السِّيَاسِيَّات

(١) العلمان المصري والإنجليزي في مدينة الخرطوم

رُوَيْدَكَ حتّى يَخْفِقَ العَلمانِ
وتَنظُرَ ما يَجري به الفَتَيانِ
فما مِصْرُ كالسُّودانِ لُقْمَةُ جائعٍ
ولكنّها مَرْهونَةٌ لأوانِ
دعاني وما أرْجَفْتُما باحتماله
فإنِّي بمَكْر القوْمِ «شِقُّ» زماني
أرى مصرَ والسُّودانَ والهِنْدَ واحِدًا
بها اللَُّرْدُ والفِيكُنْتُ يَسْتَبِقانِ
وأكْبَرُ ظَنِّي أنَّ يومَ جَلائِهم
ويومَ نُشورِ الخَلق مُقْتَرِنانِ
إذا غاضَتِ الأمْواهُ من كلِّ مَزْبِدٍ
وخَرَّتْ بُروجُ الرَّجْمِ للحَدَثانِ
وعاد زمانُ السَّمْهَرِيِّ ورَبِّه
وحُكِّمَ في الهَيْجاءِ كُلُّ يَماني
هُناك اذكُرا يومَ الجَلاءِ ونَبِّها
نِيامًا عليهم يَنْدُبُ الهَرَمانِ

(٢) إلى مولاي عبد العزيز سلطان مراكش (نشرت في ٤ أبريل سنة ١٩٠٤م)

قالها وقد اقترح المؤيّد على الشعراء أن ينظموا في عتاب مولاي عبد العزيز سلطان مراكش

(عبدَ العزيز) لقد ذَكَّرْتَنا أُمَمًا
كانت جِوارَكَ في لَهْوٍ وفي طَرَبِ
ذَكَّرْتَنا يومَ ضاعَتْ أرضُ أنْدَلُسٍ
الحَرْبُ في الباب والسُّلطانُ في اللَّعِبِ
فاحذَرْ على التَّخْتِ أن يَسْري الخرابُ له
فتَخْتُ (سُلْطانةٍ) أعْدى من الجَرَبِ

(٣) غادة اليابان (نشرت في ٦ أبريل سنة ١٩٠٤م)

ضمّنها غرامه بغادة يابانيّة، وأشاد بالشجاعة التي ظهرت بها أمّة اليابان في الحرب بينها وبين روسيا

لا تَلُمْ كَفِّي إذا السَّيْفُ نَبا
صَحَّ مِنِّي العَزْمُ والدَّهْرُ أبى
رُبَّ ساعٍ مُبْصِرٍ في سَعْيِه
أخْطأ التَّوفيقَ فيما طَلَبا
مَرْحَبًا بالخَطْبِ يَبْلوني إذا
كانت العَلْياءُ فيه السَّبَبا
عَقَّني الدَّهْرُ ولولا أنّني
أُوثِرُ الحُسْنَى عَقَقْتُ الأدَبا
إيهِ يا دُنيا اعْبِسي أو فابسِمي
لا أرى بَرْقَكِ إلاّ خُلَّبا
أنا لولا أنّ لي منْ أُمّتي
خاذِلاً ما بِتُّ أشْكو النُّوَبا
أُمّةٌ قد فَتَّ في ساعِدها
بُغْضُها الأهْلَ وحُبُّ الغُرَبا
تَعْشَقُ الألْقابَ في غَيْرِ العُلا
وتُفَدِّي بالنُّفوسِ الرُّتَبا
وهي والأحْداثُ تَسْتَهْدِفُها
تَعْشَق اللَّهْوَ وتَهْوَى الطَّرَبا
لا تُبالي لَعِبَ القَوْمُ بها
أمْ بها صَرْفُ اللَّيالي لَعِبا
لَيتَها تَسمَعُ منِّي قصَّةً
ذاتَ شَجْوٍ وحديثًا عَجَبَا
كنتُ أهْوَى في زماني غادةً
وَهَبَ اللهُ لها ما وَهَبا
ذات وَجْهٍ مَزَجَ الحُسْنُ به
صُفْرَةً تُنْسي اليَهودَ الذَّهَبا
حَمَلَتْ لي ذاتَ يومٍ نَبأ
لا رعاكَ اللهُ يا ذاكَ النَّبا
وأتتْ تَخْطِر والليلُ فتًى
وهِلالُ الأفْقِ في الأفْقِ حَبَا
ثمّ قالت لي بثَغْرٍ باسِمٍ
نَظَمَ الدُّرَّ به والحَبَبا:
نَبِّئوني برحيلٍ عاجِلٍ
لا أرى لي بَعْده مُنْقَلَبا
ودعاني مَوْطِني أنْ أغتَدي
عَلَّني أقْضي له ما وَجَبا
نَذبَحُ الدُّبَّ ونَفْري جِلْدَه
أيَظُنُّ الدُّبُّ ألاّ يُغْلَبا
قلتُ والآلامُ تَفْري مُهْجَتي:
وَيْكِ! ما تَصْنَعُ في الحَرْبِ الظِّبا؟
ما عِهدْناها لظَبْيٍ مَسْرَحًا
يَبْتَغي مَلْهًى به أو مَلْعَبا
ليست الحَرْبُ نُفوسًا تُشْتَرى
بالتَّمنِّي أو عُقولاً تُسْتَبَى
أحَسِبْتِ القَدَّ من عُدَّتها
أم ظَنَنْتِ اللَّحْظَ فيها كالشَّبا؟
فسَليني، إنّني مارَسْتُها
ورَكِبْتُ الهَوْلَ فيها مَرْكَبا
وتَقَحَّمْتُ الرَّدى في غارَةٍ
أسْدَلَ النَّقْعُ عليها هَيْدَبا
قَطَّبَتْ ما بين عَيْنَيْها لنا
فرأيتُ الموتَ فيها قَطَّبا
جالَ عِزْرائيلُ في أنْحائها
تحتَ ذاكَ النَّقْعِ يَمشي الهَيْدَبَى
فدَعيها للّذي يَعْرِفُها
والزَمي يا ظَبْيَةَ البانِ الخِبا
فأجابَتْني بصوْتٍ راعَني
وأرَتْني الظَّبْيَ لَيْثًا أغْلَبا:
إنّ قوْمي استَعْذَبوا وِرْدَ الرَّدى
كيف تَدْعونيَ ألاّ أشْرَبا؟
أنا يابانيّةٌ لا أنْثَني
عنْ مُرادي أو أذوقَ العَطَبا
أنا إنْ لم أحْسِنِ الرَّمْيَ ولمْ
تَستَطِعْ كَفّايَ تَقليبَ الظُّبا
أخْدُِمُ الجَرْحى وأقْضي حَقَّهُمْ
وأُواسي في الوَغَى مَن نُكِبَا
هكذا (المِيكادُ) قد عَلَّمنا
أن نَرَى الأوْطانَ أمًّا وأبَا
مَلِكٌ يكفيكَ منه أنّه
أنْهَضَ الشَّرْقَ فهزَّ المَغْرِبا
وإذا مارَسْتَه ألْفَيْتَه
حُوَّلاً في كلِّ أمْرٍ قُلَّبا
كان والتاج صغيرَيْنِ معًا
وجَلالُ المُلْكِ في مَهْدِ الصِّبا
فغدا هذا سماءً للعُلا
وغدا ذلك فيها كَوكَبا
بَعَثَ الأمّةَ مِنْ مَرْقَدِها
ودعاها للعُلا أنْ تدْأبا
فَسمَتْ للمَجْدِ تَبْغي شأْوَه
وقَضَتْ من كلِّ شيءٍ مأْرَبا

(٤) الحرب اليابانيّة الروسيَّة (نشرت في ١٠ نوفمبر سنة ١٩٠٤م)

أساحَةٌ للحَرْبِ أم مَحْشَرُ
ومَوْرِدُ المَوْتِ أمِ الكَوْثَرُ؟
وهذه جُنْدٌ أطاعوا هَوَى
أربابِهمْ، أم نَعَمٌ تُنْحَرُ؟
للهِ ما أقْسى قلوبَ الأُلى
قاموا بأمْر المُلْك واستَأْثَرُوا!
وغَرَّهُمْ في الدَّهْرِ سُلطانُهُمْ
فأمْعَنُوا في الأرْضِ واستعمروا
قد أقْسَمَ البيضُ بصُلبانِهِمْ
لا يَهْجُرونَ الموتَ أو يُنْصَروا
وأقْسَمَ الصُّفْرُ بأوثانِهِمْ
لا يَغْمِدونَ السَّيفَ أو يَظفَرُوا
فمادت الأرضُ بأوْتادِها
حينَ الْتَقَى الأبْيَضُ والأصْفَرُ
وأثْمَلَتْها خَمْرَةٌ من دَمٍ
يَلهو بها (الميكادُ) والقَيْصَرُ
وأشْبَهَتْ يومَ الوغى أخْتَها
إذْ لاحَ فيها الشَّفَقُ الأحَمَرُ
وأصْبَحَتْ تَشْتاقُ طُوفانَها
لَعَلَّها من رِجْسِها تَطْهُرُ
أشْبَعْتِ يا حَرْبُ ذئابَ الفَلا
وغَصَّتِ العِقْبانُ والأنْسُرُ
ومِيرَتِ الحِيتانُ في بَحْرها
ومَطْمَعُ الإنسانِ لا يُقْدَرُ
إنْ كان هذا الدُّبُّ لا يَنْثَني
وذلكَ التِّنِّينُ لا يُقْهَرُ
والبيضُ لا تَرْضَى بخِذْلانِها
والصُّفْرُ بعد اليومِ لا تُكْسَرُ
فما لتِلْكَ الحَرْبِ قد شَمَّرَتْ
عن ساقِها حتَّى قَضَى العَسْكَرُ
سالتْ نفوسُ القَوْمِ فوقَ الظُّبا
فسالَت البَطْحاءُ والأنْهُرُ
وأصْبَحَتْ (مكْدنُ) ياقُوتةً
يَغارُ منها الدُّرُّ والجَوْهَرُ
ياقوتَةً قد قُوِّمَتْ بينهم
بأنفُسٍ كالقَطْرِ لا تُحْصَرُ
أضْحى رَسولُ المَوْتِ ما بينها
حَيْرانَ لا يَدري بما يُؤْمَرُ
عِزْريلُ، هل أبْصَرْتَ فيما مَضَى
— وأنتَ ذاكَ الكَيِّسُ الأمْهَرُ —
كذلك المِدْفَعِ في بَطْشِه
إذا تَعالَى صوْتُه المُنْكَرُ؟
تَراهُ إنْ أوْفَى على مُهْجَةٍ
لا الدِّرْعُ يَثنيه ولا المِغْفَرُ
أمْسى (كُرُوبَتْكين) في غَمْرةٍ
وباتَ (أويَامَا) له يَنْظُرُ
وظَلَّت (الرُّوسُ) على جَمْرَةٍ
والمَجْدُ يَدعوهُمْ ألا فاصْبِروا
وذلك الأسطولُ ما خَطْبُه
حتّى عَراهُ الفزعُ الأكْبَرُ؟
أكلَّما لاحَ له سابحٌ
تحتَ الدُّجَى أو قارِبٌ يَمْخُرُ
ظَنَّ به (طُوجُو) فأهْدَى له
تحيَّةً (طُوجُو) بها أخْبَرُ؟
تحيّةً مِنْ واجِدٍ شَيِّقٍ
أنفاسُه من حَرِّها تَزْفِرُ
فهل دَرَى القيْصَرُ في قَصره
ما تُعْلِنُ الحَرْبُ وما تَضْمِرُ؟
فكم قتيلٍ باتَ فوقَ الثَّرى
يَنْتابُه الأظْفُورُ والمِنْسَرُ
وكم جريحٍ باسِطٍ كَفَّه
يَدعو أخاه وهو لا يُبْصِرُ
وكم غريقٍ راحَ في لُجَّةٍ
يَهوي بها الطَّوْدُ فلا يَظْهَرُ
وكم أسيرٍ باتَ في أسرِه
ونَفْسُه من حَسْرَةٍ تَقْطُرُ
إنْ لم تَرَوْا في الصُّلْح خيْرًا لكمْ
فالدَّهْرُ من أطماعِكُمْ أقْصَرُ
تَسوءُنا الحَرْبُ وإنْ أصْبَحَتْ
تَدعو رِجالَ الشَّرْقِ أنْ يَفْخَروا
أتى على الشَّرْقِيِّ حينٌ إذا
ما ذُكِرَ الأحْياءُ لا يُذْكَرُ
ومَرَّ بالشَّرْقِ زمانٌ وما
يَمُرُّ بالبالِ ولا يَخْطِرُ
حتّى أعادَ (الصُّفْرُ) أيّامَه
فانتَصَفَ الأسْوَدُ والأسْمَرُ
فرحمةُ اللهِ على أمّةٍ
يَروْي لها التاريخُ ما يُؤْثَرُ

(٥) إلى الإمبراطورة أوجيني (نشرت في ٢٦ يناير سنة ١٩٠٥م)

نظم هذه القصيدة إجابة لاقتراح صحيفة المؤيّد على الشعراء أن ينظموا في هذه الإمبراطورة، ويوازنوا بين مجيئها إلى مصر متنكّرة تنزل في فندق سافواي ببورسعيد، ومجيئها قبل ذلك في سنة ١٨٦٩ في افتتاح قناة السويس، واستقبال الخديوي إسماعيل إيّاها استقبالاً فخمًا.

أيْنَ يومُ (القَنالِ) يا ربّةَ التّا
جِ ويا شَمْسَ ذَلكَ المِهْرَجانِ؟
أين مُجْري القنالِ أين مُميتُ الـ
ـمالِ أينَ العزيزُ ذو السُّلْطانِ؟
أين هارُونُ مِصْرَ؟ أين أبو الأشـ
ـبالِ رَبُّ القُصورِ رَبُّ القِيانِ؟
أين لَيْثُ الجزيرَةِ (ابنُ عليٍّ)
واهِبُ الألْفِ مُكْرِمُ الضِّيفانِ؟
أين ذا القَصْرُ بالجزيرةِ تَجْري
فيه أرْزاقُنا وتَحْبُو الأماني؟
فيه للنَّحْسِ كَوْكَبٌ مُسْرعُ السَّيْـ
ـرِ وللسَّعد كوكبٌ مُتَواني
قد جَرَى النِّيل تحته بخُشوعٍ
وانكِسارٍ وهابَهُ الفَتَيانِ
كنتَ بالأمْسِ جَنّةَ الحُورِ يا قَصْـ
ـرُ فأصْبَحْتَ جنّةَ الحَيَوانِ
خَطَرَ اللَّيْثُ في فِنائِكَ يا قَصْـ
ـرُ وقد كنتَ مَسْرَحًا للحِسانِ
وعَوى الذِّئْبُ في نواحيكَ يا قَصْـ
ـرُ وقد كنتَ مَعْقِلاً للِّسانِ
وحَباكَ الزُّوّارُ بالمالِ يا قَصْـ
ـرُ وقد كنتَ مَصْدَرَ الإحْسانِ
كنتَ تُعْطي، فمالَكَ اليَوْمَ تُعْطَى
أينَ بانِيكَ؟ أينَ رَبُّ المَكانِ؟
إنْ أطافَتْ بك الخُطوبُ فهذي
سُنّةُ الكَوْنِ من قَديمِ الزّمانِ
رُبَّ بانٍ نَأى، ورُبَّ بِناءٍ
أسْلَمَتْه النَّوى إلى غيرِ باني
تلك حالُ الإيوانِ يا رَبّة التا
جِ فما حالُ صاحِبِ الإيوان؟
قد طَواهُ الرَّدى ولو كان حَيًّا
لَمشى في رِكابِكِ الثَّقلانِ
وتَوَلَّتْ حِراسَةَ المَوْكِبِ الأسْـ
ـنَى نجومُ السّماءِ والنَّيرِّانِ
إن يكن غابَ عنْ جَبينِكِ تاجٌ
كان بالغَرْب أشْرَفَ التِّيجانِ
فلقد زانَكِ المَشيبُ بتَاجٍ
لا يُدانيه في الجَلالِ مُداني
ذاكَ من صَنْعَةِ الأنامِ وهذا
من صنيع المُهَيْمِنِ الدَّيّانِ
كنتِ بالأمْسِ ضَيْفَةً عند مَلْكٍ
فانْزِلي اليومَ ضَيْفَةً في خانِ
واعذُرينا على القُصورِ، كِلانا
غَيَّرَتْه طوارِئُ الحِدْثانِ

(٦) عيد تأسيس الدولة العليّة

أنشدها في الحفل الذي أقيم في فندق (الكونتننتال) في مساء الجمعة ٢٦ يناير سنة ١٩٠٦م

أيُحْصِي مَعانيكَ القَريضُ المُهَذَّبُ
على أنّ صَدْرَ الشِّعْرِ للمَدْحِ أرْحَبُ
لقد مَكَّنَ الرَّحْمنُ في الأرْضِ دَوْلَةً
لعُثمانَ لا تَعْفُو ولا تَتَشَعَّبُ
بناها فظَنَّتْها الدَّراري مَنازِلاً
لبَدْرِ الدُّجى تُبْنَى وللسَّعْدِ تُنْصَبُ
وقامَ رجالٌ بالإمامةِ بَعْدَه
فزادُوا على ذاكَ البِناءِ وطَنَّبُوا
ورَدُّوا على الإسلامِ عَهْدَ شَبابِه
ومَدُّوا له جاهًا يُرَجَّى ويُرْهَبُ
أسُودٌ على البُسْفورِ تَحْمِي عَرينَها
وتَرْعَى نِيامَ الشَّرقِ والغَرْبُ يَرْقُبُ
لها وثَباتٌ تحت ظِلِّ هِلالها
كما مَرَّ سَهْمٌ أو كما انقَضَّ كَوْكَبُ
إذا راعَها مَسٌّ من الضَّيْمِ خِلْتَها
كَمَنْ راعَه بالمَسِّ سِلكٌ مُكَهْرَبُ
وإنْ هَزَّها ذاكَ الهِلالُ لحادِثٍ
رأيتَ قضاءَ اللهِ يَمشي ويَرْكَبُ
إذا ضاءَتِ الأحْسابُ يومًا لمُعْرِقٍ
فعُثمانُ خَيْرُ الفاتحينَ لهم أبُ
وإنْ تاهَ بالأبْناء والبأسِ والِدٌ
فأوْلى الوَرى بالتِّيهِ ذاكَ المُعَصَّبُ
فهذا سُلَيْمانٌ وقانُونُ عَدْلِه
على صفحاتِ الدَّهْرِ بالتِّبْرِ يُكْتَبُ
وذاكَ الّذي أجْرى السَّفينَ على الثَّرى
وسارَ له في البَرِّ والبَحْر مَرْكَبُ
على بابِه العالي هُناكَ تألَّقَتْ
سُطورٌ لأقلامِ الجلالة تُنْسَبُ
هُنا — فاخفِضوا الأبصارَ — عَرْشُ مُحَمّدٍ
هُنا الفاتِحُ الغازي الكَمِيُّ المُدرَّبُ
وما كان من (عبْدِ المجيدِ) إذ احْتَمىَ
بأكْنافِه (كُوشُوطُ) والخَطْبُ غَيْهَبُ
يُناديهِمُ: أمّا نَزيلي فدونَه
حَياتي، وأمّا صارِمي فمُشَطَّبُ
فإنْ كانت الحُسْنى فإنِّي سَماؤُها
وإنْ كانت الأخْرى فشُدّوا وجَرِّبوا
كذلكَ كانوا يَسْتَقِرُّونَ في الذُّرَا
وأعْداؤُهُمْ في الغَرْبِ تَشْقَى وتُنْكَبُ
فكمْ طَلَبوا منهمْ أمانًا فأمَّنوا
وأمْسى لهم في الشَّرْقِ مَسْرًى ومَسْرَبُ
فكان أمانَ القَوْمِ والشَّرْقُ مَشْرِقٌ
فأضْحى امتيازَ القَوْمِ والشَّرْقُ مَغْرِبُ
يقولون: في هذي الرُّبوعِ تَعَصُّبٌ
وأيُّ مكانٍ ليسَ فيه تَعَصُّبُ؟!
فيا شَرْقُ إنّ الغَرْبَ إنْ لانَ أو قَسَا
ففيه من الصَّهْباءِ طَبْعٌ مُذَوَّبُ
فخَفْ بأسَها في الرَّأْسِ والرَّأسُ يَصْطلي
وخَفْ ضَعْفَها في الكأْسِ والكَأسُ تُطْرِبُ
ويا غَربُ إنّ الدَّهْرَ يَطْفو بأهْله
ويَطويه تَيّارُ الفضاءَِ فيَرْسُبُ
أراكَ مَقَرَّ الطامِعين كأنّما
على كلِّ عَرْشٍ من عُروشِكَ (أشْعَبُ)

(٧) حادثة دنشواي (نشرت في ٢ يوليه سنة ١٩٠٦م)

أيُّها القائِمونَ بالأمْرِ فينا
هَلْ نَسيتُمْ وَلاءَنا والوِدادَا
خَفِّضوا جَيْشَكُمْ وناموا هَنيئا
وابتَغوا صَيْدَكُمْ وجُوبُوا البِلادا
وإذا أعْوَزَتْكُمُ ذاتُ طَوْقٍ
بين تِلك الرُّبا فَصيدوا العِبادا
إنّما نحنُ والحَمامُ سَواءُ
لم تُغادِرْ أطواقُنا الأجْيادا
لا تَظُنُّوا بنا العُقوقَ ولكنْ
أرْشِدونا إذا ضَلَلْنا الرَّشادا
لا تُقيدوا من أمّةٍ بقتيلٍ
صادَتِ الشمسُ نَفْسَهُ حينَ صادا
جاء جهّالُنا بأمْرٍ وجِئْتُمْ
ضِعْفَ ضِعْفَيْه قَسْوَةً واشتِدادا
أحْسِنوا القَتْلَ إن ضَنِنْتُمْ بعَفُوٍ
أقِصاصًا أرَدْتُمُ أم كِيادا؟
أحْسِنوا القَتْلَ إن ضَنِنْتُمْ بعَفْوٍ
أنُفوسًا أصَبْتُمُ أم جَمادا؟
لَيْتَ شِعْري أتِلْكَ (مَحْكَمَةُ التَّفْـ
ـتيشِ) عادتْ أمْ عَهْدُ (نِيرونَ) عادا؟
كيف يَحْلو مِنَ القَويِّ التَّشفِّي
من ضَعيفٍ ألْقى إليه القيادا؟
إنّها مُثْلَةٌ تَشُفُّ عن الغَيْـ
ـظِ ولَسنا لغَيْظِكُمْ أنْدادا
أكْرِمونا بأرْضنا حيثُ كُنْتُمْ
إنّما يُكْرِمُ الجَوادُ الجَوادا
إنّ عِشرينَ حِجّةً بعد خَمْسٍ
عَلَّمَتْنا السُّكونَ مهما تَمادى
أمّةُ النِّيلِ أكْبَرَتْ أنْ تُعادي
مَنْ رماها وأشْفَقَتْ أنْ تُعادَى
ليس فيها إلاّ كَلامٌ وإلاّ
حَسْرَةٌ بعدَ حَسْرَةٍ تَتهادَى
أيُّها المُدَّعي العُمُوميُّ مَهْلاً
بعضَ هذا فقد بَلَغْتَ المُرادَا
قد ضَمِنّا لك القضاءَ بمِصْرٍ
وضَمِنَّا لنَجْلِكَ الإسعادا
فإذا ما جَلَسْتَ للحُكم فاذكُرْ
عَهْد (مِصْرٍٍ) فقد شَفَيْتَ الفُؤادَا
لا جَرى النِّيلُ في نواحيكِ يا (مِصْـ
ـرُ) فأضْحَى عليكِ شَوْكًا قَتادَا
أنتِ أنْبَتِّ ناعِقًا قامَ بالأمْـ
ـسِ فأدمى القُلوبَ والأكْبادا
إيهِ يا مِدْرَهَ القضاءِ ويا مَنْ
سادَ في غَفْلَة الزَّمانِ وشَادَا
أنتَ جَلاّدُنا فلا تَنْسَ أنا
قد لَبِسْنا على يَدَيْكَ الحِدادَا

(٨) استقبال اللورد كرومر عند عودته من مصيفه بعد حادثة دنشواي (نشرت في ١٧ أكتوبر سنة ١٩٠٦م)

(قَصْرَ الدُّبارَةِ) هل أتاكَ حَديثُنا
فالشَّرقُ رِيعَ له وضَجَّ المَغْرِبُ
أهْلاً بساكِنِكَ الكريمِ ومَرْحَبًا
بعدَ التّحِيّةِ إنّني أتَعَتَّبُ
نَقَلَتْ لنا الأسْلاكُ عنكَ رسالةً
باتتْ لها أحْشاؤْنا تَتَلَهَّبُ
ماذا أقول وأنتَ أصْدَقُ ناقِلٍ
عنّا ولكنّ السِّياسَة تَكذبُ
علَّمْتَنا مَعْنى الحياةِ فما لنا
لا نَشْرَئِبُّ لها وما لَكَ تَغْصَبُ
أنَقِمْتَ منّا أنْ نُحِسَّ؟ وإنّما
هذا الذي تَدْعُو إليه وتَنْدُبُ
أنتَ الّذي يُعْزَى إليه صَلاحُنا
فيما تُقَرِّرُه لديْكَ وتَكْتُبُ
إنْ ضاقَ صَدْرُ النِّيلِ عمّا هالَه
يومَ الحَمامِ فإنّ صَدْرَكَ أرْحَبُ
أوَ كُلَّما باحَ الحزينُ بأنّةٍ
أمْسَتْ إلى مَعْنى التَّعَصُّب تُنْسَبُ!
رِفْقًا عَميدَ الدَّوْلَتَيْنِ بأمّةٍ
لَيْسَتْ بغَيْرِ وَلائِها تَتَعَذَّبُ
إنْ أرْهَقُوا صَيّادَكُمْ فلعلَّهُمْ
للقُوتِ لا للمُسْلِمينَ تَعَصَّبوا
ولربّما ضَنَّ الفَقيرُ بقوته
وسَخا بمُهْجَتِه على مَنْ يَغْصِبُ
في (دِنْشِوايَ) وأنتَ عنّا غائِبٌ
لِعبَ القضاءُ بنا وعَزَّ المَهْرَبُ
حَسِبوا النُّفوسَ مِنَ الحَمامِ بديلَةً
فتَسابَقوا في صَيْدِهِنّ وصَوَّبوا
نُكِبوا وأقْفَرَتِ المنازِلُ بَعْدَهُمْ
لو كنتَ حاضِرَ أمْرِهِمْ لم يُنْكَبُوا
خَلَّيْتَهُمْ والقاسِطونَ بمَرْصَدٍ
وسياطُهُمْ وحِبالُهُم تَتأهَّبُ
جُلِدوا ولو مَنَّيْتَهُمْ لتَعَلَّقوا
بحِبالِ مَنْ شُنِقوا ولمْ يَتَهَيَّبُوا
شُنِقوا ولوْ مُنِحُوا الخِيارَ لأهَّلُوا
بلَظَى سياطِ الجالِدينَ ورَحَّبوا
يَتحاسَدون على المَمات، وكأسُه
بيْنَ الشِّفاهِ وطَعْمُهُ لا يَعْذُبُ
مَوْتانِ: هذا عاجِلٌ مُتَنَمِّرٌ
يَرْنُو، وهذا آجِلٌ يَتَرقَّبُ
والمُسْتشارُ مُكاثِرُ برجالِه
ومُعاجِزٌ ومُناجِزٌ ومُحَزِّبُ
يَخْتالُ في أنحائِها مُتَبَسِّمًا
والدَّمْعُ حَوْلَ رِكابِه يَتَصبَّبُ
طاحُوا بأرْبعةٍ فأرْدَوْا خامِسًا
هُوَ خَيرُ ما يَرجو العَميدُ ويَطْلُبُ
حُبٌّ يُحاوِلُ غَرْسَه في أنْفُسٍ
يُجْنَى بمَغْرِسِها الثَّناءُ الطَّيِّبُ
كنْ كَيْفَ شِئْتَ ولا تَكِلْ أرْواحَنا
للمُسْتَشارِ فإنّ عَدْلَكَ أخْصَبُ
وأفِضْ على (بُنْدٍ) إذا وَليَ القَضا
رِفْقًا يَهشُّ له القَضاءُ ويَطْرَبُ
قد كان حَوْلَكَ من رجالِكَ نُخْبَةٌ
ساسوا الأمورَ فَدَرَّبوا وتَدرَّبُوا
أقْصَيْتَهُمْ عنّا وجئتَ بِفتْيَةٍ
طاشَ الشَّبابُ بهمْ وطارَ المَنْصِبُ
فاجْعَلْ شِعارَكَ رَحْمَةً ومَوَدَّةً
إنّ القُلوبَ مع المَوَدَّةِ تُكْسَبُ
وإذا سُئِلْتَ عن الكِنانةِ قُلْ لهُمْ
هي أمّةٌ تَلْهو وشَعْبٌ يَلْعَبُ
واستَبْقِ غَفْلَتَها ونَمْ عنها تَنَمْ
فالناسُ أمْثالُ الحَوادِثِ قُلَّبُ

(٩) شكوى مصر من الاحتلال (نشرت في أوّل يناير سنة ١٩٠٧م)

لقد كان فينا الظُّلْمُ فَوْضَى فهُذِّبَتْ
حواشيه حتّى باتَ ظُلْمًا مُنَظَّمَا
تَمُنُّ علينا اليَوْمَ أنْ أخْصَبَ الثَّرى
وأنْ أصْبَحَ المِصْريُّ حُرًّا مُنَعَّما
أعِدْ عَهْدَ (إسماعيلَ) جَلْدًا وسُخْرَةً
فإنِّي رأيتُ المَنَّ أنْكى وآلمَا
عَمِلْتُمْ على عِزِّ الجَمادِ وذُلِّنا
فأغْلَيْتُمُ طينًا وأرْخَصْتُمُ دما
إذا أخْصَبَتْ أرضٌ وأجْدَبَ أهْلُها
فلا أطْلَعَتْ نَبْتًا ولا جادَها السَّما
نَهَشُّ إلى الدِّينار حتّى إذا مَشَى
به رَبُّه للسوق ألْفاهُ دِرْهَما
فلا تَحْسِبوا في وَفْرَةِ المالِ — لم تُفِدْ
مَتاعًا ولم تَعْصِمْ من الفَقْرِ — مَغْنَما
فإنّ كثيرَ المالِ — والخَفْضُ وارِفٌ —
قليلٌ إذا حَلَّ الغَلاءُ وخَيَّما

(١٠) وداع اللّورد كرومر (نشر في ٢٧ أبريل سنة ١٩٠٧م)

قالها عند استقالة اللورد وضمّنها آراء الناس في سياسته

فتى الشِّعْرِ هذا مَوْطِنُ الصِّدْقِ والهُدى
فلا تَكْذِب التّاريخَ إنْ كُنْتَ مُنْشِدَا
لقد حانَ تَوْديعُ العَميد وإنّه
حقيقٌ بتَشييعِ المُحِبِّينَ والْعُِدَا
فودِّعْ لنا الطَّوْدَ الذي كان شامِخًا
وشَيِّعْ لنا البَحْرَ الذي كان مُزْبِدَا
وزَوِّدْه عنّا بالكَرامةِ كلِّها
وإنْ لم يَكُنْ بالباقياتِ مُزَوَّدَا
فلِمْ لا نَرَى الأهرامَ يا نِيلُ مُيَّدًا
وفِرْعَوْنُ عن واديكَ مُرْتَحِلٌ غَدَا؟
كأنّك لم تَجْزَع عليه ولم تَكُنْ
تَرَى في حِمى فِرْعَوْنَ أمْنًا ولا جِدا
سلامُ ولو أنّا نُسيءُ إلى الألى
أساءوا إلينا ما مَدَدْنا لهمْ يَدَا
سَنُطْري أياديكَ الّتي قد أفَضْتَها
علينا فَلَسْنا أمّةً تَجْحَدُ اليَدَا
أمِنَّا فلمْ يَسْلُكْ بنا الخَوْفُ مَسْلَكًا
ونِمْنا فلم يَطْرُق لنا الذُّعْرُ مَرْقَدَا
وكنتَ رحيمَ القَلْب تَحْمي ضَعيفَنا
وتَدفَعُ عنّا حادِثَ الدَّهْرِ إنْ عدا
ولولا أسًى في (دِنْشوايَ) ولَوْعَةٌ
وفاجِعَةٌ، أدْمَتْ قلوبًا وأكْبُدَا
ورَمْيُكَ شَعْبًا بالتَّعصُّب غافِلاً
وتَصْويرُكَ الشَّرْقِيَّ غِرًّا مُجَرَّدَا
لَذُبْنَا أسًى يومَ الوداعِ لأنّنا
نَرَى فيكَ ذاكَ المُصْلِحَ المُتَوَدِّدَا
تَشَعَّبَتْ الآراءُ فيكَ فقائلٌ
أفادَ الغِنَى أهْلَ البلادِ وأسْعَدَا
وكانت له في المُصْلِحين سياسَةٌ
تَرَخَّصَ فيها تارةً وتَشَدَّدَا
رَأى العِزَّ كلَّ العِزّ في بَسْطَةِ الغِنَى
فحارَبَ جَيْشَ الفَقْرِ حتّى تَبَدَّدَا
وأمْتَعَكُمْ بالنِّيلِ فهو مُبارَكٌ
على أهْلِه، خِصْبًا ورِيًّا ومَوْرِدَا
وسَنَّ لكمْ حُرِّيَّةَ القَوْلِ عِنْدما
رأى القَوْلَ في أسْرِ السُّكوتِ مُقَيَّدَا
وآخَرُ لم يَقْصِرْ على المالِ هَمَّه
يَرَى أنّ ذاكَ المالَ لا يَكْفُلُ الهُدى
فلا يَحْمَد الإثراءَ حتّى يَزينَه
بعِلْمٍ، وخيرُ العِلْمِ ما كانَ مُرْشِدا
يُناديكَ قد أزْرَيْت بالعِلْمِ والحِجا
ولم تُبْقِ للتَّعْليمِ يا (لُرْدُ) مَعْهَدَا
وأنّكَ أخْصَبْتَ البلادَ تَعَمُّدًا
وأجْدَبْتَ في مِصْرَ العُقولَ تَعَمُّدَا
قَضَيْتَ على أمِّ اللُّغاتِ وإنّه
قَضاءٌ علينا أو سبيلٌ إلى الرَّدَى
ووافَيْتَ والقُطْرانِ في ظلِّ رايَةٍ
فما زِلْتَ (بالسُّودانِ) حتّى تَمَرَّدَا
فطاحَ كما طاحَتْ (مُصَوَّعُ) بَعْدَه
وضاعَتْ مَساعينا بأطْماعِكُمْ سُدَى
حَجَبْتَ ضِياءَ الصُّحْفِ عن ظُلُماتِه
ولم تَستَقِلْ حتَّى حَجَبْتَ (المُؤَيَّدَا)
وأوْدَعْتَ تَقْريرَ الوَداعِ مَغامِزًا
رأيْنا جَفاءَ الطَّبْعِ فيها مُجَسَّدا
غَمَزْتَ بها دِينَ النَّبيِّ وإنَّنا
لنَغْضَبُ إنْ أغْضَبْتَ في القَبْرِ (أحْمَدا)
يُناديكَ أينَ النابغونَ بعَهْدِكُمْ
وأيُّ بناءٍ شامخٍ قد تَجَدَّدا
فما عَهْدُ (إسماعيلَ) والعَيْشُ ضَيِّقٌ
بأجْدَبَ مِنْ عَهْدٍ لكُمْ سالَ عَسْجَدا
يُناديكَ وَلَّيْتَ الوِزارةَ هَيئَةً
من الصُّمِّ لم تَسمَعْ لأصواتنا صَدَى
فليسَ بها عند التَّشاوُر مِنْ فتًى
أبيِّ إذا ما أصْدَر الأمْرَ أوْرَدَا
بربِّكَ ماذا صَدَّنا ولَوَى بنا
عن القَصْدِ إنْ كان السِّبيلُ مُمَهَّدا؟
أشَرْتَ برأيٍ في كِتابِكَ لم يَكُنْ
سديدًا ولكنْ كان سَهْمًا مُسَدَّدا
وحاوَلْتَ إعْطاء الغَريبِ مكانةً
تُجرُّ علينا الوَيْلَ والذُّلَّ سَرْمَدا
فيا وَيْلَ مِصْرٍ يومَ تِشْقى بنَدْوَةٍ
يَبيتُ بها ذاكَ الغريبُ مُسَوَّدا
ألمْ يَكْفِنا أنَّا سُلِبْنا ضياعَنا
على حين لم نَبْلُغْ من الفِطْنَة المَدَى
وزاحَمَنا في العَيْش كلُّ مُمَارِسٍ
خبيرٍ وكنّا جاهلين ورُقَّدا
وما الشَّرِكاتُ السُّودُ في كلِّ بَلْدَةٍ
سوى شَرَكٍ يُلْقي به مَنْ تَصيِّدا
فهذا حديثُ النّاسِ والناسُ ألْسُنٌ
إذا قال هذا، صاحَ ذاكَ مفنِّدا
ولو كنتُ من أهْلِ السِّياسة بينَهُمْ
لسَجَّلْتُ لي رأيًا وبُلِّغْتُ مَقْصِدا
ولكنّني في مَعْرِضِ القَوْلِ شاعِرٌ
أضافَ إلى التّاريخ قوْلاً مُخَلَّدَا
فيأيُّها الشيخُ الجليلُ تحيّةً
ويأيّها القَصْرُ المُنيفُ تَجلُّدَا
لئن غاب هذا اللَّيْثُ عنكَ لعِلَّةٍ
لقد لَبِثتْ آثارُه فيكَ شُهَّدَا

(١١) استقبال السير غورست (نشرت في ١٠ أكتوبر سنة ١٩٠٧م)

قالها في استقباله عند مجيئه إلى مصر معتمدًا للدولة الإنجليزيّة، خلفًا للُّورد كرومر يبثّ فيها آلام المصريّين وآمالهم

بَناتِ الشِّعْرِ بالنَّفَحاتِ جُودي
فهذا يومُ شاعِرِكِ المُجيدِ
أطِلِّي واسفِرِي ودَعيه يُحْيي
بما تُوحينَ أيّامَ الرَّشيدِ
إذا ما جَلَّ قَدْرُك عنْ هُبوطٍ
مُريهِ إلى سَمائِكِ بالصُّعودِ
وأوْلي ذلك الفاني بَيانًا
يَتِيهُ به على أهْلِ الخُلودِ
وحُلِّي عُقْدةً من أصْغَرَيْه
يَلِنْ لهُتافِه قاسي الحَديدِ
فما أنا واقِفٌ برُسومِ دارٍ
أسائِلُها ولا كَلِفٌ برُودِ
ولا مُستَنْزِلٌ هِبةً بمَدْحٍ
ولا مُسْتَنْجِزٌ حُرَّ الوُعودِ
ولكنِّي وَقَفْتُ أنوحُ نَوْحًا
على قَوْمي وأهْتِفُ بالنَّشيد
وأدْفَعُ عنهمُ بشَبا يَراعٍ
يَصُولُ بكلِّ قافِيَةٍ شَرودِ
بناتُ الشِّعْرِ إنْ هيَ أسْعَدَتْني
شَكَوْتُ من العَميدِ إلى العَميدِ
ولَمْ أجْحَدْ عوارِفَه ولكنْ
رأيتُ المَنَّ داعِيةَ الجُحودِ
أذيقونا الرَّجاءَ فقد ظَمِئْنا
بعَهْدِ المُصْلِحين إلى الوُرودِ
ومُنُّوا بالوُجودِ فقد جَهِلنا
بفَضْل وُجودِكُمْ مَعْنَى الوُجودِ
إذا اعْلَوْلَى الصِّياحُ فلا تَلُمْنا
فإنّ الناسَ في جُهْدٍ جَهيدِ
على قَدْرِ الأذى والظُّلْمِ يَعْلُو
صِياحُ المُشْفِقين مِنَ المَزيدِ
جِراحٌ في النفوس نَغَرْنَ نَغْرًا
وكُنَّ قد اندَمَلْنَ على صديدِ
إذا ما هاجَهُنَّ أسًى جَديدٌ
هَتَكْنَ سَرائرَ القَلْبِ الجَليدِ
إلى مَنْ نَشْتَكي عَنَتَ اللَّيالي
إلى (العَبّاس) أمْ (عَبْدِ الحميدِ)؟
ودون حِماهُما قامَـت رِجالٌ
تُرَوِّعُنا بأصنافِ الوَعيدِ
فما جئْنا نُطاوِلُكُمْ بجاهٍ
يُطولُكُمُ ولا رُكْنٍ شَديدِ
ولا بِتْنا نُعاجِزُكُمْ بعِلمٍ
يَبينُ به الغَوِيُّ من الرَّشيدِ
ولكنَّا نُطالِبُكُمْ بحَقٍّ
أضَرَّ بأهْلِهِ نَقْضُ العُهودِ
رَمانا صاحِبُ التَّقرير ظُلْمًا
بكُفْرانِ العَوارِفِ والكُنُودِ
وأقْسَمَ لا يُجيبُ لنا نِداءً
ولو جِئنا بقُرآنٍ مَجيدِ
وبَشَّرَ أهلَ مِصْرٍ باحتِلالٍ
يَدومُ عليهِمُ أبَدَ الأبيدِ
وأنْبَتَ في النفوسِ لكم جَفاءً
تَعَهَّدَه بمُنْهَلِّ الصُّدودِ
فأثْمَرَ وَحشَةً بلَغَتْ مَداها
وزكّاها بأرْبَعَةٍ شُهودِ
قتيلُ الشَّمْسِ أوْرَثَنا حياةً
وأيْقَظ هاجِعَ القَوْمِ الرُّقودِ
فلَيْتَ (كُرُومَرًا) قد دامَ فينا
يُطَوِّقُ بالسَّلاسِلِ كلّ جِيدِ
ويُتْحِفُ (مِصْرَ) آنًا بعْدَ آنٍ
بمَجْلودٍ ومَقتولٍ شهيدِ
لنَنْزعَ هذه الأكْفانَ عنّا
ونُبْعَثَ في العوالِمِ منْ جَديدِ
رَمَى (دارَ المَعارِفِ) بالرَّزايا
وجاء بكلِّ جَبّارٍ عَنيدِ
يُدِلّ بحَوْلِه ويَتيهُ تِيهًا
ويَعْبَثُ بالنُّهى عَبَثَ الوَليدِ
فبَدَّدَ شَمْلَها وأدالَ منها
وصاحَ بها: سَبيلُكِ أنْ تَبيدي
هَبُوا (دَنْلوبَ) أرْحَبَكُمْ جَنانًا
وأحْكَمَ منْ فلاسِفَةِ (الهُنودِ)
فإنّا لا نُطيقُ له جِوارًا
وقد أوْدَى بنا أو كادَ يُودي
مَلِلْنا طولَ صُحْبَتِه ومَلَّتْ
سوابِقُنا منَ المَشْي الوَئيدِ
بحَمدِ اللهِ مُلكُكُمُ كبيرٌ
وأنتمْ أهلُ مَرحَمَةٍ وَجُودِ
خُذوه فأمْتِعُوا شَعْبًا سِوانا
بهذا الفَضْلِ والعِلْمِ المُفيدِ
إذا اسْتَوْزَرْتَ فاستَوْزِرْ عَلَيْنا
فتًى (كالفَضْلِ) أو (كابنِ العَميدِ)
ولا تُثْقِلْ مَطاهُ بمُسْتَشارٍ
يَحيدُ به عن القَصْدِ الحَميدِ
وفي الشُّورى بنا داءٌ عَهيدٌ
قد استَعْصى على الطِّبِّ العَهيدِ
شُيوخٌ كلَّما هَمَّـْت بأمْرٍ
زأرْتُمْ دونَه زأرَ الأسُودِ
لِحًى بَيضاءُ يومَ الرَّأيِ هانَتْ
على حُمْرِ المَلابِسِ والخُدُودِ
أتَرْضَى أن يُقالَ — وأنْتَ حُرُّ —
بأنّك قَيْنُ هاتيكَ القُيودِ؟
وهَلْ في دارِ نَدْوَتِكُمْ أُناسٌ
بهذا الموتِ أو هذا الجُمودِ؟
فنَحِّ غَضاضَةَ التّاميز عنَّا
كفانا سائِغُ النِّيلِ السِّعيدِ
أرى أحداثَكُمْ مَلَكُوا علينا
(بمِصْرَ) مَوارِدَ العْيشِ الرَّغيدِ
وقد ضِقْنا بهم وأبيكَ ذَرْعًا
وضاقَ بحَمْلِهِمْ ذَرْعُ البَريدِ
أكُلُّ مَوَظَّفٍ منكم قديرٌ
على التَّشْريعِ في ظِلِّ العَميدِ؟
فضَعْ حدًّا لهم وانظُرْ إلينا
إذا أنْصَفْتَنا نَظَرَ الوَدُودِ
وخَبِّرْهُمْ وأنتَ بنا خَبيرٌ
بأنّ الذُّلَّ شِنْشِنَةُ العَبيدِ
وأنّ نُفوسَ هذا الخَلْقِ تأْبَى
لغَيْرِ إلها ذُلَّ السُّجودِ
ووَلِّ أمورَنا الأخْيارَ مِنَّا
نَثِبْ بهمُ إلى الشَّأوِ البَعيدِ
وأشْرِكْنا مع الأخْيارِ منكُمْ
إذا جَلَسوا لإيقامِ الحُدودِ
وأسْعِدْنا بجامِعَةٍ وشَيِّدْ
لنا من مَجْدِ دَوْلَتِكَ المَشيدِ
وإنْ أَنْعَمْتَ بالإصلاحِ فابدَأْ
بتِلْكَ؛ فإنّها بَيْتُ القصيدِ
وفَرِّجْ أزْمَةَ الأمْوالِ عنّا
بما أُوتيتَ من رأْيٍ سَديدِ
وسَلْ عنها (اليَهودَ) ولا تَسَلْنا
فقد ضاقَتْ بها حِيَلُ (اليَهودِ)
إذا ما ناحَ في (أُسْوانَ) باكٍ
سَمعْت أنينَ شاكٍ في (رَشيدِ)
جميعُ النّاسِ في البَلْوَى سَواءٌ
بأدْنى الثَّغْرِ أو أعْلى الصَّعيدِ
تَدارَكْ أمّةً بالشَّرْقِ أمْسَتْ
على الأيّامِ عاثِرَةَ الجُدودِ
وأيِّدْ مِصْر والسُّودانَ واغْنَمْ
ثَناءَ القَوْمِ من بيضٍ وسُودِ
وما أدْري وقد زَوَّدْتُ شِعْري
وظَنِّي فيكَ بالأمَلِ الوَطيدِ
أجِئْتَ تَحوطُنا وتَرُدُّ عنّا
وتَرْفَعُنا إلى أوْجِ السُّعودِ؟
أمِ اللُّرْدُ الّذي أنْحَى عليْنا
أتى في ثَوْبِ مُعْتَمَدٍ جَديدِ؟

(١٢) تحيّة العام الهجريّ (سنة ١٣٢٧هـ–يناير سنة ١٩٠٩م)

أطَلَّ على الأكْوانِ والخَلْقُ تَنْظُرُ
هِلالٌ رآهُ المُسْلِمونَ فكَبَّروا
تَجَلَّى لهمْ في صورةٍ زاد حُسْنُها
على الدهرِ حُسنًا أنّها تَتَكَرَّرُ
وبَشَّرَهُمْ من وَجْهِه وجَبينِهِ
وغُرَّتِه والناظِرين مُبَشِّرُ
وأذْكَرَهُمْ يومًا أغَرَّ مُحَجَّلاً
به تُوِّجَ التاريخُ والسَّعْدُ مُسْفِرُ
وهاجَر فيه خيرُ داعٍ إلى الهُدى
يَحُفُّ به من قُوّةِ اللهِ عَسْكَرُ
يُماشيه جِبريلٌ وتَسعى وراءَه
مَلائِكَةٌ تَرعى خُطاهُ وتَخْفِرُ
بيُسْراهُ بُرهانٌ من اللهِ ساطِعٌ
هُدَّى، وبيُمْناهُ الكتابُ المُطَهَّرُ
فكانَ على أبوابِ (مكَّةَ) رَكْبُه
وفي (يَثْرِبٍ) أنوارُه تَتَفَجَّرُ
مَضَى العامُ مَيْمونَ الشُّهور مُبارَكًا
تُعدَّدُ آثارٌ له وتُسَطَّرُ
مَضَى غَيْرَ مَذْمومٍ فإنْ يَذكُرُوا له
هَناتٍ فطبْعُ الدَّهْرِ يَصْفُو ويَكْدُرُ
وإنْ قيلَ أوْدَى بالألوفِ أجابَهُمْ
مُجيبٌ: لقد أحْيَا المَلايينَ فانْظُروا
إذا قيسَ إحسانُ امرئٍ بإساءَةٍ
فأرْبَى عليها؛ فالإساءَةُ تُغْفَرُ
ففيه أفاقَ النائِمون وقد أتَتْ
عليهمْ كأهْلِ الكَهْفِ في النَّومِ أعْصُرُ
وفي عالَمِ الإسلام في كلِّ بُقْعَةٍ
له أثَرٌ باقٍ وذِكْرٌ مُعَطَّرُ
سَلُوا (التُّركَ) عمّا أدْرَكوا فيه من مُنًى
وما بَدَّلوا في المَشْرِقَيْنِ وغَيَّروا
وإنْ لم يَقُمْ إلاّ (نِيازي) و(أنْوَرٌ)
فقد مَلأ الدُّنيا (نِيازي) و(أنوَرُ)
تَواصَوْا بصَبْرٍ ثمّ سَلُّوا من الحِجا
سُيوفًا وجَدُّوا جِدَّهُمْ وتَدَبَّروا
فسادوا وشادُوا للهلالِ مَنازِلاً
على هامِها سَعْدُ الكواكِبِ يُنْثَرُ
تَجَلَّى بها (عبْدُ الحَميدِ) بوَجْهِه
على شَعْبِه والشاهُ خَزْيانُ يَنْظُرُ
سلامٌ على (عَبْدِ الحَميدِ) وجَيْشِه
وأمّتِه ما قامَ في الشَّرْقِ مِنْبَرُ
سَلُوا (الفُرسَ) عنْ ذِكْرى أياديه عِنْدَهُمْ
فقد كان فيه (الفُرْسُ) عُمْيًا فأبْصَروا
جَلا لهَمُ وَجْهَ الحياةِ فشاقَهُمْ
فباتُوا على أبْوابِها وتَجَمْهَروا
يُنادُونَ أنْ مُنِّي علينا بنَظْرَةٍ
وأحْيى قُلوبًا أوْشَكَتْ تَتَفطَّرُ
كِلانا مَشوقٌ والسَبيلُ مُمَهَّدٌ
إلى الوَصْلِ لولا ذلك المُتَغَشْمِرُ
أطِلِّي علينا لا تَخافي فإنّنا
بسرِّكِ أوْفى منه حَوْلاً وأقْدَرُ
سلامٌ عليكمْ أمّةَ (الفُرْسِ) إنّكم
خَليقونَ أنْ تَحْيُوْا كِرامًا وتَفْخَروا
ولا أقْرِئُ (الشاهَ) السَّلامَ فإنّه
يُريقُ دماءَ المُصْلِحينَ ويَهْدُرُ
وفيه هَوَى (عبدُ العزيز) وعَرْشُه
وأخْنَى عليه الدَّهْرُ والأمْرُ مُدْبِرُ
ولا عَجَبٌ أنْ ثُلَّ عَرْشُ مُمَلَّكٍ
قوائِمُه عُودٌ ودُفٌّ ومِزْهَرُ
فألْقى إلى (عبدِ الحَفيظ) بتاجِه
ومَرَّ على أدْراجِه يَتَعَثَّرُ
وقامَ بأمْر المُسْلمينَ مُوَفَّقٌ
على عهْدِهِ (مُرّاكِشٌ) تَتَخضَّرُ
وفي دَوْلَةِ (الأفْغانِ) كانتْ شُهورُه
وأيّامُه بالسَّعْدِ واليُمْن تَزْهَرُ
اقامَ بها والعودُ رَيَّانُ أخْضَرُ
وفارَقَها والعُودُ فَيْنانُ مُثْمِرُ
وعَوَّذَها باللهِ من شَرِّ طامِعٍ
إذا ما رَمَآ (إدْوَرْدُ) أو راشَ (قَيْصَرُ)
وفيه نَمتْ في (الهِنْدِ) للعِلْمِ نهْضَةٌ
أرى تحتَها سِرًّا خَفيًّا سيَظْهَرُ
فتَجْري إلى العَلْياءِ والمَجْدِ شَوْطَها
ويُخْصِبُ فيها كلُّ جَدْبٍ ويَنْضُرُ
وفيه بَدَتْ في أُفْقِ (جاوَةَ) لَمْعَةٌ
أضاءَتْ لأهْليها السَّبيلَ فبَكَّروا
فيا لَيْتَهُ أوْلى (الجَزائِرَ) مِنَّةً
تُفَكُّ لها تِلْكَ القُيودُ وتُكْسَرُ
وفي (تونُسَ) الخَضْراءِ يا لَيْتَه بَنَى
له أثَرًا في لَوْحَةِ الدَّهْرِ يُذْكَرُ
وفيه سَرَتْ في (مِصْرَ) روحٌ جَديدَةٌ
مُبارَكةٌ من غَيْرَةٍ تَتَسعَّرُ
خَبَتْ زَمنًا حتّى تَوهَّمْتُ أنّها
تَجافَتْ عن الإيراءِ لولا (كُرُومَرُ)
تَصَدَّى فأوْراها وهَيْهات أنْ يَرى
سبيلاً إلى إخْمادِها وهي تَزْفِرُ
مَضى زَمَنُ التَّنْويمِ يا نيلُ وانقَضَى
ففي (مِصْرَ) أيقاظٌ على (مِصْرَ) تَسْهَرُ
وقد كان «مُرْفينُ» الدَّهاءِ مُخَدِّرًا
فأصبَحَ في أعْصابنا يَتَخَدَّرُ
شَعَرْنا بحاجاتِ الحياةِ فإن وَنَتْ
عزائِمُنا عَنْ نَيْلها كيفَ نُعْذَرُ؟
شعَرْنا وأحْسَسْنا وباتَتْ نُفوسُنا
من العَيْش إلاّ في ذَرا العِزِّ تَسْخَرُ
إذا اللهُ أحْيَا أمّةً لنْ يَرُدَّها
إلى الموْتِ قَهّارٌ ولا مُتَجَبِّرُ
رِجالَ الغَدِ المأمولِ إنّا بحاجَةٍ
إلى قادةٍ تَبني وشعْبٍ يُعَمِّرُ
رجالَ الغَدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
إلى عالِمٍ يَدْعو وداعٍ يُذَكِّرُ
رِجالَ الغَدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
إلى عالِمٍ يَدْري وعِلْمٍ يُقَرَّرُ
رِجالَ الغَدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
إلى حِكْمةٍ تُمْلَى وكَفٍّ تُحرِّرُ
رِجالَ الغَدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
إليكم فسُدُّوا النَّقْصَ فينا وشَمِّرُوا
رِجالَ الغَدِ المأمول لا تَتْرُكُوا غدًا
يَمُرُّ مُرورَ الأمْسِ والعَيْشُ أغْبَرُ
رجالَ الغَدِ المأمول إنّ بلادَكُمْ
تُناشِدُكُمْ باللهِ أن تَتَذَكَّروا
عليكم حقوقٌ للبلادِ أجَلُّها
تَعَهُّدُ رَوضِ العِلْم فالرَّوْضُ مُقْفِرُ
قُصارى مُنَى أوطانِكُمْ أنْ تَرَى لكم
يدًا تَبتَني مَجْدًا ورأْسًا يُفَكِّرُ
فكونوا رجالاً عامِلينَ أعِزَّةً
وصُونوا حِمى أوطانِكُمْ وتَحرَّروا
ويا طالبي الدُّستورِ لا تَسكُنوا ولا
تَبيتوا على يأْسٍ ولا تَتضَجَّروا
أعِدُّوا له صدْرَ المكانِ، فإنّني
أراهُ على أبوابِكُمْ يَتَخَطَّرُ
فلا تَنْطِقُوا إلا صوابًا، فإنّني
أخافُ عليكم أنْ يُقالَ تَهَوَّرُوا
فما ضاعَ حَقٌّ لم يَنَمْ عنه أهْلُه
ولا نالَه في العالمِينَ مُقَصِّرُ
لقد ظَفَر الأتراكُ عَدْلاً بسؤْلِهِمْ
ونحنُ على الآثار لا شَكَّ نَظْفَرُ
هُمْ لهمُ العامُ القديمُ مُقَدَّرٌ
ونحنُ لنا العامُ الجديدُ مُقَدَّرُ
ثِقوا بالأميرِ القائِم اليومَ إنّه
بكُمْ وبما تَرْجُونَ أدْرَى وأخْبَرُ
فلا زال مَحْروسَ الأريكَةِ جالِسًا
على عَرْشِ (وادي النِّيل) يَنْهَى ويأمُرُ

(١٣) الانقلاب العثماني (نشرت في ١٢ مايو سنة ١٩٠٩م)

قالها في ثورة الأتراك التي انتهت بخلع السلطان عبد الحميد وتولية السلطان محمّد الخامس

لا رَعَى اللهُ عَهْدَها مِنْ جُدودِ
كيفَ أمْسَيْتَ يا بنَ (عَبْدِ المَجيدِ)
مُشْبِعَ الحُوتِ من لُحومِ البَرايا
ومُجيعَ الجُنودِ تحْتَ البُنودِ
كنتُ أبْكي بالأمْسِ منكَ فمالي
بِتُّ أبكي عليكَ (عبدَ الحميدِ)؟
فرِحَ المُسلمون قبلَ النَّصارى
فيكَ قبلَ الدُّروزِ قبلَ اليهودِ
شَمِتُوا كلُّهم وليس مِنَ الهِمْـ
مَةِ أنْ يَشْمَتَ الوَرَى في طريدِ
أنتَ (عبدُ الحَميدِ) والتاجُ مَعْقُو
دٌ و(عبدُ الحميدِ) رَهْنَ القُيودِ
خالِدٌ أنتَ رَغْمَ أنْفِ اللَّيالي
في كِبارِ الرجالِ أهْلِ الخُلودِ
لكَ في الدَّهْرِ — والكمالُ مُحالٌ —
صَفَحاتٌ ما بينَ بِيْضٍ وسُودِ
حاوَلوا طَمْسَ ما صَنَعْتَ ووَدُّوا
لو يُطيقونَ طمْسَ خَطِّ الحَديدِ
ذاكَ (عَبْدَ الحميدِ) ذُخْرُكَ عند اللْـ
ـه باقٍ إنْ ضاعَ عِنْد العَبيدِ
أكْرِموهُ وراقِبُوا الله في الشَّيْـ
ـخِ ولا تُرْهِقوهُ بالتَّهْديدِ
لا تَخافوا أذاهُ فالشَّيْخُ هاوٍ
ليس فيه بقيَّةٌ للصُّعودِ
وَليَ الأمْرَ ثُلْثَ قَرْنٍ يُنادي
باسمِه كلُّ مُسْلِمٍ في الوُجودِ
كلَّما قامَتِ الصَّلاةُ دَعَى الدَّا
عي (لعَبْدِ الحَميدِ) بالتَّأْييدِ
فاسمُ هذا الأسير قد كان مَقْرو
نًا بذِكْرِ الرَّسولِ والتَّوْحِيدِ
بتُّ أخْشى عليكُم أنْ يقولوا
إنْ أثَرْتُمْ من كامِناتِ الحُقودِ
كان (عَبْدُ الحَميدِ) بالأمْسِ فرْدًا
فغدا اليومَ ألْفُ (عبدِ الحَميدِ)
يا أسيرًا في (سَنْتِ هيلينَ) رَحِّبْ
بأسيرٍ في (سالُنيكَ) جَديدِ
قُلْ له كيفَ زالَ مُلْكُكَ لمْ يَعْـ
ـصِمْكَ إعْدادُ عُدَّةٍ أو عَديدِ
لم تَصُنْكَ الجُنودُ تَفْديكَ بالأرْ
واحِ والمالِ يا غَرامَ الجُنودِ
قُلْ له كيفَ كُنْتَ؟ كيف امتَلَكْتَ الـ
ـأرْضَ؟ كيفَ انْفَرَدْتَ بالتَّمْجيد؟
فثَلَلْتَ العُروشَ عَرْشًا فعَرْشًا
وصَبَغْتَ الصَّعيدَ بَعْدَ الصَّعيدِ
كلَّما نِلْتَ غايَةً لمْ تَنَلْها
هِمَّةُ الدَّهْرِ قلتَ: هَلْ مِنْ مَزيدِ؟
ضاقَتِ الأرضُ عنْ مَداكَ فأرْسَلْـ
ـتَ بطَرْفٍ إلى السَّماء عَتِيدِ
قُلْ له: جَلَّ مَنْ له المُلْكُ لا مُلْـ
ـكَ لغَيْرِ المُهَيْمِنِ المَعْبُودِ
أنتَ مَهْما شَقيتَ أرْفَهُ حالاً
من أسيرِ الجَزيرةِ المَكْمُودِ
وأسيرُ الأقْفاصِ قد كان أشْقى
لو سألْتَ الأسْفارَ عن (با يزيدِ)
كان (عبدُ الحميد) في القَصْر أشْقى
منه في الأسْرِ والبَلاءِ الشَّديدِ
كان لا يَعْرِفُ القرارَ بلَيْلٍ
لا ولا يَسْتَلِذُّ طَعْمَ الهُجُودِ
حَذِرًا يَرْهَبُ الظَّلامَ ويَخْشَى
خَطْرَةَ الرِّيح أو بُكاءَ الوليد
نَفَقٌ تحت طابقِ الأرضِ أخْفَى
في تَدَجِّيه من ضمير الكَنُودِ
يُعْجِزُ الوَهْمَ عن تَلَمُّس ذاكَ الـ
ـبابِ بابِ الخليفةِ المَنْكودِ
أصَحيحٌ ما قيلَ عنكَ وحَقٌّ
ما سَمِعْنا من الرُّواة الشُّهود
أنّ (عبدَ الحميدِ) قد هَدَمَ الشَّرْ
عَ وأرْبى على فِعالِ (الوَليدِ)؟
إنْ بَريئًا وإنْ أثيمًا ستُجْزَى
يومَ تُجْزَى أمامَ رَبٍّ شَهيدِ
أصَحيحٌ بَكَيْتَ لمّا أتى الوفْـ
ـدُ ونابَتْكَ رِعْشَةُ الرِّعديدِ؟
ونَسيتَ الآباءَ والمَجْدَ والسُّؤْ
دُدَ والعِزِّ يا كريمَ الجُدودِ؟
ما عَهِدْنا المُلوكَ تَبكي ولكنْ
عَلَّها نَزْوةُ الفُؤادِ الجَليدِ
عَلَّها دَمْعَةُ الوَداعِ لذاكَ الـ
ـمُلْكِ أو ذِكْرَةٌ لتِلْكَ العُهودِ
غَسَلَ الدَّمْعُ عنكَ حَوْبَةَ ماضِيـ
ـكَ ووقّاكَ شرَّ يوْمِ الوَعيدِ
شفعَ الدَّمعُ فيكَ عند البرايا
ليسَ ذاكَ الشَّفيعُ بالمَرْدُودِ
دَمْعُك اليومَ مِثْلُ أمْرِكَ بالأمْـ
ـسِ مُطاعٌ في سيِّدٍ ومَسودِ
كان (عبدُ العزيزِ) أجْمَلَ أمْرًا
منكَ في يومِ خَلْعِه المَشْهودِ
خافَ مأثورَ قولِه فتَعالى
عنْ صَغارٍ ومات مَوْتَ الأسُودِ
ضَمَّ مِقْراضَهُ إليه ونادى
دونَ ذُلِّ الحياةِ قَطْعُ الوَريدِ
حَيِّ عَهْد الرَّشادِ يا شَرْقُ وابلُغْ
ما تَمَنَّيْتَ من زمانٍ بعيدِ
قد تَوَلَّى (محمّدُ الخامسُ) المُلْـ
ـكَ فأعْظِمْ بتاجِه المَعْقودِ
وتَجَلَّى في مِهْرجانٍ تَجَلَّى
سيْفُ (عُثْمانَ) فيه بالتَّقْليدِ
وَقَف الدهرُ خاشِعًا إذ رأى السَّيْـ
ـفَيْنِ في قَبْضَةِ العزيز المَجيدِ
طَأطِئِي للجَلالِ يا أُمَمَ الأرْ
ضِ سُجودًا، هذا مَقامُ السُّجودِ
عَلِمَ اللهُ أنّ عَهْدَ (رَشادٍ)
خيرُ فألٍ بِرَدِّ عَهْدِ (الرَّشيدِ)

(١٤) عيد الدستور العثماني

أنشدها في الحفل الذي أقيم في حديقة الأزبكيّة في مساء الجمعة ٢٣ يوليه سنة ١٩٠٩م

أجَلْ هذه أعْلامُهُ ومَواكبُهْ
هَنيئًا لهم فلْيَسْحَبِ الذَّيْلَ ساحِبُهْ
هنيئًا لهم فالكَوْنُ في يومِ عيدِهِمْ
مَشارِقُهُ وُضّاءَةٌ ومَغارِبُهْ
رَعَى اللهُ شَعْبًا جَمَّعَ العَدْلُ شَمْلَه
وتمَّتْ على عَهْدِ الرَّشادِ رَغائِبُهْ
تحالَفَ في ظلِّ الهِلالِ إمامُه
وحاخامُه — بَعْدَ الخِلاف — وراهِبُهْ
خُذوا بيَدِ الإصْلاحِ والأمرُ مُقْبِلٌ
فإنِّي أرى الإصلاحَ قد طَرَّ شارِبُهْ
ورُدُّوا على المُلْكِ الشَّبابَ الّذي ذَوى
فإنِّي رأيتُ المُلْكَ شابَتْ ذَوائِبُهْ
فمَنْ يَطُلب الدُّسْتورَ بالسُّوءِ بعْدما
حَمَتْه يدُ (الفارُوقِ) فاللهُ طالِبُهْ
إذا (شَوْكَتُ الفارُوقُ) قامُ منادِيًا
إلى الحَقِّ لبّاهُ (نيازي) وصاحِبُهْ
ثلاثةُ آسادٍ يُجانبُها الرَّدى
وإنْ هي لاقاها الرَّدى لا تُجانِبُهْ
يُصارِعُها صَرْفُ المَنُونِ فتَلْتقي
مَخالِبُها فيه وتَنْبو مَخالِبُهْ
رَوَتْ قولَ (بشّارٍ) فثارَتْ وأقْسَمَتْ
وقامت إلى (عَبْدِ الحميدِ) تُحاسِبُهْ:
(إذا المَلِكُ الجَبّارُ صَعَّرَ خَدَّه
مَشَيْنا إليه بالسُّيوفِ نُعاتِبُهْ)
وسار على أعْقابها كلُّ سابحٍ
على مَتْنِه بُرْجٌ مَشيدٌ يُداعِبُهْ
يَصيحُ به: لا رِيَّ أوْ نَبْلُغَ المُنَى
ولا شِبَعٌ أو يَرْجِعَ الحقَّ غاصِبُهْ
هُنالِكَ فانهَلْ واتَّخِذْ ثمَّ مَرْبَطًا
(بيَلْدِزَ) وأحْمَدْ في الوَغَى مَنْ تُصاحِبُهْ
رِجالٌ من الإيمان مَلأى نُفوسُهُمْ
وجَيْشٌ من الأتراكِ ظَمْآى قواضِبُهْ
صوالِحُه سُمْرُ القَنا، وكُراتُه
رُءوسُ الأعادي، والحُصونُ مَلاعِبُهْ
إذا ثارَ دُكَّتْ أجْبُلٌ وتَخَشَّعَتْ
بحارٌ وأمْضى اللهُ ما هو كاتِبُهْ
وثُلَّتْ عُروشٌ واستَقَرَّتْ مَمالِكٌ
ولو أنَّ ذا القَرْنَيْنِ فيها يُناصِبُهْ
فمَنْ لم يُشاهِدْ (يَلْدِزًا) بعد ربِّها
وقد زال عنه المُلْكُ واندَكَّ جانِبُهْ
وأسْلَمَهُ أحْبابُه لقُضاته
وفَرَّ — ولم يَخْشَ المَعَرَّةَ — كاتِبُهْ
وقَلَّمَتِ الأقدارُ أظْفارَ بَطْشِه
ودَلَّ على ما تَجْهَلُ الجِنُّ حاجِبُهْ
فما شَهِدَ الدُّنيا تَزولُ ولا رأى
بلاءَ قضاءِ اللهِ فيمَنْ يُحارِبُهْ
أبيحَ حِماها وانطوى مَجْدُ ربِّها
وقامَتْ على البيتِ (الحَميدي) نوائِبُهْ
ولم يُغْنِ عن (عَبْدِ الحميدِ) دَهاؤُه
ولا عَصَمَتْ (عبدَ الحميدِ) تجارِبُهْ
ولم يَحْمِه حِصْنٌ ولم تَرْمِ دونَه
دنانيرُه والأمْرُ بالأمْرِ حازِبُهْ
لم يُخفِه عن أعْيُن الحَقِّ مِخْدَعُ
ولا نَفَقُ في الأرْضِ جَمُّ مَسارِبُهْ
أقامَ عليه مَهْلَكًا عند مَهْلَكٍ
يَمُرُّ به رَوْحُ الصَّبا فيُواثِبُهْ
تحاماهُ حتى الوَهْمُ خَوْفَ اغتِياله
فلو مَسَّهُ طيْفٌ لدارَتْ لوالِبُهْ
وأسْرَف في حُبِّ الحياةِ فحاطها
بسُورٍ من الأهْوالِ لم يَنْجُ راكِبُهْ
ففي كلِّ قُفْلٍ للمَنِيَّةِ مَكْمَنٌ
وفي كلِّ مِفتاحٍ قضاءٌ يُراقِبُهْ
وفي كلِّ رُكْنٍ صورَةٌ لو تَكلَّمَتْ
لمَا شَكَّ في (عَبْدِ الحميد) مُخاطِبُه
تماثيلُ إيهامٍ أنيمَتْ وأقْعِدَتْ
تراءَى بها أعطافُه ومناكِبُهْ
تُمَثِّلُه في نَوْمِه وجُلوسِه
وتَخْدَعُ فيه الموتَ حينَ يُقارِبُهْ
أقامَ عليه ألفَ مَوْتٍ مُحَجَّبٍ
ليَغْلِبَ مَوْتًا واحدًا عَزَّ غالِبُهْ
سلُوهُ أأعْنَت عنه في يومِ خَلْعِه
عجائبُه؟ أو أحْرَزَتْه غَرائِبُه؟
وقد نزل المِقدارُ بالأمْرِ صادِعًا
فضاقَتْ على شيخِ المُلوكِ مَذاهِبُهْ
وأخْرَجَه من (يَلْدِزٍ) رَبُّ (يَلْدِزٍ)
وجَرَّده من سَيْفِ (عُثمانَ) واهِبُهْ
وأصْبَحَ في مَنفاهُ والجَيْشُ دونَه
يُغالِبُ ذِكْرى مُلْكه وتُغالِبُهْ
يُناديه صوْتُ الحَقِّ: ذُقْ ما أذَقْتَهُمْ
فكلُّ امرئٍ رهنٌ بما هو كاسِبُهْ
هُمُ مَنحوكَ اليومَ ما أنتَ مُشْتَهٍ
فرُدَّ لهمْ بالأمْسِ ما أنتَ سالِبُهْ
ودَعْ عنْكَ ما أمَّلْتَ إنْ كنتَ حازِمًا
فلم يَبقَ للآمالِ فَضْلٌ تُجاذِبُهْ
مَضَى عَهْدُ الاستِبْدادِ واندَكَّ صَرْحُه
وولّتْ أفاعيه وماتَتْ عَقارِبُهْ
لكَ اللهُ يا (تَمُّوزُ) إنّك بَلْسَمٌ
لجَرْحى الأسى والدَّهْرُ تَعْدُو نوائِبُهْ
فكم رُعْتَ جبّارًا وأرْهَقْت ظالمًا
وأنْصَفْتَ مَظلومًا تَوالَتْ مَصائِبُهْ
فَدَيْناكَ مِنْ شَهْرٍ أغَرَّ مُحَجَّلٍ
أوائلُه مَيمونَةٌ وعواقِبُهْ
تُقابِلُه الأعْيادُ في الأرضِ كلَّما
تَجلَّى هِلالُ الشَّهْر أو لاحَ حاجِبُهْ
ففي الغَرْبِ عِيدٌ يَنظِمُ الغَرْبُ حُسْنَه
فتهْتُّز من وَقْعِ السُّرورِ جَوانِبُهْ
وفي الشَّرق عيدٌ لم يَرَ الشَّرْقُ مِثْلَه
تَدَفَّقُ في دارِ السَّلامِ مَواكِبُهْ
يُطيفونَ بالعَرْشِ الكريم ورَبُّه
تُطيفُ بهم آلاؤُه ومناقِبُهْ
لتَهْنَأْ — أميرَ المؤمنين — مُحَمَّدا
خِلافتُه فالعَرْشُ سعْدٌ كَواكِبُهْ
ستَمْلِكُ أمْواجَ البِحارِ سفينُه
كما مَلَكَتْ شُمَّ الجِبالِ كَتائِبُهْ
مَمالِكُهُ مَحْروسَةٌ وثُغورُه
رَكائِبُهُ مَنْصورَةٌ ومَراكِبُهْ

(١٥) إلى البرنس حسين كامل باشا (نشرت في ١٠ نوفمبر سنة ١٩٠٩م)

رئيس مجلس شورى القوانين والجمعية العموميّة، عبّر فيها عن آلام الأمّة المصرّية وآمالها

لقَدْ نَصَلَ الدُّجى فمتى تَنامُ
أهمٌّ ذادَ نَوْمَكَ أمْ هُيامُ
عَفَا المَحْزونُ والشاكي وأغْفى
أخُو البَلْوَى ونامَ المُستَْهامُ
وأنتَ تُقَلِّبُ الكَفَّيْنِ آنًا
وآوِنَةً يُقلِّبُكَ السَّقامُ
تَحَدَّرَتِ المدامِعُ منكَ حتّى
تَعلَّمَ من محاجِرِكَ الغَمامُ
وضَجَّتْ من تَقَلُّبِكَ الحَشايا
وأشْفَقَ من تَلَهُّفِكَ الظَّلامُ
تَبيتُ تُساجِلُ الأفلاكَ سُهْدًا
وعَيْنُ الكَوْنِ رَنَّقَها المَنامُ
وتكتُمُنا حديثَ هواكَ حتّى
أذاعَ الصَّمْتُ ما أخْفَى الكَلامُ
بربِّكَ هل رجَعْتَ إلى رَسيسٍ
منَ الذِّكْرى وهَل رَجَعَ الغَرامُ؟
وقد لَمَعَ المَشيبُ وذاكَ سَيْفٌ
على فَوْدَيْكَ عَلَّقَهُ الحِمامُ
أيَجْمُلُ بالأديبِ أديبِ مِصْرٍ
بُكاءُ الطِّفْلِ أرْهَقَهُ الفِطامُ
ويَصرِفُه الهوى عن ذِكْرِ مِصْرٍ
ومِصرٌ في يدِ الباغي تُضامُ؟
عَدِمْتُ يَراعتي إن كان ما بي
هَوًى بين الضُّلوع له ضِرامُ
وما أنا والغَرامَ — وشابَ رأسي
وغالَ شبابيَ الخَطْبُ الجُسامُ
ورَبّاني الّذي رَبَّى (لَبيدًا)
فعَلَّمَني الّذي جَهِلَ الأنامُ
لعَمْرُكَ ما أرِقْتُ لغَيْرِ مِصْرٍ
ومالي دونَها أمَلٌ يُرامُ
ذَكَرْتُ جَلالها أيّامَ كانَتْ
تَصولُ بها الفراعِنَةُ العِظامُ
وأيّامَ الرجالُ بها رِجالٌ
وأيّامَ الزَّمانُ لها غُلامُ
فأقلَقَ مَضْجَعي ما باتَ فيها
وباتَتْ مِصْرُ فيه، فهلْ أُلامُ؟
أرى شعْبًا بمَدْرَجَةِ العوادي
تَمَخَّخَ عَظْمَهُ داءٌ عُقامُ
إذا ما مَرَّ بالبأساءِ عامٌ
أطَلَّ عليه بالبأساءِ عامُ
سَرَى داءُ التَّواكُلِ فيه حتّى
تَخَطَّفَ رِزْقَه ذاكَ الزِّحامُ
قد استَعْصى على الحُكَماءِ منّا
كما استَعْصى على الطِّبِّ الجُذامُ
هَلاكُ الفَرْدِ مَنْشَؤُهُ تَوانٍ
ومَوْتُ الشَّعْبِ مَنْشَؤُهُ انْقِسامُ
وإنّا قد وَنِينا وانقَسَمنا
فلا سَعْيٌ هُناكَ ولا وِئامُ
فساءَ مُقامُنا في أرْضِ (مِصْرٍ)
وطابَ لغيرنا فيها المُقامُ
فلا عَجَبٌ إذا مُلِكَتْ علينا
مَذاهِبُنا وأكثَرُنا نِيامُ
(حُسَيْنُ حُسَيْنُ) أنتَ لها فنَبِّهْ
رِجالاً عن طِلابِ الحقِّ نامُوا
وكُنْ بأبيكَ لابنِ أخيكَ عَوْنًا
فأنتَ بكَفِّه نِعْمَ الحُسامُ
أفِضْ في قاعَةِ الشُّورَى وِئامًا
فقد أوْدى بنا وبها الخِصامُ
وعَلِّمْهُمْ مُصادَمَةَ العَوادي
فمِثْلُكَ لا يَروِّعُه الصِّدامُ
ففي حِزْبِ اليمين لديْكَ قَوْمٌ
وإنْ قَلُّوا فإنّهُمُ كِرامُ
وفي حِزْبِ الشِّمالِ لدَيْكَ أسْدٌ
كُماةٌ لا يَطيبُ لها انهِزامُ
فكونوا للبلاد ولا يَفُتْكُمْ
مِنَ النُّهُزاتِ والفُرَص اغتِنامُ
فما سادوا بمُعْجِزَةٍ علينا
ولكنْ في صُفوفهِمُ انضمامُ
فلا تَثِقوا بوَعْدِ القَوْمِ يومًا
فإنَّ سَحابَ ساسَتِهِمْ جَهامُ
وخافوهُمْ إذا لانُوا فإنِّي
أرى السُّوّاسَ ليس لهم ذِمامُ
فكَمْ ضحِكَ العَميدُ على لِحانَا
وغَرَّ سَراتَنا منْه ابتسامُ
أبا الفلاّحِ إنْ الأمْرَ فَوْضَى
وجَهْلُ الشَّعْبِ والفَوْضَى لِزامُ
فأسْعِدْنا بنَشْرِ العِلْمِ واعلَمْ
بأنّ النَّقْصَ يَعْقُبُه التّمامُ
وليسَ العِلْمُ يُمْسِكُنا وحيدًا
إذا لم يَنْصُرِ العِلْمَ اعتزامُ
وإنْ لم يُدرِك الدُّستورُ (مِصْرًا)
فما لحياتها أبدًا قِوامُ
حَمَوْنا وِرْدَ ماءِ (النِّيلِ) عَذْبًا
وقالوا: إنّه مَوْتٌ زُؤامُ
وما الموتُ الزُّؤامُ إذا عَقَلْنا
سوى الشَّركاتِ حَلَّ لها الحَرامُ
لقد سَعِدَتْ بغَفْلَتِنا فراحَتْ
بثَرْوَتِنا وأوَّلُها (التِّرامُ)
فيا وَيْلَ القناةِ إذا احتَواها
(بَنو التّاميزِ) وانحَسَرَ اللِّثامُ
لقد بقيَتْ مِنَ الدُّنيا حُطامًا
بأيْدينا وقد عَزَّ الحُطامُ
وقد كُنّا جَعَلْناها زِمامًا
فوا لَهْفي إذا قُطِعَ الزِّمامُ
(فيا قَصْرَ الدُّبارَةِ) لستُ أدري
أحَرْبٌ في جِرابِكَ أمْ سَلامُ
أجِبْنا، هل يُرادُ بنا وَراءٌ
فنَقْضي أمْ يُرادُ بنا أمامُ
ويا حِزْبَ اليمين إليكَ عنّا
لقد طاشَتْ نِبالُكَ والسِّهامُ
ويا حِزْبَ الشِّمالِ عليكَ مِنّا
ومِنْ أبناءِ نَجْدَتِكَ السَّلامُ

(١٦) تحيّة العام الهجريّ (سنة ١٣٢٨هـ–يناير سنة ١٩١٠م)

لي فيكَ حينَ بدا سَناكَ وأشْرَقا
أمَلٌ سألْتُ اللهَ أنْ يَتَحَقَّقا
أَشْرِقْ علينا بالسُّعودِ ولا تَكُنْ
كأخيكَ مَشْئومَ المَنازِلِ أخْرَقا
قد كان جَرّاحَ النُّفوسِ فداوِها
مّما بها وكُن الطَّبيبَ مُوَفَّقا
هَلَّلْتُ حينَ لَمَحتُ نورَ جبينِه
ورَجَوْتُ فيه الخَيرَ حينَ تَألَّقا
وهَزَزْتُه بقصيدَةٍ لو أنّها
تُلِيَتْ على الصَّخْرِ الأصَمِّ لأغْدَقَا
فنأى بجانِبه وخَصَّ بنَحْسِه
مِصْرًا وأسْرَفَ في النُّحوس وأغْرَقا
لو كنتُ أعْلَمُ ما يُخَبِّئُه لنا
لسألْتُ ربِّي ضارِعًا أنْ يُمْحَقا
أوْلى الأعاجِمَ مِنَّةً مَذْكورةً
وأعاد للأتْراكِ ذاكَ الرَّوْنَقا
وتَغيَّرتْ فيه الخُطوبُ بفارِسٍ
حتّى رأيتُ الشاهَ يَخشى البَيْدقَا
وأدالَ من (عبدِ الحميدِ) لشَعْبِه
فهَوَى وحاوَل أنْ يَعودَ فأخْفَقا
أمْسَى يُبالي حارِسًا من جُنْدِه
ولقد يَكونُ وما يُبالي الفَيْلَقا
ورَمَى على أرْضِ الكِنانَةِ جِرْمَه
بالنازِلاتِ السُّودِ حتّى أرْهَقَا
حَصَدَتْ مناجِلُه غِراسَ رَجائِنا
ولو انَّها أبْقَتْ عليه لأوْرَقا
فتَقَيَّدَتْ فيه الصّحافةُ عَنْوَةً
ومَشَى الهَوَى بين الرَّعِيّةِ مُطْلَقا
وأتى يُساوِمُ في (القناةِ) خَديعَةً
ولو أنّها تمَّتْ لتَمَّ بها الشَّقا
إن البَليَّةَ أن تُباعَ وتُشْتَرى
(مِصْرٌ) وما فيها وألا تَنْطِقا
كانتْ تُواسينا على آلامنا
صُحُفٌ إذا نَزَل البَلاءُ وأطبَقا
فإذا دَعَوْتُ الدَّمْعَ فاستَعْصى بَكَتْ
عنّا أَسًى حتّى تَغَصَّ وتَشْرَقا
كانتْ لنا يومَ الشدائدِ أسْهُمًا
نَرمي بها وسَوابقًا يومَ اللِّقا
كانتْ صِمامًا للنُّفوس إذا غَلَتْ
فيها الهُمومُ وأوْشَكَتْ أن تَزْهَقا
كم نَفَّسَتْ عن صَدْرِ حُرٍّ واجِدٍ
لولا الصَّمامُ من الأسَى لتَمزَّقا
مالي أنوحُ على الصَّحافةِ جازِعًا
ماذا ألمَّ بها وماذا أحْدَقا؟
قَصُّوا حَواشيها وظَنُّوا أنّهم
أمِنوا صَواعِقَها فكانَتْ أصْعَقا
وأتوْا بحاذِقِهمْ يَكيدُ لها بما
يَثْني عَزائِمَها فكانَتْ أحْذَقا
أهْلاً بنابِتَةِ البلاد ومَرحبًا
جَدَّدْتُم العَهْدَ الّذي قد أخْلَقا
لا تَيْأسُوا أنْ تَسْتَرِدُّوا مَجْدَكُمْ
فلَرُبَّ مَغْلوبٍ هَوَى ثمّ ارتَقى
مَدَّتْ له الآمالُ من أفلاكِها
خَيْطَ الرَّجاءِ إلى العُلا فتَسَلَّقا
فتَجَشَّموا للمَجْدِ كلّ عظيمةٍ
إنِّي رأيْتُ المَجْدَ صَعْبَ المُرْتَقى
مَن رامَ وَصْلَ الشمس حاكَ خُيوطَها
سَبَبًا إلى آمالِه وتَعَلَّقا
عارٌ على ابنِ النِّيلِ سَبَّاقِ الوَرى
— مَهْما تَقلَّبَ دَهْرُه — أن يُسْبَقا
أوَ كلَّما قالوا تَجمَّعَ شَمْلُهُمْ
لعِبَ الشِّقاقُ بجَمْعِنا فتَفَرَّقا
فتدفَّقوا حُجَجًا وحُوطُوا نيلَكُمْ
فلَكَمْ أفاضَ عليكُمُ وتَدفَّقَا
حَمَلوا علينا بالزَّمان وصَرْفِه
فتأنَّقُوا في سَلْبِنا وتَأنَّقا
هَزُّوا مَغارِبَها فهابَتْ بَأْسَهُمْ
يا وَيْلكُمْ إنْ لم تَهْزُّوا المَشْرِقا
فتَعلَّموا فالعِلْمُ مِفْتاحُ العُلا
لم يُبْقِ بابًا للسَّعادة مُغْلَقا
ثمّ استَمِدُّوا منه كلَّ قُواكُمُ
إنّ القَويَّ بكلِّ أرْضٍ يُتَّقَى
وابنوا حوالَيْ حَوْضِكُمْ من يَقْظةٍ
سورًا وخُطُّوا من حِذارٍ خَنْدَقا
وزِنُوا الكَلامَ وسَدَِّدوهُ فإنّهم
خَبئُوا لكمْ في كلِّ حَرْفٍ مَزْلَقا
وامْشوا على حَذَرٍ فإنَّ طريقَكُمْ
وَعْرٌ أطافَ به الهَلاكُ وحَلَّقا
نَصَبوا لكم فيه الفِخاخَ وأرْصَدوا
للسّالِكين بكلِّ فَجٍّ مَوْبِقا
المَوتُ في غِشيانِه وطُروقِه
والمَوْتُ كلُّ المَوْتِ ألا يُطرَقا
فتحَيَّنوا فُرَصَ الحياةِ كثيرةً
وتَعَجَّلوها بالعزائمِ والرُّقي
أو فاخلُقوها قادِرينَ فإنَّما
فُرَصُ الحياةِ خَليقةٌ أنْ تُخْلَقا
وتَفَيَّئوا ظِلَّ الأريكَة واقصِدوا
مَلِكًا بأمَّتِه أبَرَّ وأرْفَقا
لا زال تاجُ المُلْكِ فوقَ جَبينِه
تحتَ الهِلال يَزينُ ذاكَ المَفْرِقا

(١٧) تحيّة الأسطول العثماني

أنشدها في حفل أقيم بتياترو عبّاس في ٩ مارس سنة ١٩١٠م برآسة رءوف باشا المعتمد العثماني

بالّذي أجْراكِ يا ريحَ الخُزامَى
بَلِّغي البُسْفورَ عن مِصْرَ السَّلامَا
واقطِفي من كلِّ رَوْضٍ زَهْرةً
واجعَليها لتَحايانا كِماما
وانشُري رَيّاكِ في ذاكَ الحِمَى
والثِمي الأرْضَ إذا جِئتِ الإماما
مَلِكٌ للشَّرْقِ في أيّامه
هِمّةُ الغَرْبِ نُهوضًا واعتزاما
أيُّها القائمُ بالأمْر لقد
قُمْتَ في النّاسِ فأحْسَنْتَ القِياما
جَرِّد الرأيَ فكمْ رأْيٍ إذا
سُلَّ من غِمْدِ النُّهى فَلَّ الحُساما
وابعَثِ الأسطولَ تَرْمي دونَه
قوّةُ اللهِ وراءً وأماما
يَكْلا الشَّرقَ ويَرعَى بُقْعَةً
رفَعَ اللهُ بها (البَيْتَ الحَراما)
وثُغورًا هي أبْهى مَنْظَرًا
من ثُغورِ الغِيدِ يُبْدينَ ابتِساما
خَصَّها اللهُ بأفْقٍ مُشْرِقٍ
ضَمَّ في الآلاءِ (مِصرًا) و(الشَّآما)
حَيِّ يا مَشْرِقُ أسطولَ الأُلَى
ضَرَبوا الدَّهْرَ بسَوْطٍ فاستَقاما
مَلَكوا البَرَّ فلمّا لم يَسَعْ
مَجْدَهُمْ نالوا مِنَ البحْرِ المَراما
بجَوارٍ مُنْشَآتٍ كالدُّمى
أينَما سارَتْ صبا البَحْرُ وهاما
كلّما أوْفَتْ على أمْواجه
سَجَدَ المَوجُ خُشوعًا واحتِشاما
كان بالبحْرِ إليها ظَمأ
وعَجيبٌ يَشْتكي البَحْرُ الأُوَاما
فهي في السِّلْمِ جَوارٍ تُجْتَلى
تَبْهَرُ العَيْنَ رُواءً ونِظاما
وهي في الحرْب قَضاءٌ سابحُ
يَدَعُ الحِصْنَ تِلالاً ورِجاما
ما نُجومُ الرَّجْمِ من أبْراجِها
إثرَ عِفْريتٍ من الجِنِّ تَرامى
مِنْ مَراميها بأنْكَى مَوْقِعًا
لا ولا أقوى مِراسًا وعُرَاما
وهي بركانٌ إذا ما هَاجَها
هائجُ الشَّرِّ عِداءً وخِصاما
جَبَلَ النارِ لقد رُعْتَ الوَرى
أنتَ في حالَيْكَ لا تَرْعى ذِماما
أنتَ في البَرِّ بَلاءٌ فإذا
رَكِبَ البَحْرَ غدا مَوْتًا زُؤاما
فاتَّقوا الطَّوْدَ مَكينًا راسِيًا
واتَّقوا الطِّوْدَ إذا ما الطَّوْدُ عامَا
حَمَلَتْ حَرْبًا فكانتْ حِقبَةً
نُذُرًا للمَوْتِ تَجْتاحُ الأناما
خافَها العالَمُ حتّى أصبَحَتْ
رُسُلاً تَحْمِلُ أمْنًا وسَلاما
بُعِثَ المَشْرِقُ من مَرْقَدِه
بعد حينٍ، جَلَّ مَنْ يُحيْي العِظاما
أيُّها الشَّرْقيُّ شَمِّرْ لا تَنَمْ
وانفُضِ العَجْزَ؛ فإنّ الجِدَّ قاما
وامتَطِ العَزْمَ جَوادًا للعُلا
واجعَلِ الحِكْمَةَ للعَزْم زِماما
وإذا حاوَلْتَ في الأفْقِ مُنًى
فارْكَبِ البَرْقَ ولا تَرْضَ الغِماما
لا تَضِقْ ذَرْعًا بما قال العُِدا
رُبَّ ذي لُبٍّ عن الحَقِّ تَعامى
سابِقِ الغَرْبيِّ واسبِقْ واعتَصِمْ
بالمُروءاتِ وبالبأْسِ اعتِصاما
جانِبِ الأطْماعَ وانْهَجْ نَهْجَه
واجْعَلِ الرَّحْمَةَ والتقْوى لِزاما
طَلَبوا من عِلْمِهم أنْ يُعْجِزوا
قادِرَ المَوْتِ وأنْ يَثْنُوا الحِماما
وأرادوا منه أنْ يَرفَعَهُمْ
فوقَ هامِ الشُّهْبِ في الغَيْبِ مَقاما
(قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَهُ)
طاوَل الخالِقَ في الكَوْنِ وسامَى
أحْرَجَ الغَيْبَ إلى أنْ بزَّهُ
سِرَّه بَزًّا ولم يَخْشَ انتِقاما
قُوّةَ الرَّحْمنِ زيدينا قُوًى
وأفيضي في بِنَي الشَّرقِ الوِئاما
أفْرِغي من كلِّ صَدْرٍ حِقْدَهُ
امْلئي التاريخَ والدُّنيا كلاما
أسألُ اللهَ الذي ألْهَمَنا
خِدْمَةَ الأوْطانِ شَيْخًا وغُلاما
أنْ أرى في البَحْرِ والبَرِّ لنا
في الوَغَى أندادَ (طُوجُو) و(أًُيَامَا)

(١٨) حرب طرابلس (في سنة ١٩١٢م)

طَمَعٌ ألْقى عن الغَرْب اللِّثاما
فاستَفِقْ يا شَرْقُ واحذَرْ أنْ تَناما
واحمِلي أيّتُها الشمسُ إلى
كلِّ مَنْ يَسكُنُ في الشَّرقِ السَّلاما
واشهَدي يومَ التَّنادي أنّنا
في سبيلِ الحَقِّ قد مِتْنا كِراما
مادتِ الأرْضُ بنا حين انتَشَتْ
مِنْ دمِ القَتلى حَلالاً وحَراما
عَجَزَ الطُّلْيانُ عن أبطالنا
فأعَلُّوا من ذرارينا الحُساما
كَبَّلوهُمْ، قَتَلُوهُمْ، مَثَّلوا
بذواتِ الخِدْرِ، طاحوا باليَتامى
ذَبَحوا الأشياخَ والزَّمْنى ولم
يَرْحَموا طفلاً ولمْ يُبْقُوا غُلاما
أحْرَقوا الدُّورَ، استَحَلُّوا كلَّ ما
حَرَّمَتْ (لاهايُ) في العَهْدِ احتراما
بارَكَ المَطْرانُ في أعْمالِهِمْ
فسَلوهُ بارَكَ القَوْمَ عَلاما؟
أبهذا جاءَهُمْ إنْجيلُهُمْ
آمِرًا يُلقي على الأرض سَلامَا؟
كَشَفوا عن نيّةِ الغَرْبِ لنا
وجَلَوْا عن أُفُقِ الشَّرقِ الظَّلاما
فقرأناها سُطورًا من دمٍ
أقْسَمَتْ تَلْتَهِمُ الشَّرْقَ التِهاما
أطْلَقوا الأسطولَ في البحرِ كما
يُطْلِقُ الزّاجِلُ في الجَوِّ الحَماما
فمَضَى غيرَ بَعيدٍ وانْثَنى
يَحْمِلُ الأنْباءَ شُؤمًا وانهِزاما
قد مَلأنا البَرَّ من أشلائِهِمْ
فدَعوهُمْ يَملَئوا الدُّنيا كَلاما
أعْلَنوا الحَرْبَ وأضْمَرْنا لهمْ
أيْنما حَلُّوا هلاكًا واختراما
خَبِّروا (فكْتُورَ) عنّا أنّه
أدْهَشَ العالَمَ حَرْبًا ونِظاما
أدْهَشَ العالَمَ لمّا أنْ رأوْا
جَيْشَه يَسْبِقُ في الجَرْيِ النَّعاما
لم يَقِف في البرَِّ إلاّ رَيْثما
يُسْلِمُ الأرواحَ أو يُلقي الزِّماما
حاتِمَ الطُّليان قد قَلَّدْتَنا
مِنّةً نَذْكُرُها عامًا فعاما
أنتَ أهْدَيْتَ إلينا عُدّةً
ولِباسًا وشرابًا وطعاما
وسِلاحًا كان في أيْديكُمُ
ذا كَلالٍ فغَدا يَفْري العِظاما
أكثِروا النُّزهةَ في أحيائنا
ورُبانا إنّها تَشفي السَّقاما
وأقيموا كلَّ عامٍ مَوْسِمًا
يُشْبِع الأيتامَ مِنّا والأيامَى
لستُ أدري بِتَّ تَرعى أمّةً
مِنْ بني (التَّلْيانِ) أم تَرْعَى سَواما
ما لهُمْ — والنَّصْرُ من عاداتِهمْ —
لَزِموا الساحِلَ خَوْفًا واعتِصاما
أفْلَتُوا من نارِ (فيزُوفَ) إلى
نارِ حَرْبٍ لم تَكُن أدنى ضِراما
لم يَكُن (فيزُوفُ) نَمْ عنهمْ فقد
نَفَضَتْ إفْريقيا عنها المَناما
فهي بُركانٌ لهم سَخَّرَهُ
مالِكُ المُلْكِ جَزاءً وانتِقاما
لو دَرَوْا ما خَبَأ الشَّرقُ لهم
آثَروا (فيزوفَ) واختاروا المُقاما
تِلكَ عُقْبَى أمّةٍ غادِرَةٍ
تَنكُثُ العَهْدَ ولا تَرعى الذِّماما
تلك عُقْبى كلِّ جَبّارٍ طَغى
أو تَعال أو عن الحَقِّ تَعامَى
لو دَرَتْ (رُومَةُ) ما قد نابَها
في (طَرابُلْسَ) أبَتْ إلا انقِساما
وأبى كلُّ اشتراكيٍّ بها
أن يَرَى التاجَ على رأسٍ أقاما
أعْلَنُوا ضَمَّ مَغانينا إلى
مُلْكِ (ڤكْتُورَ) ولم يَخْشَوْا مَلاما
أعْلَنوا الضَّمَّ ولمّا يَفتَحُوا
قِيَدَ أظْفُورٍ وراءً أو أماما
فاعْجَبوا من فاتِحْ ذي مِرَّةٍ
يَحْسَبُ النُّزهَةَ في البَحْرِ صِداما
ويَرَى الفَتْحَ ادِّعاءً باطِلاً
وافتِراءً واحتجاجًا واحتِكاما
أيُّها الحائِرُ في البَحْرِ اقتَرِبْ
من حِمَى (البُسْفورِ) إنْ كنتَ هُماما
كم سَمِعْنا عن لسانِ البَرْقِ ما
يُزْعِجُ الدُّنيا إذا الأسطولُ عاما
عامَ شَهْرَيْنِ ولم يَفْتَحْ سوى
هُوَّةٍ فيها الملايينُ تَرامى
دَفَنوا تاريخَهُم في قاعِها
ورَمَوْا في إثرِه المجدَ غُلاما
فاطمئِنّي أُمَمَ الشَّرْقِ ولا
تَقْنَطي اليومَ فإنّ الجَدَّ قاما
إنّ في أضلاعِنا أفئدةً
تَعْشَقُ المجدَ وتَأْبَى أنْ تُضاما

(١٩) منظومة تمثيليّة

قالها الشاعر عقب ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت انتقامًا من الأتراك؛ وذلك في عهد نشوب الحرب الطرابلسيّة التي وقعت بين الإيطاليين والترك في سنة ١٩١٢م، وقد فرض الشاعر هذه الرواية بين جريح من أهل بيروت، وزوج له اسمها (ليلى)، وطبيب، ورجل عربيّ.

الجريح :
(لَيْلايَ) ما أنا حَيٌّ
يُرْجَى ولا أنا مَيْتُ
لمْ أقْضِ حقَّ بلادي
وهأنا قد قَضَيْتُ
شَفَيْتُ نَفْسي لوَ أنِّي
لمّا رُميتُ رَمَيْتُ
(بيروتُ) لو أنّ خَصْمًا
مَشَى إليَّ مَشَيْتُ
أو داسَ أرْضَكِ باغٍ
لدُسْتُه وبَغَيْتُ
أو حَلَّ فيكِ عَدُوٌّ
مُنازِلٌ ما اتَّقَيْتُ
لكنْ رماكِ جَبانٌ
لو بان لي لاشتَفَيْتُ
(لَيْلايَ) لا تَحْسَبيني
على الحياةِ بَكَيْتُ
ولا تَظُنِّي شَكاتي
من مَصْرَعي إن شَكَوْتُ
ولا يُخيفَنْكِ ذِكْري
(بَيْروتَ) أنّي سَلَوْتُ
(بيْروتُ) مَهْدُ غَرامي
فيها وفيكِ صَبَوْتُ
جَرَرْتُ ذَيْلَ شبابي
لهْوًا وفيها جَرَيْتُ
فيها عَرَفْتُكِ طفْلاً
ومِنْ هواكِ انتَشَيْتُ
ومن عُيونِ رُباها
وعَذْبِ فيكِ ارتَوَيْتُ
فيها (لِلَيْلى) كِناسٌ
ولي من العِزِّ بَيْتُ
فيها بَنَى ليَ مَجْدًا
أوائلي وبَنَيْتُ
(لَيْلى) سراجُ حياتي
خَبا فما فيه زَيْتُ
قد أطْفَأتْهُ كُراتٌ
ما مِنْ لَظاهُنّ فَوْتُ
رَمَى بهنَّ بُغاةٌ
أصَبْنَني فتَوَيْتُ
ليلى :
لو تُفْتَدَى بحياتي
من الرَّدى لفَدَيْتُ
ولو وَقاكَ وَفيٌّ
بمُهْجَةٍ لوَقَيْتُ
إنْ عِشْتَ أو مِتَّ إنِّي
كما نَوَيْتَ نَوَيْتُ
الجريح :
(لَيْلايَ) عيشي وقَرِّي
إذَا الحِمامُ دعاني
(ليلايَ) ساعاتُ عُمْري
مَعْدودَةٌ بالثَّواني
فكَفْكِفي من دمُوعٍ
تَفْري حُشاشَةَ فاني
ومَهِّدي ليَ قَبْرًا
على ذُرا (لُبْنانِ)
ثمّ اكتُبي فوقَ لَوْحٍ
لكلِّ قاصٍ وداني:
هُنا الّذي مات غَدْرًا
هُنا فتَى الفِتْيانِ
رَمَتْهُ أيدي جُناةٍ
من جيرَة النِّيرانِ
قُرصان بحْرٍ تَوَلَّوا
من حَوْمَةِ المَيْدانِ
لم يَخْرُجوا قَيْدَ شِبْرٍ
عَنْ مَسْبَح الحِيتانِ
ولم يُطيقوا ثَباتًا
في أوْجُه الفُرْسانِ
فشَمَّروا لانتِقامٍ
مِنْ غافلٍ في أمانِ
وسَوَّدوا وجْهَ (رُوما)
بالكَيْد للجيرانِ
تَبًّا لهُمْ من بُغاثٍ
فَرُّوا منَ العِقبانِ
لو أنّهم نازَلونا
في الشَّام يومَ طِعانِ
رأوْا طرابُلْسَ تَبدو
لهم بكلِّ مكانِ
يا ليْتني لم أُعاجَلْ
بالموتِ قبلَ الأوانِ
حتّى أرى الشَّرْقَ يَسمُو
رَغْمَ اعتِداءِ الزَّمانِ
ويَسْتَرِدُّ جَلالاً
له ورِفْعَةَ شانِ
ولْيَعْلَم الغَرْبُ أنّا
كأُمَّةِ (اليابانِ)
لا نَرتَضي العَيْشَ يَجري
في ذِلَّةٍ وهَوانِ
أراهمُ أنْزَلونا
مَنازِلَ الحَيوانِ
وأخْرَجونا جَميعًا
عَنْ رُتْبةِ الإنسانِ
وسوْفَ تَقضي عليهم
طبائِعُ العُمْرانِ
فيُصْبِحُ الشَّرْقُ غَربًا
ويَستوي الخافِقانِ
لاهُمَّ جَدِّدْ قُوانا
لِخِدْمَةِ الأوْطانِ
فنحنُ في كلِّ صُقْعٍ
نَشكو بكلِّ لسانِ
يا قومَ إنجيلِ (عيسى)
وأمّةَ القُرآنِ
لا تَقْتُلوا الدهرَ حِقدًا
فالمُلْكُ للدَّيّانِ
ليلى :
إنِّي أرى من بعيدٍ
جَماعةً مُقْبِلينا
لَعَلَّ فيهمْ نَصيرًا
لَعَلَّ فيهمْ مُعينَا
العربيّ :
هَوِّنْ عليكَ، تَماسَكْ
إنِّي سَمِعْتُ أنينا
أظُنُّ هذا جريحًا
يَشكو الأسى أو طَعينا
باللهِ ماذا دَهاهُ
يا هذه خَبِّرينا؟
ليلى :
لقد دَهَتْهُ المَنايا
مِن غارَة الخائِنينا
صَبُّوا علينا الرَّزايا
لم يَتَّقوا اللهَ فينا
فخَفِّفُوا من أذاهُ
إنْ كنتمُ فاعِلينا
العربيّ :
لا تَيأسِي، وتَجَلَّدْ
أراكَ شَهْمًا رَكِينا
أبْشِرْ فإنكَ ناجٍ
واصبِرْ مع الصّابِرينا
الطبيب :
أوّاه إنِّي أراهُ
بالموت أمْسَى رَهينا
جِراحُه بالِغاتٌ
تُعْيي الطبيبَ الفَطينا
وعَنْ قريبٍ سيَقْضي
غَضَّ الشَّبابِ حَزينا
العربي :
أُفٍّ لقَوْمٍ جِياعٍ
قد أزْعَجوا العالَمِينَا
قِراهُمُ أين حَلُّوا
ضَرْبٌ يَقُدُّ المُتُونا
عَقُّوا المُروءَةَ هَدُّوا
مَفاخِرَ الأوَّلينا
عاثُوا فَسادًا وفَرُّوا
يَستَعْجِلونَ السَّفينا
وألْبَسوا الغَرْبَ خِزْيًا
في قَرْنِه العِشْرينا
وألْجَموا كلَّ داعٍ
وأحْرَجوا المُصْلِحينا
فيا (أُرُبّةُ) مَهْلاً
أينَ الّذي تَدَّعينا
ماذا تُريدين منّا
والداءُ أمْسى دَفينا
أينَ الحَضارةُ إنّا
بعَيْشِنا قد رَضينا
لم نُؤْذِ في الدَّهْرِ جارًا
ولمْ نُخاتِلْ خَدينا
(مَسَرَّةَ) الشامِ إنّا
إخوانُكمْ ما حَيِينا
ثِقوا فإنّا وَثِقْنا
بكمْ وجِئنا قَطينا
إنّا نَرَى فيك (عيسَى)
يَدْعو إلى الخَيْرِ فينا
قرَّبتَ بين قُلوبٍ
قد أوْشَكتْ أن تَبينا
فأنت فخْرُ النَّصارى
وصاحِبُ المُسْلِمينا
الجريح :
رأيتُ يَأسَ طبيبي
وهَمْسَه في فُؤادي
لا تندُبيني فإنّي
أقضي وتَحيا بلادي
العربي :
أستَوْدعُ اللهَ شَهْمًا
نَدْبًا طَويلَ النِّجادِ
أسْتَوْدِعُ اللهُ روحًا
كانتْ رجاءَ البِلادِ
فيا شهيدًا رَمَتْهُ
غَدْرًا كُراتُ الأعادي
نَمْ هانِئًا مُطْمَئِنًّا
فلمْ تَنَمْ أحْقادي
فسوْفَ يُرْضيكَ ثأْرٌ
يُذيبُ قَلْبَ الجَمادِ

(٢٠) استقبال الطيّار العثماني فتحي بك

نشرت في سنة ١٩١٤م ويلاحظ أنّ هذه القصيدة كانت قد أُعدّت لاستقبال الطيّار المذكور، فسقطت به طائرتُه، ومات قبل إتمام رحلته إلى مصر فرأى حافظ من الوفاء نشر هذه القصيدة بعد موته؛ لتكون له حيًّا وميتًا.

أهْلاً بأوّلِ مُسْلِمٍ
في المَشْرِقَيْنِ عَلا وطَارْ
النِّيلُ والبُسْفُورُ فيـ
ـكَ تَجاذَبا ذَيْلَ الفَخارْ
يومَ امتَطَيْتَ بُراقَكَ الْـ
ـمَيْمُونَ واجتَزْتَ القِفارْ
تَلْهو وتَعْبَثُ بالرِّيا
حِ على المَفاوِزِ والبِحارْ
لو سابَقَتْكَ سوابِقُ الـ
ـأفكارِ أدْرَكَها العِشارْ
حَسَدَتْكَ في الأُفقِ البُرو
قُ وغارَ في الأرض البُخارْ
تَجري بسابحَةٍ تَشُـ
ـقُّ سبيلَها شقَّ الإزارْ
وتَكادُ تَقدَحُ في الأثيـ
ـرِ فيَسْتحيلُ إلى شَرارْ
مثْل الشِّهاب انقَضَّ في
آثارِ عِفريتٍ وَثارْ
فإذا عَلَتْ فكَدَعْوَةِ الـ
ـمُضْطَرِّ تَخْتَرِقُ السِّتارْ
وإذا هَوَتْ فكما هَوَتْ
أنْثى العُقابِ على الهَزارْ
وتُسِفُّ آوِنَةً وآ
وِنَةً يَحيدُ بها ازْوِرارْ
فيخالُها الرَّاءونَ قد
قَرَّتْ وليس بها قَرارْ
لعِبَ الجَواد أقَلَّ لَيْـ
ـثًا من قُضاعَةَ أو نِزارْ
أو كاللَّعوبِ من الحَما
ئِمِ فوقَ مَلْعَبِه استَطارْ
وكأنّها في الأفْقِ حيـ
ـنَ يَميلُ ميزانُ النَّهارْ
والشَّمْسُ تُلْقي فوْقَها
حُلَلُ احمِرارٍ واصفِرارْ
مَلِكٌ تُمَثِّلُه لنا (السْـ
ـسَما) فيَأخُذُنا انْبِهارْ
(فَتْحِي) برَبِّكَ ما رأيْـ
ـتَ بذلك الفَلَكِ المُدارْ
أبَلَغْتَ تَسبيحَ المَلا
ئِكِ أو دَنَوْتَ من السِّرارْ
أمْ خِفْتَ تلك الرّاصِدا
تِ هُناكَ من شُهُبٍ ونارْ
أرأيتَ سُكّانَ النُّجو
مِ وأنتَ في ذاكَ الجِوارْ
أهُناكَ في (المِرِّيخ) ما
في الأرض من عِلَلِ الشِّجارْ
أهُناك يَستَعْدي الضَّعيـ
ـفُ على القَويِّ فلا يُجارْ
ما لابنِ آدمَ زاد في
غُلَوائه فطَغَى وجارْ
يا ليْتَ شِعْري هل له
في عالَمِ المَلَكوتِ ثارْ
أم لاذَ مُعْتَصِمًا بكُرْ
سيِّ المُهَيْمِنِ واستجارْ
فاستَلَّ من قلْبِ الجَما
دِ الصُّلْبِ أجْنِحَةً وطارْ
وتَسَلَّقَ الأجْواءَ مُمْـ
ـتَطيًا عواصِفَها وسارْ
يَرْجو النَّجاءَ من المَظا
لِمِ والمَغارِمِ والدَّمارْ
يأيّها الطّيّارُ طِرْ
فإذا بَلَغْتَ مَدى المَطارْ
فزُرِ السُّها والفَرْقَدَيْـ
ـنِ إذا أُتيح لكَ المَزارْ
وسَلِ النُّجومَ عنِ الحَيا
ةِ ففي السّؤالِ لكَ اعتِبارْ
هُمْ يُنْبِئونَكَ أنّ كلْـ
ـلَ الكائناتِ إلى بوارْ
والظُّلْمُ من طبعِ النِّظا
مِ فإنْ ظُلِمْتَ فلا تُمارْ
إنّ الّذي بَرَأ السَّديـ
ـمَ هو الّذي بَرَأ الغُبارْ
في العالَمِ العُلْوِيِّ والسْـ
ـسُفْليِّ أحكامٌ تُدارْ
خُلِقَ الضِّعيفُ لخدمةِ الْـ
ـأقْوى وليس له خِيار
فتقَوَّ يَرْهَبْكَ القَوِ
يُّ وهُنْ يُلازِمْكَ الصِّغارْ
في الأرضِ ما تبغُون من
عِزٍّ وآمالٍ كِبارْ
فيها الحَديدُ وفيه بأْ
سٌ يومَ يُمْتَهَنُ الذِّمارْ
فيها الكُنوزُ الحافِلا
تُ لمَنْ تَبَصَّر واستَنارْ
منها استمدَّ قُواهُ مَنْ
قَهَرَ المَمالِكَ واستَعارْ
وبما احتَوَتْ ردَّ الحَصيـ
ـفُ الرَّأْيِ غارةَ مَنْ أغارْ
في ذِمّةِ الآفاقِ سِرْ
وارجِعْ إلى تلكَ الدِّيارْ
واجعَلْ تَحيَّتَنا إلى
بَلَد به للمُلْكِ دارْ
دارٌ عليها للخِلا
فَةِ والهُدى رُفِعَ المَنارْ
دارُ الغُزاةِ الفاتحيـ
ـنَ الصَّفْوةِ الغُرِّ الخِيارْ
في كلِّ حاضِرَةٍ لهمْ
غَزْوٌ ففَتْحٌ فانتِصارْ
ضَرَبوا الزَّمانَ بسَوْطِ عِزْ
زَتِهِمْ فَلانَ لهمْ فَدارْ
يَمشونَ في غابِ القَنا
مَشْيَ المُرَنَّحِ بالعُقارْ
من كلِّ أرْوَعَ فاتِكٍ
لا يَستَشير سوى الغِرارْ
ذي مِرّةٍ تَشْجيهِ ذا
تُ النَّقْعِ لا ذاتُ الخِمارْ
يَغشى المَعامِعَ ضارِبًا
بحياته ضَرْبَ القِمارْ
لا يَنْثَني أو تَخْرُجَ الـ
ـأجْرامُ عنْ فَلَكِ المَدارْ
عَبَسَتْ لهمْ أيّامُهُمْ
والعَبْسُ يَعْقُبُهُ افترار
ما عابَهُمْ أنّ الصُّعو
دَ يَليه في الدَّهْرِ انحِدار
فلكلِّ غادٍ رَوْحَةٌ
ولكلِّ وُضّاءٍ سِرار
ولسَوْفَ يَعْلو نَجْمُهُمْ
ويَسودُ ذَيّاكَ الشِّعارْ

(٢١) إلى معتمد بريطانيا في مصر (نشرت في يناير سنة ١٩١٥م)

قالها عند تعيين معتمد جديد لبريطانيا، وهو السير مكماهون

أيْ (مَكْمَهُونُ) قَدِمْتَ بالـ
ـقَصْدِ الحميدِ وبالرِّعايَهْ
ماذا حَمَلْتَ لنا عن الْـ
ـمَلِكِ الكبير وعن (غِرايَهْ)؟
أوْضِحْ (لمصْرَ) الفَرْقَ ما
بَيْنَ السِّيادةِ والحِمايَهْ
وأزِلْ شُكُوكًا بالنُّفو
سِ تَعلَّقَتْ مُنْذُ البدايَهْ
ودعِ الوُعودَ فإنّها
فيما مَضَى كانت رِوايَهْ
أضْحَتْ رُبوعُ النِّيل سَلْـ
ـطَنَةً وقد كانَتْ وِلايَهْ
فتَعَهَّدوها بالصَّلا
حِ وأحْسِنوا فيها الوِصايهْ
إنّا لنَشكو واثِقيـ
ـنَ بعَدْلِ مَنْ يُشْكي الشِّكايَهْ
نَرجو حياةً حُرّةً
مَضْمونَةً في ظِلِّ رايَهْ
ونَرومُ تَعليمًا يَكُو
نُ له مِن الفَوْضى وِقايَهْ
ونَوَدُّ ألاّ تَسْمَعوا
فينا السِّعايَةَ والوِشايَهْ
أنتمْ أطبّاءُ الشُّعو
بِ وأنْبَلُ الأقْوامِ غايَهْ
أنَّى حَلَلْتُمْ في البِلا
دِ لكم منَ الإصلاحِ آيَهْ
رَسَخَتْ بنايَةُ مَجْدِكُمْ
فوقَ الرَّوِيَّةِ والهِدايَهْ
وعَدَلْتُمُ فمَلَكْتُمُ الدْ
نيا وفي العَدْل الكِفايَهْ
إنْ تَنصُروا المُسْتَضْعَفيـ
ـنَ فنحنُ أضْعَفُهُمْ نكايَهْ
أو تَعْمَلوا لصَلاحِنا
فتَدارَكوه إلى النِّهايَهْ
إنّا بَلَغْنا رُشْدَنا
والرُّشْدُ تسْبِقُه الغَوايَهْ
لا تَأخُذونا بالكَلا
مِ فليس في الشَّكْوى جِنايَهْ
هذا (حُسَيْنٌ) فوْقَ عَرْ
شِ (النِّيل) تَحْرُسُه العِنايَهْ
هُوَ خيرُ مَنْ يَبني لنا
فدَعوه يَنهضُ بالبِنايهْ

(٢٢) إلى غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا (نشرت في يناير سنة ١٩١٥م)

قالها يَنكر عليه إثارته الحرب العظمى وما ارتكبه فيها من الفظائع

للهِ آثارٌ هُناك كريمَةٌ
حَسَدَتْ روائِعَ حُسْنِها (بِرْلينُ)
طاحَتْ بها تِلْكَ المَدافِعُ تارةً
لمّا أمَرْتَ وتارةً (زِبْلينُ)
ماذا رأيْتَ منَ النَّبالَة والعُلا
في عُدْمِهِنَّ وكُلُّهُنَّ غُيونُ
لو أنّ في (بِرْلين) عِنْدَكَ مِثْلها
لعَرَفْتَ كيف تُجِلُّها وتَصونُ
إنْ كنتَ أنتَ هَدَمْتَ (رِمْسَ) فإنّه
أوْدى بمَجْدِكَ رُكْنُها المَوْهُونُ
لم يُغْنِ عنها مَعْبَدٌ خَرَّبْتَه
ظُلْمًا ولم يُمْسِكْ عِنانَكَ دِينُ
لا تَحْسَبَنّ الفَخْرَ ما أحْرَزْتَه
الفَخْرُ بالذِّكْرِ الجَميلِ رَهينُ
هل شِدْتَ في (بِرلينَ) غيرَ مُعَسْكَرٍ
قامَتْ عليه مَعاقلٌ وحُصونُ
وجَمَعْتَ شَعْبَكَ كلّه في قَبْضةٍ
إنْ لم تَكُنْ لانَتْ فسوْفَ تَلينُ
نَظَمَتْ تجارَتُكَ المدائِنَ والقُرى
(فالنِّيلُ) ناءَ بها وناءَ (السِّينُ)
فبكُلِّ أرْضٍ من رجالِكَ عُصْبةٌ
وبكلِّ بَحْرٍ من لدُنْكَ سَفينُ
تَسري ونَسْرُكَ أيْنَ لُحْنَ يُظِلُّها
لا اللَّيْثُ يُزْعِجُها ولا التِّنِّينُ
فالأمْرُ أمرُكَ والمُهَنَّدُ مُغْمَدٌ
والنَّهْيُ نَهْيُكَ والسُّرَى مَأْمونُ
قد كان في (بِرلينَ) شَعْبُكَ وادِعًا
يَستعمِر الأسواقَ وهي سُكونُ
فُتِحَتْ له أبوابُها فسَبيلُها
وَقْفٌ عليه وِرزْقُه مَضْمونُ
فعَلامَ أرْهَقْتَ الوَرَى وأثَرْتَها
شَعْواءَ فيها للهَلاكِ فُنُونُ؟
تاللهِ لو نُصِرَتْ جُيوشُكَ لاْنطَوى
أجَلُ السَّلامِ وأقْفَرَ المَسْكونُ
سبعونَ مِليونًا إذا وَزَّعْتَها
بيْنَ الحواضِرِ نالَنا مِلْيونُ
وَيْلٌ لمَنْ يَستعمِرون بلادَه
القَحْطُ أيْسَرُ خَطْبِه والهُونُ
أكْثَرْتَ من ذِكْرِ الإله تَوَرُّعًا
وزَعَمْتَ أنَّكَ مُرْسَلٌ وأمينُ
عَجَبًا أتَذْكَرُه وتَمْلأ كَوْنَه
وَيْلاً ليَنْعَمَ شَعْبُكَ المَغْبُونُ
وكذلكَ القَصّابُ يَذْكُرُ رَبَّه
والنَّصْلُ في عُنُقِ الذَّبيحِ دفينُ

(٢٣) الحرب العظمى (نشرت في ١٥ يوليه سنة ١٩١٥م)

لاهُمَّ إنَّ الغَرْبَ أصْبَح شُعْلةً
من هَوْلِها أمُّ الصَّواعِقِ تَفَرَقُ
العِلْمُ يُذْكي نارَها وتُثيرُها
مَدَنِيّةٌ خَرْقاءُ لا تَتَرَفَّقُ
ولقد حَسِبْتُ العِلْمَ فينا نِعْمةً
تَأسو الضَّعيفَ ورَحمةً تَتَدفَّقُ
فإذا بنِعْمَتِه بَلاءٌ مُرْهِقٌ
وإذا برَحْمَتِه قَضاءٌ مُطبِقُ
عَجَزَ الرُّماةُ عن الرُّماةِ فأرْسَلوا
كِسَفًا يمَوجُ بها دُخانٌ يَخْنُقُ
تَتَعوّدُ الآفاقُ منه وتَنْثَني
عنه الرِّياحُ ويَتَّقيه الفَيْلَقُ
وتَنابَلوا بالكيمياءِ فأسْرَفوا
وتَساجَلوا بالكَهْرباء فأغْرَقوا
وتَنازَلوا في الجوِّ حين بدا لهُمْ
أنّ البسيطةَ عن مَداهُمْ أضْيَقُ
نَفِسوا على الحِيتانِ واسِعَ مُلْكِها
فتَفنَّنوا في سَلْبِه وتَأنَّقوا
مَلَكوا مَسابِحَها عليها بَعْدَما
غَلَبوا النُّسورَ على الجِواء وحَلَّقوا
إنْ كان عَهْدُ العِلْمِ هذا شأْنُه
فينا فعهْدُ الجاهليّةِ أرْفَقُ

(٢٤) مظاهرات السيّدات

قالها في مظاهرة قامت بها السيّدات في الثورة الوطنيّة في سنة ١٩١٩م ونشرت إذ ذاك في منشورات وطنيّة، وتأخّر نشرها في الصحف إلى ١٢ مارس سنة ١٩٢٩م

خَرَجَ الغواني يَحْتَجِجْـ
ـنَ ورُحْتُ أرْقُبُ جَمْعَهُنَّهْ
فإذا بهنَّ تَخِذْنَ من
سُودِ الثِّيابِ شِعارَهُنّهْ
فطَلَعْنَ مثلَ كواكِبٍ
يَسْطَعْنَ في وَسَط الدُّجُنّه
وأخَذْنَ يَجْتَزْنَ الطَّريـ
ـقَ ودارُ (سَعْدٍ) قصْدُهُنَّهْ
يَمْشينَ في كَيف الوَقا
رِ وقد أبَنَّ شُعُورَهُنَّهْ
وإذا بجَيْشٍ مُقْبِلٍ
والخَيْلُ مُطْلَقَةُ الأعِنَّهْ
وإذا الجُنودُ سيوفُها
قد صُوِّبَتْ لنُحُورِهِنّهْ
وإذا المدافعُ والبَنا
دِقُ والصَّوارِمُ والأسِنّهْ
والخَيْلُ والفُرسانُ قدْ
ضَرَبَتْ نِطاقًا حَوْلَهُنَّهْ
والوَرْدُ والرَّيْحانُ في
ذاكَ النَّهارِ سِلاحُهُنَّهْ
فتطاحَنَ الجَيْشانِ سا
عاتٍ تَشيب لها الأجِنَّهْ
فتضَعْضَعَ النِّسْوانُ والنْـ
ـسوانُ ليس لهنَّ مُنَّهْ
ثمّ انهزَمْنَ مُشتَّتا
تِ الشَّمْل نحو قُصورِهِنَّهْ
فليَهْنأ الجَيشُ الفَخو
رُ بنصْرِه وبكَسْرِهِنَّهْ
فكأنّما الألْمانُ قد
لَبِسوا البَراقِعَ بيْنَهُنّهْ
وأتوا (بهِنْدِنْبُرْجَ) مُخْـ
ـتَفيًا بمِصْرَ يقودُهُنّهْ
فلذاكَ خافوا بَأْسَهُنْـ
ـنَ وأشْفَقوا من كَيْدِهِنّهْ

(٢٥) أياصوفيا

قالها حين خيف على الأستانة أن تمتلكها دول الحلفاء وتنزعها من يد الأتراك وذلك عقب الحرب العظمى، وكانت جيوش تلك الدول قد احتلّت هذه المدينة

(وتأخّر نشر هذه القصيدة إلى سنة ١٩٣٢م)

(أياصُوفيا) حانَ التَّفَرُّقُ فاذكُري
عُهُودَ كِرامٍ فيكِ صَلُّوا وسَلَّموا
إذا عُدْتِ يومًا للصَّليب وأهْلِه
وحَلَّى نَواحِيكِ المَسيحُ ومَرْيَمُ
ودُقَّتْ نواقِيسٌ وقام مُزَمِّرٌ
من الرُّومِ في مِحْرابِه يَترَنَّمُ
فلا تُنْكِري عَهْدَ المآذِنِ إنّه
على اللهِ من عَهْدِ النَّواقيسِ أكْرَمُ
تبارَكْتَ، (بَيْتُ القُدْسِ) جَذْلانُ آمِنُ
ولا يَأمَنُ (البَيْتُ العَتيقُ) المُحَرَّمُ
أيُرْضيكَ أنْ تَغْشَى سَنابِكُ خَيْلِهِمْ
حِماكَ وأنْ يُمْنَى (الحَطيمُ) و(زَمْزَمُ)؟
وكيف يَذِلُّ المُسْلِمونَ وبينَهُمْ
كتابُكَ يُتْلى كلَّ يوْمٍ ويُكْرَمُ؟
نَبيُّكَ مَحْزُونٌ وبَيْتُكَ مُطْرِقٌ
حَياءً وأنصارُ الحقيقةِ نُوَّمُ
عَصَيْنا وخالَفْنا فعاقَبْتَ عادِلاً
وحَكَّمْتَ فينا اليومَ مَنْ ليسَ يَرحَمُ

(٢٦) مصر

أنشدها في الحفل الذي أقيم بفندق الكونتننتال لتكريم المرحوم عدلي يكن باشا بعد عودته من أوربا قاطعًا المفاوضة مع الإنجليز ومستقيلاً من الوزارة.

نشرت في ١٥ ديسمبر سنة ١٩٢١م وهذه القصيدة على لسان مصر تتحدّث عن نفسها

وقفَ الخَلْقُ ينظرونُ جَميعًا
كيف أبني قواعِدَ المَجْدِ وَحْدي
وبُناةُ الأهْرامِ في سالِفِ الدَّهْـ
ـرِ كفَوْني الكَلامَ عند التَّحَدِّي
أنا تاجُ العَلاءِ في مَفْرِقِ الشَّرْ
قِ ودُرَّاتُه فَرائِدُ عِقْدي
أيُّ شيءٍ في الغَرْبِ قد بهَرَ النا
سَ جمالاً ولم يَكُنْ منه عِنْدي؟
فتُرابي تِبْرٌ ونَهْري فُراتٌ
وسَمائي مَصْقولةٌ كالفِرِنْدِ
أينما سِرْتَ جَدْوَلٌ عند كَرْمٍ
عند زَهْرٍ مُدَنَّرٍ عند رَنْدِ
ورجالي لو أنْصَفُوهُم لسادُوا
من كُهولٍ مِلْءِ العُيونِ ومُرْدِ
لو أصابوا لهُمْ مجالاً لأبْدَوْا
مُعْجِزات الذَّكاء في كلِّ قَصْدِ
إنّهم كالظُّبا ألَحَّ عليها
صَدَأ الدَّهْرِ من ثَواء وغِمْدِ
فإذا صَيْقَلُ القَضاءِ جَلاهَا
كُنَّ كالمَوْتِ ما لَه مِنْ مَرَدِّ
أنا إن قَدَّر الإلهُ مماتي
لا تَرَى الشَّرْقَ يَرفَعُ الرأسَ بَعْدي
ما رَماني رامٍ وراحَ سليمًا
منْ قديمٍ عنايَةُ اللهِ جُنْدي
كم بَغَتْ دَوْلَةٌ عليَّ وجارَتْ
ثمّ زالتْ وتلكَ عُقْبى التَّعدِّي
إنّني حُرَّةٌ كَسَرْتُ قُيودي
رغْمَ رُقْبى العِدا وقَطَّعْتُ قَدِّي
وتَماثَلْتُ للشِّفاء وقد دا
نَيْتُ حَيْني وهَيَّأ القَوُمُ لَحْدي
قُلْ لمَنْ أنكَروا مَفاخِرَ قَوْمي
مِثْلَ ما أنكَروا مآثِرَ وُلْدي
هل وَقَفْتُمْ بقمَّةِ الهَرَمِ الأكْـ
ـبَرِ يومًا فرَيْتُمُ بعْضَ جُهْدي؟
هَلْ رأيْتُمْ تلك النُّقوشَ اللَّواتي
أعْجَزَتْ طَوْقَ صَنْعَةِ المُتَحَدِّي؟
حالَ لوْنُ النَّهارِ من قِدَمِ العَهْـ
ـدِ وما مسَّ لونَها طولُ عَهْدِ
هل فهِمْتُمْ أسرارَ ما كان عندي
من عُلومٍ مَخْبوءَةٍ طَيَّ بَرْدي؟
ذاكَ فنُّ التَّحْنيط قد غَلَب الدهـ
ـرَ وأبْلى البِلَى وأعْجَزَ نِدِّي
قد عَقَدْتُ العُهودَ من عَهْدِ فرْعَوْ
نَ ففي (مِصْرَ) كان أوّلُ عَقْدِ
إنّ مَجْدي في الأولياتِ عريقٌ
مَن له مِثل أُولياتي ومَجْدي؟
أنا أمُّ التَّشْريعِ قد أخَذَ الرُّو
مانُ عنِّي الأصولَ في كلِّ حَدّ
ورصَدْتُ النُّجومَ مُنْذُ أضاءَتْ
في سماء الدُّجى فأحْكَمْتُ رَصْدي
وشدا (بنتئورُ) فوْقَ رُبوعي
قَبْلَ عَهْدِ اليُونانِ أو عَهْدِ (نَجْدِ)
وقديمًا بَنى الأساطيلَ قَوْمي
فَفَرَقْنَ البِحارَ يحْمِلْنَ بَنْدي
قَبْلَ أسطولِ (نِلْسن) كان أُسْطو
لي سَريًّا وطالِعِي غير نَكْدِ
فسَلوا البحْرَ عن بَلاءِ سفيني
وسَلوا البَرَّ عن مواقِعِ جُرْدي
أتُراني وقد طَوَيْتُ حَياتي
في مِراسٍ لم أبْلُغِ اليَوْمَ رُشْدي؟
أيُّ شَعْب أحَقُّ منِّي بعيْشٍ
وارِفِ الظِّلِّ أخضرِ اللَّوْنِ رَغْدِ؟
أمِنَ العَدْلِ أنّهم يَرِدُون الْـ
ـماءَ صَفْوًا وأنْ يُكَدَّرَ وِرْدي؟
أمِنَ الحَقِّ أنّهم يُطلِقون الْـ
ـأُسْدَ منهم وأنْ تُقَيَّدَ أُسْدي؟
نِصْفُ قَرْنٍ إلا قليلاً أُعاني
ما يُعاني هَوانَه كلُّ عَبْدِ
نَظَر اللهُ لي فأرْشَدَ أبْنا
ئي فشَدُّوا إلى العُلا أيَّ شَدِّ
إنّما الحَقُّ قُوّةٌ من قُوَى الدَّيْـ
ـيانِ أمْضى من كلِّ أبيَضَ هِنْدي
قد وَعَدْتُ العُلا بكلِّ أبيٍّ
من رجالي فأنْجِزوا اليومَ وَعْدي
أمْهِروها بالرُّوحِ فهي عَروسٌ
تَشنَأ المَهْرَ من عُروضٍ ونَقْدِ
ورِدُوا بي مَناهِلَ العِزِّ حتّى
يَخْطُبَ النجمُ في المَجَرَّةِ وُدِّي
وارْفَعُوا دَوْلَتي على العِلْمِ والأخْـ
ـلاق فالعِلْمُ وَحْدَهُ ليس يُجدي
وتَواصَوْا بالصَّبْرِ فالصبرُ إنْ فا
رَقَ قومًا فما له من مَسَدِّ
خُلُقُ الصَّبْرِ وَحْدَه نَصَرَ القَوْ
مَ وأغْنى عن اختراعٍ وعَدِّ
شَهِدوا حَوْمَةَ الوَغَى بنُفوسٍ
صابِراتٍ وأوْجُهٍ غيرِ رُبْدِ
فمَحا الصَّبْرُ آيةَ العِلْمِ في الحَرْ
بِ وأنْحَى على القَوِيِّ الأشَدِّ
إنّ في الغَرْب أعْيُنًا راصداتٍ
كَحَلَتْها الأطْماعُ فيكمْ بسُهْدِ
فوْقَها مِجْهَرٌ يُريها خفايا
كُمْ ويَطوي شُعاعُه كلَّ بُعْدِ
فاتّقوها بجُنّةٍ من وِئامٍ
غير رَثِّ العُرا وسَعْيٍ وكَدِّ
واصفَحوا عن هَناتِ مَنْ كان منكم
رُبَّ هافٍ هَفَا على غَيْرِ عَمْدِ
نحنُ نَجتازُ مَوْقِفًا تَعْثُرُ الآ
راءُ فيه وعَثْرَةُ الرأي تُرْدي
ونُعيرُ الأهْواءَ حَرْبًا عَوانًا
من خِلافٍ والخُلْفُ كالسِّلِّ يُعْدي
ونُثيرُ الفَوْضَى على جانِبَيْه
فيُعيدُ الجَهولُ فيها ويُبْدي
ويَظُنُّ الغَوِيُّ أنْ لا نِظامٌ
ويقولُ القويُّ قد جَدَّ جِدِّي
فقِفوا فيه وَقْفَةَ الحَزْمِ وارْمُوا
جانِبَيْه بعَزْمَةِ المُسْتَعِدِّ
إنّنا عند فجرِ لَيْلٍ طويلٍ
قد قَطَعْناهُ بينَ سُهْدٍ ووَجْدِ
غَمَرَتْنا سودُ الأهاويلِ فيه
والأمانيُّ بيْنَ جَزْرٍ ومَدِّ
وَتَجلَّى ضِياؤُه بَعْدَ لأيٍ
وهو رَمْزٌ لعَهْديَ المُسْتَرَدَّ
فاستَبينوا قَصْدَ السَّبيلِ وجِدُّوا
فالمَعالي مَخْطوبَةٌ للمُجِدِّ

(٢٧) تصريح ٢٨ فبراير (نشرت في أوّل أبريل سنة ١٩٢٢م)

مالي أرى الأكْمامَ لا تُفَتِّحُ
والرَّوضَ لا يَذْكو ولا يُنَفِّحُ
والطَّيَر لا تَلْهُو بتَدْويمِها
في مُلْكِها الواسِعِ أو تَصْدَحُ
والنِّيلَ لا تَرْقُصُ أمْواهُه
فَرحى ولا يَجري بها الأبْطَحُ
والشمسَ لا تُشْرِقُ وُضّاءَةً
تَجْلو هُمومَ الصَّدْرِ أو تَنْزِحُ
والبَدْرَ لا يَبدو على ثَغْره
مِنْ بَسَماتِ اليُمْنِ ما يَشْرَحُ
والنَّجْمَ لا يَزْهَرُ في أُفْقِه
كأنّه في غَمْرَةٍ يَسْبَحُ
ألم يجِئْها نَبَأٌ جاءَنا
بأنّ مِصرًا حُرّةٌ تَمْرَح؟
أصْبَحْتُ لا أدري على خِبْرَةٍ
أجَدَّتِ الأيّامُ أمْ تَمْزَحُ؟
أمَوْقِفٌ للجِدِّ نَجْتازُه
أم ذاكَ للاّهي بنا مَسْرَحُ؟
ألْمَحُ لاستِقلالِنا لَمْعَةٌ
في حالِكِ الشَّكِّ فأسْتَرْوحُ
وتَطْمِسُ الظُّلْمَةُ آثارَها
فأنْثَني أنْكِرُ ما ألْمَحُ
قد حارَتِ الأفهامُ في أمْرِهِمْ
إنْ لمَّحوا بالقَصْدِ أو صَرَّحوا
فقائِلٌ لا تَعْجَلوا إنّكم
مكانَكُمْ بالأمْس لم تَبْرَحُوا
وقائِلٌ أوْسِعْ بها خُطْوَةً
وراءَها الغايةُ والمَطْمَحُ
وقائلٌ أسرَفَ في قَوْلِه:
هذا هُوَ استِقلالُكُمْ فافرَحُوا
إنْ تَسألوا العقْلَ يَقُلْ: عاهِدوا
واستَوْثِقوا في عهْدِكُمْ تَرْبَحوا
وأسِّسُوا دارًا لنُوّابِكُمْ
للرَّأي فيها والحِجا أفْسِحوا
ولْتَذْكُرِ الأمّةُ مِيثاقَها
ألا تَرى عِزّتها تُجْرَحُ
وتَنْتَخِبْ صَفْوَةَ أبنائِها
فمنهُمُ المُخْلِصُ والمُصْلِحُ
وليتّقِ اللهَ أُولُو أمْرِها
أنْ يُسْكِتُوا الأصواتَ أوْ يُرْفِحُوا
أو تَسألْوا القَلْبَ يَقُلْ: حاذِروا
وصابِروا أعداءَكُمْ تُفْلِحُوا
إنِّي أرى قَيْدًا فلا تُسْلِموا
أيْديَكُمْ؛ فالقَيْدُ لا يُسْجِحُ
إنْ هَيَّئُوهُ من حَريرٍ لكُمْ
فهو على لِينٍ به أفْدَحُ
حَتّامَ — والصَّبْرُ له غايةٌ —
لغَيْرِنا مِنْ بئْرنا نَمْتَحُ؟
حَتّامَ — والأمْوالُ مَشْفوهَةٌ —
نَمْنَحُ إلا (مِصرَ) ما نَمْنَحُ؟
حَتّامَ يُمْضي أمْرَنا غَيْرُنا
وذاكَ بالأحرارِ لا يَمْلُحُ؟
أساء بعضُ النّاسِ في بَعْضهمْ
ظنًّا وقد أمْسَوْا وقدْ أصْبَحُوا
فانتَهَزَتْ أعداؤُنا نُهْزَةً
فينا وما كانت لهم تَسْنَحُ
فالرأيُ كلُّ الرَّأْيِ أنْ تُجْمِعُوا
فإنّما إجْماعُكُمْ أرْجَحُ
وكلُّ مَنْ يَطْمَعُ في صَدْعِكُمْ
فإنّه في صَخْرةٍ يَنْطَحُ
أخْشَى إذا استَكْثَرْتُمُ بَيْنَكُمْ
من قادَةِ الآراءِ أنْ تُفْضَحُوا
فَلْتَقْصِدوا ما اسطَعْتُمُ فيهمُ
فإنّما في القِلّةِ المَنْجَحُ

(٢٨) عيد الاستقلال

(نشرت في ١٥ مارس سنة ١٩٢٣م تحت عنوان: «بين اليقظة والمنام»)

أشْرِقْ فدَتْكَ مشارِقُ الإصْباحِ
وأمِطْ لِثامَكَ عن نهارٍ ضاحِي
بُورِكْتَ يا يَوْمَ الخلاصِ ولا وَنَتْ
عنكَ السُّعودُ بغُدْوَةٍ ورَواحِ
باللهِ كُنْ يُمْنًا وكُنْ بُشْرى لنا
في ردِّ مُغْتَرِبٍ وفَكِّ سَراحِ
أقْبَلْتَ والأيّامُ حَوْلَكَ مُثَّلٌ
صَفَّيْنِ تَخْطِرُ خَطرَةَ المَيّاحِ
وخَرَجْتَ من حُجْبِ الغُيوبِ مُحَجَّلاً
في كلِّ لحْظٍ منكَ ألْفُ صَباحِ
لو صَحَّ في هذا الوُجودِ تَناسُخٌ
لرأيْتُ فيكَ تناسُخَ الأرْواحِ
ولكُنْتَ يومَ (اللاّبرنت) بعَيْنِه
في عِزّةٍ وجَلالةٍ وسَماحِ
يومُ يُريكَ جَلالُهُ ورُواؤُه
في الحُسْنِ قُدْرَةَ فالِقِ الإصْباحِ
خَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ حُلَّةَ عَسْجَدٍ
وحَباهُ (آذارٌ) أرَقَّ وِشاحِ
اللهُ أثْبَتَه لنا في لَوْحِه
أبَدَ الأبيدِ فما له مِنْ ماحي
حَيِّيه عنّا يا أزاهِرُ وامْلَئي
أرْجاءَه بأريجِكِ الفوّاحِ
وانفَحْهُ عنّا يا ربيعُ بكلِّ ما
أطْلَعْتَ مِنْ رَنْدٍ ونَوْرِ أقاحِ
تِهْ يا (فؤادُ) فحَوْلَ عَرْشِكَ أُمَّةٌ
عَقَدَتْ خَناصِرَها على الإصْلاحِ
أبناؤنا — وهُم أحاديثُ النَّدى —
لَيسوا على أوْطانِهِم بشِحاحِ
صَبَروا على مُرِّ الخُطوبِ فأدْرَكوا
حُلْوَ المُنَى مَعْسولَةَ الأقْداحِ
شاكي سِلاحِ الصَّبْرِ ليس بأعْزَلٍ
يَغْزوهُ رَبُّ عوامِلٍ وصِفاحِ
الصبرُ — إنْ فكَّرْتَ — أعظمُ عُدّةٍ
والحقُّ — لو يَدْرون — خيرُ سِلاحِ
قد أنكَروا حَقَّ الضَّعيف فهل أتى
إنكارُ ذاكَ الحقِّ في إصْحاحِ؟
كم خَدَّرَتْ أعصابَ مِصْر نوافِحٌ
لوُعُودِهِمْ كنوافِحِ التُّفّاحِ
فتَعلَّلَ المِصْريُّ مُغْتَبِطًا بها
أرأيْتَ طِفلاً علَّلُوه بداحِ؟
وتَأنَّقوا في الخُلْفِ حتّى أصْبَحَتْ
أقوالُهُمْ تُذْرَى بغير رِياحِ
لمّا تَنبَّه بالكِنانةِ نائمٌ
وأصاتَ بالشَّكْوى الأليمة صاحِي
وتَكَشَّفَتْ تلك الغَياهِبُ وانطوَتْ
وبَدَتْ شُموسُ الحقِّ وهي ضواحي
عَلِموا بحَمْدِ اللهِ أن قَرارَنا
في ظلِّ غيرِ اللهِ غيرُ مُتاحِ
فاليومَ قَرِّي يا كِنانةُ واهدَئي
حَرَمُ الكِنانَةِ لم يَكُن بمُباحِ
مَن ذا يُغيرُ على الأُسُودِ بغابِها
أو مَنْ يَعُومُ بمَسْبَح التِّمساحِ؟
للنِّيلِ مَجْدٌ في الزمان مُؤَثَّلٌ
مِنْ عَهْد (آمُونٍ) وعَهْدِ (فَتاحِ)
فسَلِ العُصورَ به وسَلْ آثارَه
في (مِصْرَ) كم شَهِدَتْ من السُّيّاحِ
يا صاحِبَ القُطْرَيْنِ غير مُدافَعٍ
ما مِثْلُ ساحِكَ في العُلا مِنْ ساحِ
لم يَبْدُ نورٌ فوقَ نورٍ يُجْتَلى
كالتّاجِ فوْقَ جَبينكَ الوَضّاحِ
ذكَرَتْ بعَرْشِكَ (مِصْرُ) يوْمَ وَليتَه
عَرْشَ (المُعِزِّ) بها وعَرْشَ (صَلاحِ)
في كلِّ قُطْرٍ من جَلالِكَ رَوْعَةُ
ولكلِّ قُطْرٍ منكَ ظِلُّ جَناحِ
لكَ (مِصْرُ) و(السُّودانُ) والنَّهْرُ الّذي
يَخْتالُ بين رُبًى وبيْنَ بِطاحِ
وبَواسِقُ (السُّودان) تَشْهد أنّها
غُرِسَتْ بعَهدِ جُدودِكَ الفُتّاحِ
لا غَرْوَ إنْ غَنَّى بمَدْحِكَ صائِحٌ
أو مُسجِحٌ في حَلْبَةِ المُدَّاحِ
حُسْنُ الغِناء مع الصِّياحِ كحُسْنه
عندَ الخَبيرِ به مع الإسْجاحِ
أو لم يَكُن لك مُلْكٌ مِصْرَ ونِيلُها
يَنْسابُ بين مُروجِها الأفْياحِ؟
مَنْضورَةَ الجَنّاتِ حالِيةَ الرُّبا
مَطْلولَة السَّرَحاتِ والأرْواحِ
قد قال (عَمْرٌو) في ثَراها آيةً
مأْثورةً نُقِشَتْ على الألْواحِ:
بَيْنا تَراهُ لآلئًا وكأنّما
نُثِرَتْ بتُرْبَتِها عُقودُ مِلاحِ
وإذا به للنّاظِرين زُمُرُّدٌ
يَشفيكَ أخْضَرُه منَ الأتْراحِ
وإذا به مِسْكٌ تَشُقُّ سوادَه
شَقَّ الأديمِ مَحارِثُ الفلاّحِ
البَرْلمان تَهَيّأتْ أسْبابُه
لم يَبْقَ من سَبَبٍ سوى المِفْتاحِ
هُوَ في يَديْكَ وَديعَةٌ لرعيّةٍ
تُثْنى بألْسِنَةٍ عليكَ فِصاحِ
رُدَّ الوَديعَةَ يا (فُؤادُ) فإنّما
رَدُّ الوديعَةِ شيمَةُ المِسْماحِ
وانهَضْ بشَعْبِكَ يا (فُؤادُ) إلى العُلا
وإلى مَكانٍ في الوُجودِ بَراحِ
فاللهُ يَشهدُ والخَلائِقُ أنّنا
طُلاّبُ حَقٍّ في الحياةِ صِراحِ
هذا مَنارُ البَرْلمانِ أمامَكُمْ
لهُدى السَّبيلِ كإبْرَةِ المَلاّحِ
فتَيمَّمُوه مُخْلِصين فما لكُم
من دونه من غِبْطَةٍ وفَلاحِ
الفَصْلُ للشُّورى وتِلْكَ هي الّتي
تَزَعُ الهَوَى وتَرُدُّ كلَّ جِماحِ
هي لا تضِلُّ سبيلها فكأنّما
خُلِقَ السَّبيلُ لها بغَيْرِ نَواحي
هي — لا بَراحَ — تَرُدُّ كَيْدَ عَدُوِّكُمْ
وتَفُلُّ غَرْبَ الغاصِبِ المُجْتاحِ
فتَكَنَّفوا الشُّورى على استِقْلالِكُمْ
في الرأي لا تُوحِيه نَزْعَةُ واحِي
وَيَدُ الإله مع الجماعة فاضْرِبُوا
بعَصا الجماعَةِ تَظْفَروا بنجاحِ
كونوا رجالاً عامِلِين وكَذِّبوا
والصُّبْحُ أبْلَجُ، حامِلَ المِصباحِ
ودَعُوا التَّخاذُلَ في الأُمور فإنّما
شبَحُ التَّخاذُلِ أنْكَرُ الأشْباحِ
واللهِ ما بَلَغَ الشَّقاءُ بنا المَدى
بسِوَى خلافٍ بينَنا وتَلاحِي
قُمْ يابنَ (مِصْرَ) فأنتَ حُرٌّ واستَعِدْ
مَجْدَ الجُدودِ ولا تَعُدْ لمَراحِ
شَمِّرْ وكافِحْ في الحياة فهذه
دُنْياكَ دارُ تَناحُرٍ وكِفاحِ
وانْهَلْ مع النُّهّالِ من عَذْب الحَيا
فإذا رَقَا فامْتَحْ مع المُتّاحِ
وإذا ألَحَّ عليكَ خَطْبٌ لا تَهُنْ
واضرِبْ على الإلحاحِ بالإلْحاحِ
وخُض الحياةَ وإنْ تَلاطَمَ مَوْجُها
خَوْضُ البِحارِ رياضَةُ السّبّاحِ
واجْعَلْ عِيانَكَ قبلَ خَطْوِكَ رائِدًا
لا تَحْسَبَنَّ الغَمْرَ كالضَّحْضاحِ
وإذا اجتَوَتْكَ مَحَلَّةٌ وتَنَكَّرَتْ
لكَ فاعْدُها وانْزَحْ مع النُّزَّاحِ
في البَحْرِ لا تَشْنيكَ نارُ بوارِجٍ
في البَرِّ لا يَلْويكَ غابُ رِماحِ
وانظرْ إلى الغَرْبيِّ كيف سَمَتْ به
بينَ الشعوبِ طبيعة الكَدَّاحِ
واللهِ ما بَلَغَتْ بنُو الغَرْب المُنَى
إلا بنِيّاتٍ هُناكَ صِحاحِ
رَكِبوا البِحارَ وقد تَجمَّد ماؤُها
والجَوَّ بينَ تَناوُحِ الأرْواحِ
والبَرّ مَصْهورَ الحَصى مُتَأجِّجًا
يَرمي بنَزّاعِ الشَّوَى لَوّاحِ
يلْقَى فتِيُّهُمُ الزّمانَ بهِمَّةٍ
عَجَبٍ ووَجْهٍ في الخُطوبِ وَقاحِ
ويَشُقُّ أجْوازَ القِفارِ مُغامِرًا
وَعْرُ الطَّريقِ لديْهِ كالصَّحْصاحِ
وابنُ الكِنانَةِ في الكِنانَةِ راكِدُ
يَرنو بعَيْنٍ غيرِ ذاتِ طِماحِ
لا يَستَغِلُّ — كما عَلِمْتَ — ذَكاءَه
وذكاؤُه كالخاطِفِ اللَّمّاحِ
أمْسى كماءِ النَّهْرِ ضاعَ فُراتُه
في البَحْر بيْنَ أُجاجِه المُنْداحِ
فانْهَضْ ودَعْ شَكوَى الزّمانِ ولا تَنُحْ
في فادِحِ البُؤْسَى مع الأنْواحِ
وارْبَحْ لمِصِْرَ برأْسِ مالِكَ عِزَّةً
إنّ الذّكاءَ حُبالَةُ الأرْباحِ
وإذا رُزِقْتَ رآسَةً فانْسُِجْ لها
بُرْدَيْنِ من حَزْمٍ ومِنْ إسْجاحِ
واشرَبْ من الماءِ القَراحِ مُنَعَّما
فلكَمْ وَرَدْتَ الماءَ غيرَ قَراحِ

(٢٩) من قصيدة في شؤون مصر السياسيّة (نشرت في ٩ مارس سنة ١٩٣٢م)

قالها في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا وقد نظمها حافظ بعد إحالته إلى المعاش في سنة ١٩٣٢م وكانت تبلغ نحو مائتي بيت لم نعثر منها إلاّ على هذه الأبيات

قَدْ مَرَّ عامٌ يا سُعادُ وعامُ
وابنُ الكِنانةِ في حِماهُ يُضَامُ
سَبُّوا البَلاءَ على العِبادِ فنِصْفُهُمْ
يَجْبي البلادَ ونِصفُهُمْ حُكّامُ
أشْكو إلى (قَصْرِ الدُّبارَةِ) ما جَنَى
(صِدْقي الوَزيرُ) وما جَبَى (عَلاّمُ)

ومنها في الإنجليز:

قُلْ للمُحايِدِ هَلْ شَهِدْتَ دِماءَنا
تَجْري وهَلْ بعد الدِّماءِ سَلامُ؟
سُفِكَتْ مَوَدَّتُنا لكُمْ وبدا لنا
أنّ الحيادَ على الخِصامِ لِثامُ
إنّ المَراجِلَ شَرُّها لا يُتَّقى
حتّى يُنَفِّسَ كَرْبَهُنَّ صِمامُ
لم يَبقَ فينا مَنْ يُمَنِّي نَفْسَه
بوِدادِكُمْ فوِدادُكُمْ أحلامُ
أمِنَ السِّياسةِ والمُروءَةِ أنّنا
نِشْقَى بكُمْ في أرْضِنَا ونُضامُ؟
إنّا جَمَعْنا للجِهادِ صُفوفَنا
سَنَمُوتُ أو نَحْيا ونحنُ كِرامُ

ومنها في مخاطبة إسماعيل صدقي باشا:

ودَعا عليكَ الله في مِحْرابِهِ
الشيخُ والقِسِّيسً والحاخامُ
لا هُمَّ أحْيِ ضميرَهُ ليذوقَها
غُصَصًا وتَنْسِفَ نَفْسَهُ الآلامُ

إلى الإنجليز:

بَنَيْتُمْ على الأخْلاقِ أساسَ مُلْكِكُمْ
فكان لكم بيْنَ الشُّعوبِ ذِمامُ
فمالي أرى الأخلاقَ قد شابَ قَرْنُها
وحَلَّ بها ضَعْفُ ودَبَّ سَقامُ
أخافُ عليكُمْ عَثْرَةً بعْدَ نَهْضِةٍ
فليْسَ لمُلْكِ الظّالمينَ دَوامُ
أضَعْتُمْ وِدادًا لو رَعَيْتُمْ عُهودَه
لما قامَ بيْنَ الأمَّتَيْنِ خِصامُ
أبَعْدَ حِيادٍ لا رَعَى اللهُ عَهْدَه
وبعد الجُروح الناغِراتِ وِئامُ
إذا كان في حُسْنِ التَّفاهُمِ مَوْتُنا
فليسَ على باغي الحياةِ مَلامُ

(٣٠) إلى المندوب السامي (نشرت في ١١مارس سنة ١٩٣٢م)

ألَم تَرَ في الطَّريقِ إلى (كِيادِ)
تَصيدُ البَطَّ بُؤْسَ العالَمِينا؟
ألمْ تَلْمَحْ دُموعَ الناسِ تَجْري
مِنَ البَلْوى ألَمْ تَسْمَعْ أنِينَا؟
ألمْ تُخْبِر بَني التّاميزِ عنّا
وقد بَعَثوكَ مَنْدوبًا أمينا
بأنّا قد لَمَسْنا الغَدْرَ لمْسًا
وأصْبَحَ ظَنُّنَا فيكُمْ يَقينا؟
كَشَفْنا عن نواياكُمْ فلسْتُمْ
وقد بَرِحَ الخَفاءُ مُحايِدينا
سَنُجْمِعُ أمْرَنا وتَرَوْنَ مِنّا
لدى الجُلَّى كِرامًا صابِرينا
ونأْخُذُ حَقَّنا رَغْمَ العوادي
تُطيفُ بنا ورَغْمَ القاسِطينا
ضَرَبْتُمْ حَوْلَ قادَتنا نِطاقًا
من النِّيرانِ يُعْيي الدّارِعينا
على رَغْمِ المُروءَةِ قَد ظَفِرْتُمْ
ولكنْ بالأُسُودِ مُصَفَّدينا

(٣١) الأخلاق والحياد (نشرا في ٤ أبريل سنة ١٩٣٢م)

قالها وكان الإنجليز إذ ذاك يدّعون الحياد في الشئون المصريّة

لا تَذكُروا الأخْلاقَ بَعْدَ حِيادِكُمْ
فمُصابُكُمْ ومُصابُنا سِيّانِ
حارَبْتُمُ أخْلاقَكُمْ لِتُحارِبوا
أخْلاقَنا فتَألَّم الشَّعْبانِ

(٣٢) ثمن الحياد (نشرا في ٤ أبريل سنة ١٩٣٢م)

لقد طالَ الحِيادُ ولم تَكُفُّوا
أما أرْضاكُمُ ثَمَنُ الحِيادِ؟
أخَذْتُمْ كلَّ ما تَبْغُون مِنّا
فما هذا التَّحَكُّمُ في العِبادِ؟
بَلَوْنا شدَّةً منكم ولِينًا
فكان كِلاهُما ذَرَّ الرَّمادِ
وسالَمْتُمْ وعادَيْتُمْ زَمانًا
فلم يُغْنِ المُسالمُ والمُعادي
فليْسَ وراءَكُمْ غيرُ التَّجَنِّي
وليْسَ أمامنا غيرُ الجِهادِ

(٣٣) إلى الإنجليز (نشرت في ٢٨ أبريل سنة ١٩٣٢م)

حَوِّلوا النِّيلَ واحْجُبوا الضَّوءَ عنّا
واطمِسوا النَّجْمَ واحرِمونا النَّسيمَا
وامْلَئوا البحْرَ إنْ أرَدْتُمْ سفينًا
وامْلَئوا الجَوَّ إنْ أرَدْتُمْ رُجومَا
وأقيموا للعَسْفِ في كلِّ شِبْرٍ
(كُنْسُتَبْلاً) بالسَّوْطِ يَفْري الأديمَا
إنّنا لن نَحولَ عن عَهْدِ مِصْرٍ
أو تَرَوْنا في التُّرْبِ عَظْمًا رَميمَا
عاصِفٌ صانَ مُلْكَكُمْ وحَماكُمْ
وكَفاكُمْ بالأمْس خَطْبًا جَسيمَا
غالَ (أرْمادَةَ) العدُوَّ فَفُزْتُمْ
وبَلَغْتُمْ في الشَّرْقِ شَأْوًا عَظيمَا
فعَدَلْتُمْ هُنَيْهَةً وبَغَيْتُمْ
وتَرَكْتُمْ في النِّيل عَهْدًا ذَميمَا
فشَهِدْنا ظُلمًا يُقالُ له العَدْ
لُ ووُدًّا يَسقي الحَميمَ الحَمِيمَا
فاتَّقوا غَضْبَةَ العَواصِف إنِّي
قد رأيْتُ المَصيرَ أمْسَى وَخِيما

(٣٤) الحياد الكاذب (نشرت في سنة ١٩٣٢م)

(قَصْرَ الدُّبارَةِ) قدْ نَقَضْـ
ـتَ العَهْدَ نَقْضَ الغاصِبِ
أخْفَيْتَ ما أضْمَرْتَه
وأبَنْتَ وُدَّ الصاحِبِ
الحَرْبُ أرْوَحُ للنُّفو
سِ منَ الحِيادِ الكاذِبِ

(٣٥) جلاء الإنجليز عن مصر

قالهما تنديدًا بكاتب فرنسي كان قد زعم أنّ جلاء الإنجليز عن مصر سيكون في أكتوبر

كم حَدَّدوا يومَ الجَلاءِ الذي
أصْبَحَ في الإبهامِ كالمَحْشَرِ
وسَنَّ قَوْمُ الطَّيْشِ منَ جَهْلِهِمْ
كِذْبَةَ (إبريلَ لأُكْتُوبَرِ)

(٣٦) الامتيازات الأجنبيّة

سَكَتُّ فأصْغَروا أدَبي
وقُلْتُ فأكْبَروا أرَبي
وما أرْجُوهُ من بَلَدٍ
به ضاقَ الرَّجاءُ وَبي؟
وهل (في مِصْرَ) مَفْخَرَةٌ
سِوى الألْقابِ والرُّتَبِ؟
وذي إرْثٍ يُكاثِرُنا
بمالٍ غيرِ مُكْتَسَبِ
وفي الرُّومِيِّ مَوْعِظَةٌ
لشَعْبٍ جَدَّ في اللَّعِبِ
يُقَتِّلُنا بلا قَوَدٍ
ولا دِيَةٍ ولا رَهَبِ
ويَمْشي نَحْوَ رايَتِه
فتَحْميه من العَطَبِ
فقُلْ للفاخِرين: أمَا
لهذا الفَخْرِ من سَبَبِ؟
أروني بَيْنَكُمْ رَجُلاً
رَكينًا واضِحَ الحَسَبِ
أروني نِصْفَ مُخْتَرعٍ
أروني رُبْعَ مُحْتَسِبِ؟
أروني نادِيًا حَفْلاً
بأهْلِ الفَضْلِ والأدَبِ؟
وماذا في مَدارِسِكُمْ
من التَّعْليم والكُتُبِ؟
وماذا في مَساجِدِكُم
منَ التِّبْيانِ والخُطَبِ؟
وماذا في صَحائِفِكُمْ
سوى التَّمْويهِ والكَذِبِ؟
حَصائِدُ ألْسُنٍ جَرَّتْ
إلى الوَيْلاتِ والحَرَبِ
فهُبُّوا من مَراقِدِكُمْ
فإنّ الوَقْتَ من ذَهَبِ
فهذي أمّةُ (اليابا
نِ) جازَتْ دارةَ الشُّهُبِ
فهامَتْ بالعُلا شغَفًا
وهِمْنا بابنَةِ العِنَبِ

(٣٧) من شعر حافظ في ثورة سنة ١٩١٩

وَلَّت بَشاشةُ دُنْيانَا ودُنْياكِ
وفارقَ الأنسُ مَغْنانا ومَغْناكِ
حَماكِ دوني أُسُودٌ لا يُطاوِلُها
شاكي السلاحِ فكيفَ الأعْزَلُ الشَّاكي
وجَشَّموني على ضَعْفي وقُوّتِهم
أن أمْسِك القولَ حتّى عن تَحاياكِ
وأرْصَدوا لي رقيبًا ليس يُخطئُه
هجسُ الفؤاد إذا حاولتُ ذِكراكِ
يُحْصي تَرَدُّد أنفاسي ويَمنعني
نفحَ الشمائل إن جازت برَيَّاكِ
مُنِعتُ حتّى من النَّجْوى وسَلْوتِها
وكم تَعلَّلتُ في البَلوى بنَجْواكِ
ما كاد يَأتي على نَفْسي ويُورِدُني
مَوارِدَ الحتفِ إلاّ حُبُّكِ الزاكي
تَناوَلَتْ ما وراءَ النفس غايتُه
وقَرَّ في خَلَجاتِ القلبِ مَثواكِ
وظنُّ أهلُكِ بي سُوءًا وأرْمَضَني
قولُ الوشاةِ ودَعْوى كلِّ أفّاكِ
قالوا سَلا عَنْكِ غَدْرًا وابتغَى بدَلاً
وكانَ بالأمس مِنْ أوْفى رَعاياكِ
كم لي أحاديثُ شوقٍ لا تُنافِحُها
زَهْرُ الرياضِ ولا يَسْمُو بها الحاكي
إن تُنكِريها فكم طارَ الرواةُ بها
إلى حِماك وكم قد عَطَّرَتْ فاكِ
ستَعلَمين إذا ما الغَمْرَةُ انحَسَرَتْ
مَن صَدَّ عنك ومَنْ بالنَّفْس فَدَّاكِ
رَمَيْتُ عنكِ على أن خانَني وَتَري
ولم أخُن في إساري عهدَ نُعماكِ

(٣٨) برقيّة من حافظ إلى الخديو عباس

جاءت الأنباء بسقوط مدينة أدرنة التابعة لدولة الخلافة العثمانية يوم الاحتفال بزفاف كريمة الخديو إلى نجل الصدر الأعظم جلال باشا، فأرسل حافظ هذه البرقية إلى الخديو:

عيدٌ هنا، وهناك قَامَ المأتمُ
مَلِكٌ يَنُوحُ، وتَابِعٌ يتَرَنَّمُ
عَجَبًا أرى تلك الدماءَ فها هنا
دَمُ فرحةٍ، وهناك للقَتْلَ دَمُ

فأمر الخديو بإزالة معالم الزينات مشاركة للخليفة وللعالم الإسلامي في تلك النكبة.

(٣٩) قصر الدوبارة وقصير عابدين

قصر الدوبارة هو القصر الذي يقيم فيه المعتمد البريطاني ممثل الاحتلال وصاحب السلطة الفعلية في البلاد.

وقصر عابدين هو قصر الخديو صاحب السلطة الشرعية والخاضع للسلطان الإنجليزي.

وفي هذين البيتين بعقد حافظ مقارنة بين كلا الحاكمين.

قصرَ الدوبارةِ ما لليثِك رابضًا
والذئبُ في قصرِ الإمارةِ يَحْجِلُ
إني سمعتُ بعابدينَ عُواءَهُ
فعجِبتُ كيف يَسُودُ مَن لا يعقِلُ

من حافظ شاعر مصر إلى فؤاد ملك مصر:

يا مليكًا بِرَغْمِهِ يُلبَسُ التا
جَ وَيَرْقَى لعرشِهِ مملوكا
إن أتَمَّتْ يَداكَ تخريبَ مصرٍ
فلقد مَهَّدَ الخرابَ أبوكا
أبْقِ شيئًا — إذا مضيت ذميمًا
عن قريبِ — يأتي عليه بَنُوكَا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤