المشهد الثالث

بشر : أسمعتم يا أبنائي عن حال السائر في النوم؟
ولد (يهتف) : … أمي تصرخ في النوم.
بنت : وأبي يتجول ويزور الجيران.
المرأة : اخرسوا يا أولاد … (الجميع يضحكون).
بشر : قبل أن أضع قدمي على عتبة داري رأيته هناك.
المرأة : سيدنا الخضر؟
بشر : بل جاري في شرفة قصره … شيخ التجار.
المرأة : عشنا وسمعنا عن صاحب قصر يصحو في الفجر!
بشر :
نظرت إليه على البعد وقلت لنفسي:
لك يا ربي الأمر.
رجلٌ نام على الجمر ورجل نام على زق الخمر!
نظرت إليه، دعوت بدعوة سيدنا الخضر،
أن يمنحه الستر.
المرأة : يا رب الستر … يا رب الستر.
بشر : وسرت في طريقي؛ بل خُيِّل إليَّ أنني أسير على الهواء، خفيفًا كنت يا أولاد كأني فراشة تهزها الريح، شعرت بأن الأسرار تجذبني وتسحبني من يدي ورجلي، وتحمل بدني كالريشة. إلى أين أذهب؟ على بعد أربعين فرسخًا من بغداد. وأين أجد القرية؟ القرى كثيرة على طول الطريق، وإذا وجدتها فهل أجد الجامع؟ يا رب توكلت عليك، ولك أسلمت الأمر. كان معي ثلاثة دراهم رزقني بها الله من حيث لا أحتسب، مررت على الخباز فاشتريت خبزًا بدرهم، وعرجت على الشواء فاشتريت لحمًا بدرهَمين، وحلمتهما في جرابي وأنا أقول: هل يليق يا رب أن أدخل على المريض خالي اليدين؟ ومرت لحظاتٍ وإذا بي أتلفت فأرى بغداد ورائي، هذه أول مرة أخرج فيها من أبوابِك، وبدت المدينة كعروسٍ شمطاء، تتملى وجهها في ماء النهر، هل كانت تبكي أم تغتسل وتتطهر؟ شككت في عيني وقلت: انظري يا عيني إلى موقع قدمي، يا عيني أطلتِ النظر إلى باطن نفسي حتى أعشاكِ الضوء، يا عيني أديري البصر إلى وجه الأرض ووجه الليل، واعتادي النظر إلى الظل، داست قدماي على الوحل، وزكمت أنفي روائح القاذورات، قابلت القبح وجهًا لوجه في كل مكان … لكني مضيت، وهدتني الأسرار الخفية التي تجذبني بخيوطٍ خفية، وانقضت ساعات وأنا أحدق فيما حولي، كرضيعٍ ينظر للعالم أول نظرة، هتف بي صوت: قف! هذه هي القرية! وقفت حائرًا أتلفت بحثًا عن إنسان. القرية ساكنة تتثاءب وتشد غطاءها على نفسها، لا يمكن أن يكون الناس قد ناموا في هذه الساعة؟ هل يعملون ليلًا وينامون نهارًا؟ ما زلنا في العصر، وإذا كنت لا أرى إنسانًا، فأين كلابها وقططها وحميرها؟ دخلت القرية وتجولت، هل جرب أحدٌ منكم أن يتجول في جبَّانة؟ كانت أفظع وأمر على النفس، فالقبور هي القبور، والموتى هم الموتى، أمَّا أن تنظر حولك فترى البيوت قبورًا بلا شواهد، والشوارع حُفرًا وشقوقًا لا يسكنها إلا النمل والخفافيش والبوم؟ استعذت بالله وناجيت القلب الذي ارتفع وجيبُه: قرية أهلكها الله؟ جعل أهلها حجارة وأصنامًا؟ أين ديارهم وحقولهم وحظائر ماشيتهم؟ وبحثت عن الجامع حتى وجدته، لا مئذنة ولا قباب، بل حُطام الجدران والسقف المتداعي وألواح الخشب المتناثرة على جانبي الطريق، وبقايا منبر ومحراب، دخلت وفتشت، لم أرَ أحدًا، رفعت أحجارًا وأخشابًا محترقة، وآثار حصير متآكل، حتى سمعت أنينًا كأنين القطط بين الأنقاض، وتعثَّرت في الأحجار والأخشاب والأطلال حتى وجدته، حطام إنسان يستند إلى جدارٍ مهشم، أسرعت إليه، رفعته قليلًا وأجلسته على الأرض، أسندته على صدري وبدأت أسقيه وأطعمه، اسمك يا عبد الله؟ تأوَّه باسمه.
بشر : ماذا تعمل وحدك؟
الرجل : أنتظرك حتى تطعمَني من خبز الله.
بشر : لماذا تركوك وحدك؟
الرجل : أهلكهم الزلزال.
بشر : وأهلُك؟ أولادك؟
الرجل : انظر واسأل نفسك.
بشر : لا أثر لحيٍّ.
الرجل : ابتلعهم جميعًا، لم يبقَ سواي.
بشر : وكنت تصلي في الجامع!
الرجل : أنا خادمه والواعظ فيه.
بشر : والناس؟ أين الناس؟
الرجل : في جوف الأرض، ومن نجا هرب بجلده.
بشر : ذهب إلى المدينة؟
الرجل : وجاءت المدن إلينا، لكنهم لم يروني.
بشر : لم نسمع عنكم!
الرجل : الله استمع إليَّ.
بشر : ماذا تقصد؟
الرجل : دعوت عليهم فاستجاب.
بشر : ولماذا فعلت؟
الرجل : وإذا أردنا أن نُهلِك قرية.
بشر : أمَرنا مُتْرَفيها.
الرجل : وفقراءها … لم ينقذهم إلا الزلزال.
بشر : أنقذهم بالموت من الموت؟
الرجل : ألم تأتِك أخبارنا؟
بشر : أنا رجلٌ زاهد … لا تأتيني الأخبار ولا أذهب إليها.
الرجل : بشر الحافي أنت؟
بشر : وكيف عرفت؟
الرجل : انتظرتك طويلًا، أخبرَني أنك ستجيء.
بشر : من يا رجل؟
الرجل : سيدي وسيدك … هو أيضًا دعا على أهل قريته، والله استجاب.
بشر : وأنشأ الرجل يبكي ويبكي، لم أدرِ هل تذكر أهله، أم أحسَّ بذنبه فراح ينشِج وصدرُه يعلو ويهبط. أشفقت أن أعيد السؤال وتركته يسترد أنفاسه، وفجأة سمعت خشخشةً ورائي، فزعت وتلفتُّ حولي، لمع صوته وأخذ ينفذ كالسكين في لحم الصمت والظلام.
الجار : معذرة يا شيخ.
بشر : أنت؟
الجار : نعم، ليتك ترضى عني.
بشر : هل تبِعتني؟
الجار : وآمنت بك.
بشر : كنت أعرف أنك تتشكك فيَّ، لماذا مشيت ورائي؟
الجار : النفس أمارة بالسوء، لقد قطعت أنفاسي.
بشر : ومن حملك على هذا؟
الجار : أردت أن أعرف أمرك.
بشر : وعرفت؟
الجار : وصدقت وآمنت … افعل بي ما تشاء.
بشر : الفعل لله، سقينا الرجل وأطعمناه … هيا نذهب.
الجار : ألا تنتظر؟
بشر : نظرت إلى الرجل، وقلت: معك الحق، كاد الغضب ينسيني، لا بد أن ننتظر.
بشر : وجلس جاري شيخ التجار غير بعيد عني، مُطأطئ الرأس كالطفل النادم على جريرته، وبدأ جسد المريض يرتجف وينتفض، وعلت حشرجته حتى خلت أن صدره سينفجر، وما هي إلا أنَّاتٍ متقطعة حتى فاضت روحه على يدي، تقدم مني التاجر مَحنيَّ الرأس وقال.
التاجر : ندفنه يا شيخ؟
بشر : ساعدني ساعدك الله … وحملنا الجسد الهامد إلى حفرةٍ بجوار الجامع واريناه فيها وأهلنا عليه التراب، وقرأنا الفاتحة وبعض الآيات، ونثرنا قطرات الماء عليه وودعناه.
قلت للرجل.
بشر : هيا نذهب، ولا تعد إليها أبدًا.
التاجر : بل ألازمك ولا أتخلى عنك.
بشر : لا حاجة بك لهذا … الزاهد غريب عن الدنيا والناس.
التاجر : تُغلق في وجهي باب التوبة!
بشر : باب التوبة يفتحه الله على عبده.
التاجر : علمني.
بشر : إن لم يعلمك هذا … فلن تتعلم … وأشرت إلى القرية المحترقة التي تمددت ظلالها الداكنة وراء ظهورنا، كانت أنقاضها تبدو من بعيدٍ كعجائز متَّشِحات بالسواد، وخُيِّل إليَّ أنني أسمع النواح والعويل يتردد في الجو الخانق كعِواء كلابٍ محتضرة، قطع جاري الصمت قائلًا.
التاجر : سأثبت لك يومًا أني صادق.
بشر : الله ينظر للقلوب ولا ينظر للأجساد.
التاجر : سأبعث الحياة في هذه القرية، إذا كانت الدنيا قد تخلت عنها فلن أتركها.
بشر : الموت والبعث بيد الله، ماذا تنوي أن تفعل؟
التاجر : سأنفق عليها مالي، حتى لو نفَد كل ما معي
بشر : ولماذا لم تفعل حين أتاها الزلزال؟
التاجر : كنت سادرًا في ضلالي، ربما كتب الله عليَّ أن أزورها معك.
بشر : أنا كنت في حال الغيبة والغربة … ولهذا قصَّرت.
التاجر : وأنا مثلك قصرت.
بشر : ضحك ضحكةً خافتة، احتبست في حلقه حين وجدني مشغولًا عنه، كانت القرية المحترقة قد وقفت بيننا وبلعت الضحكة كما بلعت أهلها، وحاولت أن أتصور حالهم وأتسمَّع صراخهم فشعرت بالدوار، واجتاحتني الدوامة، وكدت أحس بأن الزلزال يرتجف تحت قدمي، وأن الأرض تنشقُّ وتوشك أن تغور بي، أيها العالم! أيها العالم! لم أكن أعرف أنك بشعٌ وفظيع، وأنت يا ابن آدم! كيف غاب عني عذابك، وكيف عميتُ عن مصيرك؟ ويا أيها الشيخ الذي دفنته بيدي، هل أحزن عليك أم ألعنُك؟ أحقًّا أنك دعوت عليهم فاستحقوا العقاب؟ هل ظلموا أنفسهم أم ظلمتهم أنت؟ وماذا جنى الأطفال والعجائز والنساء؟ ماذا جنَت القطط والكلاب والدواب؟ أيمكن أن تقتل قرية ولا أُحِس؟ أين كنت يا بشر؟ أين كنت يا بشر؟
اكتشفت أنني أكلم نفسي، وأوشك من الغضب أن أنتزعها من بين جوانحي لأسحقها في قبضتي، وتلفتُّ حولي فلم أجد جاري شيخ التجار، هل أسرعت في سيري فلم يستطع اللحاق بي؟ هل كنت أمشي على الهواء كما تخيلت؟ وتراءت أشباح بغداد من بعيدٍ، فصِحت: وأنتِ أيتها المدينة، ماذا تدخرين لي؟ وخفت أن يعبث شيطان الجنون والغضب بعقلي فسكت، وعاد الشيطان يوسوس لي: هل شاء الخضر أن يعبث بك؟ أكان ما رأيته إشارة أم دعابة؟ والرجل المحتضر، هل رأيته حقًّا وأطعمته وسقيته وأسندته على صدرك؟ هل دفنته بيديك؟ وجارك الغني؟ هل تاب عن ذنوبه، أم كنت تحلم؟ جرفني الزحام فلم أعِ شيئًا، مررت بالأسواق فانزلقت النداءات والأصوات المتشاحنة، والروائح العفنة كما ينزلق الماء العكر على جسدي، وفجأة وجدتني أقف على باب الدار، وقبل أن أُخرج المفتاح من جيبي وأضعه في ثَقب الباب التفتُّ ورائي وهتفت: أيتها المدينة! أيتها المدينة! ماذا تدخرين لبشر الحافي؟ ماذا تدخرين؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤