُنُقي
بمِنَّةٍ خَرَجَتْ عن طَوْقِ تَبياني
قُلْ للكَريم الّذي أسْدَى إليَّ يدًا
أنَّى نَزَحْتَ فأنت النازِحُ الدّاني
ما إنْ تَقَاضَيْتُ نَفْسي ذِكْرَ عارِفَةٍ
هل يَحْدُثُ الذِّكْرُ إلا بعْدَ نِسْيانِ
ولا عَتَبْتُ على خِلٍّ يَضَنُّ بها
ما دامَ يَزْهَدُ في شُكْري وعِرفاني
أقَرَّ عَيْنيَ أنِّي قُمْتُ أنْشِدُكُمْ
في مَعْهَدٍ بحُلَى العِرْفانِ مُزْدانِ
وشاعَ فيّ سُرورٌ لا يُعادِلُه
رَدُّ الشَّبابِ إلى شَعْري وجُثْماني
لي مَوطِنٌ في رُبوعِ النِّيل أعْظِمُه
ولي هنا في حِماكُمْ مَوْطِنٌ ثاني
إنّي رأيتُ على أهْرامِها حُلَلاً
مِن الجَلالِ أراها فَوْقَ (لُبْنانِ)
لم يَمْحُ منها ولا من حُسْنِ جِدَّتِها
على التَّعاقُبِ ما يَمْحُو الجَديدانِ
حَسِبْتُ نَفْسي نَزيلاً بينكم فإذا
أهْلي وصَحْبي وأحْبابي وجِيراني
من كلِّ أبْلَجَ سامي الطَّرْفِ مُضْطَلِعٍ
بالخَطْبِ مُبْتَهِجٍ بالضَّيْفِ جَدْلانِ
يَمْشي إلى المَجْدِ مُخْتالاً ومُبْتَسِمًا
كأنّه حينَ يَبْدو عُودُ مُرّانِ
سَكَنْتُمُ جَنّةً فَيْحاءَ ليس بها
عَيْبٌ سِوَى أنّها في العالَمِ الفاني
إذا تأمَّلْتَ في صُنْعِ الإله بها
لم تَلْقَ في وَشْيِه صُنْعًا لإنْسانِ
في سَهْلِها وأعاليها وسَلْسَلها
بُرْءُ العليل وسَلْوى العاشِقِ العاني
وفي تَضَوُّعِ أنفاسِ الرِّياضِ بها
رَوْحٌ لكلِّ حَزينِ القَلْبِ أسْوانِ
أنَّى تَخَيَّرْتَ من (لُبْنان) مَنْزِلَةً
في كلِّ مَنْزِلَةٍ رَوْضٌ وعَيْنانِ
يا لَيْتَني كنتُ من دُنْيايَ في دَعَةٍ
قلبي جَميعٌ وأمْري طَوْع وِجْداني
أقْضي المصيفَ بلُبنانٍ على شَرِفٍ
ولا أحُولُ عنِ المَشْتَى (بحُلْوانِ)
يا وَقْفَةً في جِبالِ الأرْزِ أنْشُدُها
بينَ الصَّنَوْبَرِ والشَّرْبينِ والبانِ
تَسْتَهْبِطُ الوَحْيَ نَفْسي من سَماوَتِها
ويَنْثَني مَلَكًا في الشِّعْرِ شَيْطاني
عَلِّي أجاوِدُكُم في القَوْل مُقْتَدِيًا
بشاعِرِ الأرْز في صُنْعٍ وإتْقانِ
لا بِدْعَ إنْ أخْصَبَتْ فيها قرائحُكُمْ
فأعْجَزَتْ وأعادتْ عَهْدَ (حَسّانِ)
طِيبُ الهواء وطيبُ الرَّوْضِ قد صَقَلاَ
لَوْحَ الخَيالِ فأغْراكُمْ وأغْراني
مَنْ رامَ أنْ يَشْهَدَ الفِردَوْسَ ماثِلةً
فلْيَغْشَ أحياءَكُمْ في شَهْرِ نَيْسانِ
تاهَتْ بقَبْرِ (صلاحِ الدِّين) تُرْبَتُها
وتاهَ أحياؤُها تِيهًا (بمَطْرانِ)
يَبْني ويَهْدِمُ في الشِّعْرِ القديم وفي الشـ
ـعْرِ الحديثِ فنِعْمَ الهادِمُ الباني
إذا لَمَحْتُمْ بشِعْري وَمْضَ بارِقَةٍ
فَبَعْضُ إحسانِه في القَوْلِ إحْساني
رَعْيًا لشاعِرِكُمْ، رَعْيًا لكاتِبِكُمْ
جَزاهُما اللهُ عنِّي ما يَقولانِ
أرى رِجالاً من الدُّنيا الجديدةِ في الد
نيا القديمَةِ تَبْني خَيْرَ بُنْيانِ
قد شَيَّدوا آيةً بالشَّام خالِدَةً
شتَّى المناهِلِ تَرْوي كلَّ ظَمْآنِ
لئنْ هَدَوْكُمْ لقد كانَتْ أوائِلُكُم
تَهْدِي أوائلَهُمْ أزْمانَ أزْمانِ
لا غَرْوَ إنْ عَمَّروا في الأرْضِ وابتَكَروا
فيها أفانينَ إصْلاحٍ وعُمْرانِ
فتِلْكَ دُنْياهُمُ في الجَوِّ قد نَزَعَتْ
أعِنَّةَ الرِّيحِ من دُنيا سُلَيْمان
أبَتْ أمَيّةُ أنْ تَفْنَى مَحامِدُها
على المَدى وأبَى أبناءُ غَسّانِ
فمِنْ غَطارِفَةٍ في (جِلِّقٍ) نُجُبٍ
ومن غَطارِفَةٍ في أرْضِ (حَوْرانِ)
عافُوا المَذَلَّةَ في الدّنيا فعندهُمُ
عِزُّ الحياةِ وعِزُّ المَوْتِ سِيّانِ
لا يَصْبِرونَ على ضَيْمٍ يُحاوِلُه
باغٍ من الإنْس أو طاغٍ من الجانِ
شَقَقْتُ أسْواقَ (بيروتٍ) فما أخَذَتْ
عَيْنايَ في ساحِها حانُوتَ يُوناني
فقلتُ في غِبْطةٍ: للهِ دَرُّهُمُ
ليسَ الفلاحُ لِوانٍ غيرِ يَقْظانِ
تَيمَّموا أرْضَ كُولُمْبٍ فما شَعَرَتْ
منهم بوَطْءِ غريبِ الدارِ حَيْرانِ
سادُوا وشادُوا وأبْلَوا في مَناكِبها
بَلاء مُضْطَلِعٍ بالأمْرِ مِعْوانِ
إنْ ضاقَ مَيْدانُ سَبْقٍ من عَزائِمِهِمْ
صاحَتْ بهم فأرَوْها ألْفَ مَيْدانِ
لا يَسْتَشيرونَ إنْ هَمُّوا سِوى هِمَمٍ
تأبى المُقامَ على ذُلٍّ وإذْعانِ
ولا يُبالُونَ إنْ كانتْ قُبورُهُمُ
ذُرَا الشَّوامِخ أو أجْوافَ حِيتانِ
في الكَوْنِ مَوْرِقُهُمْ في الشامِ مَغْرِسُهُمْ
والغَرْسُ يَزْكو نِقالاً بينَ بُلدانِ
إنْ لمْ يَفُوزوا بسُلْطانٍ يُقِرُّهُمُ
ففي المُهاجَرِ قد عَزُّوا بسُلطانِ
أو ضاقَتِ الشأمُ عنْ بُرهانِ قُدْرتِهِمْ
ففي المُهاجَر قد جاءوا ببُرْهانِ
إنّا رأينا كِرامًا من رِجالهمُ
كانوا عليهم لَدَينا خيرَ عُنْوانِ
أنَّى الْتَقَيْنا التَقى في كلِّ مُجْتَمَعٍ
أهْلٌ بأهْلٍ وإخْوانٌ بإخوانِ
كم في نواحي رُبوعِ النَّيل من طُرَفٍ
(لليازجيِّ) و(صَرُّوفٍ) و(زَيدانِ)
وكَمْ لأحْيائِهِمْ في الصُّحْف من أثَرٍ
له (المُقَطَّمُ) و(الأهرامُ) رُكنانِ
مَتى أرى الشَّرقَ أدناهُ وأبعَدَه
عن مَطمَع الغَرْبِ فيه غيرَ وَسْنانِ
تَجري المَوَدّةُ في أعْراقِه طُلُقًا
كجِرْيَةِ الماءِ في أثناء أفْنانِ
لا فَرْقَ ما بَيْنَ بُوذِيٍّ يَعيشُ به
ومُسْلِمٍ ويَهودِيٍّ ونَصْرانِي
ما بالُ دُنْياهُ لمّا فاءَ وارِفُها
عليه قد أدْبَرَتْ من غَيْرِ إيذانِ
عَهْدُ (الرَّشيدِ) (ببَغْدادِ) عفا ومَضى
وفي (دِمَشْق) انطوى عَهْدُ (ابنِ مَرْوانِ)
ولا تَسَلْ بَعْدَه عن عَهْدِ (قُرْطُبَةٍ)
كيف انْمَحَى بين أسيافٍ ونِيرانِ
فعَلِّموا كلَّ حَيٍّ عند مَوْلِدِه:
عليكَ للهِ والأوطانِ دَيْنانِ
خَتْمٌ قضاؤُهُمَا، حَتْمٌ جَزاؤُهُما
فارْبأْ بنَفْسِكَ أنْ تُمْنَى بخُسْرانِ
(النِّيلُ) وهوَ إلى (الأُرْدُنِّ) في شَغَفٍ
يُهْدي إلى (بَرَدَى) أشْواقَ وَلْهانِ
وفي (العِراقِ) به وَجْدٌ (بدِجْلَتِه)
و(بالفُراتِ) وتَحْنَانٌ (لسَيْحانِ)
إنْ دامَ ما نَحْنُ فيه من مُدابَرَةٍ
وفِتْنةٍ بين أجْناسٍ وأدْيانِ
رأيتُ رأيَ (المَعَرِّي) حينَ أرْهَقَه
ما حَلَّ بالناسِ من بَغْيٍ وعُدْوانِ
لا تَطْهُر الأرْضُ من رِجْسٍ ومن دَرَنٍ
حتّى يُعاوِدَها (نُوحٌ) بطُوفانِ
وَلَّى الشَّبابُ وجازَتْني فُتوّتُه
وهَدَّمَ السُّقْمُ بَعْدَ السُّقْمِ أرْكاني
وقد وَقَفْتُ على السِّتِّين أسْألُها
أسَوَّفَتْ أم أعَدَّتْ حُرَّ أكْفاني
شاهَدْتُ مَصْرَعَ أتْرابي فبشَّرَني
بضَجْعَةٍ عندها رَوْحي ورَيْحاني
كَمْ مِنْ قريبٍ نَأى عَنِّي فأوْجَعَني
وكَمْ عزيزٍ مَضَى قَبْلي فأبْكاني
مَنْ كان يَسألُ عن قَوْمي فإنّهمُ
ولَّوْا سَراعًا وخَلَّوْا ذلك الواني
إنِّي مَلِلْتُ وُقوفي كلَّ آوِنَةٍ
أبْكي وأنْظِمُ أحْزَانًا بأحْزانِ
إذا تَصَفَّحْتَ ديواني لَتَقْرَأني
وجَدْتَ شِعْرَ المَراثي نِصْفَ ديواني
أتَيْتُ مُسْتَشْفيًا والشَّوقُ يَدفَعُ بي
إلى رُباكُمْ وعُودي غيرُ فَيْنانِ
فأنْزِلوني مَكانًا أسْتَجِمُّ به
ويَنجلي عن فُؤادي بَرْحُ أحْزاني
وجَنِّبوني على شُكْرٍ موائِدكُمْ
بما حَوَتْ منْ أفاويهٍ وألوانِ
حَسْبي وحَسْبُ النُّهى ما نِلْتُ من كَرَمٍ
قد كِدْتُ أنْسى به أهْلي وخُلاّني

(٤٤) تهنئة محمّد محمود باشا (نشرت في ٢٦ مايو سنة ١٩٢٩م)

بلقب دكتور الشرف في الحقوق الذي منحته إيّاه جامعة أكسفورد، وكان رئيسًا للوزارة إذ ذاك

شَرَفُ الرَّآسَةِ يا مُحَمـ
ـدُ زانَه شَرَفُ النُّهَى
بُرْدانِ منْ نَسْجِ الجَلا
لِ إليهما الفَخْرُ انتهَى
جَعَلا مَقَرَّكَ يا مُحَمـ
ـدُ فوْقَ أكْنافِ السُّهَا
زانَتْكَ ألْقابُ الرِّجا
لِ العامِلين وزِنْتَها
أمْنيّةٌ قد نالَها
أمَلُ الخُلودِ ونِلْتَها
فاسلُكْ سَبيلَكَ في الجِها
دِ مُوَفَّقًا ومُنَزَّها
واحْفَظ لمِصْرَ حُقوقَ مِصْـ
ـرَ فأنْتَ في الجُلَّى لها

(٤٥) إلى الدكتور علي إبراهيم بك (باشا) (نشرت في ٢٥ يوليه سنة ١٩٣٠م)

قالها وقد عمل الدكتور عمليّة لصاحب الدولة محمّد محمود باشا

أيَا يَدًا قَدْ خَصَّها رَبُّها
بآيةِ الإعْجازِ في الخَلْقِ
ومِشْرَطًا جُمِّعَ من رَحْمَةٍ
وصِيغَ من يُمْنٍ ومن رِفْقِ
نَجَّيْتُما من مَرَضٍ قاتِلٍ
مَطْلَعَ آمالِ بَني الشَّرْقِ
لَوْلاكُما لانَدَكَّ صَرْحُ العُلا
وانْحَدَرَ البَدْرُ عنِ الأفْقِ
وباتَت الأخْلاقُ في حَسْرَةٍ
على نَبيلِ النَّفْسِ والخُلْقِ
صانَكُما اللهُ لبُرْءِ الوَرَى
وصانَه للعُرْفِ والحَقِّ

وقال فيه أيضا: (ارتجلهما في حفل أقيم لتكريمه سنة ١٩٣٠م)

قُلْ للطَّبيب الّذي تَعْنُو الجِراحُ له
ماذ اعْتَدَدْتَ لجُرْحِ العاشِقِ العاني
قد كان مِبْضَعُه والجُرْحُ يَرْمُقُه
يُمْنَى الحبيبِ تُواسي صَدْرَ وَلْهَانِ

(٤٦) إلى المستشار محمود غالب بك والأستاذ أحمد لطفي السيّد بك مدير الجامعة المصريّة (نشرت في ٣١ مارس ١٩٣٢م)

قد راعَ دارَ العَدْلِ طُغْـ
ـيانٌ وراعَ الجامِعَهْ
فحَمَيْتُمَا حَرَمَيْهِما
رَغْمَ الخُطوبِ الفاجِعَهْ
وقَهَرْتُما الباغي على
رَدِّ الحُقوقِ الناصِعَهْ
للهِ دَرُّ المُسْتَشا
رِ وَدَرُّ ذاكَ الباقِعَهْ
فهُما اللّذانِ تَكَفَّلا
عَنَّا بصَدِّ القارِعَهْ
نَظَر الحِيادُ بعَيْنِه
في النّاسِ هَوْلَ الواقِعَهْ
أمُنَى المُحايِدِ أنْ يَرَى
مِصْرَ العزيزَة ضارِعَهْ
كَذَبَ الحِيادُ فلنْ تَكُو
نَ جُهودُ مِصْرٍ ضائعَهْ
فالحَقُّ لا تُلْوى به
تِلْكَ السُّيوفُ اللامِعهْ
أصْبَحْتُ أسْألُ خاطِري
والنَّفْسُ مِنِّي جازِعَهْ
أنَعيشُ تَحْتَ اللَّيْلِ أمْ
تَحْتَ الشُّموسِ الساطِعَهْ

(٤٧) إلى الدكتور طه حسين (نشرا في ٧ أبريل سنة ١٩٣٢م)

أنشدهما في حفل أقيم للدكتور بفندق مينا هاوس من طلبة الجامعة بعد فصله من منصبه

قد أجْدَبَتْ دارُ الجحَا والنُّهى
بعْدَكَ من آرائِكَ النافِعَهُ
وأخْصَبَتْ أرْجاءُ مِصْرٍ بمَنْ
صَيَّرَ مِصْرًا كلَّها جامِعَهْ

(٤٨) تهنئة المغفور له جلالة الملك فؤاد بعيد جلوسه

أرَأيْتَ رَبَّ التاجِ في
عيدِ الجلوسِ وقد تَبَدَّى
وشهِدْت جِبريلا يَمُد
دُ عليه ظِلَّ اللهِ مَدّا
ونَظَرْتَ تَطْوافَ القُلو
بِ بساحةِ العَرْشِ المُفَدَّى
وسَمِعْتَ تَسْبيحَ الوُفُو
دِ بحَمْده وَفْدًا فوَفْدا
هذا ابنُ إسماعيلَ ر
ب النِّيلِ مَنْ أغْنَى وأسْدَى
النِّيلُ يَجْري تَحَتهُ
فيَخُدُّ وَجْهَ الأرضِ خَدّا
يَهَبُ النُّضارَ كأنّه
من فَيْضِ جَدْواه استَمدّا
وكأنّما هُوَ عالِمٌ
بالكيمياء أصابَ جَدّا
يَدَعُ الثَّرى تِبْرًا فهَلْ
شَهِدَ الوَرَى للنِّيل نِدّا
الناسُ يومَ جُلوسِه
يَسْتَقْبِلونَ العَيْشَ رَغْدا
أنّى سلَكْتَ سَمِعْتَ أدْ
عِيَةً له وسَمِعْتَ حَمْدا
عِشْ يا (أبا الفارُوق) والـ
ـبَسْ من نَسيج الحَمْدِ بُرْدا
ها صَوْلَجانَ المُلْكِ مِنْ
شَجَرِ الجِنانِ إليكَ يُهْدَى
حُدَّتْ عُلا صيدِ المُلو
كِ ولا أرى لعُلاكَ حَدّا
فابنِ الرِّجالَ بنايَةً
يَشْقى العَدُوُّ بها ويَرْدَى
واضرِبْ بسَوْطِ البأسِ أعْـ
ـطافَ الزمانِ إذا استَبَدّا
أيُّ المُلوكِ أجَلُّ مِنْـ
ـكَ مكانةً وأعزُّ جُنْدا؟
مَنْ منهمُ كفّاه يوْ
مَ البذْلِ من كَفَّيْكَ أنْدى؟
مَنْ منهمُ نامتْ رَعيْـ
ـيتُهُ وقامَ الليلَ سُهْدَا؟
مَنْ منهمُ ساماكَ أو
سامَى جلالَكَ أو تَحَدَّى؟
مَنْ منهمُ أوفى حِجًا
وحصافةً وأبَرُّ وَعْدا؟
في الشِّرْقِ فانظرْ هل تَرَى
حَسَبًا (كإسْماعِيلَ) عُدّا؟
هذي (الجَزيرةُ) و(العِرا
قُ) (وفارسٌ) يُهْدَدْنَ هَدّا
وإليكَ (مَكّةَ) هَلْ تَرَى
أحَدًا بها وإليكَ (نَجْدا)
وإليكَ (تُونُسَ) و(الجَزا
ئِرَ) قد لبِسْنَ العَيْشَ نَكْدا
لم يَرْتَفِعْ في الشَّرق تا
جٌ فوق تاج (النِّيل) مَجْدا
جَدَّدْتَ عهْدَ (الرَّاشِديـ
ـنَ) تُقًى وإحسانًا وزُهْدا
ونَرى عليْكَ مَخايِلَ الـ
ـخُلَفاءِ إنصافًا ورُشْدا
جَلَّتْ صِفاتُكَ، كم مَحَوْ
تَ أسًى وكَمْ أوَرَيْتَ زَنْدا
أعْطَيْتَ لا مُتَرَبِّحًا
أو مُخْفيًا في الجُودِ قَصْدا
رَوَّيْتَ أفئدة الرَّعيـ
ـَيةِ من هواكَ فكيفَ تَصْدَى
ومَلَكْتَهُنّ كما مَلَكْـ
ـتَ زِمامَ (مِصْرَ) أبًا وجَدّا
فإذا نَهَيْتَ فطاعَةٌ
وإذا أمَرْتَ فلا مَرَدّا
أعْطَوْكَ طاعَةَ مُخْلِصٍ
ومَنَحْتَهُمْ عَطْفًا ووُدّا
أوْضَحْتَ للمِصريِّ نَهْـ
ـجَ صَلاحِهِ فسعى وجَدّا
أعْدَدْتَه وكَفَلْتَه
ورَعَيْتَه حتّى استَعَدّا
ودَعَوْتَه أنْ يَسْتَرِدْ
دَ فَخارَ مِصْرٍ فاستَرَدّا
وَرَدَ الحياةَ عزيزةً
فنَجا وكان الموتُ وِرْدا
وحَمَى الكِنانةَ بعد ما
حَفَرْتَ لنا الأطماعُ لَحْدا
فَتَّحْتَ أعيُنَنا فأبْـ
ـصَرْنَ الضِّياءَ وكُنّ رُمْدا
وأقَمْتَ جامِعَةً بِمصْـ
ـرَ تَشُدُّ أزْرَ العِلْمِ شَدّا
كَمْ سَيِّدٍ بالعِلْمِ كا
نَ برَغْمِه للجَهْلِ عَبْدا
ورفَعْتَ في ثَغْرِ الشُّغُو
رِ لِمُنْشَآتِ البَحْرِ بَنْدا
أسَّسْتَ مَدْرَسَةً تُعيـ
ـدُ لنا بمُلْكِ البَحْرِ عَهْدا
فمتى أرى أسطولَ مِصْـ
ـرَ يُثيرُ فوق البحر رَعْدا
ومتى أرى جَيشَ البلا
دِ يَسُدُّ عَيْنَ الشّمسِ سدّا
ونَظَرْتَ في الطَّيرَانِ نَظـ
ـرَةَ مُصْلِحٍ لم يَأْلُ جُهْدا
أعْدَدْتَ عُدّتَه ولم
تَرَ منه للأوْطانِ بُدّا
أعْظِمْ بأسْطولِ الهَوا
ءِ إذ انْبَرَى فَسَطا وشَدّا
مَن راءَه يومَ النِّزا
لِ رأى النُّسورَ تَصيدُ أُسْدا
وتَراه عند السِّلْمِ سِرْ
بًا من طَواويسٍ تَبَدَّى
وطوائِفَ العُمّال كَمْ
أوْلَيْتها رِفْدًا فرِفْدا
مَن ذا يُطيقُ لبَعْضِ ما
أصْلَحْتَ أو أسْدَيْتَ عَدا
دُم يا (فُؤادُ) مُؤيَّدًا
بالمالِ والأرواحِ تُفْدَى
وأعِدْ لنا عَهْدَ المُعِـ
ـزِّ الفاطميِّ فأنتَ أهْدَى

(٤٩) تهنئة لصاحب السعادة نجيب الهلالي بك

قال هذين البيتين مرتجلاً عندما تولّى وكالة المعارف للتعليم الفنّيّ والفنون الجميلة سنة ١٩٢٩م

أضحى (نجيبُ) وَكيلا
لنا ونِعْمَ الوَكيلُ
فَلْيَنْعَمِ الشِّعْرُ بالاً
فالشِّعْرُ فَنٌّ جَميلُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤