الفصل الثالث

مبادئ الوجود

(١) تعدادها

بعد النظر في معنى الوجود والصفات الملازمة له ننظر في نسبة العقل إليه، أو أثره في العقل، فنجد هذا الأثر يتجلى في مبادئ أو قوانين تنعكس على العقل أو تتقدم فيه بمجرد تأمله، ويراها معقولة، بل مثال المعقولة، ويستضيء بها في تعقله، ويرد إليها كل يقين، ويستند عليها في دفع كل إنكار. وقد مرت بنا دعوى السفسطائيين والشكاك أن ليس في العقل مثل هذه الأوائل، وأن العقل مضطر للمضي من برهان إلى آخر على الدوام، فكلما أردنا استخدام حد أوسط للبرهنة وجب علينا قبل ذلك أن نبرهن عليه هو بحد آخر، وهكذا دون توقف. والحقيقة أن البرهان لا يتسلسل، وأن جملة الحدود الوسطى متناهية بانتهائها إلى المبادئ التي هي قضايا أولية تبدو فيها ملائمة المحمول للموضوع ابتداء دون حد أوسط، بحيث لا يمكن تعيين سبب (أي حد أوسط) لهذه الملائمة غير الموضوع والمحمول ذاتهما والمضاهاة بينهما.

نمضي إذن من أبسط المعاني وأولها وهو معنى الوجود: فبمضاهاة الوجود بذاتٍ نرى أنه مطابق لذاته، فنحصل على أول المبادئ المسمى مبدأ الذاتية، وصيغته: «أن الموجود هو ذاته، أو هو ما هو»، وهذا المبدأ يهيمن على الأحكام والاستدلالات الموجبة. وشأنه أن يجعلنا نحرص على ألا نخلط بين الشيء وما عداه، وألا نضيف للشيء ما ليس له.

نرى أن الموجود إن لم يكن هو هو لم يوجد، فنحصل على مبدأ آخر هو مبدأ عدم التناقض، وصيغته: «يمتنع أن يوجد الشيء وأن لا يوجد في نفس الوقت ومن نفس الجهة»، ويمتنع أن يكون كذا ولا كذا في نفس الوقت ومن نفس الجهة. وهذا المبدأ في هذه الصيغة السالبة تعيين للمبدأ السابق ذي الصيغة الموجبة. غير أن كنط يعترض فيقول لك: لا حاجة للفظ «يمتنع» أو لفظ «محال»، وأن لفظ «في آن واحد» أو لفظ «في نفس الوقت» يعني الزمان والمبدأ فوق الزمان. والجواب: أن لفظ «يمتنع» أو «محال» يفيد ضرورة المبدأ، وهذه إفادة ضرورية، وإن قول «في آن واحد» أو «في نفس الوقت» لا يدل على الزمان إلا في الأمور العرضية الحادثة، مثل قولنا: «لا يمكن أن يكون الجالس ماشيًا في نفس الوقت»، وفيما عدا ذلك، فهو لا يعني الزمان فقط، بل يعني على العموم امتناع اعتبار إحدى قضيتين متناقضتين صادقة وكاذبة معًا. على أننا لا نرى بأسًا في استبعاد ألفاظ الامتناع والوقت والجهة من منطوق المبدأ، بل بالعكس نستحسن أن نكتفي بتقابل معنى الوجود واللاوجود، فنقول: «ليس الوجود واللاوجود.» وبذا يبين فورًا التباين بين الوجود واللاوجود، وأن هذا المبدأ صيغة سالبة لازمة من الصيغة الموجبة القائلة: «ما هو موجود فهو موجود»، فيخرج لنا أن «ما ليس موجودًا ليس موجودًا». وهذا المبدأ الثاني يهيمن على الأحكام والاستدلالات السالبة: فمبدأ الذاتية يعطينا أول مطابقة، ومبدأ عدم التناقض يعطينا أول مباينة.

هذه المعارضة بين الوجود واللاوجود تثير في العقل مبدأ ثالثًا يسمى مبدأ الثالث المرفوع أو الوسط المرفوع؛ لأنه يقول: «لا وسط بين الوجود واللاوجود»، فالموجود إما موجود أو غير موجود وهو يرجع إلى مبدأ عدم التناقض في صيغة شرطية منفصلة، ونتيجة تطبيقية تارة موجبة وطورًا سالبة تبعًا للحال.

وثمة مبدأ رابع يبرز من النظر في شرط وجود الموجود، وصيغته: أن «كل ما يوجد فله ما به يوجد»، أي: «فلوجوده سبب»، وهذا مبدأ السبب الكافي يتفرع إلى فرعين: أولهما السبب الذاتي، والثاني السبب الخارجي. فالذاتي هو ماهية الموجود نفسه أو تكوينه الذي متى يحلل يكشف عن عناصره وائتلافها، فيكشف عن إمكانه ويجعله معقولًا. والسبب الخارجي هو العلة الموجودة للموجود، أو المغيرة إياه من حال إلى حال: وهذا المبدأ العِلِّيَّة بالمعنى الدقيق، وصيغته: أن «كل ما يظهر للوجود فلوجوده علة». وهو يطبق على الموجود بالفعل، بينما السبب الذاتي يتناول الممكن أيضًا.

وخامسًا وأخيرًا حين نتأمل في العلة الموجدة هذه نرى أنها إذا أوجدت معلولها توخت غاية، وإلا لما كانت خرجت عن سكونها. وهذا مبدأ الغائية، وصيغته: «كل ما يفعل فهو يفعل لغاية» أو «كل فعل لازم عن غاية».

(٢) قيمة المبادئ

هذه المبادئ بينة بذاتها: فإن موضوعها هو الوجود أول المعاني وأبينها على الإطلاق، ومحمولها هو الوجود كذلك. وهي كلية: فإنها تنطبق على كل وجود سواء في الذهن وفي الخارج، وهي حاصلة في العقول جميعًا تطبقها صراحة أو ضمنًا وتتصرح المعرفة الضمنية بالإنكار والتناقض؛ فإنك إذا سألك الطفل: من أوجد هذا الشيء؟ فأجبته: إن الشيء أوجد نفسه، لأَثَرْتَ فيه الدهشة وعدم التصديق ونبهتَ فيه مبدأ العِلِّيَّة. في صادقة ضرورية يمتنع تصور نقائضها، ويمتنع البرهان عليها برهانًا مستقيمًا لعدم وجود حد أوسط أبين منها نبرهن به، وهي لبيانها غير مفتقرة لبرهان. وإذا أنكرها منكر فيقام ضده برهان الخلف أو التناقض الذي يقضي بتعطيل الفكر. فهي تفرض نفسها على العقل، لا كقوة قاهرة أو كضرورة ناشئة من تركيب العقل، بل كنور يسطع. ونحن نبين هنا ماهية مبدأ الذاتية، وماهية مبدأ عدم التناقض، ولما كان ما يقال عن هذا المبدأ الثاني ينسحب على مبدأ الثالث المرفوع فلا نعيد القول، ونرجئ الكلام على مبدأ العِلِّيَّة الفاعلية ومبدأ الغائية إلى مكانها من هذا الباب، فنقول:

يرى البعض أن مبدأ الذاتية ليس مبدأ، وذلك لأنه عبارة عن تكرار الموضوع بالمحمول، فلا يعد حكمًا لأن الحكم يقتضي اختلاف حديه مفهومًا وإن اتحدا ذاتًا، وبهذا الاختلاف يزيد المحمول في علمنا بالموضوع، وبدونه يجيء مبدأ الذاتية من قبيل تفسير الماء بالماء، كما يُرى في قول بارمنيدس: «الوجود هو الوجود، واللاوجود هو اللاوجود.» قد يبدو هذا صحيحًا لأول وهلة، ولكن إذا اعتبرنا قصد العقل في صوغ المبدأ وفي تطبيقه اتضح لنا أنه حكم ومبدأ حقًّا، وقصد بارمنيدس توكيد الوجود ووجوب التمييز بينه وبين اللاوجود ضد هرقليطس الذي كان يخلط بينهما بقوله بالتغير المتصل حيث تختلط الأضداد وتمحى الفوارق، ولو كان مبدأ الذاتية مجرد تكرار لما أنكره منكر، وإنما هو معرفة تثبت أو تُنفى. وقصد العقل في قولنا مثلًا: «المادة هي المادة والروح هي الروح»، أن كل موجود فهو ماهية معينة، وأن لكل من المادة والروح خصائص تعينها فلا نخلط بينهما، كما يفعل الماديون إذ يردون الروح إلى المادة، أو التصوريون إذ يردون المادة إلى الروح. وكذلك حين نقول: «الخير هو الخير والشر هو الشر» لبيان تغايرهما ووجوب تمييز أحدهما من الآخر. أو نقول: «الله هو الله» أو «لا إله إلا الله»، نريد أن الله هو ما هو وليس ما يظنه الذين يضلون في حقيقته. وغير ذلك كثير جدًّا. وكم ذا يثور من المناقشات من جراء الخلط بين الأشياء أو بين المعاني، أي لعدم مراعاة مبدأ الذاتية. ليس المحمول فيه تكرارًا للموضوع إلا لفظًا وظاهرًا، وإنما هو في الحقيقة يشير إلى تعريف الموضوع بما يخصه من خصائص ويعصم من الغلط فيه.

ومبدأ عدم التناقض أثيرت ضده أيضًا إشكالات: فقديمًا قيل إن هرقليطس زعم أن أي شيء فهو موجود وغير موجود في نفس الوقت. ولعله لم يرد إنكار هذا المبدأ، وإنما أراد أننا لا نكاد نثبت شيئًا حتى يكون قد تغير أو زال من الوجود، بحيث إن اللحظة التي نثبته فيها تحويه ولا تحويه، فيكون ولا يكون، لكن لا في آن واحد بالذات. وهذا معنى مقبول، على أن هجل قصد إلى إنكار المبدأ، فقال: إن معنى الوجود أعم معنى، ولذا فهو أقر معنى من حيث خلوه من كل تعيين، وما كان خلوًّا من كل تعيين فهو لا وجود. أو إذا وضعنا هذه الحجة في شكل قياسي صارت هكذا: مطلق الوجود غير معين، وغير المعين لا وجود مطلق، وإذن فمطلق الوجود لا وجود مطلق. ولكن من اليسير أن نرى أن الحد الأوسط، وهو قوله: «غير معين»، مأخوذ بمعنيين: ففي المقدمة الكبرى يدل فقط على غض النظر على التعيين، أي على تجريد معنى الوجود من الموجودات المعينة في الواقع، والتي لا توجد إلا معينة، وفي الصغرى يدل على نفي الموجود نفسه الذي هو محل التعيين.١ فلم يزعزع هجل مبدأ عدم التناقض، ولكنه هو الذي ناقض نفسه وبنى مذهبه بالجملة على هذا التناقض الأول.

وقد ادعى ستوارت مل أن من ألِف التحليل والتجريد لا يتعذر عليه، أن يروض ذهنه على تصور نقائض المبادئ الأولى، وأن يصدق أن الأمور قد تجري في كوكب آخر صدفة وعلى غير قانون. ولكنها دعوى وحسب، فنحن لا يتعذر علينا أن نتصور نقيض قانون علمي، ويمتنع أن نتصور نقيض مبدأ أول، فهذا الامتناع لا يرجع إلى عادة فكرية، بل إلى الرباط الضروري بين حدي كل من المبادئ الأولى، وهو رباط لازم من معنى الوجود وعائد إليه، كما بينا كيف يمكن أن يقوم في الوجود ما يتنافى في الذهن. إن الذهن يأبى إباء فطريًّا حاسمًا أن يصدق بإمكان التناقض؛ وذلك لأنه يرى بداهة أن الموجود يفقد في هذه الحالة ما يجعله يوجد، أعني مطابقته لذاته، فلا يوجد. فالمبادئ الأولى قائمة، لا لأننا نتصورها، ولكننا نتصورها؛ لأنها ماثلة في كل شيء.

هذا وقد نشب خلاف على ترتيب المبادئ الأولى: هل تعود الأولوية إلى مبدأ عدم التناقض كما ارتأى أرسطو٢ وتابعه المشاءون جميعًا، أم إلى مبدأ الذاتية كما يرتئي المحدثون مُحتجِّين بأنه أبسط، وأن البسيط متقدم على المركب، وبأنه موجب وأن الموجب متقدم على السالب؟ ونلاحظ أولًا أن مبدأ عدم التناقض هو عين مبدأ الذاتية؛ فإننا إذا قلنا: «ما هو موجود فهو موجود» عنينا أن «ما هو موجود فليس يمكن ألا يكون موجودًا». ونلاحظ ثانيًا أن الأولوية تعود إلى مبدأ الذاتية إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي قضايا تترتب تبعًا للبساطة أو التركيب وللإيجاب أو السلب، وتعود إلى مبدأ عدم التناقض إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي مبادئ: ذلك بأن المبادئ الأخرى تتبرهن به وهو لا يتبرهن بغيره، فمن ينكر الذاتية يقال له: إن هذا الإنكار يعني الوجود واللاوجود في آن واحد، كما ذكرنا آنفًا، وإن هذا تناقض، ومن ينكر مبدأ العِلِّيَّة يقال له: إن هذا يعني أن ما يظهر للوجود فهو يوجد ذاته، وإن هذا تناقض، ومن يشك في مبدأ عدم التناقض ويفترض أنه قد يكون كاذبًا، يعلم أن الكذب غير الصدق، فيسلم بالمبدأ الذي يدعي أنه يشك فيه. وديكارت الذي يريدنا على أن نبدأ بالشك في المبادئ، ولو إلى أجل، فاته أنه إذا كان ممكنًا أن شيئًا بعينه يوجد ولا يوجد في نفس الآن ومن نفس الجهة، فقد صار ممكنًا التفكير وعدم الوجود. يضاف إلى هذه الميزة ميزة أخرى هي أنه إذا كان سالبًا فهو موجب أيضًا بالإيجاب الذي يلزم عن السلب: ذلك أنه يسلب اللاوجود عن الوجود من حيث إنه يقول: «ليس الوجود لاوجودًا.» فينفي النفي. ونفي النفي إثباتٌ، أي إن سلب قضية ما يستتبع إيجاب القضية المناقضة لها. فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين سواء بالنسبة للأحكام السالبة وللأحكام الموجبة؛ فهو أعم المبادئ ومن ثمة أولها.

ولكن الفلاسفة الحِسيين لا يحفلون بالتناقض، وهم يفسرون المبادئ بحيث تفيد في تنظيم المعرفة دون أن يقروا لها بكلية ولا ضرورة. إنها في نظرهم مجموعات تجارب يقوى اعتقادنا بها كلما ازداد التكرار. فمبدأ الذاتية ينشأ من أن الطبيعة لم تعرض علينا شيئًا أبيض وأسود أو حارًّا وباردًا في مكان واحد وزمان واحد. وما مبدأ العِلِّيَّة إلا تعميم ما نشاهده من علاقات بين الجزئيات، كالعلاقة بين النار والحرق أو بين اللسع والألم أو بين الغيم والمطر، فينشأ في الذهن ميل للاعتقاد بأن نفس السوابق يتبعها دائمًا نفس اللواحق. هكذا يلخص ستوارت مل الرأي الحسي.

غير أن هربرت سبنسر، وهو حسي كذلك، يأخذ على رجال المذهب قولهم: إن المعاني والمبادئ تتكون بالتجربة الفردية. ويلاحظ أنها لازمة لهذه التجربة نفسها، فيجب أن تسبقها في الذهن. وأنه لو صح قولهم لكان الفرس مثلًا يقبل عين التربية التي يقبلها الإنسان ما دام كلاهما «لوحًا مصقولًا» في أول التجربة. ثم يعرض سبنسر نظرية جديدة، وهي أن تأثير الطبيعة في الإنسان تأثيرًا متصلًا قد كَيَّف دماغه ولاءم بين الظواهر الوجدانية والظواهر الطبيعية، فتكونت المعاني والمبادئ الأولى شيئًا فشيئًا كما تكونت بالتطور أعضاء النبات والحيوان، وتوارثها النوع الإنساني جيلًا فجيلًا. ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة فقد تولدت نفس المعاني والمبادئ عندهم جميعًا، وهذا أصل كليتها. ولما كان الذهن قد تكيف هذا التكيف الخاص فقد صار عاجزًا عن تصور نقائضها؛ وهذا أصل ضررتها، فهي أولية بالنسبة لكل واحد واحد من بني الإنسان، فتنظم بها التجربة الفردية، ولكنها مكتسبة بالنسبة للنوع الإنساني في جملته.

لقد وهمَ سبنسر كما وهمَ زملاؤه في الحسية، وليست نظريته بأفضل من نظريتهم، والاثنتان تلتقيان: في حسبان المبادئ الأولى تتكون بالتدرج سواءً في الفرد أو في النوع، ولكنها ليست مركبة حتى تكتسب جزءًا جزءًا وتورث جزءًا جزءًا، بل الظاهر لأول وهلة أنها بسيطة بينة بذاتها كما أوضحنا، فإما أن تدرك بداهة أي دفعة واحدة، وإما أن لا تدرك أصلًا، وتبعًا لهذا يسقط القول بأن الاعتقاد بها يقوى بتزايد التداعي؛ فإن الطفل يراعيها في تفكيره، وإذا حاولنا أن نغلطه فيها فإنه لا يغلط. ثم إن المبادئ ضرورية لتنظيم التجربة، أي للربط بين ظواهرها بهذه المبادئ بإقرار الحسيين جميعًا، وهم يدعون أنها مستفادة من التجربة، فيقعون في دور لا مَخرج لهم منه. كيف يمكن للأفراد في بدء تجربتهم، وكيف أمكن لأوائل الناس أن يفكروا بدونها ثم يكتسبوها للتفكير بوساطتها؟ إن الصعوبة واحدة في الحالتين، ولا يفيدنا شيئًا أن نرجع القهقرى إلى نشأة الإنسان.

أما التصوريون فيعترفون بضرورة المبادئ وكُليتها، ولكنهم يجعلونها قوانين ذاتية للفكر، طبقًا لمذهبهم، فلا يصلون بينها وبين الوجود. يقول ليبنتز: «المبادئ الكلية تدخل في أفكارنا، وهي روحها ورباطها، وهي ضرورية لها ضرورة العضلات والأوتار للمشي ولو أننا لا نفكر فيها. مثلها في النفس مثل عروق غير مرئية في الرخام على هيئة هرقل أو أبولون. وكما أنه لكي تظهر هذه الهيئة للعيان يلزم أن يُسقط النحات أجزاء الرخام التي تحجبها، فكذلك لكي ندرك بالفعل المبادئ الأولى يتعين أن تبرزها التجربة، فالتجربة لا تعطينا بل تكشف عنها فقط.» ويوغل كنط في التصورية إلى أبعد من هذا الحد؛ فإنه يعتبر معنى الوجود نفسه صورة من الصور الذاتية للفكر، فيعتبر المبادئ مجرد قوانين منطقية، ويعرف مبدأ عدم التناقض مثلًا هكذا: «المحمول المنافي لموضوعه لا يمكن أن يوافق هذا الموضوع»، أو «ما من موضوع يمكن أن يحصل على محمول ينافيه»، بدل التعريف بالوجود واللاوجود كما أوردناه.

رأي ليبنتز يكاد يكون الحق من جهة اشتراك العقل والتجربة في إدراك المبادئ لولا أن المبادئ عنده غريزية في النفس وأن التجربة ذاتية، لا موضوعية. أي إنها جملة الصور الجزئية التي تظهر في الذهن، لا جملة الموجودات المدركة بالحواس، وأن التطابق بين قوانين الفكر وقوانين الأشياء سببه سبق التناسق من لدن الله؛ إذ لا تفاعل بين المونادات، بل تقابل بين حوادثها، ويبقى الفكر محصورًا في نفسه. بيد أن ليبنتز يعتقد بموضوعية الأحكام بحيث يكون الحق والباطل في العقل حقًّا وباطلًا في الوجود أيضًا، بينما يرى كنط أن الوجود خارج متناول الفكر فلا يجوز الحديث عنه والحكم عليه، وأن كل ما يجوز للفكر هو أن يعرف نفسه وحسب، وبذلك يَرُدُّ كنط الوجود العيني إلى الوجود الذهني على ما بينهما من تعارض: فالوجود العيني موجود بالفعل أو ممكن الوجود، والوجود الذهني موجود في الذهن فقط، غير موجود في الخارج ولا ممكن الوجود؛ فإما أن العقل يعقل المبادئ إذ يطبقها، وحينئذ فلا حاجة لجعلها سابقة على التجربة، وإما أنه لا يعقلها، وحينئذ فلا يسوغ له تطبيقها. وقد نقول إن المبادئ غريزية، لكن بمعنى أنها تعلم بغاية السهولة والسرعة حالما تعلم حدودها، مثل علمنا بأن الكل أعظم من الجزء، أو أن الجزء أصغر من الكل، توَّ علمنا بالطرفين. فبدقيق العبارة الغريزي في العقل ليس المبادئ، بل الملكة التي يدرك بها العقل المبادئ ويطبقها على الوجود، أما حدودها فمستفادة من التجربة ظاهرة أو باطنة.

١  ف ح، ص٢٦٠–٢٦٣.
٢  ف ي، ص١٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤