الشّكوى

(١) إلى محمّد الشيمي بك المحامي بطنطا

قال حافظ هذين البيتين، وكان يعمل بمكتبه في أوّل شبابه قبل انتظامه في سلك المدرسة الحربيّة، ثمّ تركه لخلاف وقع بينهما

جِرابُ حَظِّيَ قد أفْرَغْتُهُ طَمَعًا
بباب أستاذِنا (الشِّيمي) ولا عَجَبا
فعادَ لي وهو مَمْلوءٌ فقلتُ له:
مّمَ؟ فقال من الحَسْراتِ واحَرَبَا

(٢) إلى آدم أبي البَشَر

سَليلَ الطِّينِ كم نِلْنا شَقاءً
وكَمْ خَطَّتْ أنامِلُنا ضَريحَا
وكم أزْرَتْ بنا الأيّامُ حتّى
فَدَتْ بالكَبْشِ (إسْحاقَ) الذَّبيحَا
وباعَتْ (يُوسُفًا) بَيْعَ المَوالي
وألْقَتْ في يدِ القَوْمِ (المَسيحَا)
ويا (نُوحًا) جَنَيْتَ على البرايا
ولم تَمْنَحْهُمُ الوُدَّ الصَّحيحَا
عَلامَ حَمَلْتَهُمْ في الفُلْكِ هَلاَّ
تَرَكْتَهُمُ فكُنْتَ لهُمْ مُريحَا
أصابَ رفاقيَ القِدْحَ المُعَلَّى
وصادَفَ سَهْميَ القِدْحَ المَنِيحَا

(٣) النفس الحزينة (نشرا في ٢٣ نوفمبر سنة ١٩٠٠م)

بيتان مترجمان عن (جان جاك روسو)

خَلَقْتَ لي نَفْسًا فأرْصَدْتَها
للحُزْنِ والبَلْوَى وهذا الشَّقاءْ
فامنُنْ بنَفْسٍ لم يَشُبْها الأسى
لَعلَّها تَعْرِفُ طَعْمَ الهَناءْ

(٤) سعيٌ بلا جدوى (نُشرت في ٣١ ديسمبر سنة ١٩٠٠م)

يصف سعيه المتواصل وبؤسه وإباءه، ويتمنّى الراحة من ذلك بالموت

سَعَيْتُ إلى أنْ كِدْتُ أنْتَعِلُ الدَّما
وعُدْتُ وما أعْقَبْتُ إلاّ التَّنَدُّمَا
لحَى اللهُ عَهْدَ القاسِطين الّذي به
تَهَدَّمَ من بُنْيانِنا ما تَهَدَّما
إذا شِئْتَ أنْ تَلْقَى السَّعادَةَ بينهمْ
فلا تَكُ مِصْريًّا ولا تَكُ مُسْلِمَا
سَلامٌ على الدُّنيا سَلامَ مُوَدِّعٍ
رَأى في ظلامِ القَبْرِ أنْسًا ومَغْنَما
أضَرَّتْ به الأولَى فهامَ بأخْتِها
فإنْ ساءَت الأخرى فَوَيْلاهُ مِنْهمَا
فهُبِّي رياحَ الموتِ نُكْبًا وأطْفِئي
سِراجَ حَياتي قبْل أنْ يَتَحَطَّما
فما عَصَمَتْني من زماني فضائلي
ولكنْ رأيتُ الموتَ للحُرِّ أعْصَمَا
فيا قلبُ لا تَجْزَعْ إذا عَضَّكَ الأسى
فإنّكَ بَعْد اليومِ لن تَتَألَّما
ويا عَيْنُ قد آنَ الجُمودُ لمَدمَعي
فلا سَيْل دَمْعٍ تَسْكُبين ولا دَما
ويا يَدُ ما كَلَّفْتُكِ البَسْطَ مَرَّةً
لذي مِنَّةٍ أوْلى الجَميلَ وأنْعَما
فللهِ ما أحْلاكِ في أنْمُلِ البِلَى
وإنْ كنتِ أحْلى في الطُّروسِ وأكْرَما
ويا قَدَمي ما سِرْتِ بي لمَذَلَّةٍ
ولم تَرْتقي إلا إلى العِزِّ سُلَّما
فلا تُبْطِئي سَيْرًا على الموتِ واعلَمي
بأنّ كريمَ القومِ مَنْ مات مُكْرَمَا
ويا نَفْسُ كم جَشَّمْتُكِ الصبرَ والرضا
وجَشَّمْتِني أن ألْبَسَ المجدَ مُعْلَما
فما اسطَعْتِ أنْ تَسْتَمْرِئي مُرَّ طَعْمِه
وما اسطَعتُ بين القومِ أنْ أتَقَدَّما
فهذا فِراقٌ بيننا فتَجَمَّلي
فإنَّ الرَّدى أحْلى مَذاقا ومَطْعَمَا
ويا صَدْرُ كَمْ حَلَّت بذاتِكَ ضِيقةٌ
وكَمْ جالَ في أنحائكَ الهَمُّ وارتَمى
فهلاَّ تَرَى في ضِيقةِ القَبْرِ فسْحَةً
تُنَفِّسُ عنكَ الكَرْبَ إن بِتَّ مُبْرَمَا؟
ويا قَبْرُ لا تَبْخَلْ بِرَدِّ تَحيّةٍ
على صاحبٍ أوْفَى علينا وسَلَّما
وهيهاتَ يَأتي الحَيُّ للمَيْتِ زائرًا
فإنِّي رأيتُ الوُدَّ في الحَيِّ أسْقما
ويأيُّها النَّجمُ الّذي طال سُهْدُه
وقد أخَذَتْ منه السُّرى أين يَمَّما
لَعلَّكَ لا تَنْسى عُهودَ مُنادِمٍ
تعلَّمَ منك السُّهْدَ والأيْنَ كُلَّما

(٥) الإخفاق بعد الكدّ (نشرت سنة ١٣١٨هـ–سنة ١٩٠٠م)

وفيها ينعي مجد الترك والعرب، ويشير إلى معان أخرى في الشكوى

ماذا أصَبْتَ منَ الأسفارِ والنَّصَب
وطَيِّكَ العُمْرَ بيْنَ الوَخْدِ والخَبَبِ؟
نَراكَ تَطْلُبُ لا هَوْنًا ولا كَثَبًا
ولا نَرَى لك مِنْ مالٍ ولا نَشَبِ
لا تُطْعِماني أنْيابَ المَلامِ على
هذا العِثارِ فإنِّي مَهْبِطُ العَجَبِ
وَدِدْتُ لو طَرَحوا بي يومَ جِئْتُهُمُ
في مَسْبَحِ الحُوتِ أو في مَسْرَحِ العَطَبِ
لَعلَّ (مانِيَ) لاقَى ما أكابِدُه
فوَدَّ تَعْجيلَنا من عالَمِ الشَّجَبِ
غنِّي أحْتَسَبْتُ شبابًا بِتُّ أُنْفِقُه
وعَزْمَةً شابَتِ الدُّنيا ولم تَشِبِ
كم هِمْتُ في البِيدِ والآرامُ قائِلةٌ
والشَّمسُ تَرمي أديمَ الأرْضِ باللَّهَبِ
وكم لَبِسْتُ الدُّجى والتُّرْبُ ناعِسةٌ
واللَّيْلُ أهْدَأُ من جَأْشي لَدَى النُّوَبِ
والنَّجمُ يَعْجَبُ من أمري ويَحْسَبُني
لدى السُّرى ثامنًا للسَّبْعَةِ الشُّهُبِ
لكنّني غيرُ مَجْدودٍ وما فَتِئَتْ
يَدُ المَقاديرِ تُقْصيني عن الأرَبِ
وقد غَدَوْتُ وآمالي مُطَرَّحَةٌ
وفي أموري ما للضَّبِّ في الذنَبِ
فإنْ تَكُنْ نِسْبَتي للشَّرْقِ مانِعَتي
حَظًّا فواهًا لمَجْدِ التُّرْكِ والعَرَبِ
وقاضِباتٍ لهمْ كانت إذا اختُرِطَتْ
تَدَثَّرَ الغَرْبُ في ثَوْبٍ منَ الرَّهَبِ
وجَمْرةٍ لهم في الشَّرقِ ما هَمَدَتْ
ولا عَلاها رمادُ الخَتْلِ والكَذِبِ
متى أرى (النِّيلَ) لا تَحْلُو مَوارِدُه
لغير مُرْتَهبٍ للهِ مُرْتَقِبِ
فقد غَدَتْ (مِصْرُ) في حالٍ إذا ذُكِرَتْ
جادَتْ جُفوني لها باللُّؤلُؤ الرَّطبِ
كأنّني عندَ ذِكري ما ألمَّ بها
قَرْمٌ تَردَّدَ بين المَوْتِ والهَرَبِ
إذا نَطَقْتُ فقاعُ السِّجْنِ مُتَّكَأٌ
وإنْ سَكَتُّ فإنّ النَّفْسَ لم تَطِبِ
أيَشْتكي الفَقْرَ غادينا ورائِحُنا
ونحن نَمشي على أرضٍ مِنَ الذَّهَبِ
والقَوْمُ في (مِصْرَ) كالإسْفَنْجِ قد ظَفِرَتْ
بالماءِ لم يَتْرُكوا ضَرْعًا لمُحْتَلِبِ
(يا آلَ عُثمانَ) ما هذا الجفاءُ لنا
ونحنُ في اللهِ إخْوانٌ وفي الكُتُبِ
تَرَكْتُمونا لأقْوامٍ تُخالِفُنا
في الدِّين والفَضْلِ والأخلاقِ والأدَبِ

(٦) حسرة على فائت (نشرت في يونيه سنة ١٩٠٢م)

لم يَبقَ شيءٌ من الدُّنيا بأيْدينا
إلا بقيّةَ دَمْعٍ في مَآقينا
كنّا قِلادَةَ جِيدِ الدَّهْرِ فانفَرَطَتْ
وفي يَمينِ العُلا كنّا رَياحِينا
كانت مَنازِلُنا في العِزِّ شامِخةً
لا تُشْرِق الشُمْسُ إلاّ في مَغانينا
وكان أقصى مُنَى نَهْرِ (المَجَرَّةِ) لو
من مائِه مُزِجَتْ أقداحُ ساقِينا
والشُهْب لو أنّها كانت مُسَحَّرةً
لرَجْمِ مَنْ كان يَبدو مِنْ أعادينا
فلم نَزَلْ وصُروفُ الدَّهْرِ تَرْمُقُنا
شَزْرًا وتَخْدَعُنا الدّنيا وتُلْهينا
حتّى غَدَوْنا ولا جاهٌ ولا نَشَبٌ
ولا صديقٌ ولا خِلٌّ يُواسِينا

(٧) وداع الشباب (نشرت في ٢٦ فبراير سنة ١٩٣٢م)

قال هذه القصيدة في دار وسط مزارع في الجيزة قضى فيها بعض أيّام شبابه، ثمّ مَرّ بها بعد عهد طويل من تحوّله عنها فتحرّكت في نفسه ذكريات، وجاش صدره بهذه الأبيات

كم مَرَّ بي فيكِ عَيْشٌ لستُ أذْكُرُه
ومَرَّ بي فيكِ عَيْشٌ لستُ أنْساهُ
وَدَّعْتُ فيكِ بقايا ما عَلِقْتُ به
منَ الشّباب وما وَدَّعْتُ ذِكْراهُ
أهْفو إليه على ما أقْرَحَتْ كَبِدي
من التَّباريح أولاهُ وأُخْراهُ
لَبِسْتُه ودُموعُ العَيْنِ طَيِّعَةٌ
والنفسُ جيَّاشةٌ والقَلْبُ أوّاهُ
فكان عَوْني على وَجْدٍ أُكابِدُهُ
ومُرِّ عَيْشٍ على العِلاّتِ ألْقاهُ
إنْ خانَ وُدِّي صديقٌ كنتُ أصْحَبُه
أو خانَ عَهْدي حبيبٌ كنتُ أهْواهُ
قد أرْخَصَ الدَّمْعَ يَنْبوعُ الغَناءِ به
وا لَهْفَتي، ونُضوبُ الشَّيْبِ أغْلاهُ
كم رَوَّحَ الدمعُ عن قلبي وكم غَسَلَتْ
منه السَّوابقُ حُزْنًا في حَناياهُ
لم أدْرِ ما يَدُه حتّى تَرشَّفَه
فَمُ المَشيبِ على رَغْمي فأفْناهُ
قالوا تَحرَّرْتَ من قَيْدِ المِلاحِ فعِشْ
حُرًّا ففي الأسْرِ ذُلٌّ كُنتَ تَأْباهُ
فقُلْتُ يا لَيْتَه دامَتْ صَرامَتُه
ما كان أرْفَقه عندي وأحْناهُ
بُدِّلْتُ منه بقَيْدٍ لستُ أفْلَتُه
وكيف أُفْلَتُ قَيْدًا صاغَهُ اللهُ
أسْرى الصَّبابَةِ أحْياءٌ وإنْ جَهِدوا
أمّا المَشيبُ ففي الأمْواتِ أسْراهُ

وقال: (كتب بها من السودان إلى بعض أصدقائه يشكو حظّه ويتشوّق إلى مصر)

رَمَيْتُ بها على هذا التَّبابِ
وما أوْرَدْتُها غيرَ السَّرابِ
وما حَمَّلْتُها إلا شَقاءً
تُقاضيني به يومَ الحِسابِ
جَنَيْتُ عليكِ يا نَفْسي وقَبْلي
عليكِ جَنَى أبي فدَعِي عِتابي
فلَولا أنّهمْ وَأدُوا بَياني
بَلَغْتُ بكِ المُنى وشَفَيْتُ ما بي
سَعَيْتُ وكم سَعَى قَبْلي أديبٌ
فآبَ بخَيْبةٍ بعْدَ اغترابٍ
وما أعْذَرْتُ حتّى كان نَعْلي
دَمًا ووِسادَتي وجْهَ التُّرابِ
وحتّى صيَّرَتْني الشمسُ عَبْدًا
صبيغًا بعْدَ ما دَبَغَتْ إهابي
وحتّى قَلَّمَ الإمْلاقُ ظُفْري
وحتّى حَطَّم المِقدارُ نابي
مَتَى أنا بالِغٌ يا (مِِصْرُ) أرْضًا
أشَمُّ بتُرْبها ريحَ المَلابِ
رأيتُ ابنَ البُخارِ على رُباها
يَمُرُّ كأنّه شَرْخُ الشَّبابِ
كأنّ بجَوْفِه أحشاءَ صَبٍّ
يُؤَجِّجُ نارَها شَوقُ الإيابِ
إذا ما لاحَ ساءَلْنا الدَّياجي
أبَرْقُ الأرْضِ أمْ بَرْقُ السَّحابِ

وقال:

ما لهذا النَّجْم في السَّحَرِ
قد سَها من شِدَّةِ السَّهَرِ؟
خِلْتُه يا قَوْمُ يُؤْنِسُني
إنْ جَفاني مُؤْنِسُ السَّحَرِ
يا لِقَوْمي إنَّني رَجُلٌ
أفْنَت الأيّامُ مُصْطَبَري
أسْهَرَتْني الحادِثاتُ وقد
نامَ حتّى هاتِفُ الشَّجَرِ
والدُّجَى يَخْطو على مَهَلٍ
خَطْوَ ذي عِزٍّ وذي خَفَرِ
فيه شَخْصُ اليأسِ عانَقَني
كحبيبٍ آبَ من سَفَرِ
وأثارَتْ بي فوادِحُه
كامِناتِ الهَمِّ والكَدَرِ
وكأنّ اللَّيْلَ أقْسَمَ لا
يَنْقَضي أو يَنْقَضي عُمُري
أيُّها الزَّنْجِيُّ مالَكَ لم
تَخْشَ فينا خالِقَ البَشَر؟
لي حَبيبٌ هاجِرٌ ولهُ
صورةٌ من أبْدعِ الصُّوَرِ
أتَلاشى في مَحَبّته
كتلاشي الظِّلِّ في القَمَرِ

(٨) شكوَى الظلم

لقد كانَتِ الأمْثالُ تُضْرَبُ بَيْنَنا
بجَوْرِ (سَدُومٍ) وهو مِنْ أظَلَمِ البَشَرْ
فلمّا بَدَتْ في الكَوْنِ آياتُ ظُلْمِهِمْ
إذا (بسَدومٍ) في حُكومَتِه (عُمَرْ)

وقال في مرض له:

مَرِضنا فما عادَنا عائدُ
ولا قيلَ: أيْنَ الفَتَى الألْمَعي؟
ولا حَنَّ طِرْسٌ إلى كاتِبٍ
ولا خَفَّ لَفْظٌ على مِسْمَعِ
سَكَتْنا فعَزَّ علينا السُّكوت
وهان الكلامُ على المُدَّعي
فيا دَوْلَةً آذَنَتْ بالزوال
رَجَعْنا لعَهْد الهَوَى فارْجِعي
ولا تَحْسِبِينا سَلَوْنا النَّسيب
وبين الضُّلوعِ فؤادٌ يَعِي

(٩) سجن الفضائل

نَعِمْنَ بنَفسي وأشْقَيْنَني
فيا ليْتَهُنَّ ويا لَيْتَني
خِلالٌ نَزَلْنَ بخِصْبِ النُّفوس
فرَوَّيْنَهنَّ وأظْمَأْنَني
تَعَوَّدْنَ منِّي إباءَ الكَريم
وصَبْرَ الحَليمِ وتِيهَ الغَني
وعَوَّدْتُهُنَّ نِزالَ الخُطوب
فما يَنْثَنِينَ وما أنْثَني
إذا ما لَهَوْتُ بلَيْلِ الشَّباب
أهَبْنَ بعَزْمي فنَبَّهْنَني
فما زِلْتُ أمْرَحُ في قَدِّهِنّ
ويَمْرَحْنَ منِّي برَوْضٍ جَني
إلى أنْ تَوَلَّى زمانُ الشَّباب
وأوْشَكَ عُودي أنْ يَنْحَني
فيا نَفْسُ إنْ كنتِ لا تُوقِنين
بمَعْقودِ أمْرِكِ فاسْتَيْقِني
فهذي الفضيلةُ سِجْنُ النُّفوس
وأنتِ الجديرَةُ أنْ تُسْجَني
فلا تَسأليني متى تَنْقَضي
ليالي الإسارِ؟ ولا تَحزَني

(١٠) كتاب إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده

كتب به إليه من السودان

كتابي إلى سيِّدي، وأنا من وَعْدِه بين الجَنَّة والسَّلْسَبيل، ومِنْ تِيهي به فوقَ النَّثْرَةِ والإكْليل؛ وقد تَعَجَّلْتُ السُّرور، وتَسَلَّفْتُ الحُبُور؛ وقَطَّعْتُ ما بيني وبين النَّوائب

وبَشَّرْتُ أهْلي بالّذي قد سَمِعْتُه
فما مِحْنَتي إلا لَيالٍ قلائلُ
وقلتُ لهمْ: للشَّيخِ فينا مَشيئةٌ
فليسَ لنا مِنْ دَهْرِنا ما نُنازِلُ

وجَمَعْتُ فيه بين ثِقَةِ الزَّبيديِّ بالصَّمصامَة، والحارِثِ بالنَّعامة؛ فلمْ أقُلْ ما قال الهُذَليُّ لصاحِبِه حين نَسيَ وَعْدَه، وحَجَب رِفْدَه:

يا دارَ عاتِكَةَ الّتي أَتَعَزَّلُ

بل أناديه نداءَ الأخيذَةِ في عَمُّوريَّة، شُجاعَ الدَّوْلةِ العَبّاسيّة؛ وأمُدُّ صوتي بذِكْرِ إحسانه، مَدَّ المُؤَذِّنِ صَوْتَه في أذانِه؛ وأعْتَمِدُ عليه في البُعْد والقُرْب، اعتمادَ الملاّحِ على نَجْمَةِ القُطْب.

وقال أصَيْحابي وقد هالَني النَّوَى
وهالَهُمُ أمْري: مَتى أنْتَ قافِلُ؟
فقلتُ: إذا شاءَ الإمامُ فأوْبَتي
قَريبٌ ورَبْعي بالسَّعادةِ آهِلُ

وهأنا مُتماسِكٌ حتّى تَنْحَسِرَ هذه الغَمْرة، ويَنْطَوي أجَلُ تلكَ الفَتْرة؛ ويَنظُرُ لي سيِّدي نَظْرَةً تَرْفَعُني من ذاتِ الصَّدْع، إلى ذاتِ الرَّجْع؛ وتَرُدُّني إلى وَكْري الّذي فيه دَرَجْتُ ردَّ الشمسِ قَطْرَةَ المُزْنِ إلى أصْلِها، ورَدَّ الوَفيِّ الأماناتِ إلى أهلِها.

فإنْ شاءَ فالقُرْبُ الّذي قد رَجَوْتُه
وإنْ شاءَ فالعِزُّ الّذي أنا آمُلُ
وإلا فإنِّي قافُ (رُؤْبَةَ) لم أزَلْ
بقَيْدِ النَّوى حتّى تَغُولَ الغَوائِلُ

فلقد حَلَلْتُ السُّودانَ حُلولَ الكَليم في التّابوت، والمُغاضِبِ في جَوْفِ الحُوت؛ بين الضِّيق والشِّدّة، والوَحْشَةِ والوحْدة. لا، بل حُلول الوَزيرِ في تَنُّورِ العّذاب والكافر في مَوْقِف يومِ الحِساب؛ بين نارَين: نارِ القَيْظ، ونارِ الغَيْظ.

فنادَيْتُ باسمِ الشَّيخِ والقَيْظُ جَمْرهُ
يُذيبُ دِماغَ الضَّبِّ والعَقْلُ ذاهِلُ
فصِرتُ كأنِّي بين رَوْضٍ ومَنْهَلٍ
تَدِبُّ الصَّبا فيه وتَشْدو البَلابِلُ

واليومَ أكتُبُ إليه وقد قَعَدَتْ هِمّةُ النَّجْمَيْن، وقَصُرَتْ يدُ الجَديدَين؛ عن إزالَةِ ما في نَفْسِ ذلك الجَبّارِ العَنيد، فلقد نَمَى ضِبُّ ضِغْنِه عليَّ، وبَدَرَتْ بوادِرُ السُّوء منه إليّ؛ فأصْبَحْتُ كما سَرَّ العَدُوَّ وساءَ الحَميم، وآلامي كأنَّها جُلودُ أهْلِ الجحيم، كلَّما نَضِجَ منها أديمٌ تَجدَّد أديم؛ وأمْسَيْتُ ومُلْكُ آمالي إلى الزَّوال أسْرَعُ من أثَرِ الشِّهابِ في السَّماء، ودَوْلَةُ صَبْري إلى الاضْمِحْلال أحَثُّ من حَبابِ الماء؛ فنَظَرْتُ في وُجوه تلك العِباد، وإنِّي لَفارسُ العَيْن والفُؤاد؛ فلَمْ تَقِفْ فِراسَتي على غير بابِك.

وإنِّي أُهْديكَ سَلامًا لو امتزَجَ بالسَّحاب، واختَلَط منه باللُّعاب؛ لأصْبَحَتْ تَتَهادَى بقَطْرِه الأكاسِرَه، وأمْسَتْ تَدَّخِرُ منه الرُّهْبانُ في الأدْيِرَة؛ ولأغْنَى ذاتَ الحِجاب، عن الغاليةِ والمَلاب؛ ولا بِدْعَ إذا جادَ السَّيِّدُ بالرَّدّ، فقد يُرى وَجْهُ المَليكِ في المِرْآة، وخَيالُ القَمَر في الأضاة؛ وإن حال حائل، دون أُمْنِيَّةِ هذا السائل؛ فهو لا يَذُمُّ يَوْمَك، ولا يَيْأسُ من غَدِك؛ فأنتَ خَيْرُ ما تكونُ حينَ لا تَظُنُّ نَفْسٌ بنَفْسٍ خَيرًا؛ والسَّلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤