الفصل الثاني

لواحق الوجود

(١) تعدادها

إذا تأملنا معنى الوجود وأمعنا التأمل، رأينا أن كل موجود فهو واحد نوعًا من الوحدة، أي إنه غير منقسم في ذاته، ولا في العقل من جهة ما يعتبر موجودًا واحدًا. ورأينا أن كل موجود فهو حق نوعًا من الحقيقة، أي إنه هو ما هو وليس شيئًا آخر، وأنه من ثمة معقول؛ إذ إن الحق نسبة إلى العقل. ورأينا أن كل موجود فهو خير نوعًا من الخيرية، أي إنه من الصلاحية بحيث يتعلق به ميل واشتهاء؛ إذ إن الخير نسبة إلى الإرادة. ورأينا أخيرًا أن كل موجود فهو جميل نوعًا من الجمال، أي إن من التناسق والبهاء بحيث يروق للعقل وللميل معًا.

هذه المعاني الأربعة لازمة من معنى الوجود لزومًا مباشرًا، تدل على خصائص للموجود بما هو موجود، وليست قاصرة على كلي آخر أخص من الموجود؛ هي وجهات له لا تتمايز منه تمايزًا حقيقيًّا، ولا تزيد عليه شيئًا حقيقيًّا، بل كل ما تزيده عليه اعتبار عقلي فقط. وتقال مثله بالتشكيك أي بطريق التناسب؛ إذ إن كل موجود فهو واحد بحسبه، حق بحسبه، خير بحسبه، جميل بحسبه. فهي تلائم الموجود إطلاقًا، وتعلو على الأنواع والأجناس التي ينقسم إليها الوجود فتقال عليها جميعًا.

وقد تكونت هذه النظرية بتأملات بارمنيدس والفيثاغوريين وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين١ ومن أعقبه من رجال الأفلاطونية الجديدة وثنيين ومسيحيين، وكان لها صدى واضح قوي لدى الفلاسفة الإسلاميين، وسنذكر عبارات لهم تدل على مشاركتهم فيها.

(٢) الواحد

«يقال واحد لما هو غير منقسم من الجهة التي قيل له إنه واحد»،٢ فاسم «الواحد إنما يدل على سلب وهو عدم الانقسام».٣ وإذن فليس يزيد الواحد على الموجود شيئًا ثبوتيًّا، بل نفي القسمة فقط، وليس النفي زيادة حقيقية. بيد أنه لما كان كل سلب إنما يستند إلى إيجاب، كان للواحد معنى إيجابي هو المقصود أولًا، وهو ذات الموجود؛ فإن «الوحدة هي الوجود الخاص الذي به ينحاز كل موجود عما سواه».٤
من هذا التعريف يظهر لنا أن كل موجود فهو واحد؛ ذلك بأن الموجود إما بسيط أو مركب: فالبسيط ليس منقسمًا ولا قابلًا للقسمة؛ وإذن فهو واحد، والمركب يصير موجودًا واحدًا حالما يتقوم بأجزائه. فوجود كل موجود قائم بعدم الانقسام، وعدم الانقسام راجع إلى وحدته من الجهة التي يعتبر منها واجدًا، وكل موجود لكي يحفظ وجوده يجب أن يحفظ وحدته. وهذا معنى قول: إن الوجود والواحد متساوقان، أو إن الواحد مساو للموجود، أي إن: «كل ما يصح عليه قولنا إنه موجود، فيصح أن يقال له واحد، حتى إن الكثرة قد يقال لها كثرة واحدة»٥ كما سنرى. ويتلخص هذا بقول ابن رشد: «إن الواحد مرادف لاسم الوجود (ولذات الموجود وماهيته)، وإنما يختلفان في الجهة فقط: وذلك أنه متى أخذت الماهية من جهة ما هي غير منقسمة كانت واحدة، وإذا أخذت من جهة ما هي ماهية فقط، سميت ذاتًا وموجودًا!»٦

وبذلك يتضح أن الوحدة إما جوهرية أو عرضية: الوحدة الجوهرية هي ذات الموجود وعدم انقسامها من جهة ما هي ماهية معينة، وهي تلائم الموجود البسيط أولًا وبالذات؛ فإن البسيط غير منقسم ولا قابل للقسمة كما أسلفنا، وتلائم المركب الطبيعي المتقوم بأجزائه الخاصة به بالطبع؛ مثل الإنسان مع تركيبه من قوى وأعضاء مختلفة، فإنه غير منقسم من جهة كونه إنسانًا، فهو من هذه الجهة واحد بالذات. والوحدة العرضية هي ارتباط كثرة من الجواهر المتمايزة فيما بينها وعدم انقسامها من جهة هذا الارتباط: فههنا كثرة بالفعل، ووحدة بالتركيب، مثل السفينة أو أي مركب صناعي؛ فهذا المركب ليس له وجود واحد، وإنما الوجود الواحد لكل جزء من أجزائه.

ومن هذا يظهر أيضًا «أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف»، وأن الواحد من ثمة مقول على ما تحت بالتشكك. فالذي لا ينقسم بوجه أصلًا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي ينقسم انقسامًا عقليًّا أولى مما ينقسم بالحس، والذي ينقسم بالحس انقسامًا بالقوة أولى بالواحدية مما ينقسم بالفعل وله وحدة جامعة، وهو أولى بالواحدية مما ينقسم بالفعل وليس له وحدة جامعة، بل وحدته بسبب الانتساب إلى المبدأ (كما في التشكيك بطريق النسبة).٧
وإنما تتفاوت الوحدة على هذا النحو لتفاوت الوجود بين الموجودات كما سبق القول، ولتغير الكثرات التي نردها إلى الوحدة: فكثرة الأجزاء واحدة بالكل المؤلف منها، وكثرة الأعراض واحدة بالجوهر الحالَّة فيه، وكثرة الأفراد واحدة بالنوع المشترك بينها، وكثرة الأنواع واحدة بالجنس الذي يعمها، وكثرة المعلومات واحدة بالعلة الصادرة عنها. فكل كثرة إذن ترجع إلى وحدة من نوعها، وهذا يستتبع قضيتين هامتين: إحداهما أن «كل كثرة إنما تقدر بواحد من نوعها»،٨ فينشأ العدد الذي هو الكثرة المتقدمة بواحدة. والقضية الأخرى أن هناك كثرات لا تقدر لعدم اشتراكها في وحدة ما.
وتتبين القضية الأولى بملاحظة أن أجزاء الكثرة لكي تتقدر بواحد منها يجب أن تكون متجانسة نوعًا من التجانس، من حيث إن التقدير يتم بتكرار وحدة بعينها؛ وهذا هو السبب الفلسفي في رد الكسور إلى توحيد المقامات. فالعدد يحدث في العقل بتكرار الوحدة، ولا تتكرر الوحدة تمام التكرار إلا في أجزاء الجسم المتصل المتجانس الماهية والمنقسم إلى وحدات من نفس الماهية، كما إذا اتخذنا من المتر وحدة مقياسية وطبقناه على قطعة من الخشب أو من القماش فوجدنا أن هذه القطعة تساوي سبعة أمتار طولًا وثلاثة عرضًا. فالمتجانس أو «المتصل ليس ينقسم إلى أجزاء محدودة العدد بالطبع»،٩ وليست وحدته المقياسية واحدة بالطبع، ولكنه قابل لأي قسمة بأي وحدة. أما غير المتجانس، كالحيوان مثلًا، فإنه ينقسم إلى أجزاء محدودة العدد بالطبع هي وظائفه وأعضاؤه، ولما كانت هذه الأجزاء متباينة الماهية فإنها لا تقدر ولا تؤلف عددًا إلا إذا أدرجت تحت أقسام أعم، كما أن ثلاث تفاحات وخمس برتقالات لا تجمع إلا إذا أدرجت تحت معنى شامل لها كمعنى الثمرة أو الفاكهة. على أن غير المتجانس متحقق في مادة متصلة، فمن الممكن غض النظر عن ماهيته واعتبار مادته فقط، وحينئذ يعود حكمه حكم المتصل ويمكن قسمته مثله، فيقطع النبات والحيوان اتفاقًا بدل أن يشرح تشريحًا علميًّا.

وتتبين القضية الثانية بالنظر في الكثرة المتباينة الآحاد العادمة وحدة شاملة لها؛ فإن مثل هذه الكثرة لا تقدر ولا تجمع في عدد: وهذا شأن الأشياء المجموعة بالتشكيك. فلا يقال مثلًا: إن الله والإنسان اثنان، أو إن الفرس والفارس اثنان؛ إذ ليس الوجود متواطئًا متساويًا حتى يصلح أساسًا لوحدة تامة تتكرر بعينها. فالجمع ههنا لا يعني إلا أنه يوجد مرتين موجود غير منقسم في ذاته منقسم من غيره، دون التعبير بحال عن مساواة يرجعان إليها. وإذا عددنا آحاد مثل هذه الكثرة المتباينة نتج لنا عدد زائف من حيث إن واحدًا من آحادها لا يمكن أن يعتبر وحدة تقديرية ومقياسًا مشتركًا.

والواحد الذي هو مبدأ العدد، أي الذي يتألف العدد بتكراره، ولا يطلق بدقيق الإطلاق إلا على الماديات المتجانسات، فهو يزيد شيئًا ثبوتيًّا على جوهر الموجود الذي يطلق عليه، كما يزيد الأبيض على الإنسان؛ فإن وصف الشيء بأنه واحد من كثرة، أو دخول الشيء في عدد، لَهو أمر عارض له من جانب العقل الذي يعد. ويلوح أن ابن سينا قد خلط بينهما، فاعتقد أن الواحد المساوق للموجود يزيد شيئًا ثبوتيًّا على جوهر الموجود كالواحد الذي هو مبدأ العدد. ومن أقواله بهذا المعنى أن الواحد «شرط زائد على الذات» وأن «طبيعة الواحد (هي) من الأعراض اللازمة للأشياء. وليس الواحد مقومًا لماهية شيء من الأشياء، بل تكون الماهية شيئًا، إما إنسانًا وإما فرسًا أو عقلًا (مفارقًا) أو نفسًا، ثم يكون ذلك موصوفًا بأنه واحد وموجود»، وأن «الواحدية ليست ذات شيء ولا مقومة لذاته، بل صفة لازمة لذاته»، وأن «الواحدية من اللزوم».١٠ وقد غلطه ابن رشد في ذلك؛ قال: «ظن ابن سينا أن الواحد بالعدد (أي المساوق للموجود) إنما يدل على عرض في الجوهر، وأنه ليس يمكن أن يدل على جوهر شيء»،١١ على حين أن «جوهر كل واحد من الأشياء هو واحد بالذات لا لأمر زائد عليه»،١٢ وأن «الواحدة ليست تفهم في الموجود معنى زائدًا على ذاته خارج النفس في الوجود، مثل ما يفهم من قولنا موجود أبيض، وإنما يفهم منه حالة عدمية وهي عدم الانقسام».١٣ وسنرى الفائدة العملية لهذه التعريفات والتدقيقات عند الكلام على وحدانية الله ومساوقة الخلق للخالق في الوجود في كتاب آخر بإذن الله.

(٣) الحق

الصفة الثانية من صفات الموجود هي الحق. «والحق هنا اسم فاعل في صيغة المصدر، كالعدل (في قولنا إنسان عدل)، والمراد به ذو الحقيقة. وهو بمعنى المصدر يدل بالاشتراك على معان»١٤ ترجع إلى اثنين، أحدهما ما به الموجود هو هو. فكل موجود حق بحسب حصوله على ماهيته، كما نقول: «هذا ذهب حق»، حين يكون الشيء حاصلًا على خصائص الذهب، والمعنى الآخر هو المطابقة بين المعرفة والشيء المعروف. قال الفارابي: «حقيقة الشيء هو الوجود الذي يخصه، وأيضًا فإن الحق قد يقال على المعقول الذي صادف به العقل الموجود حتى يطابقه. وذلك الموجود من جهة ما هو معقول يقال له إنه حق، ومن جهة ذاته من غير أن يضاف إلى ما يعقله يقال إنه موجود.»١٥ وقال ابن سينا: «حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له. وقد يقال أيضًا حق لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقًا.»١٦
وقياسًا على هذا التعريف للحق في الموجود وفي المعرفة يعرف الباطل بأنه ما من شأنه أن يظهر على غير حاله بسبب مشابهته لشيء آخر في الأعراض الخارجية، فيؤخذ على أنه ذلك الشيء الآخر،١٧ كما يؤخذ القصدير على أنه فضة أو تؤخذ المرارة على أنها عسل، ولكن القصدير في ذاته قصدير حق، والمرارة في ذاتها مرارة حقة: فالموجود يقال له باطل أو كاذب لا من حيث ما هو هو، بل من حيث ما ليس هو وما يظن أنه هو. وعلى ذلك فليس في الوجود باطل، بل الباطل في معرفتنا فقط، أما الحق فهو في الوجود وفي المعرفة كما تقدم.
فمن جهة الوجود ليس وصفه بالحقيقة فضولًا، فقد وجد فلاسفة أنكروا هذه الحقيقة التي تعني أن لكل موجود ماهية متسقة ثابتة، واستبدلوا الصيرورة المستمرة التي تعني أن كل موجود فهو متلقى أضداد تصطرع فيه، وتتوافق، وتعود إلى الاصطراع، دون أن يقر لها قرار، حتى قال هرقليطس: «إن كل موجود فهو موجود وغير موجود.» فيمتنع وصفه بصفات ثابتة، ونضطر إلى تعليق الحكم عليه والعدول عن العلم. وبمثل هذا قال هجل، وقال برجسون، وقديمًا كشف أرسطو عن غلط هذا المذهب، فنبه على أن الأضداد لا توجد في الموجود معًا أي كلها بالفعل، فلا يتفق لموجود ما أن يكون أبيض وأسود في آن واحد ومن جهة واحدة، وإنما يوجد ضد بالفعل وضد بالقوة، فيكون الموجود حاصلًا على الأول، وقابلًا للثاني، كما نبه على أن الأشياء لا تتغير من كل وجه، بل تتغير العوارض ويبقى الجوهر، وإنما يتناول العلم الجوهر لا العوارض. ثم إن القول بالوجود واللاوجود في آن واحد يلزم عنه في الحقيقة أن الأشياء ساكنة لا أنها متحركة؛ إذ لا يبقى هناك شيء تتحول إليه ما دامت جميع المحمولات حاصلة لجميع الموضوعات.١٨

ومن جهة المعرفة يحد الحق إجمالًا بأنه المطابقة بين المعرفة والأشياء على أن هذه المطابقة تختلف، فقد تكون مطابقة المعرفة للأشياء متى كانت الأشياء أصولًا وأشبهتها المعرفة، وقد تكون مطابقة الأشياء للمعرفة متى كانت المعرفة أصلًا وأشبهتها الأشياء المكونة عنها، سواء في ذلك الأشياء الطبيعية والمصنوعات الإنسانية، فإن المصنوعات توصف بالحقيقة حين تجيء شبيهة بتصور العقل وصنع الفن. لكن النسبة بين عقلنا والأشياء الطبيعية نسبة عرضية، على حين أن النسبة بين عقل الصانع الإنساني ومصنوعاته نسبة جوهرية أو بالذات من حيث إن وجود هذه المصنوعات متعلق بالعقل. فإذا قلنا إن الموجودات الطبيعية حقة من جراء حصولها على ماهياتها أو مطابقتها لمعانينا، لم يعتبر هذا القول تفسيرًا نهائيًّا لحقيقتها؛ إذ إن الأشياء لم تصنع أنفسها وتتلبس بماهياتها، وليس الإنسان مقياسها، وإنما هو قابل لصورها وحسب، فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها. ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود حقيقة في العقل فقط: موجود أولًا في العقل الإلهي مصدر الحق، وثانيًا في العقل الإنساني صورته، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان، فتلحقها الحقية من الناحيتين: من ناحية العلم الإلهي؛ وهذه نسبة ذاتية، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال؛ وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئًا، وإن عدمت لم تنقص منها شيئًا. وبذا يتضح قولنا: إن كل موجود فهو حق، أو إن الحق مساوق للوجود، فإن كل موجود فهو مطابق للعقل الإلهي، وكل موجود له ماهيته، وكل موجود فهو كفء لأن يولد الحق في كل عقل حالمًا يُعلم.

(٤) الخير

الصفة الثالثة هي الخير. وقد تناقل الفلاسفة تعريفًا للخير أورده أرسطو في مفتتح كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، ناسبًا إياه إلى بعض القدماء دون تخصيص، قال: «الخير هو المقصود من الكل». وهذه ترجمة حرية نقرؤها في «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (طبعة القاهرة ص٩٠)، بينما نقرأ في «النجاة» لابن سينا: «الخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده» (ص٢٢٩). وليس هذا تعريفًا بمعنى الكلمة، أي حدًّا علميًّا، وإنما هو رسم يدل على الخير بقصد القاصد إليه، لا بخاصية جوهريته فيه. أجل ليس بعد المعاني والمبادئ الأولى معانٍ ومبادئ أبين منها تفيد في بيانها، فلا يبقى إلا أن تبين بآثارها كما تبين العلة الخفية بمعلولاتها، والخير من المعاني الأولى، وأثره تحريك النزوع، فيرسم بهذا التحريك. ولا معنى لدعوى منكري الماهيات من حِسيين وتصوريين أن ليس للأشياء خيرية بالذات مقصودة بالذات، وإنما نحن نسمي الشيء المقصود خيرًا لكونه مقصودًا منا، أي إن النزوع الإنساني إلى شيء ما هو الذي يضفي عليه الخيرية: لا معنى لهذه الدعوى من حيث إن المقصود لا يقصد إن لم تكن له خيرية، أو أن القاصد لا يقصد إلا ما ترى فيه خيرًا حقيقيًّا أو مظنونًا.

وهذا الرسم يفضي بنا إلى حد إذا لاحظنا أن القاصد إنما يقصد إلى شيء بسبب كمال في هذا الشيء مفقود عند القاصد ومطلوب منه «ليتم به وجوده» كما يقول ابن سينا. فالخير كمال في الوجود، أو هو الموجود باعتباره أساسًا لنسبة ملائمة بينه وبين النزوع، وهذه النسبة ذهنية صرف لأن ميل القاصد لا يغير من المقصود شيئًا، بينما الكمال خاصية للموجود، فبالكمال يحد الخير. وهنا يجب الاحتراز من بعض المزالق، فقد يقال: إن من الناس من يقصدون إلى الشر، فلا يعرف الخير بالمقصودية. والجواب أنهم يقصدون إلى الشر لا باعتباره شرًّا، بل باعتباره خيرًا. فإراداتهم قاصدة بالذات إلى الخير، لكن قد يكون كذلك في الظن فقط لا في حقيقة الشيء، فتقع الإرادة على الشر عرضًا.

وقد يظن أن تعريف الخير بالمقصودية لا يتفق مع قولنا «الكل» أو «كل شيء»؛ لأن القصد لا يحدث إلا بعد إدراك، فهذا التعريف يقصر الخير على الموجودات المدركة. والجواب أن هذا التعريف يشمل أيضًا الموجودات عادمة الإدراك؛ فإن لها هي أيضًا نسبة إلى أفعال معينة نراها تفعلها، وإلى أشياء معينة نراها تتوجه إليها، وفي الحالين النتيجة خير لها أي كمال يتم به وجودها، وتحقيق للنظم العام، وإذا كانت لا تدركه ولا تتوجه إليه بالإرادة، هذا دليل على أنها موجهة من مدرك أعلى ركب فيها هذا النزوع الطبيعي، لا على أنها خارجة عن الخيرية الكلية؛ فالقصد وما يفترضه من إدراكٍ متوافران ههنا على هذا الوجه.

وقد يظن أن إطلاق التعريف على «الكل» من شأنه أن يحصر الخير في الله وحده وينفيه عن سائر الموجودات؛ لأن الله وحده غاية الكل، ويلوح أن ابن مسكويه إنما ردد هذا المعنى حيث قال: «الخير الذي يقصده الكل هو طبيعة تقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم أجمعهم مشتركون فيها.» والجواب أن هذا التأويل سائغ من جهة أن الله هو الخير بالذات وعلة الخير في الموجودات، وأن النزوع إلى أي خير جزئي هو من ثمة نزوع إلى الخير الأعظم، بحيث يكون هناك خير واحد ينزع إليه الكل. بيد أن هذا التأويل لا يستلزم سلب الخيرية عن المخلوقات، وليس موضوع التعريف خيرًا معينًا، بل هو الخير إجمالًا أو بالجملة كما يقول ابن سينا.

ومما تقدم يتضح أن الخير والوجود متساوقان، أعني أن كل خير موجود وكل موجود خير، وتزداد هذه القضية اتضاحًا بملاحظة الأدلة الآتية. الدليل الأول: أن كل موجود فهو كامل نوعًا من الكمال؛ لأنه منظم في نفسه حاصل على ماهية متسقة العناصر قابلة للوجود، لذا هو يجب أول ما يجب وجوده الخاص، فيعمل على نمائه ويحميه من كل عدوان، فكل موجود بمجرد كونه موجودًا هو موضوع محبة من ذاته لذاته، أي إنه خير. الدليل الثاني: أن كل موجود فله إلى آخرين نسبة مطردة طبيعية بها يلتئم النظام العام، وهذه النسبة غاية له وغاية للآخرين، والغاية خير، كما أن تحقيق النظام خير. الدليل الثالث: أن كل موجود فهو فاعل، وهو إنما يفعل ويحقق النسبة التي يقوم عليها خيره والنظام، لا اتفاقًا ولا قسرًا من خارج، بل بميل طبيعي باطن فيبين عن قوى فاعلية يؤثر بها في غيره إلى جانب قوى انفعالية تتأثر من الغير، وهذه القوى بما يلحقها من انفعالات أو يصدر عنها من أفعال هي خير من حيث إنها وسائل لتحقيق خيره وخير الموجودات المتصلة به. فجملة القول: أن الخير والموجود متحدان ذاتًا، غير أن الخير يزيد على معنى الموجود نسبة ملائمة بين الخير والنزوع؛ تلك الملائمة التي أساسها كمال الموجود. لذا يجيء ترتيب الخير بعد الحق الذي لا يزيد على الموجود شيئًا.

وينقسم الخير إلى مأثور لأجل ذاته، ومأثور لأجل غيره، ولذيذ: فالمأثور لأجل ذاته قد يكون غاية قصوى أو يتخذ واسطة ووسيلة إلى غاية أبعد منه، وهو مأثور لأجل ذاته على كل حال؛ لأنه يختم حركة النزوع. والمأثور لأجل غيره هو الذي يختم حركة النزوع نسبيًّا، أي باعتباره نافعًا ومفيدًا في سبيل خير آخر. واللذة هي الرضا والاطمئنان عند الحصول على خير مقصود، أو هي الشعور بالموافقة والملائمة بين قوانا وموضوعاتها. ولما كان الخير مساوقًا للموجود، فإنه يطلق على أقسامه كما يطلق الموجود على أقسامه، أي بطريق التناسب والتقديم والتأخير، لا بطريق التواطؤ الذي يصدق بالسواء. فالخير يصدق أولًا على المأثور لأجل ذاته لأن له في ذاته ما لأجله يؤثر، ويصدق ثانيًا على اللذيذ لأن ليس له من سبب القصد إلا اللذة، وقد يكون ضارًّا وغير جدير بالإيثار، ويصدق ثالثًا على النافع أو المفيد لأن ليس له في ذاته ما لأجله يؤثر، بل إنما يؤثر كوسيلة إلى خير آخر، كتعاطي الدواء الكريه لأجل الصحة.

هذه القسمة هي باعتبار مفهوم الخير، أما باعتبار اتحاده ذاتًا مع الموجود فإنه ينقسم إلى المقولات العشر التي تستوعب كل الموجودات، وينقسم أيضًا إلى خير طبيعي وخير خلقي، وأيضًا إلى خيرات النفس وهي العلوم والفضائل، وخيرات البدن من صحة وجمال، وخيرات خارجية وهي الأهل والمال والجاه، وإلى غير ذلك تبعًا للوجهة الملحوظة.

(٥) الشر

والخير يتميز بضده الذي هو الشر. والكلام هنا على الشر الطبيعي لا الشر الخلقي، كما كان الكلام على الخير الطبيعي المساوق للموجود. فنقول: إن طبيعة الشر تظهر أولًا بعض الظهور باستعراض أنواعه، وهي تقابل أنواع الخير. فمن الشرور ما ليس يؤثر باعتباره شرًّا، وقد يؤثر لوجه خير فيه: كالضار المقابل للنافع أو المفيد؛ فإنه ليس يطلب من جهة كونه ضارًّا. وقد يطلب كوسيلة إلى غاية ارتضيناها: مثل السم أو الحريق أو الغرق عند الذي عقد العزم على الانتحار، وكالمؤلم المقابل للذيذ؛ فإنه هو أيضًا ليس يطلب من جهة كونه مؤلمًا. وقد يطلب في سبيل الوطن أو الدين أو غاية أخرى. ففي هذه الأقسام الثلاثة يظهر الشر كأنه غير مؤثر لذاته، أي من جهة كونه شرًّا. وهذا اسم سالب يؤذن بأن الشر نقص وحرمان كمال ما مثل الجهل والضعف وتشويه الخلقة، وأنه لذلك يثير في النفس عزوفًا وإباء، على حين أن الخير وجود وكمال يثير في النفس الرغبة لملاءمته وموافقته للنزوع الطبيعي.

وهذا الرسم السالب يؤذن باستحالة التأدي إلى حد موجب كما تأدينا في تعريف الخير؛ فإن «الشر لا ذات له»، ولكننا نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى الذات التي تنتقص به أو تفسد: كتصورنا العمى عدم الرؤية، وتصورنا الصمم عدم السمع … وعلى هذا النسق نتصور كل شيء على أنه عدم خير. ولا عبرة بهيئة الألفاظ المستعملة في اللغات؛ إذ إن كثيرًا من هذه الألفاظ ما له هيئة محصلة، ومعناه معدول: كالألفاظ المذكورة الآن. «فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته»، أو «يقال شر لنقصان كل شيء عن كمالهن وفقدانه ما من شأنه أن يكون له».

وبناءً على هذا التعريف يجب استبعاد ما أسماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به فقدان كل مخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته، مثل ألا يكون للإنسان جناحان، وغير ذلك مما يسهل تأليفه من الأمثلة. ولكن إذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على كل الكمالات فيجمع العالم في واحد، وإلا كان العالم مجموعة شرور ميتافيزيقية. والحقيقة أن هذا ليس فقدان ما من شأنه أن يوجد، وإنما هو محض نفي؛ فإن لكل موجود ماهيته وطبيعته، فشره فقدانه شيئًا مستحقًّا ومقتضى لماهيته وطبيعته. وإذا لم يكن للشر ذات وقوام فإن له دائمًا موضوعًا يحل فيه؛ إن جاز هذا التعبير، أو يبتلى به، وهذا الموضوع هو موجود، وهو خير بما فيه من وجود ولو أنه منقوص بالشر، بحيث نستطيع أن نقول بدقيق القول إن الشرء لا يجيء إلا في الخير.

هذه القضايا الجلية تدعونا إلى أن نطهر عقلنا من تصورات المخيلة، ووساوس الحواس والمنفعة الذاتية؛ فإن المخيلة تضللنا في مثل هذه المسائل تضليلًا شديدًا، فهي توهمنا أن ما يعبر عنه بلفظ شكله محصل هو محصل كذلك من حيث المعنى، وقد يكون معناه معدولًا. والمنفعة الذاتية توهمنا أن ما لا يوافقنا هو شر بذاته، كحكم القاضي العادل، فإنه خير في ذاته، ويعتبره المحكوم عليه شرًّا، أو كالسم في الأفعى والعقرب نظنه شرًّا بالذات، ولو كان كذلك لقتلها أولًا. فقد كان أنبادوقليس واهمًا حين وضع الكراهية مبدأ للشر في العالم إلى جانب المحبة مبدأ الخير، وكان المانوية واهمين مثل وهمه في اعتقادهم بإله شرير بالذات صانع للشر إلى جانب إله الخير، وواهمون أيضًا أولئك الذين يؤولون انتحار المنتحرين كأنه طلب للاوجود، ويرون فيه الدلالة على أن اللاوجود خير وغاية تطلب، خلافًا لما قلناه من أن الوجود هو وحده غاية مطلوبة. والتأويل الصحيح أن المنتحر يرى في الشر النازل به فقدان خير لا يطيق هو فقدانه، فبالعرض وبسبب الخير المفقود كان اللاوجود مطلوبًا. وواهمون أولئك الذين يريدون أن يثبتوا الوجود للشر بثبوت الألم الناشئ عنه؛ أجل إن الألم ثبوتي في الشخص الذي يتألم، ولكنه يدع الشر كما هو نقصًا وعدمًا، الألم هو الشعور بالنقص والعدم، فلا يمكن الخلط بينهما، ولا الاعتقاد بثبوت هذا الشر الذي هو الألم إلا من الوجهة النفسية. وعلى ذلك فلا معنى لاقتضاء علة للشر تكون علته بذاتها وطبقًا لطبيعتها؛ فإن العدم غير مفتقر إلى علته، وكل ما هنالك أن الشر أصلًا أو ظرفًا هو فعل علة وجودية، ومن ثمة خيرة، قاصدة إلى خير، ويحدث الشر عنها عرضًا واتفاقًا. والنتيجة الأخيرة أن «الوجود خيرية، وكان الوجود خيرية الوجود».١٩

(٦) الجمال

الصفة الرابعة هي الجمال، وأول ما ندرك الجمال، وأكثر ما ندركه يقع في المحسوسات؛ فإنها أيسر معلوماتنا اكتسابًا، تملأ الأبصار والأسماع. وإنما يتحقق فيها الجمال بثلاثة عناصر أو شروط، وهي: التمام والتناسب والبهاء؛ تمام الأجزاء ضروري لقوام الشيء، والشيء الناقص قبيح لمجرد نقصه، وكل جزء تام من أجزائه قد يكون جميلًا وغاية في الجمال في بابه، مثل يد تمثال مهشم. وليس يكفي التمام المادي في شيء أو في جزء منه، بل يتعين أن ينضاف إليه التمام المعنوي، وهو التناسب والتطابق بين الأجزاء؛ فإن المختلط والمهوش غير معقول وغير مستساغ من الحس، على حين أن التناسب جلي متميز، وإن الحس والعقل يغتبطان بالمتناسب ويسكنان إليها. ويختلف التناسب بحسب الأشياء والغايات طبعًا، ولكنه واجب، وواجب بحيث تشرق منه صورة معقولة في أجزاء المادة، سواء الصورة الطبيعية والصورة الفنية، وسواء كانت فكرة أو عاطفة، دون إعنات العقل واضطراره للتفكير والتجريد. ومتى جاء الإشراف في أشكال محكمة، أو في ألوان متسقة لامعة، أو في أصوات منسجمة قوية أو عذبة، كان البهاء الذي يجذب الحس والعقل ويخرجه عن طوره.

فنستطيع أن نُجمل هذه العناصر الثلاثة بقولنا: «الجمال إشراق صورة في أجزاء مادية متناسبة»، أو بعبارة أخصر: «الجمال بهاء التناسب»، وما علينا إلا أن نذكر موقفنا من الشيء المحروم جزءًا أو أكثر، أو عديم تناسب الأجزاء، أو عديم البهاء؛ فإننا نصدف عنه ونصفه بالقبح، فصفات الجمال مضادة لهذه، مثيرة لشعور مضاد. وإلى هذا يرجع تعريف ابن سينا حيث يقول في (النجاة): «جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له.» وما يجب لأي شيء أجزاؤه وتناسبها فيما بينها كشرطين لوجوده، وبهاء الأجزاء في تناسبها كشرط لجماله.

وإذا كان المحسوس أول ما يتفق لنا أن نرى فيه الجمال؛ فإنه هو يخرج بنا من دائرته الضيقة ويسلمنا إلى المعقول المترامي الآفاق. ذلك بأن النسبة ليست شيئًا محسوسًا، ولكنها ربط معنوي بين شيئين أو أكثر، فلا تدركها حاسة من الحواس، وإنما العقل هو الذي يدركها، فالجمال المحسوس مدرك من مدركات العقل، وقد يظن أن البصر والسمع يدركانه. ونحن نقول بالفعل: «مناظر جميلة، وأصوات جميلة»، ولا نقول: «طعوم جميلة أو روائح جميلة»، بيد أن هذا محض ظن: فإن البصر ينفعل انفعالًا فيزيقيًّا بزهو الألوان، كما ينفعل الأطفال والحيوانات باللون الأحمر وما إليه من ألوان شديدة التأثير. والانفعال الفيزيقي بوقع الأصوات أشد ظهورًا؛ فإن تأثيرها يدفع بنا وبالحيوان دفعًا تلقائيًّا إلى الحماسة أو الطرب أو الحزن، ثم ينبت في العقل معنى الجمال بالرجوع على الألوان والأشكال والأصوات وتأمل ما بينها من نسب. فالبصر والسمع يخدمان العقل بأن يقدما إليه المادة، والعقل هو الذي ينفذ إلى ما وراء المادة من نسبة ومعنى، كما أن العقل هو الذي يدبر المخيلة المبدعة في الفن، فيبتكر المعنى المراد التعبير عنه بالمصنوع الفني، ثم يستدعي من بين الصور المختزنة في المخيلة تلك التي تفيد في التعبير دون سائرها، ولولا هذا التدبير لذهبت المخيلة كل مذهب على ما تفعل في أضغاث الأحلام وهذيان الحمَّى، فجمال المحسوس جمال معقول.

وللمعقولات أنفسها جمالها يفوق الجمال المحسوس: فإننا إذا ارتقينا من المحسوسات بما هي كذلك بلغنا إلى الرياضيات التي تسقط من اعتبارها الألوان والنسب الواقعة بين الأشياء، وتقبل على نسب مطلة بين عناصر معقولة صرف فنلقى في تأملها وفي ابتكار تأليفاتها متعة روحية غير متعلقة بمادة أصلًا. وإذا ارتقينا من الرياضيات بلغنا إلى الحكمة التي هي علم الوجود بمبادئه العليا، أي قوانينه الكبرى، وبخاصة المبدأ الأعظم، والعلة الأولى والقانون الأوحد. فحينئذ يجد العقل من سمو تعقله طرازًا من الجمال الخالص الصافي يفعمه بهاء ونشوة، فيغتبط بالمعقول والتعقل معًا، ويدرك أن الترتيب الطبيعي في تعريف الجمال هو البدء بمطلق الجمال، ثم النزول إلى جمال النسب المعقولة، وأخيرًا إلى جمال النسب المحسوسة. فيعرف مطلق الجمال تعريفًا مطلقًا خلوًّا من ذكر التمام والتناسب كالذي أوردناه عن ابن سينا، ثم يخصصه في الدرجتين التاليتين بما يلاءم كلًّا منهما، فيذكر التمام والتناسب تارة على أنهما تمام عناصر معقولة وتناسب بينها، وطورًا على أنهما تمام عناصر محسوسة وتناسب بينها.

ولما كان الجمال إدراكًا والتذاذًا معًا، كان مشاركًا في معنى الحق والخير معًا، ولذا يجيء بعدهما في تسلسل لواحق الوجود ابتداء من الوجود عينه. فالجمال إدراك حق ما، لكنه يزيد على الحق أنه معجب لاذ، وقد يصير الحق كذلك فيعتبر جميلًا. والجمال يصير نزوعًا كالخير، ولكنه نزوع العقل الذي يدركه، أو البصر أو السمع اللذين يتأثران به؛ فإن هذه القوة طالبة له، لكنها لا تطلب امتلاكه في ذاته ووجوده كما يطلب الخير، بل يتجه نزوعها إلى تأمله فقط، وقد يطلب بعد ذلك في ذاته ووجوده فيصير خيرًا مطلوبًا. فالجمال بمثابة نوع من الخير قد يصير خيرًا؛ فبين الجمال من جهة، والحق والخير من جهة أخرى، اتفاقٌ، وبينه وبينهما اختلاف: لكن الاتفاق بين الجمال والحق أقوى منه بين الجمال والخير، والاختلاف بين الجمال والحق أضعف منه بين الجمال والخير. والمعاني الثلاثة متساوقة لا تختلف إلا بالاعتبار. وقد فطن الفلاسفة، بل فطن الناس عامة إلى ما بينها من قرابة، فوصفوا الحق والخير بالجمال، نعني الخير الخلقي — أو الفضيلة — الذي هو الخير الحق، مثل أفلاطون في قوله: «إن تَحمُّل الظلم أجمل من ارتكابه.» والشواهد عنده وعند سائر الفلاسفة والشعراء والكُتاب والمُشرِّعين أكثر من أن تُحصى، ونحن بالعربية ندعو الفضيلة أو الإحسان أو المعروف بالجميل، وندعو الرذيلة بالقبيح، كأنما الأخلاق جزء من علم الجمال.

ومن هنا نرى أن الجمال من لواحق الوجود حقًّا، أي إن كل موجود فهو جميل. لكن هنا يقوم اعتراض قوي على هذه القضية يؤيد بالقبح المنتشر في العالم. فنلاحظ أولًا أن معنى الجمال ليس مكتسبًا بالتجريد البسيط الذي يصعد من آحاد متفقة بالماهية النوعية أو الجنسية إلى الكلي الذي يشملها، كمعنى الإنسان بالنسبة إلى أفراده. ولكن الجمال أحد المعاني التي تتحقق باختلاف في كثيرين مختلفين بالماهية النوعية أو الجنسية؛ فهو فوق الأنواع والأجناس، يلائم الموجود من حيث هو كذلك، فيطلق على أفراده بطريق التشكيك والتناسب لأنه يتحقق في كل موجود بحسبه، وإن قيل إن هذا لا يعني فقط أن الجمال ممكن التحقق في موجودات مختلفة بالنوع أو بالجنس، ولا يستلزم تحققه في كل موجود، قَدَّمْنا الملاحظة التالية.

إن المعقولات جميلة ضرورية؛ إذ إن ماهيتها لبساطتها تحصل لها بتمامها، فتكون على ما يجب لها. أما المحسوسات فأكثرها جميل بما يتضمن من تناسب في ذاته وفي علاقاته بغيره، وهذان النوعان من التناسب هما أساس النظام السائد في العالم، وإنه كما نعلم لنظام عجيب يُشعرنا بالجمال كلما أدركنا منه طرفًا. وأما باقي المحسوسات مما لا يُرى فيه جمال، فلا ننسى من الجهة الواحدة. إنَّ حُكْمنا على الجمال في هذا المضمار متأثر بتربيتنا ودرجة تعلمنا وميولنا وأخلاقنا ومنافعنا كما هو الحال في حكمنا على الخير والشر. وإذن فكثير من الأحكام بالجمال أو بالقبيح يجب أن يُعد نسبيًّا ولا يعتبر صفة للموجودات أنفسها. ويجب أن نذكر من جهة أخرى أن صور المحسوسات أو ماهياتها هي كالصور المعقولة؛ بسيطة وإن لم تكن روحية، فنازعة طبعًا إلى التحقق بتمامها، لكنها لا تتحقق إلا في المادة. وقد لا تكون المادة ملائمة فلا تطاوع فعل الصورة، فيجيء الشيء ناقصًا أو مُشَوَّهًا. والمادة ضرورية، وهي في أدنى دركات الوجود، فالنقص والتشويه ضروريان. ونقول هنا ما قلناه عن الشر من أن هذا يقع بالعرض لا بالذات، وإن الأصل في الوجود الوحدة والحق والخير والجمال. هذه الصفات الأربع هي صفات الخالق متحققة فيه بالذات ومن ثمة إلى أقصى حد، ومفاضة منه على خلائقه، كل بحسب ماهيته وعلى قدرها.٢٠
١  ف ي، ص٢٨٨.
٢  ابن سينا: النجاة.
٣  ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص٣١٣.
٤  الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، ف٥.
٥  ابن سينا: النجاة.
٦  ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص٤٩.
٧  ابن سينا: رسالة في تفسير الصمدية، في كتاب جامع البدائع ص١٩. ويقول ابن رشد في تلخيص ما بعد الطبيعة ص١٩: «الواحد يقال على الأسماء المشككة بنوع من الأنواع.»
٨  ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص١٢٤١.
٩  ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص١٠.
١٠  النجاة: ص٢٢٠، ٢٠٩، ٢٠٩، ٣٤١.
١١  تفسير ما بعد الطبيعة، ص١١، ويلي هذه العبارة كلام قلق غامض لا يبين منه رأي ابن سينا والرد عليه.
١٢  تفسير ما بعد الطبيعة، ص٣١٥.
١٣  ابن رشد: تهافت الفلاسفة، ص١٩٦.
١٤  الطوسي: شرحه على الإشارات، ص١٩٢.
١٥  الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، ف٥.
١٦  ابن سينا: النجاة، ص٢٢٩.
١٧  أرسطو: ما بعد الطبيعة، م٥، ف٢٩.
١٨  ما بعد الطبيعة، م٤، ف٥.
١٩  كل العبارات الواردة بين أَهِلَّة في هذا العدد هي من «النجاة» لابن سينا. وسنعود إلى هذه المسألة حين نتحدث عن العناية الإلهية في الباب الثاني من كتاب «الطبيعية وما بعد الطبيعة»، فإن كثيرين يتخذون من آلام الإنسان والحيوان اعتراضًا على وجود الله أو على عنايته.
٢٠  قال النبي داود: «نور وجهك مرتسم علينا يا رب» (المزمور الرابع، الآية السابعة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤